فؤاد حمودة . . جاسوس الإسكندرية

فؤاد حمودة . . جاسوس الإسكندرية
صورة من الارشيف
الحب يصنع المعجزات ..

حب دفع بالحبيب إلى حبل المشنقة

فؤاد حمودة . . جاسوس الإسكندرية . . !!

لست جاسوساً لإسرائيل . . أنا ضحية

بقلم : د . سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية

عبارة طالما ترددت على الألسنة وعلى الأوراق باهتة المقصد، وإن كانت تعني أن الحب يدفع بالمحبين إلى صنع ما لم يخطر ببالهم ليعيش الحب قوياً .. لا ترهبه ضربات الزمن أو عضات الوهن . .

لكن . . هل يدفع الحب بالمحبين أيضاً إلى طريق ضائع. . مظلم وأكثر رعباً من الرعب نفسه؟

وهل يقود الحب – أحياناً – والفقر . .إلى مصيدة الجاسوسية؟ ..

هذا ما سنراه في من خلال ملف التحقيق الخاص بجاسوس الإسكندرية (فؤاد حسن علي حمودة) الموظف بشركة المضارب . . والذي دخل النفق المظلم – نفق المخابرات والجاسوسية – بسبب حب "نوسة" . . وقاده الحب المدمر إلى النهاية الطبيعية لكل جاسوس خائن . . !!

ضحية عشق نوسة

أفاق على صوت مزلاج باب زنزانته الحديدي فارتعد جسده النحيل، ونظر باتجاه الباب في رعب لتصطدم عيناه بوجه الشاويش حمدون يطل عليه بملامحه الجامدة وشاربه الكث، وكأنه تمثال قُد من صخر.

دفع "جراية" الطعام بعيداً وغاص في خوفه وهو يتأمل بزته الحمراء فانتفض بدنه في رجفة لا إرادية .. ثم انكفأ بوجهه بين ركبتيه يحيطهم بيديه المرتعشتين وأجهش في بكاء مرير، وارتفع نشيجه يشق سكون الزنزانة الضيقة المعتمة، إنه يموت كل يوم آلاف المرات كلما سمع وقع أقدام تتحرك أو صوت مزلاج يفتح.

كان أمله الأخير ألا يصدق رئيس الجمهورية على حكم المحكمة ولكن خاب أمله وضاع. فلماذا إذن لا ينفذون حكم الإعدام سريعاً؟ ولم هذا الموت البطيء؟ أيكون الانتظار عقاباً نفسياً قبل الشنق؟

هكذا تساءل فؤاد حمودة وهو حبيس الزنزانة الانفرادية في سجن مزرعة طرة .. وتحسس رقبته للمرة المليون وصرخ بأعلى صوته . . لا . . لا. . لست جاسوساً لإسرائيل . . أنا ضحية .. أنا ضحية الفقر . . وأخذ يضرب الأرض الباردة وهو يردد في وهن: وضحية حب نوسة . .

وسكنت حركته بعدما استسلم لواقعه ولمصيره . . وتمدد على "البرش" ثم تقلب وتكور متوسداً إحدى يديه ضاغطاً بالأخرى على أذنه . . فيسمع صوتاً يشبه هدير موج يتعاقب، وضربات قلبه اللاهثة تدق في اضطراب تعلن عن مدى الخوف الذي سكن بأعماقه .. والرعب الذي يخترق أفكاره ويشتتها.

ارتد إلى الوراء يتذكر بدايته وتسلسل حياته إلى أن صار جاسوساً لإسرائيل. مدفوعاً بحب نوسة العجيب . . حب دفع بالحبيب إلى حبل المشنقة.

وبعد إعدامه عثروا في زنزانته على لفافة من الأوراق سجل بها قصة حياته بإيجاز أحياناً. . وبتفصيل مطول أحياناً أخرى.

إنها قصته مع الحياة . . ومع الحب . . ومع الجاسوسية. يقول فؤاد في مذكراته التي خلفها وراءه:

. . . كان والدي موظف بسيط في الحكومة وأمي لا تعمل . . وكانت الأسرة كبيرة العدد قليلة الدخل والأفواه لا تكف عن المضغ والطلبات ترهق الأب . . فتحيل نهاره إلى سعي وشقاء وليله إلى نوم متقطع وسعال.

كنت الإبن الرابع ومن بعدي ثلاثة آخرون. أنهيت تعليمي المتوسط وجلست أنتظر فرصة للعمل. ولم يخطر ببالي أنني كنت أنتظر نقطة البداية التي سأنطلق من خلالها إلى خط النهاية بسرعة البرق. مدفوعاً بقوة لا أستطيع مقاومتها. . ذلك أنني رفعت سماعة التليفون ذات مساء ممل . . فجاء صوتها كالنسيم رقيقاً حنوناً بعث الدفء بأعماقي . . ودار بيننا حديث طويل امتد لقرب الصباح.

كان اسمها نوسة طالبة في الدبلوم. تسكن في سبورتنج. . تكرر أحاديثنا التليفونية لعدة أيام متصلة. . فالتهبت حرارة الأسلاك وهي تحمل جرعات الرغبات المتزايدة التي ترسلها نوسة بصوتها الأنثوي المسكر . . وكأنه خمر ينصب رقراقاً خلال سماعة التليفون. ونسيت مع مكالماتها وحدتي برغم الزحام والضجيج في شقتنا. . واتجهت لكتابة الشعر . . تبدلت حياتي كلها .. إذ أصبحت نوسة هي شاغلي ومشاغلي . . أنام على صوتها وأصحو .. وأحس معها بالمرارة التي تغلفها أحياناً رغم أنها وحيدة أبويها .. وتقوم أمها على خدمتها وتعاملها كملكة على عرش قلبها.

كانت فتاة مرفهة إلى درجة الجنون رقيقة لا تتصنع. . مثيرة لا تتركني أهدأ . . أو تخمد نيران رغباتي تجاهها برغم سنها الصغير وقلة خبرتها بالحياة.

لكنها برغم ذلك استطاعت أن تحكم قيدها حول حواسي . . فأدور في فلكها كالمنوم. . حتى وهي تحاول أن تستدرجني لأحاديث الجنس كنت أبدو كالأبله . . فأنا لا أعلم شيئاً عنه. إلا أنها تمادت في استدراجي فتجاوبت معها عبر الأسلاك يشجعني صوتها الذي يحرك الجبل وهتفت في نفسي لأرفض وهي تضغط. أرفض وهي تقتل قوتي وتحصد مقاومتي ورفضي بتأوهات يفور لها جسدي كبوتقة تغلي . . ولما فشلت معها أرقتني الرغبة المحبوسة فتأثرت لحالي. . وفوجئت بها تعرض علي أن أزورها بمنزلها بعد منتصف الليل . ثم تحول العرض إلى دعوة ملحة . . وضايقها ترددي وخوفي. لقد كان عمها المحامي يسكن في الشقة العلوية وهذا الأمر أخافني. . إلا أنها دبرت كل شيء في جرأة مدهشة. . فذهبت إليها بعد منتصف الليل في إحدى الليالي الباردة مدفوعاً برغبتي العنيفة . . وكان هذا أول تدريب لي على عمل الجاسوسية.

وعندما جلست بجوارها على حافة السرير – على بعد خمسة أمتار من حجرة والدها – سألت نفسي: هل حبيبتي مومس تخدعني أم هي مراهقة تحب؟ وغادرت شقتها لا أصدق أنني نجوت بحياتي من مصير مجهول. وأعترف أنه برغم سعادتي برجولتي . . إلا أنني فقدت أشياء لذيذة كنت لا أريد مسها . . وأهمها أنني فقدت بعض ثقتي بها . . ولكن صديقي حاتم أكد لي أن الحب أعمى . . وأن الفتاة تسلم كل شيء لحبيبها عن قناعة ورضا لأنها تحب.

وبعد عدة أيام دعوتها إلى شقة أختي المسافرة إلى الخارج مع زوجها فجاءت نوسة بسهولة .. وبسهولة أكثر جعلتني أخلع عنها ملابسها دون أن تصدني ولو كذباً وكأنما هي اعتادت ذلك من قبل . . لكن الذي أذهلني بحق هو أنني فوجئت بها ليست بكراً . .

صفعتني المفاجأة وتحطمت ثقتي بها وفي كل بنات جنسها وأغمضت عيني عن هذا الخطأ مؤقتاً. لقد كنت أحبها ولذلك تعمدت ألا أذكر هذا الأمر ثانية . . لكنها هاجمتني بعنف واتهمتني بأني ضيعتها. أخذتها إلى أشهر دكتور في الإسكندرية فلم يصارحني بالحقيقة. . ونسينا الأمر برمته، وكنت لا أستطيع فراقها أو ابتعادها عني. فلقد صارت في دمي . . !!

إفعلْ شيئاً لأجلي

ويصف لنا ملف تحقيق جاسوس الإسكندرية أدق خلجاته وإحساساته التي أدلى بها من خلال التحقيق قبل أن يلتف حبل المشنقة حول رقبته. وكان قد تقدم بالتماس إلى الرئيس أنور السادات يطلب تخفيف حكم الإعدام ولم يصل الرد بعد على التماسه الذي كان هو الأمل الأخير له في إنقاذه.

ولأنه عاش كثيراً يحلم بتحقيق هذا الأمل. . فقد بدأ بكتابة مذكراته والتي اتسمت بالسرد الدقيق والوصف الرائع لكل جوانب حياته. صفحات بلغت أكثر من مائتي صفحة تحمل مشاعر جاسوس خائن . . اعتقد أن الحب كان السبب الرئيسي في وقوعه في جبّ الجاسوسية العميق المظلم.

يقول الجاسوس:

في زنزانتي الرطبة الضيقة .. أنام يقظاً مع انسحاب الشمس وأصحو مع أول خيوطها. وما بين النوم واليقظة ترتعش حواليّ كل الصور .. وترهبني خطوات السجانين طوال الليل. . فأظل أنصت مرعوباً وهي تقترب فأحس باقتراب الموت .. وتبتعد فأتنهد. . ثم يتملكني الهلع. وهكذا كنت لا أنام ولا أهدأ . . أتخيل وجه نوسة الرائع وهي بين أحضاني . .أرتشف من أنوثتها لذاذات جميلة .. وأحسوا شراباً مسكراً ومعتقاً .. وأعيش معها أجمل لحظات عمري نخوض معاً بحور المتعة .. ونجوب نبحث عن مشتقات أخرى للنشوة تغتال فينا الملل والكآبة ..

ولم تكد تمر عدة أشهر . . إلا وخطبت نوسة فجأة وانشغل تليفونها عني في المساء، فجن جنوني وأقسمت أن أفوز بها ولا أتركها لغيري بعدما أدمنتها. . لكنها كانت تتهرب من لقائي وجنوني. . وتملكني الشعور القاتم بالهزيمة وأنا أضرب رأسي بيدي وأرتجف غضباً وأردد: "أيتها المومس الحقيرة .. أحبك . . أحبك بوجهك الطفولي البريء وصوتك الساحر . . أحبك وأنت تصعدين ورائي إلى الطابق الخامس في شارع "الجلاء" ترتدين زي المدرسة وتحملين حقيبتك .. وتنشدين ما يكفيك من النشوة لعدة أيام قادمة .. أحبك يا عاهرة كاذبة . . ولن أنسى يوم خطبتك لهذا المغفل الذي نزف عليك مئات الجنيهات كما نزفت أنا معك رجولتي".

يومها . . طلبت مني والدتي أن أقرأ عليها عدة صفحات من رواية عاطفية . . فجلست أقرأ لا أدري أي سطور قرأت وقد اختنق صوتي وتلجلج لساني . . وبكيت بكاء الضائع الذي فقد الطريق والأمان.

ثلاثة أشهر وعادت نوسة ذليلة يغشاها انكسار الهزيمة بعدما فشلت خطبتها .. ولم تمهلني الوقت لأفكر فاستردتني سريعاً واحتوتني من جديد فقلت لها:

لم أكرهك يوماً. . أحبك وإن كنت عاهرة تستأجر.

قالت :

فؤاد – يا فؤادي . . يا حياتي . . اشترني ولا تبخس الثمن

سافر وكافح من أجلي . . سافر إلى أي مكان في الدنيا وعد بالثمن.

قال :

عينت في شركة مضارب الإسكندرية بسبعة عشر جنيهاً.

قالت في يأس:

لن نتزوج إذن قبل عشر سنوات.

أهلك يبالغون في المهر.

سافر لعام واحد وسأنتظرك . . سافر .. إنه الحل الوحيد لنا.

لا أملك مصاريف السفر . . أنت تعرفين كل الظروف.

لم تخبرني أن شقيقتك ستعود عما قريب؟

نعم .. أرسلت لنا بأخبار عودتها بعد شهر ونصف.

اقترض منها مبلغاً وخذ مني هذه الإسورة.

أضافت وأنفاسها تلهب وجهي: إفعلْ شيئاً لأجلي. وسأظل أنتظرك وأنسج ثوب عرسي كما كانت تفعل "بنيلوبي" قديماً.

في جوتـــن نخــــت

ومنذ تلك اللحظة . . قررت أن أسعى للسفر خارج مصر. كانت الأبواب مغلقة في وجهي . . وحرب الاستنزاف على أشدها بين مصر وإسرائيل . . وهناك مفاوضات من أجل الهدنة والأمور سيئة وتزداد سوءاً.

عادت شقيقتي من الخارج وعندما طلبت منها قرضاً أحالتني إلى زوجها الذي تهكم وسخر مني .. وعندما علم والدي عنفني بشدة .. وأشفقت والدتي على حالي فأعطتني آخر ما تملكه من حلي فلما قبلت يد شقيقتي مرة أخرى وقلت لها أنقذيني من جنوني منحتني سبعة وعشرين جنيهاً. . ولم تمر عدة أيام إلا وكنت أجمل في جيبي تذكرة طائرة إلى بون. . وسافرت إلى ألمانيا الغربية يملؤني إحساس بالمرارة والظلم والضعف.

كانت معي رسالة إلى أحد المعارف في مدينة دوسلدروف شمال بون. . وعندما التقيت به نظر إليّ كمن ينظر إلى كلب أجرب. . حتى صديقته الألمانية كانت تسخر مني وتضحك كأنها ترى بلياتشو برغم أنني لا أعرف كيف أكون مضحكاً فأُضحك الناس. وكنت قد مررت في طريقي بمدينة ساحرة أسمها كولون. .فعقدت العزم على العودة إليها وأغامر علني أوفق بمفردي ورجعت جنوباً حتى كولون الواقعة على نهر الراين الخلاب .. فسحرتني المدينة الأنيقة واستولت على عقلي ..

عثرت على بنسيون رخيص اسمه "فارسبورجر" تديره سيدة بشوش اسمها بيرجيت كلاين كانت تعاملني بلطف . . وبإنجليزية ركيكة شرحت لها ظروفي ورغبتي في العثور على عمل فتأثرت لحالي.. وبعد يومين ذهبت إلى مصنع بويات يمتلكه زوج ابنتها بيتر راينهارد يقع على أطراف المدينة . . وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة شهور استطعت أن أجمع خمسة آلاف مارك . . فأرسلت خطابي العاشر إلى نوسة أطمئنها. وبرغم إلحاحي في الرد على رسائلي لم يصلني منها خطاب واحد. . فانتابني قلق شديدة ولم أتمكن من مكالمتها تليفونياً فكتبت إلى صديقي حاتم أطلب منه موافاتي بأخبارها. . وكان الانتظار يقلقني بل ويفتك بأعصابي. .

كانت نوسة رغم الجميلات من حولي هي الأجمل والأرق والأروع ولا تفارق خيالي للحظة وأحلم باليوم الذي يجمعنا .. لذلك . . كنت أعمل بجد وردية ونصفاً وأفرش ورق الكرتون وأنام .. يرفرف خيالها حولي وذكرها يمدني بالقوة ويمنحني الصبر . . وتعلمت كيف أحرم نفسي من أبسط الأشياء لأدخر وأعود إليها مرفوع الرأس . . ولما جاءني الخطاب المنتظر من حاتم ارتعش قلبي لرؤيته. . فما بين سطوره يحدد لي مصيري واتجاهات حياتي .. وملأني شعور غامض بالخوف وأنا أفتح الورقة المطوية .. وزلزلتني المفاجأة التي لم أتوقعها قط: نوسة تزوجت منذ شهرين وانتقلت للإقامة في "الكنج مريوط".

لطمتني العبارة بعنف فأصابني دوار وأطبقت الجدران على أنفاسي . . وأيقنت أنها ضاعت مني إلى الأبد. وأيقنت أيضاً أنها طراز غريب من النساء من الصعب نسيانه. . وعلى امتداد البصر في الخيال والواقع لا أرى سوى وجهها الطفولي البريء ويتجسم أمامي جسدها الأنثوي فأتحسسه:

كان الجليد يتساقط كأنه ندف من القطن الأبيض الناصع في شهر فبراير 1970 والباص يقلني إلى شارع "كلنجهاوس" مشيت وسط الزحام لا أنوي على شيء ودون قصد اتجهت إلى شارع "فينشا".. حيث أضواء الكباريهات تتلألأ متراقصة . . والداعرات يقفن على النواصي يساومن المارة. وما إن عبرت إلى الناصية الأخرى من الشارع متجهاً إلى كباريه "جوتن نخت" الشهير . . قذفت واحدة منهن بنفسها في طريقي فأزحتها بيدي . . ودلفت إلى داخل الكباريه لأول مرة في حياتي. . شربت ورقصت وسكرت .. وبدلاً من الذهاب إلى حجرتي في المصنع، ذهبت إلى بنسيون فارسبورجر.

دهشت السيدة كلاين وطلبت منها ألا تسألني عن أي شيء فسحبتني إلى إحدى الحجرات . .ومنذ ذلك اليوم لم أعد أقيم للأمور وزناً. .

تساوت عندي كل المتناقضات وأحاطتني قتامة من اليأس والاهتزاز . . وتفاعلت بداخلي ثورات من الشك والحزن والكآبة . . وصرت زبوناً دائماً في جوتن نخت، أمر على محل هورست للملابس فأصحب "كريستينا" للعشاء ثم نسهر ونشرب حتى الثمالة .. هي الأخرى وحيدة مثلي هجرت أسرتها في دار مشتات هرباً من ذكرى حبيب غدر بها. وتركت البنسيون وأقمت معها في غرفتها نتعاطى الجنس كالطعام لننسى أننا خدعنا.

وعندما أنفقت آخر مارك كان معي تأففت كريستينا وتملكها الضجر .. فذهبت إلى المصنع مرة أخرى فلم أجد عملاً هناك حاولت أن أجد فرصة عمل بمكان آخر لكن الظروف كانت كلها ضدي. . فعجزت عن الإنفاق على نفسي. . وطردتني كريستينا من شقتها . . ونبهتني السيدة بيرجيت كلاين صاحبة البنسيون لكثرة ديوني ولما عضني الجوع ذهبت إلى الكباريه أطلب عملاً. . أي عمل.

ولأنني زبون معروف لديهم صعد بي أحدهم إلى الطابق العلوي حيث مكتب المدير الفخم . . استقبلني الرجل بحفاوة بعدما اكتشف أنني مصري . . وأخبرني أنه زار مصر منذ عدة سنوات وسألني عنها فقلت له بقرف "زي الزفت". . لقد كنت في حالة نفسية سيئة والجوع ينهش معدتي . . ويطاردني شبح ترحيلي إلى مصر خاوي الوفاض تنوء حقائبي بيأسي وفشلي . . وسألني الرجل مرة ثانية.

لماذا جئت إلى هنا؟ "يقصد ألمانيا"

قلت في أسى:

الفقر والحب. .

وبعد أن سردت عليه قصة حياتي بإيجاز .. أسف لحالي . . وبصوت به رنة الواثق قال:

بإمكانك أن تصبح مليونيراً .. المهم أن تكون أكثر ديناميكية وتعاوناً. .

ضحكت في تعجب وسألته:

مليونيراً؟ كيف وفي جيبي أحد عشر ماركاً ونصف ولا أنطق بالدوتش وإنجليزيتي مهترئة .. كيف؟

ترك جوتل هاوزن مقعده خلف المكتب وجلس قبالتي يفرك يديه وقال:

نشأت مغامراً شجاعاً أكره الخوف والجبناء .. سنوات قليلة وكنت شريكاً في هذا النادي ثم امتلكته لأنني دست على أشياء كثيرة لكي أحقق طموحاتي .. وأعرف أن الرجل الشرقي عاطفي يخشى المغامرة ومقيد بتقاليد وأعراف.

سيد هاوزن أنا مستعد لأية مغامرة تنتشلني من الفقر والضياع.

إذن . . إنس أنك مصري . . مسلم .. وتذكر فقط أنك هنا . . في ألمانيا الغربية . . في أوروبا.

سأنسى .. لا أريد أن أتذكر هذا الماضي اللعين .. أريد أن أكون إنساناً آخر.

ضغط الرجل على زر فجاءت فتاة رائعة مثيرة والتفت إلى قائلاً:

هذه سيلفيا . . من الآن سترافقها في سفرها إلى ألمانيا الشرقية لبعض الأعمال التجارية.

ابتسمت سيلفيا ونظرت إليهما في بلاهة .. وعندما أوشكت على سؤاله عن عملي الجديد أصدر أوامره إلى سيلفيا بأن تدفع حساب البنسيون وتصحبني إلى شقتها. .

وقام إلى مكتبه وعد بعض النقود وناولها لي قائلاً:

هذه لك .. وللعمل حساب آخر.

وبينما كان يسلم نقوداً أخرى لسيلفيا أدركت أن المبلغ ألف مارك .. فدارت الأسئلة في خيالي وتساءلت بيني وبين نفسي:

"ماذا سأعمل بالضبط؟"

وقررت أن أغامر وألا أستسلم أبداً مهما كانت المصاعب . . وأفقت على يد سيلفيا تجذبني فمشيت وراءها. . وبدأ منذ ذلك الحين أولى خطواتي على الطريق المجهول . . والذي في نهايته كانت تنتظرني المشنقة.

عيون لا ترى الشمس

وفي شقة سيلفيا الرائعة التي تطل على نهر الراين .. حيث البانوراما تخلب الألباب وتدير الرؤوس .. تذوقت أنوثتها العجيبة التي أنستني نوسة ولهيب حبها .. وبينما كنا عاريين نستريح سألتها:

سيلفيا ماذا سأعمل معك؟

أشعلت سيجارة وجذبت نفثاً عميقاً وقالت:

التهريب .. !!

قلت مستفسراً وقد تملكني القلق:

تهريب. . ؟ تهريب ماذا؟

وهي تنفث دخانها في وجهي:

نحن ندخل الخمور والسجائر والساعات إلى ألمانيا الشرقية مهربة على الحدود.

قمت مسرعاً وارتديت ملابسي وأنا حانق . . واتجهتْ مباشرة إلى جوتن نخت وصعدت إلى مكتب المدير وتعجب الرجل لرؤيتي وتساءل وهو يهز رأسه:

ماذا بك؟

كان صوتي عالياً في استنكار وأنا أقول:

تهريب الخمور والسجائر يا سيدي لن يبني لي مجداً أو يرفع من شأني . . إنه عمل تافه.

تريد أن نزرع بك الجرأة ثم نوكل إليك الأهم والأكبر.

لو لم أكن جريئاً ومثابراً ما جئت إلى هنا لا أملك مالاً أو لغة .. أنا لست سوى فدائي مغامر.

في لهجة مليئة بالتحدي:

أتريد أن تثبت لنفسك أنك مغامر. .

فقلت في اندفاع الواثق:

سيد هاوزن أريد أن أؤكد . . نعم أؤكد لكم أنني جريء لحد المغامرة .. وأريد أن أعمل وأكسب لا أن أخبئ بعض علب السجائر والعصير وأعبر بها كاللص إلى الناحية الأخرى من ألمانيا.

قلت لك يا فؤاد أن تهريب السلع تمرين لك لا أكثر.

تمرين على ماذا؟

لمعت عيناه كعيني ثعلب ماكر وبصوت هامس قال:

مهمة سرية جريئة ستكسب من ورائها نصف مليون مارك على الأقل .. إنه مبلغ خيالي قد تشتري به حياً بأكمله في الإسكندرية .. ماذا تقول؟

جف حلقومي فجأة وانحبس صوتي وأنا أقول:

اعتبرني قد تمرنت وأنا الآن جاهز للمهمة الكبرى . . أريد هذا النصف مليون ولو كلفني ذلك أغلى ما أملك .. وكل ما أملك.

ابتسم هاوزن وأردف:

أنت لا تملك شيئاً ولكننا نريدك أن تملك.

أنا طوع أمرك يا سيدي.

تناول الرجل كارتاً صغيراً وسلمه لي وهو يقول:

إذهب غداً إلى هذا العنوان.

وقرأت: السفارة الإسرائيلية بون شارع .. فرمقته بنظرة غليظة وقد سرت بأوصالي رعشة .. وقلت بصوت أجش:

وما دخل إسرائيل في تهريب السلع إلى ألمانيا الأخرى؟

في بون ستعرف كل شيء .. وسيدفعون لك بسخاء إذا تعاونت معهم.

كان الخوف قد بدأ يساورني وقلت في تلعثم:

تريدونني جاسوساً إذن؟

أجابني بسرعة وكأن رده كان جاهزاً:

إسرائيل ليست بحاجة إليك لتعمل جاسوساً .. فأنت لا تملك هذه الموهبة ولست بالشخص المهم الذي تستخلص منه معلومات سرية.

قبل مغادرتي مصر بوقت قريب قرأت في الصحف عن جاسوس مصري عاطل لا يعمل بالحكومة ولم يؤد الخدمة العسكرية فلماذا اختير جاسوساً وما الفائدة منه؟

اسمع . . طالما نحن في حالة حرب مع العرب – فسوف ينظر إلى نياتنا بالريبة والشك ..

تشققت شرايين عقلي عندما نطقها صريحة .. وأحسست بأنني أترنح وأرتجف .. لكني استجمعت قواي الخائرة في صعوبة وسألته:

أنت إسرائيلي إذن سيد هاوزن؟

أنا يهودي ألماني أحب إسرائيل والعرب وأحلم دائماً بالوفاق بينهما.

ودخلت سيلفيا مضطربة. نظرت إلى وجهينا تستخلص نتائج اللقاء . . ويبدو أنها فهمت جيداً أن شيئاً ما قد حدث. فهتفت سريعاً:

أوه . . أيها المصري المراوغ . .

وأخرجت منديلها تمسح قطرات العرق على جبهتي. . وكنت لحظتئذ كتائه يبحث عن ملاذ . . يملؤني إحساس غريب أحسه لأول مرة. إنه مزيج من الخوف والطيش واللامبالاة . .

لملمت إرادتي ونزلت معها إلى الصالة فشربنا ورقصنا .. واستيقظت في الصباح لأجدها عارية بجواري . . وجسدها الأفروديتي ينفث حرارة تلسع رجولتي .. لكنني كنت قد فقدت الرغبة تجاهها وسافرت بخيالي إلى بعيد، إلى الإسكندرية، وهجم طوفان من الذكريات والمشاهد واستسلمت هرباً من توتري واضطرابي. فطفت كالطائر فوق كازينو الشاطئ على الكورنيش وتجولت بداخله. . واتجهت إلى الركن الذي شهد أروع لقاءاتي مع نوسة . . فتحسست الموائد والمقاعد علني أتنسم عطرها. وعندما اتجهت طائراً إلى قلعة قايتباي . . مدت سيلفيا يدها تداعب شعري ولكن هيهات .. لم تخرجني من رحلتي لمسجد سيدي بشر الذي يطل على البحر من مرتفع . . فلكم جلست على أسواره أتفكر في مستقبلي المجهول وحياتي الخاوية .. وكثيراً ما عرجت خلف المسجد حيث تقع المقابر فأنشد بعض الرضى والصبر.

ياه . . هاهي أشجار التين البرشومي على ساحل العجمي تتناثر على مرتفعات التلال وصبيان يرعيان الماعز ويلعبان "السيجا". طفت أتذكر مراتع طفولتي وصباي. . برائحته الآزوتية يلفح وجهي نسيم البحر رطباً . . ويطير خيالي إلى محرم بك حيث بيتنا الجميل وضوضاء الباعة الجائلين .. وتوقفت عند يوم سفري حيث وجه والدتي النوراني والدموع تشق أخدودين على خديها . . وبحنان كبير تقبلني وتضمني إلى صدرها بحرارة . . وها هو يقف محزوناً . . لم أر والدي من قبل يبكي . . أشعره العجز عن تحقيق آمالنا بحسرة تنطق بها نبرات صوتها الحزينة. وها هي هدير – صغرى شقيقاتي – تخلصت من أحضانها بمعجزة. . كانت تحس بمعاناتي أكثر من شقيقتي الكبرى التي وقفت تقول: دعوه يسافر .. فالسفر يحوله إلى رجل.

ودون وعي . . أزحت يد سيلفيا عن صدري ونظرت إليها في "زهق" فانتبهت .. ورفعت رأسها قليلاً لتلمح حبات دموع تعرف طريقها جيداً على وجهي . . وانتابتني رجفة خفيفة فضمتني إلى صدرها وقالت:

علام القلق يا فؤاد؟ أنت لن تذهب إلى جهنم حتى تضطرب هكذا.

أجبتها بصوت مبحوح مختنق:

سيلفيا . . أنا فقط تذكرت أهلي في مصر.

وهي تضغطني بشدة:

عما قريب ستعود إليهم ومعك آلاف الماركات.

ماذا يريدون مني مقابل هذه الثروة.

أنا لا أفهم في السياسة. لكنهم بلا شك يعملون من أجل السلام وأمن إسرائيل.

أنا أيضاً لا أحب السياسة ولا أفهمها. وما أذكره أن إسرائيل احتلت سيناء والضفة والجولان . . ولا أعرف بالضبط ما هي الضفة أو الجولان؟

أعتقد أنك مصري مقامر . . لديك عزيمة المغامر وإصرار العنيد.

ربما أكون كذلك وإلا ما جئت إلى هنا.

قلت لي أنك جئت مديوناً .. أليس كذلك؟

بلى .. جئت مديوناً. . وكنت أتسول مصاريف السفر ذليلاً. حتى والدي . . كان يعتقد بأنني سأخذله . . ولم يكن يثق فيّ للحظة.

زوج شقيقتك قلت لي أيضاً أنه آلمك كثيراً وسخر منك.

كفى . . كفى سيلفيا . . أريد ألا أتذكره. لقد رفض وداعي في المطار وقال باستخفاف سأذهب لاستقباله بعد عدة أيام قادماً بفشله.

هجمت علي مشاهد الإذلال التي عشتها في الإسكندرية وأنا أبحث عمن يمد لي يده بجنيهات قليلة تعينني في سفري . . فامتلأ قلبي غيظاً وغضباً .. وسمعت سيلفيا تقول:

فؤاد لا تحرق أعصابك فأنت مقبل على عمل هام يجب أن تستعد له بذهن صاف.

نعم . . صدقت أيتها الملعونة . . وضممتها مداعباً خصلات شعرها الذهبي الناعم وقبلتها قبلة نارية طويلة وقلت:

متى سنلتقي بهم في بون؟

لم ترد علي فقد استغرقت قبلتها المجنونة وقتاً طويلاً .. ثم انتصبت جالسة فجأة وأخذت تضرب صدري بيديها وتصيح:

من أي أرض أنت أيها الوحش؟

كانت حرارتها قد ازدادت اشتعالاً .. وتعمدت أن تغرقني في مستنقع الجنس ولا أفيق من خمره أبداً .. أنوثتها أسبغت عليها الخبرة أنوثة أقوى . . وبعد أن استرحنا قليلاً أدارت قرص التليفون وتحدثت مع هاوزن. . فلم أستطع فهم حوارهما حتى انتبهت إليها تقول:

ميعادنا الثامنة مساء اليوم في بون؟

نظرت في ساعة يدي وقلت:

75 كيلو متراً يقطعه الباص في ساعة تقريباً حتى بون يجب أن نصل مبكراً. أريد شراء ملابس جيدة من محلات جونتر الشهيرة .

استسلمت لمصيري . . وأغمضت عيني عن المخاطر التي تحدق بي .. فقد كنت كالتائه في الصحراء أكاد أموت عطشاً لو لم أنبش الأرض بأظافري لأشرب. وأخذت سيلفيا تسقيني جرعة زائدة من الثقة في نفسي. . وتؤكد على أنني حر ولا سلطان لأحد علي إلا المال الذي سوف يتدفق من حيث لا أدري. وتمادت في إيهامي بأنني شخصية مرموقة ومهمة حتى خيل إلي أنني رئيس الجمهورية العربية المتحدة. وبيدي حل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

وكـــــــــر الحيـــــــة

عندما ركبنا الباص في بون كان نهر الراين عن يساري ينساب رقراقاً متهادياً تغطيه أحياناً أسراب من الطيور البيضاء .. وكانت الخضرة متمد يميناً ويساراً إلى مساحات شاسعة .. فتبدو كبساط رائع تتخلله ألوان الزهور الزاهية في الربيع .. وتظهر البيوت الريفية وسط الحقول بشكلها الجميل يبعث شعوراً بالبهجة والهدوء. .

تذكرت النيل وأرض الدلتا تزهو به وترفل في أثواب بديعة من ألوان شتى. وتذكرت الريف الفقير في بلدي وقلت في نفسي إن الفارق الكبير بينه وبين الريف الألماني الذي لا يقارن يعود في الأصل – كما قال هازون – إلى حالة الحرب التي سيطرت على مصر. ولولا الحروب لكانت أجمل بقاع الأرض.

هذا الأمر جعلني لا أنبذ فكرة الاتصال باليهود أو التعاون معهم. . إذ صور لي خيالي أنني قد أساهم في خلق مجتمع أفضل في وطني. اعتقدت أيضاً أنني صاحب رسالة يجب أن أؤديها. ولم أقنع عقلي أنني بالتعاون مع الإسرائيليين صرت جاسوساً لهم على أهلي ووطني. ولكن . . تغيرت المفاهيم تماماً بعد زيارتي لسفارة إسرائيل!!

في غرفة رائعة بفندق ماجستيك . . استبدلت ملابسي وتهيأت للقاء المرتقب. . وعند الباب الرئيسي كانت تقف بانتظارنا سيارة أوبل حديثة وقف بجانبها شاب مهذب فتح الباب الخلفي فركبت بجوار سيلفيا وساقاي ترتعشان في قلق لا إرادي . . واخترقت السيارة شوارع بون تحملني إلى المجهول. وعندما وقفت أمام مبنى سفارة إسرائيل يعلوها العلم الأبيض ذو النجمة السداسية الزرقاء – نجمة داود – تسمرت قدماي واقشعر بدني كله. . فجذبتني سيلفيا إلى الدخل وهي تصيح في دلال:

آه .. حبيبي . . ماذا جرى لك؟

فمشيت وراءها كالمنوم. . وفي الطابق الثاني من السفارة . . استقبلتنا فتاة بشوش أزالت ابتسامتها بعض الرعب الذي جثم على صدري . . وقادتنا إلى غرفة تقع في نهاية ممر طويل.

كانت غرفة مكتب لا أحد بها .. وعلى الجدار كانت هناك صورة لسيدة عجوز وأخرى لرجل لم يعجبني منظره. لقد كانت العجوز تبتسم في خبث بينما هو يزم شفتيه في تحد وشماتة.

خرجت الفتاة ووضعت سيلفيا ساقاً فوق ساق فأظهرت ثلثي فخذيها وقالت بعدما أشعلت سيجارتها:

فؤاد . . الأمر ليس سيئاً إلى هذا الحد . . تبدو كأنك تغرق.

أنا؟ . .

نطقتها وكنت في الحقيقة أرتجف بشدة وتصطك أسناني في اضطراب .. ويبدو أن سيلفيا أرادت تهدئتي فقالت بصوت محبب مريح:

بإمكانك أن تنصرف الآن .. لن يمنعك أحد.

تفضل . . مستر فؤاد.

هكذا نطقت باسمي الفتاة التي استقبلتنا وقد دخلت وبين يديها صينية تحمل أطباق الحلوى وأكواب الشاي .. وفي أثرها دخل رجل أسمر شرقي الملامح وبعربية فصيحة صاح كأنه يعرفني منذ أمد:

أهلاً أهلاً يا فؤاد .. كيف حالك؟

صافحني بحرارة وهو يقول:

أنا مصري مثلك .. إسكندراني .. وإسمي إبراهيم يعقوب . . أرجو أن تعتبر نفسك في بيتك هنا.

تمتمت ببضع كلمات غير مفهومة فابتسم ورمق سيلفيا بنظرة سريعة فقامت على الفور وقالت لي:

سأعود حالاً.

وبينما كان يعد ويرتب بعض أوراقه كنت أطرقع أصابعي وبدأ التوتر جلياً على وجهي. ولم يتركني إبراهيم كثيراً إذ التفت إلي كلية وقال:

حدثني عنك هاوزن كثيراً. أما سيلفيا فقالت عنك قصائداً.

ثم أضاف:

ماذا كنت تعمل في كولون؟

في مصنع راينهارد للبويات.

كم كان راتبك تقريباً؟

كنت أوفر ألف مارك من بقية راتبي.

أتريد أن نلف وندور أم نتحدث صراحة حتى نختصر المسافة والوقت؟

أنا لا أفهم شيئاً.

فؤاد . . أنت شاب ذكي وتعرف كيف تستغل المواقف لصالحك. وأنا أعرف أنك تمر بظروف سيئة في مصر وهنا أيضاً. هاوزن قال لي صراحة أنك مغامر عنيد .. رفضت العمل معه في تهريب السلع إلى ألمانيا الشرقية لأنك أردت عملاً أهم وأكبر. . وبالتالي عائداً مادياً يتناسب وأحلامك وطموحاتك . أليست هذه حقيقة؟

بلى .

إذن. . عليك أن تعلم جيداً أنه برغم التوتر في الشرق الأوسط والصراع المرير ما بين إسرائيل والدول العربية. . فليس معنى وجودك هنا أننا نريدك جاسوساً. . لا . . نحن لا نريدك أن تخون بلدك .. فأن شخصياً لا أريد أن أتعامل مع الخونة. . ويبدو أن هاوزن كذب عليك كثيراً عندما أكد على أنك قد تكسب نصف مليون مارك بتعاملك معنا . . نعم . . كذب هاوزن فهذا مبلغ تافه . . ولأنك مغامر تبحث عن المال والمجد .. فقد تكسب مليون مارك في لحظة خاطفة. . إن النقود ليست بذات قيمة عندنا . . نحن فقط نحب المجتهدين. . ونعطي بسخاء وبدون حساب إذا م أتأكد لدينا أنك مخلص في تعاونك معنا.

قلت له وأنا أتلعثم ولا أستطيع جمع شتات فكري:

أنا مستعد للتعاون معكم على ألا أصاب بضرر أو ..

لا . . لا . . لن يؤدي ذلك إلى إلحاق أي ضرر بك .. مطلقاً .. نحن نريدك صديقاً ونسعى وبشدة للمحافظة على أصدقائنا في أي موقع وفي أي مكان.

قلت وقد تجرأت لفتح مجالات حوار مختلفة:

ماذا إذن تريدون مني؟

نريد أن نتعرف عليك أكثر.

ولعدة ساعات سألني إبراهيم عشرات الأسئلة عن أهلي وأقاربي وأصدقائي .. وعن الإسكندرية والحي الذي أسكن به. وسلمني ملفاً به عدة ورقات طلب مني أن أكتب سجل حياتي وأجيب عن الأسئلة المكتوبة باللغة العربية. وجاءني بخريطة كبيرة للإسكندرية علقها على الحائط وطلب مني أن أحدد موقع منزلي. . ثم علق خريطة أخرى لميناء الإسكندرية وطلب مني أن أحدد له بعض المواقع ففعلت.

خرجت من السفارة الإسرائيلية منهك القوى وكأنني كنت أحارب في معركة شرسة. كنت أبحث عن سريري لأرتمي عليه. وتوقعت أن أجد سيلفيا تنتظرني بالحجرة لكنها لم تكن موجودة. فاستغرقت في نوم طويل وأفقت في الصباح أنتظر اتصالاً من سيلفيا أو إبراهيم فلم يحدث.

لقد طلب مني إبراهيم أن أظل بالفندق ولا أغادر بون حتى يتصل بي. . ومرت علي خمسة أيام طويلة دون أن يتصل بي أحد. وكلما طلبت هاوزن في كولون لا أجده. وفجأة طرق الباب أحد موظفي الفندق وأخبرني أنه موظف بالحسابات. . وبدماثة خلق أخبرني أنني مدين للفندق بمبلغ 1600 مارك ويجب الإسراع في السداد.

ارتديت ملابسي وربكت سيارة إلى السفارة الإسرائيلية. . ولكن موظفة الاستعلامات أتت من الداخل وبيده مظروف بداخله مائتا مارك وقالت إن إبراهيم في مهمة وسيعود خلال أيام.

وعدت إلى الفندق لأحصي المبلغ كله الذي أملكه فوجدته يقل عن الخمسمائة مارك.. وقلت في نفسي . . لا بد أن أتصرف وأسدد الفندق وإلا فستقبض علي الشرطة. وتعجبت. . ذلك أن سيلفيا أكدت لي أنني لن أدفع حساب الفندق. فماذا حدث إذن؟ وأين سيلفيا هي الأخرى؟

استلقيت على سريري أفكر في هذا المأزق وفي آلاف الماركات والدولارات التي وعدت بها. . واضطربت لسوء موقفي بسبب قلة النقود معي. . لكني لازمت الفندق ولم أغادره انتظاراً لاتصال إبراهيم أو سيلفيا. وبعدما فقدت الأمل فيهما جاءتني مكالمة من السفارة الإسرائيلية تطلب مني أن أذهب إليها حالاً.

وهناك تعرفت على أبو علمون الذي اعتذر لسفر إبراهيم المفاجئ. . واصطحبني إلى غرفة بها صفوف من المقاعد . . ولما أطفأ الأنوار وأدار آلة عرض شاهدت أنواعاً مختلفة من الدبابات والمدرعات والسيارات المجنزرة. وشرع أبو علمون في تلقيني كيفية التمييز بينها وعندما سألته لماذا؟ أجابني بأن هذا هو صميم عملي الذي سيكون في ميناء الإسكندرية وسألني بحزم:

ألست مغامراً يبحث عن النقود ؟

أجبت في ذعر:

بلى .. ولكن . .

قاطعني بحسم:

نحن نريد أن نمنع الحرب بين مصر وإسرائيل. والشرق الأوسط الآن منطقة ملغومة وسوف ندفع لك مليون مارك – فوراً – إذا عرفنا بواسطتك أن مصر ستحارب.

وكيف سأعرف؟

من السهل جداً أن تعرف ذلك . . فإن تدفق الأسلحة من الاتحاد السوفيتي إلى مصر لدليل قوي على نية الحرب عند المصريين، كذلك حركة تنقلات وحدات الجيش المصري .. وما عليك إلا أن تكون عيناً لنا وأذناً. عيناً على ميناء الإسكندرية الذي يستقبل السفن المحملة بالأسلحة والمعدات .. وأذناً لنا نسمع بها ما يدور سراً في الجيش المصري. .

كان جسدي يرتعش وحل اضطراب شديد بأعضائي. . الآن .. الآن فقط عرفت مهمتي بالضبط.

استغرق أبو علمون في الحديث الذي كان "يطعمه" بالإغراءات المادية. . وبالخير الذي سينصب فوق رأسي بتعاوني معهم . . ويتعمد أن يذكرني كل لحظة بظروفي المعيشية الصعبة .. وبأنني لست في محطة باص ولكن في سفارة إسرائيل.

. . كانت نبرة التهديد واضحة ومخيفة تحمل خلفها الموت والدمار. . وتعقبها نبرة مغلفة بالوعود البراقة .. فحوصرت .. ورفعت الراية البيضاء في النهاية. . دون أن أحسب حساباً لمصير أسود ينتظرني . .فقد ملئت ثقة بأنني في مأمن كامل معهم.

العملاق الذي مات

أعاد أبو علمون تشغيل آلة العرض الـ 16 مليمتراً .. وأخذ يشرح لي الكثير عن الأسلحة المختلفة والمعدات العسكرية. . وبقيت طوال اليوم في السفارة الإسرائيلية أتدرب على تحديد أنواع المعدات وموديلاتها.

وعندما عدت إلى الفندق – قامت "كاتيا" التي رافقتني من السفارة، بدفع المتأخرات وصعدت معي إلى غرفتي وقالت لي أنها ستصاحبني إلى سهرة خاصة ستعجبني.

أبدلت ملابسي وخرجت معها تقود سيارتها وهي تغني أغنية لأم كلثوم فصرخت بها:

أنت فلسطينية؟

نظرت إلي ثم استمرت تردد مقاطع الأغنية وتخترق شوارع بون. . حتى وصلنا الى شارع تصطف على رصيفيه أشجار البونسيانا التي تغطيها الزهور الوردية البديعة وقالت كاتيا:

أنا مغربية من كازا بلانكا.

وأضافت قبلما نغادر السيارة:

ستقضي هنا سهرة العمر. .

دلفنا الى فيلا من طابقين بلا حراسة .. وعندما اجتزنا الحديقة سمعت ضحكات نسائية تدور وانفتح الباب عن رجال ونساء لا أعرفهم ولا يعرفونني .. لكن بعضهم أومأ تحية لكاتيا . . وبعد دقائق جاءتني زجاجات الخمور أنتقي منها ما أريد . . ودارت عجلة المجون وصاح البعض في اندهاش وهم يرون فتاة صغيرة شقراء .. لا تتعدى التاسعة عشرة .. ترقص وتخلع ملابسها قطعة . . وراء قطعة وكلما تخلصت من واحدة تزداد أصوات الهمهمات . . وظلت لدقائق عارية الصدر ترقص بورقة التوت الصغيرة ثم تخلصت منها أيضاً والآهات تعلو. وظهر شاب على البيست احتضن الفتاة العارية وأخذا يرقصان في خلاعة .. وتخلص الشاب أيضاً من ملابسه ومارس الجنس بحرية أمام الحضور.

عدت الى حجرتي لأستعد للقاء المرتقب مع إبراهيم فأخبرتني كاتيا أنني سأنتقل الى إحدى الشقق لاستكمال الدورة المكثفة، وفي الشقة الجديدة على أطراف المدينة جاء إبراهيم. . وبدأ امتحانه لي بأن أطلعني على صور لبعض المعدات وطلب مني التمييز بينها. . ودربني على ذلك كثيراً، ثم أفاض في شرح كيفية اصطياد المعلومات العسكرية.

وفي شبه معسكر مغلق أقمت في الشقة مع كاتيا. معظم النهار في دورات تدريبية مكثفة. . أما الليل فهو ملك كاتيا نمضيه معاً في شرب الخمر وتعاطي الجنس وننام آخر الليل سكارى.

وبعد أسبوعين تقريباً كنت قد تعلمت الكثير، ودربت على كيفية الحصول على ما أريد من معلومات من العسكريين. وتعلمت الكتابة على الورق المشبع بالمواد الكيماوية وذلك بكتابة خطاب عادي. . ثم أستخدم الكربون المعد للكتابة السرية لأكتب الرسالة المطلوبة بين السطور . . ثم أمرر الرسالة على بخار براد الشاي لثلاث دقائق. . فتتلاشى آثار الضغط ويصبح شكلها كالرسالة العادية بعد وضعها بين صفحات كتاب كبيرة لعدة دقائق.

كانت هذه هي طريقة الكتابة السرية التي دربت عليها وأجدتها عدة مرات. وهكذا أصبحت جاسوساً لإسرائيل دون أن أقاوم. . أو أسعى في محاولة لأن أقاوم. ولم أستطع أن أتراجع. فلقد أغرقوني بالنقود والخمر والنساء الفاتنات. . وأحاطوني بكل الإغراءات فسقطت ولم أفق.

لكن بعد عدة أيام . . وفي أواخر سبتمبر 1970 . . حدثت كارثة زلزلتني . . إذ شاهدت في التليفزيون مشاهد عن مصر. وعندما دققت كثيراً – عرفت أن جمال عبد الناصر قد مات ..

صرخت دون وعي . . وجاءت كاتيا مسرعة من الحمام وأغلقت التليفزيون وعندما قفزتُ لأفتحه وأنا ألعنها حاولت منعي. فلم أشعر إلا ويدي تنهال ضرباً على وجهها. . وظللت أضربها وهي تصرخ . . ولما اشتد ضربي لها فتحت باب الشقة وخرجت هاربة من جنوني. . وبعد نصف الساعة فوجئت بإبراهيم أمامي . . يصوب مسدسه نحوي ومن خلفه كان هناك اثنان لا أعرفهما . . يحملان رشاشات "عوزي" الأوتوماتيكية. وكان الغضب يطفح على وجههم جميعاً . . وأدركت أنها لحظة النهاية .. !!

كيف يصنع الجواسيس. . ؟

كنت منكفئاً على وجهي أبكي بصوت مرتفع . . تحاصرني انفعالات شتى وأنا أتخيل مدى حقارتي . . وامتدت نحوي يد إبراهيم – ضابط المخابرات الإسرائيلي – في محاولة لتهدئتي . . فصرخت في وجهه أن يدعني وشأني. وانفجرت باكياً كأنما أبكي أبي. وملأني شعور غريب. . شعور بالضعف والانكسار والوحدة. واجتاحني إحساس بالضياع. وقال إبراهيم:

نحن نقدر أحزانك .. لقد كان ناصر عظيماً. .

وأردف بفخر:

هناك اتصالات دولية لإرسال وفد إسرائيلي للتعزية. . إنه زعيم عربي لن تنجب مصر مثله .. لقد استشهد وهو يكافح لاحتواء أزمة الفلسطينيين في الأردن..

علا بكائي ولم أستطع كتمان موجات الشجن وسمعت إبراهيم يقول في التليفون:

أرسلوا "هيمبل" حالاً ومعه أدواته …

يفضل ذلك. وعلى وجه السرعة. إنها ستساعدنا كثيراً.

دقائق وجاء الدكتور هيمبل. . نظر في وجهي سريعاً وهو يضع حقيبته على السرير. . وفتحها باهتمام وأخرج سماعته الطبية . .ولما اقترب مني دفعته بقوة فسقط على الأرض وحاولت الهرب من الحجرة. . لكن إبراهيم وحارسيه كانوا قد تمكنوا مني.. وأسرع هيمبل وملأ السرنجة بسائل أصفر .. وبينما كنت أصرخ وأحاول الإفلات كانوا يشلون حركتي .. وحقنني هيمبل في الوريد ورأيت بعدها خيالات أشباح تلف حولي . وعندما أفقت لمحت وجهها الجميل يبتسم. ويدها الرقيقة تداعب شعيرات صدري فلم أكن أتصور أنها هي بلحمها وشحمها وعندما نطقت باسمها صاحت وهي تحتضنني:

حبيبي . . حبيبي . . !!

نظرت حولي فلم أجد سواها .. ورمقتها بنظرة عتاب فقبلتني قبلة سريعة ملأى بالحنان وقالت:

جئت لأجلك حالاً من إسرائيل . . ولن أتركك وحدك أبداً. .

احتوتني سيلفيا بحنانها . . ومهدت الطريق لأبو علمون الذي جاءني منتفخ الأوداج يبدو كديك شركسي. . وبعد أن جلس قليلاً ربت على كتفي وقال:

فؤاد . . بوفاة ناصر سنكون أكثر احتياجاً إليك. . فالأمور في مصر غير واضحة الآن. لقد كنا نعرف قدرات ناصر جيداً ولكن بمجيء آخر. . ستكون هناك شكوك في نياته . . وعلى ذلك فاحتمالات الحرب مع مصر قائمة. وعلينا أن نتعاون معاً لنحبط الصدام المسلح ونعمل على إفشاله.

وبعد انصراف أبو علمون جاء إبراهيم بخطوة الواثق وقال لي:

إنها فرصة العمر بالنسبة إليك .. ويجب أن تنتهزها وإلا ضاعت منك الى الأبد . . إنها لحظة رائعة يا فؤاد عندما نخبرك أنك حصلت على مليون مارك ألماني . . لا بد أن تتحرك فهناك من ينتظر هذه الفرصة التي منحناها لك.

وقبل أن ينصرف ناولني مظروفاً بداخله ألفا مارك.

كانت سيلفيا – عملية الموساد – لا تكف عن ترديد حكايات عجيبة عن المخابرات الإسرائيلية تكاد تكون أساطير من نسج الخيال. وكيف تحمي الموساد رجالها وعملاءها في كل أرجاء المعمورة.

ولم تمر سوى أربعة أيام وعاد إبراهيم ليكمل الدورة التدريبية.. وجرى تدريبي على استعمال الشفرة بالراديو . . وكان علي أن أستقبل إشارات معينة على إحدى الموجات فأقوم بمطابقتها على كتاب الشفرة. وسملني أيضاً جهاز راديو خاص وقمت بحل التمارين عدة مرات. . حتى تأكد نجاحي تماماً في استقبال الرسائل وترجمتها.

بعد ذلك دربني على استعمال الميكروفيلم في تلقي المعلومات أو إرسالها. فضابط المخابرات يكتب أوامره على صفحة فولسكاب. . ثم يقوم بتصغيرها عدة مرات حتى تصل الى حجم رأس الدبوس. وعندما أتسلمها فوراً أقوم بتكبيرها الى حجمها الأصلي وقراءة الأوامر . . وإرسال المعلومات الى مكاتب وفروع الموساد في العواصم الأوروبية بذات الأسلوب.

وبعد عدة أيام لازمني خلالها إبراهيم معظم ساعات النهار استطاع أن يشرح لي أساليب التخفي والتمويه والهرب من المراقبة وإخفاء أدوات التجسس . . وكذلك طرق "جلب" المعلومات من المصادر العسكرية. . وتتبع حركة تنقلات وحدات الجيش. . وكان الأهم. . خاصة بعدما حصلت على دورة سابقة في التمييز بين أنواع الأسلحة والمعدات.

وبعد هذا النجاح المثير أعاد إبراهيم حكاية المليون مارك .. ثم وعدني بـ 50 ألف دولار أمريكي إذا أفشيت سر أي عميل للمخابرات المصرية داخل إسرائيل ويقبض عليه فعلاً. وعندما استفسرت عن هذا الأمر وقلت لإبراهيم:

كيف لي أن أعرف جواسيس مصر في إسرائيل؟

أجابني بثقة زائدة:

من خلال معارفك الذين لهم علاقات بأفراد من القوات المسلحة. . أو من ضباط الجيش أنفسهم . . فالمصري دائماً يتباهى بأنه يحمل معلومات خطيرة مما يعطي انطباعاً بأهميته.

فقلت له على الفور:

مستحيل أن تصل الدردشة العادية لدرجة البوح بأسرار كهذه.

سأقوم بتعليمك كيفية إدارة الحوار مع أشخاص مهمين . . وعليك أن تسعى لخلق صداقات جديدة مع أشخاص في مواقع حساسة للحصول منهم على معلومات. أية معلومات لا بد أن تكتبها لنا. وعليك أن تفهم جيداً أن هؤلاء الذين يشغلون مناصب مهمة لديهم اتصالات بآخرين في مواقع أهم. وأثناء جلسات اللهو والمرح. . "يفضفض" كل واحد بما لديه من معلومات وأسرار. . .وتصبح أدق المعلومات العسكرية مادة سهلة التداول، وعليك حينئذ أن تدير الحوار ببراعة .. كما سأعلمك استخلاص ما هو أكثر مما قيل.

وفي دورة أخيرة لإدارة حوار مع شخصية مهمة .. أخذ إبراهيم يعلمني كيف أثير الطرف الآخر وأجعله ينطق ويبوح بكل ما هو سر لديه.. وذلك بعدة طرق منها أن أذكر له معلومات خاطئة فيصححها لي . . وإذا كان ضابطاً في الجيش . . أتعمد تذكيره بهزيمة الجيش أمام حفنة من جنود إسرائيل .. فيندفع ثائراً ويقول ما عنده من أسرار الاستحكامات والتدريبات. . والأسلحة الحديثة التي وصلت ويتدربون عليها. . وأيضاً دور الخبراء السوفييت في إدارة بعض النواحي الفنية في الجيش المصري.

وفي النهاية – طمأنني ضابط المخابرات الإسرائيلي أنني أصبحت جاهزاً للعمل في مصر بما لدي من خبرة ودراية كبيرة بعد هذه الدورات التدريبية المكثفة. وأخبرني بأن راتبي الشهري ابتداء من الآن هو 300 دولار أمريكي عدا المبالغ الأخرى التي ستخصص لي بعد كل خطاب أرسله إليهم به معلومات مفيدة. وقال إبراهيم أن بإمكاني الحصول على ألف دولار شهرياً – بخلاف الراتب - .. وهذا يتوقف على أهمية المعلومات التي أرسلها لهم "مع العلم أن مرتب الموظف خريج الجامعة كان لا يزيد عن 18 جنيهاً". وطلب مني الاستعداد للعودة الى مصر.. وإيهام أهلي وأصحابي بأنني كنت أعمل في تجارة السيارات في ألمانيا .. حتى لا تثير النقود الكثيرة التي معي أية شبهة.

وقبل أن يتركني لقضاء عدة أيام مع سيلفيا قبل سفري الى مصر . . منحني ألف مارك وأعدت سيلفيا رحلة ممتعة الى الجنوب الألماني حيث بحيرة كونستانس الواقعة على الحدود مع سويسرا والنمسا . . وأمضينا عدة أيام في "فريدر كسهافن" وتجولنا حتى وصلنا الى حيث انتهى نهر الدانوب الشهير ومروراً بمدينة فريبورج في الغابة السوداء.

وفي شتو تجارت نزلنا بفندق "برات" واشتريت بعض الهدايا .. وركبت الطائرة مودعاً سيلفيا الى روما ومن روما الى القاهرة.

نوسة . . التي أطلت

كان أفراد أسرتي في انتظاري والسعادة تملأ وجوههم وهم يرون أعداد الحقائب التي معي محملة بالهدايا.

وفي الإسكندرية كان أول ما خطر ببالي الاتصال بنوسة . . فذهبت سريعاً الى صديقي حاتم ورجوته أن يطلعني على أخبارها. . وعندما تبين لي أنه لا يعرف أكثر مما ذكره لي في رسالته قررت نسيانها.. والعمل فوراً فيما جئت من أجله.

بدأت أبحث عن صداقات جديدة وأوطد علاقاتي ببعض الموظفين في ميناء الإسكندرية. . وكنت أسجل المعلومات التي أحصل عليها أولاً بأول وأرسلها في الحال الى العنوان الذي طلبوا مني مكاتبتهم عليه في لندن "مستر طومبسون ص. ب. 329". . وكانت رسائلي لا تحوي معلومات عسكرية فقط. . بل حوت أخباراً اقتصادية عن رسو عدد من السفن العملاقة تحمل بداخلها آلاف الأطنان من الحبوب أو السكر . .

كانت حركة الميناء من وارد وصادر تقريباً مرسلة إليهم في لندن.. وأصبح العمل بالنسبة لي بعد مرور عدة أشهر من أسهل ما يمكن. فعلاقاتي تعددت وتشعبت. . وتجيئني المعلومات دون جهد يذكر من خلال الأحاديث العادية التي لم تكن تحمل ما يدل على اهتمامي.

وذات يوم في نوفمبر 1971 جائتني رسالة غريبة بواسطة الراديو . . كانت الرسالة تحمل تحذيراً واضحاً. . ومخيفاً في ذات الوقت:

"لا تقرأ في الصحف المصرية – مطلقاً – أية أخبار تتعلق بإلقاء القبض على جواسيس لإسرائيل. هذا أمر وعليك تنفيذه".

انزعجت كثيراً لهذه الرسالة التي لفتت انتباهي وأثارت قلقي . . ودفعتني رغماً عني لقراءة كل الصحف المصرية صباح كل يوم، حتى قرأت خبراً عن سقوط جاسوس مصري يعمل لصالح إسرائيل. . فاضطربت حياتي وامتنعت عن الخروج من المنزل لعدة أيام.

كانت الرسالة تأتيني عن طريق الراديو – مكررة – حتى بعدما قرأت الخبر – فيحل الرعب بي وتهرب المغامرة .. وكانت أية أصوات أقدام تصعد السلم تصيب أطرافي بالشلل. فكتبت رسالة تحمل ما أشعر به وتترجم معاناتي. . وفوجئت بالرد يصلني سريعاً بالراديو يطلب مني السفر الى لندن في أسرع وقت. وبينما كنت أعد حقيبتي . . دق جرس التليفون وكانت على الطرف الآخر .. نوسة!!

مرت ساعة واحدة وكنت أجلس في أحد أركان كافيتريا فندق فلسطين.. وكان اللقاء مدهشاً.. وظل كفها الصغير بين كفي لفترة طويلة. وعندما همست باسمي طلبت منها ألا تتكلم.. أردت فقط أن أنظر لوجهها الذي حرمت منه لمدة عامين. . ومن داخلي كنت أرقص طرباً وأجريت مقارنة سريعة بينها وبين سيلفيا وكريستينا وكاتيا وغيرهن. . إنها أجمل منهن جميعاً. . بل تكفي ابتسامتها لتبدل مذاق حياتي وتضفي عليها البهجة. . إن مذاقها لعجيب .. عجيب والجنس معها له طعم ونكهة لا يوجدان في أية امرأة أخرى قط.

وفي آخر يناير 1972 كنت في لندن. . وكان في استقبالي ضابط المخابرات الإسرائيلية المسؤول عني – إبراهيم يعقوب – وبصحبته ضابط آخر اسمه "بوب" في السفارة الإسرائيلية في لندن. وطلبا مني أن أهدأ وألا أتوتر لهذا الحد. .

وقالا لي: إذا كانت الصحف المصرية قد نشرت أخباراً عن إلقاء القبض على جاسوس يعمل لصالح الموساد .. فهذا ليس سوى دعاية مضادة.. وأسلوب تخويف لجواسيسهم في مصر . . ومثل هذه الشائعات معروفة لديهم وأسلوب قديم تستخدمه أجهزة المخابرات كل مدة.

لم أهدأ رغم ما قالاه لي. . فرأى إبراهيم أن يوكل إلي عملاً آخر في لندن. وكان عملي منصباً علي التعرف الى المصريين الموجودين في لندن أو القادمين الجدد .. لعلي أنجح في تجنيد أحدهم وأتقاضى مكافأة ضخمة .. ووجد إبراهيم أنني بحاجة الى تمرين فأخذني الى إحدى الشقق . . وجرى تدريبي على العمل الجديد في اصطياد مصري يصلح جاسوساً لإسرائيل.

وبعد دورة مكثفة من إبراهيم. . جاء بوب هو الآخر لتدريبي على كيفية العيش في لندن . . وتقصى أماكن تجمع المصريين كالفنادق والمقاهي والمطاعم المختلفة. وكانت لندن حينئذ تستقبل مئات الشباب من مصر بدعوى الدراسة أو السياحة أو العلاج.

وفشلت في مهمتي.. فظروف النكسة كانت مختلفة وغالبية المصريين الذين يسافرون الى لندن كانوا على درجة من الوعي والثقة في النظام السياسي الجديد. . خاصة بعد تصفية مراكز القوى وانشغال الرأي العام بوعود الرئيس السادات. ولكن في مصر كانت مساحة الوعي السياسي تختلف.

أدرك بوب بحاسته كضابط مخابرات أنني لم أنجح في لندن. ولأنني أيضاً أدركت ذلك بعد أن فشلت كل محاولاتي في الإيقاع بمصري واحد. . فقد عرضت على بوب أن أسافر الى مصر فالمجال هناك أفضل بالنسبة لي. وبعد عدة أيام وصل إبراهيم من بون ووافق دون تردد على عودتي الى مصر . . وأعطاني راتبي المتراكم بخلاف مكافآتي وكانت 4500 دولار.

ولكني بعدما عرفت قيمتي لديهم .. وبأن الموساد لا تبخل على جواسيسها. . اعترضت قائلاً إن المكافأة هزيلة جداً. وأن قيمة المعلومات التي قمت بإرسالها تزيد عن هذا المبلغ كثيراً. ووصفني إبراهيم بأنني أصبحت لحوحاً. . فطلبت منه زيادة المبلغ الى 7000 دولار. . وإضافة مبلغ آخر قدره 5000 دولار كمقدم إيجار شقة أستطيع من خلالها أن أمارس عملي في التجسس بحرية . . وقد كان.

النفس الخامس

عدت الى الإسكندرية بأكثر من 19000 دولار. . مبلغ كبير لا شك في ذلك. . واستأجرت شقة في شارع خالد بن الوليد في ميامي. وقررت أن أستغل نشاطي التجسسي لجمع أكبر عائد مادي ممكن.

لقد عشت حياتي السابقة محروماً تلسعني رغبة الاحتياج والعوز. . لذلك. . كنت أضع تقييماً لكل معلومة أرسلها إليهم وأحسب مستحقاتي وأغالي في الثمن، ثمن أعصابي التي تحترق كل لحظة .. وعمري الذي أضعه رهن أتفه معلومة أدونها..

استمرأت طعم الخيانة شيئاً فشيئاً. . وبعدما بعت أمن وطني وأهلي، لم أجد غضاضة في أن أخون رجلاً آخر لا أعرفه. . لكنه امتلك ما عجزت عن امتلاكه. . فإنني الآن أصبحت قادراً على امتلاك أشياء ليست في حوزتي وأهمها نوسة. . التي جاءتني جرياً تفند لي أسباب زواجها . . فلم أهتم .. (!!) لقد عانقتني في شقة ميامي بمجرد أن فتحت حقيبة هداياها العامرة. وبعد دقائق.. فتحت باب حجرة النوم ونادتني من الداخل . . وعندما دخلت عليها كانت بلا شيء. . أي شيء. . بلا حياء أو خوف أو . . ملابس. . إنها أيضاً تدفع الثمن مثلي تماماً. . لا .. إنها تخون زوجها أما أنا .. فأخون وطني كله. .!!

تحولت الشقة الى وكر للخيانة. . وللملذات، خمر .. وحشيش. . ونساء ساقطات.. ورجال ربطتني بهم صداقات مفتعلة، وعندما كان ينشط مفعول الخمر والنساء. . لا تدري العقول ماذا تقول؟!!.

هكذا كانت الأيام تجري سريعاً. . والمعلومات تتدفق في سلاسة.. والثمن أقبضه أنا كما أريد.. وبالسعر الذي أحدده..!!

في تلك الأثناء.. لم تكن المخابرات المصرية غافلة عما يحدث في شقة ميامي التي ذاع صيتها.. وفاحت منها رائحة الخيانة تعلن عن الجرم صراحة.

واختارت المخابرات المصرية أحد مرشديها الذي يعمل موظفاً بشركة الملاحة البحرية – واسمه ممدوح – ليقتحم هذا الوكر ويرصد ما به. فكان ينقل مشاهداته الى العميد حسن واصف – المسؤول عن مكتب المخابرات في الإسكندرية – وفي نفس الوقت وضع تليفون فؤاد تحت المراقبة . . وبذلك أصبح الجاسوس تحت سيطرة جهاز المخابرات وتحركاته مرصودة تماماً دون أن يعرف.

ويكمل الجاسوس سرد قصة الإيقاع به قائلاً:

جاءتني بطريق الراديو رسالة تطلب مني السفر الى روما لمقابلة دانيال .. وهو ضابط المخابرات الإسرائيلي في السفارة الإسرائيلية هناك. . وبالفعل .. أعددت الكثير من التقارير والمعلومات التي حصلت عليها وسافرت بها الى روما . . وكان اللقاء مثيراً للغاية . . إذ كان الضابط سخياً جداً ومنحني ما طلبته من مقابل بل وزاد عليه ألفاً وخمسمائة دولار. . وعدت الى مصر بالثروة التي حصلت عليها مقابل بضع معلومات استقيها من أفواه "المساطيل" واشتريها أحياناً بالهدايا.

وبعد عودتي بحوالي أسبوع واحد.. كانت نوسة عندي بالشقة تتسلم هداياها وتسلمين جسدها الرائع، فنمت مرهقاً بعدما سجلت بعض المعلومات التي وصلتني على ورقة وضعتها بجانب السرير ولم أقم بكتابتها بالطريقة السرية التي دربت عليها.

وعند الفجر .. دق جرس الباب دقات خفيفة فظننتني أحلم. واستيقظت فجأة على يد تهزني فشلني الذعر .. لأجد الحجرة كلها قد زرعت برجال لا أعرفهم.

تناول أحدهم الورقة المسودة وفتشوا الشقة جيداً. . وعثروا على كل الأدلة والأدوات التي تؤكد أنني جاسوس .. خائن.

اصطحبوني الى القاهرة وأخضعت لتحقيق مطول لعدة أيام . . واكتشفت أنني كم كنت واهماً. . فتصرفاتي كلها كانت مكشوفة. . وحركاتي مرصودة. . وخطاباتي مقروءة. . حتى زيارتي الى رومات ولقاءاتي كانت بالصوت والصورة لدى المخابرات المصرية.

اعترفت في الحال بكل شيء دون إكراه. . فالأدلة كانت كلها ضدي ولا تترك لي المجال لكي أنكر . .

ووجهت إلى النيابة العسكرية اتهاماتها الآتية:

السعي لدى دول معادية "إسرائيل" لمعاونتها في عملياتها الحربية.

الحصول على مقابل مادي بقصد ارتكاب عمل ضار بالمصلحة القومية وهو إفشاء أسرار البلاد.

الحصول على أسرار الدفاع عن البلاد وتسليمها لدولة أجنبية معادية وهي إسرائيل.

لقد اعترفت بكل شيء وبرغم الاحتقار الذي أشعر به تجاه نفسي ..إلا أنني أعترف بصراحة بأن حبي لتلك المومس – نوسة – هو الذي دفعني للخيانة .. خيانة وطني!! انتهت مذكرات الجاسوس فؤاد حمودة .. ولكن، ماذا حدث له بعد ذلك؟

تشكلت محكمة عسكرية عليا لمحاكمته. وبعد عدة جلسات أصدرت حكمها بإعدامه شنقاً . . وصدق رئيس الجمهورية على الحكم وأحيل للتنفيذ في سجن الاستئناف بالقاهرة..

وفي صباح السابع عشر من يناير 1973 .. كان يوم تنفيذ الحكم .. حيث سيق المتهم الى غرفة الشنق .. يجرجره جنديان . . ويصرخ قائلاً: أنا بريء . . بريء . . ثم يصرخ ثانية: إعدموها معايا .. اعدموا نوسة .. اعدموها.

"وقف إمام السجن ومأمور التنفيذ في انتظار وصول الخائن من زنزانته. . ولكن محاميه اقتحم المكان فجأة .. وبيده وثيقة رسمية تفيد أن موكله "مجنون" وهو غير مسؤول عن تصرفاته. . ويطالب بوقف تنفيذ الحكم كما ينص القانون. . وبهذه الحيلة . . أفلت الخائن من الإعدام لمدة أسبوعين فقط. . فقد رفضت المحكمة الاستشكال القانوني الذي تقدم به المحامي . . وسيق المتهم مرة ثانية الى غرفة الإعدام حيث أعدت المشنقة لاستقباله، وقام مأمور التنفيذ العميد بدر الدين الماحي بسؤاله عن آخر طلب له في حياته.. فطلب سيجارة . . وأشعلها له المأمور وحبل المشنقة حول عنقه. وبعد أن سحب النفس الخامس . . انفتحت فجأة طاقة جهنم تحت قدميه، وتدلى جسده العفن الذي تبرأ منه أهله . . كما تبرأت منه ديدان الأرض.
[email protected]

التعليقات