طاف بعلم الثوار فيها.. وردد النشيد السابق للبلاد في شوارعها.. وساعد في القرصنة على حواسيب حكومية

طاف بعلم الثوار فيها.. وردد النشيد السابق للبلاد في شوارعها.. وساعد في القرصنة على حواسيب حكومية
غزة - دنيا الوطن
على مدى ستة أشهر قاد مظاهرة سرية تحت سمع وبصر نظام القذافي في طرابلس، التي يفترض أن تكون معقله. وسجلت حملته الداعية لعصيان مدني بكل تفاصيلها، ونشرت على موقع «فيس بوك»، ووزعت على وسائل الإعلام في العالم، من خلال وصلة إنترنت تم اختراقها. وأغضب ذلك الحكومة التي شنت عملية مطاردة طويلة لإلقاء القبض عليه، ووصفه التلفزيون المملوك للدولة بأنه «جرذ» يجب العثور عليه وشنقه، ومع قطع شبكة الإنترنت، تم إلقاء القبض على ابن عمه وتهديد شقيقته.

ولكن بطريقة ما، تمكن نزار مهني، البالغ 30 عاما، وهو جراح الفم، الذي لا يتمتع بخبرة سابقة في العمل السياسي السري، من النجاة ليروي القصة.

ويقول نزار: «لم يكن يتوجب علي القيام بأي شيء معين لأقع في المتاعب، ففي ليبيا القذافي يكفي أن ترفع علما، أو أن تقول لا، أو حتى ذكر مجرد كلمة (تغيير)».

سواء أكان متميزا أم لا، فإن عمل مهني كان بالغ الأهمية، ففي الوقت الذي تم الاحتفاظ فيه بالصحافيين كسجناء افتراضيين للنظام في سجن «ريكسوس»، وقصفهم كل يوم بالدعايا الحكومية الخبيثة، كان نزار أو «نيز» كما كان يعرف للكثير من أفراد المؤسسات الإعلامية، قدم أدلة للعالم الخارجي على أن الثورة لا تزال حية في طرابلس، على الرغم من الجهود الحثيثة للقذافي في تحطيمها.

ندد نزار بالقذافي في وسط طرابلس، وطاف بعلم الثوار في طرابلس، وردد النشيد السابق للمملكة في أركان الشوارع. وساعد في القرصنة على الحواسب الحكومية ثم سرقة طبق استقبال بث القمر الصناعي لمشاركة مشاهدي العالم في تحديه للقذافي.

ويقول عن ذلك: «كنت أرغب حقا في أن أزعج النظام عبر القيام بشيء يكرهه حقا، وهو أن أخبر الناس بحقيقة ما يجري. والحقيقة التي أزعجتهم كثيرا تعني أننا قمنا بشيء ما بصورة صائبة».

عندما اندلعت المظاهرات في طرابلس في 20 فبراير (شباط) الماضي قام مهني، الذي كان يعيش ويعمل في مدينة كارديف في ويلز (بريطانيا) لما يقرب من عقد، بحزم حقائبه على عجل وقفز إلى الطائرة التي هبطت به في مطار طرابلس ليجد أن نظام القذافي يرد بقوة على المعارضة.

وعوض الانضمام إلى حركة المظاهرات، وجد نفسه يعيش في مدينة يحكمها الخوف، حيث بدت الثورة في خطر التهاوي، وهو يستمع إلى المتحدث باسم الحكومة موسى إبراهيم يؤكد على أن سكان طرابلس يقفون بقوة خلف قائدهم.

أدرك أن اللهب بحاجة إلى أن يظل مشتعلا، وضرورة فضح الأكاذيب والحفاظ على الروح المعنوية. في أبريل (نيسان) الماضي، قام هو وعشرة من أصدقائه بمظاهرة في الفجر في قلب العاصمة، وقرأ أمام الكاميرا بيانا شجب فيه النظام، كانوا يغطون وجوههم، لكن قلقهم كان واضحا.

تصرف مهني في البداية بنوع من السذاجة حتى إنه اعتاد في البداية على استخدام بريده الشخصي على «Gmail» في مراسلاته مع مراسلي «واشنطن بوست» في فندق «ريكسوس»، لكنه سرعان ما قام بتشديد الإجراءات الأمنية، واستخدم لقبا قديما لعائلته «بن عيسى»، كنوع من التمويه. وبمساعدة ابن عمه واثنين من أصدقائه المقربين أسس حركة «الجيل الحر».

كان هناك آخرون أيضا يعملون على الحفاظ على جذوة الانتفاضة مشتعلة. وقاموا بتنظيم مظاهرات محدودة النطاق، وأحيانا ما كانوا يقومون بمهاجمة نقاط التفتيش الحكومية. لكن مهني جاء ليمثل رمز المقاومة السلمية، سواء لليبيين الذين شاهدوا المظاهرات على شاشة «الجزيرة»، أو العالم ككل.

حجبت الحكومة الإنترنت عندما بدأت الثورة، لكن ابن عمه مختار البالغ من العمر 26 عاما كان خبير تقنية حكوميا. وقال إنه قام بالقرصنة على نظام الإنترنت الذين كان لا يزال يعمل، واستخدم للوصول إليه طبق استقبال بث حكومي لنقل رسائل المتظاهرين إلى العالم الخارجي.

خلال بضعة أسابيع قليلة، ونتيجة لانتشار أعمال التحدي التي قاموا بها في تلفزيونات العالم، أدرك أعضاء المجموعة أن الشرطة ستبحث عنهم، وقد تتبع آثارهم عبر مسارات الإنترنت، ولذلك ذهبوا إلى محل عمل مختار والخوف يعتصرهم، وصعدوا إلى السطح ليجدوا طبق استقبال بث فضائي بقطر 1.8 متر.

قال مهني: «كنا بحاجة إلى إجراء اتصالات عبر القمر الصناعي، لذا قمنا بفك الطبق. ثم أخذنا نفسا عميقا وخرجنا إلى الخارج. لحسن الحظ كان المبنى ككل المباني الحكومية مهجورا بعد بداية الثورة الليبية. قام مهني وزملاؤه في المجموعة بتعليق علم ليبيا القديم الأخضر والأحمر والأسود، الذي تبناه الثوار على الجسور أثناء الليل ورسموه على الطرق، وتم ربط علم آخر على فوانيس صينية وأطلق في السماء فوق طرابلس، كما قاموا بتثبيت مكبرات صوت على نواصي الشوارع لتذيع النشيد الوطني السابق لعهد القذافي، وقام الناشطون بتصوير ردود أفعال المارة تجاه هذه الأفعال.

كانت الصور موضع ترحيب بالنسبة للقنوات التلفزيونية، وأبدى الصحافيون ضيقا بالصور اللامتناهية للغوغاء المأجورين الذين يعبرون عن حبهم للقذافي.

كانت الحقائق بشأن الموقف في العاصمة تقدم إلى الصحافيين عبر البريد الإلكتروني و«سكاي بي» واللقاءات السرية التي يتم ترتيبها مع الصحافيين الذين تمكنوا من التملص من الرقابة الحكومية.

اندلع نقاش داخل عائلة مهني، فقال مهني: «في بعض الأوقات كانوا يمتدحونني قائلين: لقد سطرت اسم عائلتنا في التاريخ، وفي يوم آخر يقولون إن ذلك غير مجد على الإطلاق». ثم عندما تصاعدت النداءات لاعتقال مهني، أبلغ شخص عن المجموعة مقابل المال، بحسب اعتقاد مهني، وكان هو ومجموعة من القياديين في الحركة الجديدة في منزل آمن في ذلك الوقت، قاموا بنقل مقراتهم عدة مرات، لكن النظام سرعات ما استهدف عائلته.

تم اعتقال حمزة، البالغ 24 عاما، ابن عم مهني، حيث تعرض، بحسب قوله، إلى التعذيب بالصدمات الكهربائية خلال الاعتقال في قسم الشرطة. وقيل له إنه سيظل حبيسا إلى حين تسليم مهني نفسه، وهددت قوات الأمن باعتقال أطفال أخت مهني ما لم يظهر.

في ذلك الوقت كان مهني قد انطلق إلى تونس، وقال للمراسلين الذين كانوا على اتصال به إنه كان يقوم بأعمال الإغاثة الإنسانية فيها، وعمل تحت اسم مستعار.

قام عملاء القذافي بتصوير أعضاء المجموعة بالقرب من المساجد والمتاجر، لكنه واصل العمل فقد كان يعلم أن القبض عليه يعني موتا محققا، لكنه كان متشككا في أن لا يكون تقدم الثوار نحو طرابلس دليلا على انتهاء حكم القذافي.

وقال مهني إنه كان يعرف دائما أن أنظمة الصحة والتعليم في ليبيا رديئة للغاية لكنه كان يعتقد أن الخدمات الأمنية التي تحمي القذافي كانت أكثر كفاءة. بيد أنه في الوقت الذي كان يدير فيه حركته السرية وينقل طبق البث الضخم من سطح منزل إلى سطح آخر. اكتشف أن «بنية النظام التي كان الليبيون يرهبونها، كانت عديمة الفائدة كبقية الأنظمة في البلاد».

وفي يوم درامي، وتحديدا بعد ستة أشهر من بداية ثورة طرابلس، نهضت المدينة مرة أخرى وتحررت. لكن فرحة مهني خبت بسبب موت ابن عمه سليمان زاهر مهني، الذي أطلقت قوات القذافي النار عليه، فقد كان من أوائل الذين نزلوا إلى الشوارع في ذلك اليوم.

بعد ذلك تحولت حركة «الجيل الحر»، من حركة احتجاجية إلى جماعة تطوعية. فقامت المجموعة يوم الأحد الماضي بإقامة جدار في «الساحة الخضراء» سابقا، التي سموها «ساحة الشهداء»، وعلى الحائط صورة سليمان، ودعوة لأهالي طرابلس لنشر صور الشهداء الآخرين الذين قضوا في سبيل تحرير ليبيا. وخلال إقامة مهني وعائلته وأصدقائه الجدار، قام الثوار بالدخول إلى الساحة في السيارات والشاحنات، وأطلقوا النار في الهواء، وهو احتفال ظل متواصلا لأيام، وجعل مهني يحس بالقلق ككثيرين غيره من سكان طرابلس.

وأشار مهني إلى أن عمله الأخير كان مجرد خطوة في طريق سلسلة خطوات صغيرة لاستعادة قلب العاصمة للمجتمع المدني، وجعلها، في النهاية، منطقة منزوعة السلاح.

وقال وهو يجاهد لوصف مشاعره منذ سقوط النظام: «أشعر أنه باستطاعتي النوم قرير العين الآن، وكأني لم أنم منذ ستة أشهر، لكن الوقت الراهن هو وقت العمل. لدينا الكثير من المشكلات، لكن لدينا الحرية الآن لحلها، ولا عذر لنا في التأخر عن ذلك».

التعليقات