الصين دولة غير شيوعية يحكمها حزب شيوعي

الصين دولة غير شيوعية يحكمها حزب شيوعي
علي بدوان

صحيفة الوطن العمانية

احتفلت جمهورية الصين الشعبية قبل أيام بالعيد التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني بقيادة قائده التاريخي ماوتسي تونغ الذي أعلن عن قيامه في يوليو عام 1921 بمدينة شنجهاي، في احتفال طغت عليه بشكل أو بأخر أنفاس وروائح التحولات الدولية الهائلة التي جرت وتجري في الخريطة السياسية الدولية، بما فيها خريطة الوجود الفكري لمنظومة الأحزاب والقوى السياسية التي تدين بالولاء للفكر الماركسي اللينيني.
ففي حين استطاع الحزب في الصين أن يجدد نفسه بحدود معقولة، وان يتخلص من العديد من الرواسب والمثالب التي أصابت الحزب الشيوعي في عموم الاتحاد السوفييتي السابق وأدت في نهاية المطاف لانهياره، إلا أن السمة العامة التي باتت تطبع الحياة الداخلية للحزب الشيوعي الصيني تتمثل في شيخوخته التي تلوح مع وجود بعض الأزمات الفكرية والبنائية في حياة الحزب وهو ماحذر منه (هوجين تاو) الأمين العام للحزب في كلمته بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس الحزب حين قال "إن الحزب يواجه مشاكل وتحديات عميقة قد تؤدي إلى تقويض ثقة الشعب به".

إن النقد الجاري حيال أوضاع الحزب في الصين تتم الآن بالرغم من الانتقال الهائل الذي صنعته الصين تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني في كافة الميادين وخصوصاً منها في الميدان الاقتصادي والطفرة الكبيرة في النهوض والبناء، بعد أن تبنى الحزب مطلع ثمانينيات القرن الماضي ما عرف باسم "سياسة الإصلاح والانفتاح" ونظرية "اقتصاد السوق الاشتراكي"، والتي رافقتها مثالب عديدة منها على سبيل المثال نشوء فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء وماتحمله تلك الفجوة من بذور عدم استقرار اجتماعي في المستقبل.

ومع ذلك، فان هناك مؤشرات قوية تشي بأن قيادة الحزب مقبلة على إجراء وإحداث تحولات هامة في بنية الحزب وأساليب أداءه ودوره في المجتمع مع بدء الإعداد لأعمال المؤتمر العام الثامن عشر العام القادم والذي من المتوقع أن يفرز قيادات جديدة للحزب والدولة على ضوء تجربته العريقة في إدارة الصين وبناءها.

فالحزب الشيوعي الصيني جاء أصلاً من رحم التجربة والمتاعب والميدان، فقاد حرب التحرير الوطنية ضد الاستعمارين الفرنسي والياباني بملحمة طويلة عرفت باسم "المسيرة الكبرى" قطع خلالها ثوار الصين ما يقرب من (13) ألف كيلومتر من المصاعب والأهوال، ثم خاضوا حرباً ضروساً مع (تشن كاي تشك) قائد مايسمى بـ "الكومنتانج" وانتهت بفراره إلى جزيرة تايوان وقيامه بتأسيس جمهورية الصين الوطنية.
لقد بات الصعود الهائل للعملاق الأسيوي الصيني أمراً لامندوحة عنه، في مسار تطوره من بلد متخلف، كانت الزراعة العماد الأساسي لاقتصاده الوطني، ليصبح الآن في مصاف دول العالم ذات النمو القومي المتزايد بوتائر عالية مقارنة بغيرها من الدول الصناعية الكبرى في العالم، خصوصاً بعيد سنوات من سياسة الانفتاح التي أقرها وصاغها وقادها زعيم الصين (دنغ هسياو بنج) بعيد رحيل الترويكا التي حكمت الصين بعد قيام الجمهورية عام 1949، من الرجل الأول (ماوتسي تونج) الذي رحل عام 1976، وكان قد رحل من قبله بأشهر الرجل الثاني (شو إن لاي)، وكذلك الرجل الثالث (تشو داو) قائد جيش التحرير الصيني المسمى بجيش الشعب، فانتقلت الصين من عصر إلى عصر خلال السنوات الثلاثين الماضية منذ وفاة ماوتسي تونج.
إن رجل الإصلاح الصيني الحقيقي هو ذلك التحديثي القصير القامة (دنغ هسياو بينج) حيث يرتفع فوق قمة جبل مدينة تشينجن الفريدة في جنوب الصين تمثاله المطل صوب بحر الصين وعلى بعد أقل من ثلاثة أميال من جزيرة هونج كونج، والذي أدام حكم نظام الحزب الشيوعي وعلمه الأحمر الذي يزين الساحات الصينية، ومع ذلك، أصبحت الصين في ظله العملاق الاقتصادي الثاني في العالم (بعد الولايات المتحدة) واستطاعت إسقاط النظرية القائلة أن التقدم الاقتصادي لا يتحقق إلا في ظل نظام رأسمالي. لتصبح الصين "دولة غير شيوعية يحكمها حزب شيوعي"، دولة يُحسب لها حساب اليوم في أي قرار دولي، دولة لا تسعى إلى ممارسة نفوذها الإقليمي بالوسائل البائدة، بل بالحوار والتبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية، لتصبح اللاعب الأساسي في حل الأزمة النووية مع كوريا الشمالية على سبيل المثال، وليصبح صوتها هو الأعلى بين الأصوات الداعية إلى استبعاد العقوبات كوسيلة لحل مسألة الملف النووي الإيراني.

وهكذا، فقد تجلت مسيرة الصين الجديدة، بعد إقرار سياسة الانفتاح، في انطلاقة جبارة لاقتصاد بات هو الرابع في اقتصاديات العالم بعد كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان، حيث تشير تقديرات فلاسفة الاقتصاد في العالم بأن الاقتصاد الصيني سيصبح اكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف هذا القرن، بل إن البعض توقع حدوث ذلك عند نحو 2035 إذا استمرت معدلات النمو الحالية للاقتصاد الصيني على حالها، متبوعة بسياسات رشيدة على المستوى الاقتصادي المتبع في إطار العلاقات المتبادلة مع دول العالم، ومترافقة مع تنمية عوامل الاستثمار الصيني في الخارج، والاستثمار الخارجي في الصين، بعد أن كان محظوراً لعقود خلت. ومتناغمة مع سياسة رشيدة تضع أمامها ضرورة تحقيق قفزات نوعية وبشكل سنوي في هذا المضمار، متناغمة مع سياسة خارجية صينية تقوم على الاعتدال وتجنب الصدام "المباشر" مع القوى المقررة في الشأن الدولي.

فالعملاق الصيني يسير بجموح وطموح عالي لاحتلال الموقع الثاني في اقتصاديات العالم، كعملاق قادم بصمت وعزيمة، عبر اقتصاد هائل، وأحلاماً واسعة، واستراتيجية ترمي لربط دول عديدة به، وفي تحدي واضح للهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة. فقد حققت جمهورية الصين ووفقً لمعلومات مستقاة من مصادر صينية قفزات اقتصادية خلال الأعوام القليلة السابقة، إذ أنها ومنذ عام 1978، بدأ انتاجها الاقتصادي بالنمو بمعدل (9,4) ليتضاعف الناتج الكلي للفرد فيها بنسبة خمسة أضعاف. كما أن لديها (61) بليون دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر حسب إحصاءات عام 2004، وقد بلغت تجارتها الخارجية نحو (851) بليون دولار لتصبح ثالث أكبر دولة في العالم من ناحية التجارة الخارجية.، وأمام قوتها في التجارة الخارجية، بلغ العجز التجاري الأميركي مع الصين عام 2005 أكثر من (200) بليون دولار.

إن الفورة الاقتصادية الصينية، لم تكن لتأتي بيسر وسهولة، بل جاءت مخاض ولادة عسيرة، لم يكن ممكناً لها أن ترى النور بسهولة بعد عقود من الانغلاق الذي عاشته الصين الشعبية في ظل أزماتها المتعلقة بالصين الوطنية (تايوان) والحرب الكوريةعام 1955 وأزمات الهند الصينية مع وجود الاحتلالين الفرنسي والأميركي لبلدان تلك المنطقة، وبعد حصار دولي هائل مورس بحقها إبان اشتداد صراع الأقطاب والحرب الباردة، التي ترافقت مع صراع (صيني/روسي) بين رفاق الأيديولوجيا اتخذ عناوين الخلاف في الاشتقاق الأيديولوجي لأبناء المدرسة الماركسية اللينينية. فقد نجحت الولادة القيصرية بدرجة عالية، بعد أن بدأت بكين إتباع سياسات الانفتاح المدروس، لصالح مرونة عالية في صياغة العلاقات الخارجية للصين في جانبيها السياسي والاقتصادي، وانتهاج سياسة شديدة الاعتدال على المستوى الدولي خصوصاً بالنسبة لمناطق الأزمات في العالم، هذا من جانب ومن جانب أخر فان الإصلاحات اليومية الجارية في الصين لعبت دوراً هاماً في الفورة الاقتصادية، فهي إصلاحات أخذت بعين الاعتبار رفع مستوى الأداء الاقتصادي والتخلص من المعيقات الإدارية البيروقراطية، وتسخير القانون وأنظمة الاقتصاد وتطويرها بشكل عملي في خدمة الاقتصاد، وتنمية الاستثمار والتصدير، الذي فاق ما ضخته الصين الشعبية من فائض تجاري بلغ العام الماضي 177 مليار دولار. كما أن النجاح الذي ينعم به الاقتصاد الصيني، مصدره انخفاض الأجور، وبنية تحتية جيدة، ومراعاة قواعد الحفاظ على التوازن المطلوب، وانسجاما مع ذلك، تستكمل بكين صياغة القوانين واللوائح ليتوسع مدى انفتاح السوق الصينية على الخارج وتتحسن البيئة الاستثمارية باستمرار، وزد على ذلك، تواصل عملية إصلاح النظام النقدي بخطوات ثابتة.
 

التعليقات