تفاصيل وخفايا حول إغراق إسرائيل للبارجة الأمريكية ليبرتي
تفاصيل وخفايا حول إغراق إسرائيل للبارجة الأمريكية ليبرتي
بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الأمنية والإستراتيجية
مهما يحدث من جهد لإخفاء الحقيقة وطمس معالمها فلابد ويأتي يوم ينكشف المستور وتظهر الحقيقة! وأخيرا انحل اللغز. وانكشف السر الذي أدي بالإسرائيليين إلي ضرب البارجة العسكرية ليبرتي قرب الشواطيء المصرية في رابع أيام حرب 67 فأغرقوها وقتلوا من بحارتها من جراء ذلك 34 بحارا أمريكيا وجرح 171 ورغم ان ذلك تم في وضح النهار والسفينة تحمل العلم الأمريكي مرفرفا فوقها!! إنما الأكثر غرابة والأشد اثارة للعجب هو ذلك الاصرار المستمر للادارات الأمريكية المتتالية ومنذ ذلك الحين في رفض فتح باب التحقيق في الواقعة والاصرار علي اغلاق هذا الملف ورغم المحاولات التي لم تكف من قبل عدد من أعضاء طاقم البارجة العسكرية ممن أكدوا كشهود عيان أن الواقعة كانت مستهدفة وفي شهادات حاولوا اعلانها بكل الطرق ان اسرائيل قامت بضرب البارجة رغم تأكدها تماما من انها بارجة أمريكية.. ومع ذلك فلم يعرهم أحد في واشنطن التفاتا ولا كأن البارجة أمريكية أو من قتلوا بحارة أمريكيين!!
وقد بادر عدد منهم منذ سنوات إلي اقامة موقع خاص علي الانترنت أطلقوا عليه اسم ليبرتي ليكون منبرا للحقيقة التي حاولوا عبثا أن يعلنوها علي الملأ من أجل فتح باب التحقيق وفشلت محاولاتهم جميعا! فالحادث لم يكن نتيجة 'خطأ غير مقصود' كما ادعت اسرائيل وانما الشواهد التي عايشوها تؤكد انها عملية مستهدفة مائة في المائة! وحتي بافتراض انه بسبيل الخطأ ألا يفتح باب التحقيق للتأكد من ذلك؟! لقد سبق ونشرت الصحافة بعض الشيئ عن ما حدث والتحدي المتوالي الذي أبداه ومايزال قائد البارجة وعدد من طاقمها وتحديهم جميع السلطات الأمريكية أن تفتح باب التحقيق ولا من مجيب وكأن واشنطن تحولت حيال تلك الواقعة بالتحديد إلي واد للصم.. وحتي الكونجرس الذي لا يترك شاردة ولا واردة دون أن يفتح باب التحقيق فقد التزم الصمت المريب هو الآخر وكأن هناك تعليمات خفية تجاه كل من تسول نفسه الاستفسار عن حقيقة ما وقع وعلي مدي كل تلك الأعوام! وتخيلوا لو أن أي دولة أخري في العالم قد وقع منها ما وقع غير اسرائيل فماذا عساه قد وقع؟!
***
الذي هتك أسرار هذا اللغز هو كتاب جديد نزل الأسواق الأمريكية تضمن مع ما تضمنه من معلومات تنشر لأول مرة فاصلا عن واقعة تدمير الإسرائيليين للبارجة الأمريكية ليبرتي خلال حرب عام 67 ضمن وقائع عديدة أخري ضمها هذا الكتاب..
إنما باعتبار أن هذه هي الواقعة التي تهمنا في المقام الأول فإنني اقتصر علي عرض الجديد مما جاء حول هذه الواقعة مع التوضيح الضروري لبعض الخلفيات.. هذا الكتاب الذي نزل الأسواق حديث جدا بعنوان: 'كتلة أسرار' أو BODY OF SECRETS
ما يهمنا من جميع الوقائع والأحداث التي أوردها هذا الكتاب.. وهو الهجوم علي سفينة التجسس ليبرتي خلال حرب عام 1967 وهي علي بعد أميال قليلة من شبه جزيرة سيناء.. يقول المؤلف انه بأوامر من هيئة الأركان المشتركة بعثت وكالة الأمن القومي بالسفينة ليبرتي إلي منطقة المعارك لتجمع معلومات عن التواجد السوفيتي في مصر سواء في قوات أو سلاح..
والذي حدث هو انه بعد ظهر يوم 8 يونيو 1967 هاجمت القوات الاسرائيلية السفينة ليبرتي وضربتها بهدف اغراقها وخلال ذلك قتل 14 بحارا أمريكيا وجرح ..171 ويتساءل المؤلف: 'هل كان حادثا مأساويا كما أعلنت اسرائيل'؟!
أم كان وفق ما يردد آخرون وأولهم طاقم البارجة بأنها عملية مستهدفة من قبل الاسرائيليين ونفذوها بدم بارد وبهدف القضاء علي شواهد مسيئة لاسرائيل استطاعت أجهزة ليبرتي أن تسجلها..!! يقرر مؤلف الكتاب ان الاسرائيليين كانوا يحاولون ان يغطوا عملية القتل الجماعي التي قام بها العسكريون الاسرائيليون لنحو أربعمائة أسير حرب مصري في العريش..!
ويقول ان اسرائيل هاجمت البارجة الأمريكية لثقتهم بأنها استطاعت ان تسجل وقائع المذبحة! وكتب المؤلف بالحرف الواحد ان: 'الجنود الاسرائيليين كانوا يجزرون مدنيين وأسري حرب بالمئات.. وهي حقيقة كان يعرفها في ذلك الحين جميع قيادات الجيش الاسرائيلي ولم يعترض عليها منهم أحد'. كما يتهم المؤلف كلا من ادارة جونسون في حينه وكذلك الكونجرس بأنهم 'قد غطوا علي وقائع الهجوم الاسرائيلي علي ليبرتي'! ويورد المؤلف شهادة شاهد عيان صحفي اسرائيلي اسمه جابي براون شاهد نحو مائة وخمسين أسير حرب مصريا وهم جالسون علي الأرض وأيديهم إلي الخلف مشبوكة وراء أعناقهم.. ثم أمروا بعمل حفرة في الأرض بأيديهم وبعدها قامت الشرطة العسكرية الاسرائيلية بضربهم بالنار'..
هذه هي شهادة الصحفي الاسرائيلي جابي براون كما رواها للمؤلف .
- الهجوم على السفينة ليبرتي .
كانت وكالة الأمن القومي تستخدم السفينة ليبرتي كرصيف لمخابرات سلاح الإشارة وكمركز تنصت عائم. أما أوراق البنتاغون السرية فتقول أن مهمة السفينة هي "تزويد أرصفة عائمة لمخابرات سلاح الإشارة والمخابرات الالكترونية بغرض بحليل واستغلال الإشعاعات الكهروطيسية في تلك المناطق من العالم التي لا توجد فيها محطات التقاط اعتراضي على اليابسة" وبعبارة أقل غموضا، تستطيع السفينة التقاط أي اتصال لاسلكي بما في ذلك الاتصالات اللاسلكية الدبلوماسية والعسكرية القصيرة والطويلة المدى، وجمع المعلومات المتعلقة بالأبعاد، وتوجيه الصواريخ، ومراقبة الأقمار الصناعية بالإضافة الى أمور أخرى. وتستطيع السفينى حل شيفرى (رموز سرية) تلك الاتصالات ثم ارسالها لوكالة الأمن القومي في قلعة "ميد" في "ملريلاند" عبر موجات الراديو القصيرة أو بواسطة نظام اتصالات خاص جوا يدعى (تي. آر. أس. أس. سي. أو. أم) يستخدم اشارات موجة الكترونية قدرتها مئة الف واط للالتقاط عبر سطح القمر(47). وهكذا فالسفينة، كما يتضح، كانت سفينة تجسس متطورة جداً.
وقد علمت المخابرات البحرية الأميركية في تلك الفترة ان الاتحاد السوفييتي يحتفظ بستة سفن تجسس في شرقي البحر المتوسط تحميها غواصتان محملتان بالرؤوس النووية. أم الولايات المتحدة فكانت تحتفظ بغواصتي بولاريس نوويتين كجزء من الأسطول السادس في البحر المتوسط. وقد قررت الولايات المتحدة اضافة غواصة أخرى تعمل بعيداً عن المسرح المعتاد لعمليات الأسطول السادس قرب منطقة العمليات العسكرية. إلا أن الغواصة تحتاج للحصول على معلومات فورية عما يجري الى العمل برفقة سفينة تجسس. لهذا علمت وكالة الأمن القومي وزارة الدفاع ـ البنتاغون ـ والبيت الأبيض بأنها أمرت سفينة التجسس ليبرتي بمرافقة الغواصة النووية "أندرو جاكسون" إلى منطقة واقعة على شواطئ سيناء.
حين بدأت الحرب قامت ليبرتي بالتنصت على المصريين واللإسرائيليين وتنمكنت عبر راداراتها القويى من متابعى تحركات الجنود ومعرفة مواقعهم وتحركات المدرعات والطائرات وبالتالي متابعة جميع العمليات الحربية ورفع تقاريرها إلى وكالة الأمن القومي في قلعة "ميد".
سرعان ما اكتشف رجال ليبرتي ان قوة الهجوم الإسرائيلي ترتكز علء قدرة وكفاءة المخابرات الإسرائيلية العالية. إذ تمكن الإسرائيليين منذ لحظة بداية القتال من فك الرموز السرية (الشيفرة) للاتصاللات العربية. وقد ظهرت أهمية ذلك أثناء استماع السفينة لحوار بين عبد الناصر والملك حسين حول الاستراتيجية العربية وتقدم العمليات العسكرية. إذ تمكن الإسرائيليين على وجه السرعة من إنشاء محطة لإعادة البث في منطقة تقع بين القاهرة وعمان. وكانت المحطة تستقبل كلام عبد الناصر وتعيد تركيبه (عن طريق استخدام حروف الكلام بصوت ناصر وصنع كلمات بصوته لم يقلها) ثم تعيد بثه إلى الملك حسين دون ترك فراغ زمني، أي بشكل فوري بحيث لا ينتبه الطرفان لما جرى. وهذا يعني بلغة المخابرات الالكترونية "طبخ المعلومات" أي استخدام صوت الإنسان وإعادة جمع الحروف التي قالها لصنع كلمات لم يقلها وكل ذلك خلال أجزاء من الثانيى بواسطة الأجهزة المعقدة والمتطورة التي تعتمد على الكومبيوتر. أما أول مجموعة من الرسائل اللاسلكية من القاهرى إلى عمان فقد أطلعت حسين على الوضع العسكري السيء في سيناء وأعلمته أن الجيش المصري غير قادر على منحه الدعم التكتيكي في الضفة الغربية وأن الإسرائيليين الآن يتمتعون بتفوق جوي كامل وأن عليه أن يتوقع غارات جوية كثيفة ضد قواته البريى دون توقع دعم عربي ضد المهاجمين. وقد تمكن الإسرائيليين من اعتراض هذه المعلومات وإعادة (طبخها) أي تزييفها بالشكل المذكور أعلاه بحيث أعلمت الملك حسين أن ثلاثة أربعاع الطيران الإسرائيلي قد دُمر فوق القاهرة وأن الـ (300) طائرة التي تلتقطها راداراته في تلك اللحظات (وهي طائرات إسرائيلية) هي طائرات مصرية متجهة للإغارة على بعض الأهداف العسكرية في إسرائيل. أما الحقيقة فهي أن تلك الطائرات كانت طائرات إسرائيلية متجهة لتدمير جيش الملك. وقد استمر الإسرائيليين خلال اليوم الأول في عمليات (طبخ) الاتصالات العربية لإغطاء المصريين واللأردنيين الانطباع بأن الحرب كانت تتحرك لصالحهم.
لم يكن هناك فرصة لاكتشاف خطة (الطبخ) الإسرائيلية لأن الملك حسين قطع علاقاته الدبلوماسية مع دمشق نتيجة اتهامات وجهها الملك ضد المخابرات السورية حين اتهمها بالقيام بالعمليات التخريبية في الأردن قبل اسبوع من بداية الهجوم الإسرائيلي، وبالتالي لم يكن هناك اتصالات أردنية مع سوريا. وهكذا استفادت إسرائيل إلى أبعد حد من الخلافات العربية وحوّلتها إلى كارثة على رؤوس العرب.
لم يكن هناك داعٍ لاعتراض الاتصالات (طبخها) بين القاهرة ودمشق لأن المصريين أعلموهم بأن خاصرتهم محمية من قبل الجيش الأردني. وقد شجعهم ذلك على سحب عدد كبير من جنودهم من الجولان باتجاه دمشق لنصب خط دفاع ثان على طريق دمشق عمان. وقد خدع الإسرائيليين المصريين يوم السادس والسابع من حزيران عن طريق طبخ المعلومات وإقناعهم بأن الأردنيين يقومون بهجوم ناجح في منطقة الخليل ضد الإئسرائيليين. وهكذا ورط الإسرائيليين المصريين وأجبروهم على القيام بهجوم معاكس صباح الثامن من حزيران متجاهلين نداء وقف اطلاق النار من قبل الأمم المتحدة (الذي لو وافقوا عليه لتمكنوا من تحجيم الهزيمة المصرية) مما أدى بهم إلى الوقوع في كمين على شكل كماشة نصبه لهم الإسرائيليين، فاضطروا إلى التراجع تراجعاً غير نظامي (أي عشوائي) تاركين وراءهم جميع أسلحتهم الثقيلة التي غنمها الإسرائيليين.
حين بدأت الحرب اكتشف الأميركيين فوراً أنهم كانوا ضحية خطط مخابرات مضادة إسرائيلية وضعها موشي دايان ورؤساء مخابراته المدنية والعسكرية. كان دايان يريد أن يخدع الأصدقاء والأعداء على السواء لمنعهم من عرقلة تقدم قواته عن طريق إخفاء ما يحصل على جبهة القتال وعن طريق فرض رقابة تامة على أخبار الانتصارات الإسرائيليى الأولى. وقد كشفت الوثائق الرسمية التي رُفعت عنها صفة السرية عام 1977 أن دايان هو الذي أعدى الأوامر للهجوم على السفينة ليبرتي لمنعها من اكتشاف أسرار تحركاته العسكرية ضد الأردن وسوريا. وفي أوائل شهر كانون الثاني من العام (1987) عرض التلفزيون البريطاني برنامجاً وثائقياً عن الهجوم على السفينة ليبرتي اشتضاف فيه كبار المسؤولين اللأميركيين. وقال دين راسل وزير الخارجية الأميركية أثناء حرب 1967 في البرنامج:
"أنا لم أصدق أبداً الرواية الإسرائيلية بأن الهجوم على السفينة كان خطأً غير متعمد لأن ما حدث كان نتيجة قرار اتخذه كبار المسؤولين الإسرائيليين. والدليل على ذلك أن القوات التي هاجمت السفينة كانت تابعة لأكثر من سلاح (الطيران والبحرية والمخابرات). وهذا يعني أن الهجوم تم تخ4ي4ه وليس حادثاً عرضياً. لقد كانت السفينة ترفع الراية الأميركية بوضوح، وحتى لو كانت مجهولة فلا بد أن ما فعله الإسرائيليون عملاً أحمقاً. فلو كانت السفينة سوفيتية مثلاً لأدى ذلك إلى نتائج خطيرى جواً، وفي قناعتي فإن الحادث مازال يشكل جرحاً عميقاً في العلاقات الأميركيى ـ الإسرائيلية".
ولكن لماذا هاجمت إسرائيل السفينة ليبرتي؟
قال الأدميرال "توماس مونر" رئيس الأركان العامة في عام 1967 للتلفزيون البريطاني في البرنامج المذكور أعلاه أن "الهجوم حدث عشية هجوم إسرائيل على الجولان وهو أمر يقتضي استخدام كمية كبيرة من الاتصالات بين القطعات العسكرية الإسرائيلية وقياداتها. ولهذا فإن غاية الإسرائيليين كانت منع الأميركيين من معرفة نواياهم تجاه سوريا والأردن.
أما مجلة "نيوزويك" الأميركية الواسعة الاطلاع فقد ذكرت أن الإسرائيليين تعمّدوا الهجوم على السفينة واحاولوا تدميرها لأنها حصلت على الدليل القاطع بأن إسرائيل هي التي بدأت الحرب في وقت أنها ادعت أن العرب هم الذين بدؤوها.
كان هناك كما ذكرنا سابقاً تحالف بين إسرائيل والمؤسسة العسكرية والأمنية اللأميركية. إلا أن الأميركيين اكتشفوا عقب يومين من بداية الحرب أن أي تفاهم بينهم وبين الإسرائيليين بخصوص "حدود التصرُّف العسكري" الإسرائيلي كان عبارة عن اتفاق باطل وملغي لأن الإسرائيليين تجاهلوه ولم يلتزموا به. وكان الإسرائيليين قد وعدوا الأميركيين أثناء اللقاءات التي تمت بين الطرفين في كانون الثاني ـ يناير وآذار ـ مارس ويوم الرابع والعشرين من مايس ـ مايو للتخطيط للحرب بأن لا تتجاوز أهدافهم حزيمة مصر المهينة لوضع حد لنظام عبد الناصر. وقطع الإسرائيليين على أنفسهم وعداً بأنه في حالة اضطرار الملك حسين للاشتراك بالعمليات الحربية فإن أي اراضي أردنية يحتلوها سيتم الاحتفاظ بها لفترة ضئيلة لا تتجاوز فترة العمليات الحربية. كما تعهدوا بعدم احتلال الضفة الغربية والقدس. إلا أنهم نكثوا بجميع تعهداتهم للأميركيين.
وقد قام الباحث السياسي البريطاني أنتوني بيرسون بالتحقيق في موضوع الهجوم على السفينة ليبرتي وأصدر كتاباً أثار ضجة كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة. وقد ذكر الميجر ماكينا ضابط المخابرات البريطانية لبيرسون في لقائه معه في كينيا أن الحكومة الأميركية برمتها ـ وليس فقط المخابرات المركزية ـ كانت تعمل على وضع سياسة شرق أوسطية جديدة لاستعادة الأرضية التي فقدتها لحسات الاتحاد السوفييتي في المنطقة. وحتى يتمكنوا من ذلك كان يتوجب أولاً الخلاص من العقبة الأساسية المتمثلة بالنجاح الشعبي للقومية العربية اليسارية الاتجاه التي جسدها وقادها عبد الناصر. ولهذا فإنه من المنطقي بالنسبة للأميركيين أن يعتقدوا أنهم إذا شجعوا الإسرائيليين على مواجهة عبد الناصر عسكرياً وإذا أُهين ناصر بشدة فإنه سيفقد بريقه ووهجه الشعبي وبالتالي سيفقد السيطرة على مصر. وبالنتيجة فإن مصر ستعود إلى عهد ما قبل عبد الناصر (المحافظ) وسيُطرد السوفييت من مصر وسيدخل الأميركيين ليحلوا محلهم.
وتابع الميجر ماكينا: لقد حدث خلل في الخطة لأن الإسرائيليين لم يهتموا بالأهداف الأميركية لأن كل ما أرادوه هو الحصول على أراضي جديدة، وقد حصلوا عليها عن طريق إخفاء ما يجري على ساحة القتال وإصدار نشرات كاذبة وقبل أن يدرك الأميركيين ما حصل أو يحاولوا إيقافه كان الإسرائيليين قد احتلوا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس. وكان ذلك أكثر بكثير مما أراد الأميركيين. فقد كان هدف الأميركيين أن يهزم الإسرائيليين الجيش المصري ويدفعوه إلى ضفة قناة السويس ثم يتراجعوا إلى خطوط دفاعية في ممرات متلا والجدي في سيناء. أي أن الأميركيين لم يرغبوا إطلاقاً في أن يحتل الإسرائيليين الضفة الشرقية لقناة السويس بسبب النتائج الغير حميدة الممكنة، وإن كانوا سعيدين حين قام الإسرائيليين ببناء خط بارليف حين أصر عبد الناصر على الاحتفاظ بعلاقته مع السوفييت في أعقاب الحرب.
وتابع ميجر المخابرات البريطانية: قبل أن تبدأ الحرب أصر الأميركيين على الإسرائيليين بأن عليهم التعامل مع الملك حسين بما أسموه "قفاز اللين والهوادة" لأنه كما قالوا "الصديق الحقيقي الوحيد لأميركا في العالم العربي بجانب الملك فيصل". وقدّر الأميركيين أنه إذا دخل الإسرائيليين الأراضي الأردنية فإن ذلك سيؤدي إلى تنفير الملك حسين والملك فيصل من أميركا ولهذا فإن الولايات المتحدة لا تستطيع أخذ مغامرة كهذه حتى لا تهدد شحنات نفطها. وكان الملك فيصل قد أصر دوماً في تعامله مع الولايات المتحدة بضرورة المحافظة على الملك حسين وعرشه. وتابع الميجر قائلاً: حين قام الإسرائيليين بهجومهم على الأرضن فإنهم اعتمدوا على إيمان الملك وثقته بالوعود والتعهدات التي منحتها له الحكومة الأميركية. ولهذا فإن الملك وجيشه تفاجؤا وكانوا غير جاهزين أبداً للدمار الذي لحق بهم .
[email protected]
بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الأمنية والإستراتيجية
مهما يحدث من جهد لإخفاء الحقيقة وطمس معالمها فلابد ويأتي يوم ينكشف المستور وتظهر الحقيقة! وأخيرا انحل اللغز. وانكشف السر الذي أدي بالإسرائيليين إلي ضرب البارجة العسكرية ليبرتي قرب الشواطيء المصرية في رابع أيام حرب 67 فأغرقوها وقتلوا من بحارتها من جراء ذلك 34 بحارا أمريكيا وجرح 171 ورغم ان ذلك تم في وضح النهار والسفينة تحمل العلم الأمريكي مرفرفا فوقها!! إنما الأكثر غرابة والأشد اثارة للعجب هو ذلك الاصرار المستمر للادارات الأمريكية المتتالية ومنذ ذلك الحين في رفض فتح باب التحقيق في الواقعة والاصرار علي اغلاق هذا الملف ورغم المحاولات التي لم تكف من قبل عدد من أعضاء طاقم البارجة العسكرية ممن أكدوا كشهود عيان أن الواقعة كانت مستهدفة وفي شهادات حاولوا اعلانها بكل الطرق ان اسرائيل قامت بضرب البارجة رغم تأكدها تماما من انها بارجة أمريكية.. ومع ذلك فلم يعرهم أحد في واشنطن التفاتا ولا كأن البارجة أمريكية أو من قتلوا بحارة أمريكيين!!
وقد بادر عدد منهم منذ سنوات إلي اقامة موقع خاص علي الانترنت أطلقوا عليه اسم ليبرتي ليكون منبرا للحقيقة التي حاولوا عبثا أن يعلنوها علي الملأ من أجل فتح باب التحقيق وفشلت محاولاتهم جميعا! فالحادث لم يكن نتيجة 'خطأ غير مقصود' كما ادعت اسرائيل وانما الشواهد التي عايشوها تؤكد انها عملية مستهدفة مائة في المائة! وحتي بافتراض انه بسبيل الخطأ ألا يفتح باب التحقيق للتأكد من ذلك؟! لقد سبق ونشرت الصحافة بعض الشيئ عن ما حدث والتحدي المتوالي الذي أبداه ومايزال قائد البارجة وعدد من طاقمها وتحديهم جميع السلطات الأمريكية أن تفتح باب التحقيق ولا من مجيب وكأن واشنطن تحولت حيال تلك الواقعة بالتحديد إلي واد للصم.. وحتي الكونجرس الذي لا يترك شاردة ولا واردة دون أن يفتح باب التحقيق فقد التزم الصمت المريب هو الآخر وكأن هناك تعليمات خفية تجاه كل من تسول نفسه الاستفسار عن حقيقة ما وقع وعلي مدي كل تلك الأعوام! وتخيلوا لو أن أي دولة أخري في العالم قد وقع منها ما وقع غير اسرائيل فماذا عساه قد وقع؟!
***
الذي هتك أسرار هذا اللغز هو كتاب جديد نزل الأسواق الأمريكية تضمن مع ما تضمنه من معلومات تنشر لأول مرة فاصلا عن واقعة تدمير الإسرائيليين للبارجة الأمريكية ليبرتي خلال حرب عام 67 ضمن وقائع عديدة أخري ضمها هذا الكتاب..
إنما باعتبار أن هذه هي الواقعة التي تهمنا في المقام الأول فإنني اقتصر علي عرض الجديد مما جاء حول هذه الواقعة مع التوضيح الضروري لبعض الخلفيات.. هذا الكتاب الذي نزل الأسواق حديث جدا بعنوان: 'كتلة أسرار' أو BODY OF SECRETS
ما يهمنا من جميع الوقائع والأحداث التي أوردها هذا الكتاب.. وهو الهجوم علي سفينة التجسس ليبرتي خلال حرب عام 1967 وهي علي بعد أميال قليلة من شبه جزيرة سيناء.. يقول المؤلف انه بأوامر من هيئة الأركان المشتركة بعثت وكالة الأمن القومي بالسفينة ليبرتي إلي منطقة المعارك لتجمع معلومات عن التواجد السوفيتي في مصر سواء في قوات أو سلاح..
والذي حدث هو انه بعد ظهر يوم 8 يونيو 1967 هاجمت القوات الاسرائيلية السفينة ليبرتي وضربتها بهدف اغراقها وخلال ذلك قتل 14 بحارا أمريكيا وجرح ..171 ويتساءل المؤلف: 'هل كان حادثا مأساويا كما أعلنت اسرائيل'؟!
أم كان وفق ما يردد آخرون وأولهم طاقم البارجة بأنها عملية مستهدفة من قبل الاسرائيليين ونفذوها بدم بارد وبهدف القضاء علي شواهد مسيئة لاسرائيل استطاعت أجهزة ليبرتي أن تسجلها..!! يقرر مؤلف الكتاب ان الاسرائيليين كانوا يحاولون ان يغطوا عملية القتل الجماعي التي قام بها العسكريون الاسرائيليون لنحو أربعمائة أسير حرب مصري في العريش..!
ويقول ان اسرائيل هاجمت البارجة الأمريكية لثقتهم بأنها استطاعت ان تسجل وقائع المذبحة! وكتب المؤلف بالحرف الواحد ان: 'الجنود الاسرائيليين كانوا يجزرون مدنيين وأسري حرب بالمئات.. وهي حقيقة كان يعرفها في ذلك الحين جميع قيادات الجيش الاسرائيلي ولم يعترض عليها منهم أحد'. كما يتهم المؤلف كلا من ادارة جونسون في حينه وكذلك الكونجرس بأنهم 'قد غطوا علي وقائع الهجوم الاسرائيلي علي ليبرتي'! ويورد المؤلف شهادة شاهد عيان صحفي اسرائيلي اسمه جابي براون شاهد نحو مائة وخمسين أسير حرب مصريا وهم جالسون علي الأرض وأيديهم إلي الخلف مشبوكة وراء أعناقهم.. ثم أمروا بعمل حفرة في الأرض بأيديهم وبعدها قامت الشرطة العسكرية الاسرائيلية بضربهم بالنار'..
هذه هي شهادة الصحفي الاسرائيلي جابي براون كما رواها للمؤلف .
- الهجوم على السفينة ليبرتي .
كانت وكالة الأمن القومي تستخدم السفينة ليبرتي كرصيف لمخابرات سلاح الإشارة وكمركز تنصت عائم. أما أوراق البنتاغون السرية فتقول أن مهمة السفينة هي "تزويد أرصفة عائمة لمخابرات سلاح الإشارة والمخابرات الالكترونية بغرض بحليل واستغلال الإشعاعات الكهروطيسية في تلك المناطق من العالم التي لا توجد فيها محطات التقاط اعتراضي على اليابسة" وبعبارة أقل غموضا، تستطيع السفينة التقاط أي اتصال لاسلكي بما في ذلك الاتصالات اللاسلكية الدبلوماسية والعسكرية القصيرة والطويلة المدى، وجمع المعلومات المتعلقة بالأبعاد، وتوجيه الصواريخ، ومراقبة الأقمار الصناعية بالإضافة الى أمور أخرى. وتستطيع السفينى حل شيفرى (رموز سرية) تلك الاتصالات ثم ارسالها لوكالة الأمن القومي في قلعة "ميد" في "ملريلاند" عبر موجات الراديو القصيرة أو بواسطة نظام اتصالات خاص جوا يدعى (تي. آر. أس. أس. سي. أو. أم) يستخدم اشارات موجة الكترونية قدرتها مئة الف واط للالتقاط عبر سطح القمر(47). وهكذا فالسفينة، كما يتضح، كانت سفينة تجسس متطورة جداً.
وقد علمت المخابرات البحرية الأميركية في تلك الفترة ان الاتحاد السوفييتي يحتفظ بستة سفن تجسس في شرقي البحر المتوسط تحميها غواصتان محملتان بالرؤوس النووية. أم الولايات المتحدة فكانت تحتفظ بغواصتي بولاريس نوويتين كجزء من الأسطول السادس في البحر المتوسط. وقد قررت الولايات المتحدة اضافة غواصة أخرى تعمل بعيداً عن المسرح المعتاد لعمليات الأسطول السادس قرب منطقة العمليات العسكرية. إلا أن الغواصة تحتاج للحصول على معلومات فورية عما يجري الى العمل برفقة سفينة تجسس. لهذا علمت وكالة الأمن القومي وزارة الدفاع ـ البنتاغون ـ والبيت الأبيض بأنها أمرت سفينة التجسس ليبرتي بمرافقة الغواصة النووية "أندرو جاكسون" إلى منطقة واقعة على شواطئ سيناء.
حين بدأت الحرب قامت ليبرتي بالتنصت على المصريين واللإسرائيليين وتنمكنت عبر راداراتها القويى من متابعى تحركات الجنود ومعرفة مواقعهم وتحركات المدرعات والطائرات وبالتالي متابعة جميع العمليات الحربية ورفع تقاريرها إلى وكالة الأمن القومي في قلعة "ميد".
سرعان ما اكتشف رجال ليبرتي ان قوة الهجوم الإسرائيلي ترتكز علء قدرة وكفاءة المخابرات الإسرائيلية العالية. إذ تمكن الإسرائيليين منذ لحظة بداية القتال من فك الرموز السرية (الشيفرة) للاتصاللات العربية. وقد ظهرت أهمية ذلك أثناء استماع السفينة لحوار بين عبد الناصر والملك حسين حول الاستراتيجية العربية وتقدم العمليات العسكرية. إذ تمكن الإسرائيليين على وجه السرعة من إنشاء محطة لإعادة البث في منطقة تقع بين القاهرة وعمان. وكانت المحطة تستقبل كلام عبد الناصر وتعيد تركيبه (عن طريق استخدام حروف الكلام بصوت ناصر وصنع كلمات بصوته لم يقلها) ثم تعيد بثه إلى الملك حسين دون ترك فراغ زمني، أي بشكل فوري بحيث لا ينتبه الطرفان لما جرى. وهذا يعني بلغة المخابرات الالكترونية "طبخ المعلومات" أي استخدام صوت الإنسان وإعادة جمع الحروف التي قالها لصنع كلمات لم يقلها وكل ذلك خلال أجزاء من الثانيى بواسطة الأجهزة المعقدة والمتطورة التي تعتمد على الكومبيوتر. أما أول مجموعة من الرسائل اللاسلكية من القاهرى إلى عمان فقد أطلعت حسين على الوضع العسكري السيء في سيناء وأعلمته أن الجيش المصري غير قادر على منحه الدعم التكتيكي في الضفة الغربية وأن الإسرائيليين الآن يتمتعون بتفوق جوي كامل وأن عليه أن يتوقع غارات جوية كثيفة ضد قواته البريى دون توقع دعم عربي ضد المهاجمين. وقد تمكن الإسرائيليين من اعتراض هذه المعلومات وإعادة (طبخها) أي تزييفها بالشكل المذكور أعلاه بحيث أعلمت الملك حسين أن ثلاثة أربعاع الطيران الإسرائيلي قد دُمر فوق القاهرة وأن الـ (300) طائرة التي تلتقطها راداراته في تلك اللحظات (وهي طائرات إسرائيلية) هي طائرات مصرية متجهة للإغارة على بعض الأهداف العسكرية في إسرائيل. أما الحقيقة فهي أن تلك الطائرات كانت طائرات إسرائيلية متجهة لتدمير جيش الملك. وقد استمر الإسرائيليين خلال اليوم الأول في عمليات (طبخ) الاتصالات العربية لإغطاء المصريين واللأردنيين الانطباع بأن الحرب كانت تتحرك لصالحهم.
لم يكن هناك فرصة لاكتشاف خطة (الطبخ) الإسرائيلية لأن الملك حسين قطع علاقاته الدبلوماسية مع دمشق نتيجة اتهامات وجهها الملك ضد المخابرات السورية حين اتهمها بالقيام بالعمليات التخريبية في الأردن قبل اسبوع من بداية الهجوم الإسرائيلي، وبالتالي لم يكن هناك اتصالات أردنية مع سوريا. وهكذا استفادت إسرائيل إلى أبعد حد من الخلافات العربية وحوّلتها إلى كارثة على رؤوس العرب.
لم يكن هناك داعٍ لاعتراض الاتصالات (طبخها) بين القاهرة ودمشق لأن المصريين أعلموهم بأن خاصرتهم محمية من قبل الجيش الأردني. وقد شجعهم ذلك على سحب عدد كبير من جنودهم من الجولان باتجاه دمشق لنصب خط دفاع ثان على طريق دمشق عمان. وقد خدع الإسرائيليين المصريين يوم السادس والسابع من حزيران عن طريق طبخ المعلومات وإقناعهم بأن الأردنيين يقومون بهجوم ناجح في منطقة الخليل ضد الإئسرائيليين. وهكذا ورط الإسرائيليين المصريين وأجبروهم على القيام بهجوم معاكس صباح الثامن من حزيران متجاهلين نداء وقف اطلاق النار من قبل الأمم المتحدة (الذي لو وافقوا عليه لتمكنوا من تحجيم الهزيمة المصرية) مما أدى بهم إلى الوقوع في كمين على شكل كماشة نصبه لهم الإسرائيليين، فاضطروا إلى التراجع تراجعاً غير نظامي (أي عشوائي) تاركين وراءهم جميع أسلحتهم الثقيلة التي غنمها الإسرائيليين.
حين بدأت الحرب اكتشف الأميركيين فوراً أنهم كانوا ضحية خطط مخابرات مضادة إسرائيلية وضعها موشي دايان ورؤساء مخابراته المدنية والعسكرية. كان دايان يريد أن يخدع الأصدقاء والأعداء على السواء لمنعهم من عرقلة تقدم قواته عن طريق إخفاء ما يحصل على جبهة القتال وعن طريق فرض رقابة تامة على أخبار الانتصارات الإسرائيليى الأولى. وقد كشفت الوثائق الرسمية التي رُفعت عنها صفة السرية عام 1977 أن دايان هو الذي أعدى الأوامر للهجوم على السفينة ليبرتي لمنعها من اكتشاف أسرار تحركاته العسكرية ضد الأردن وسوريا. وفي أوائل شهر كانون الثاني من العام (1987) عرض التلفزيون البريطاني برنامجاً وثائقياً عن الهجوم على السفينة ليبرتي اشتضاف فيه كبار المسؤولين اللأميركيين. وقال دين راسل وزير الخارجية الأميركية أثناء حرب 1967 في البرنامج:
"أنا لم أصدق أبداً الرواية الإسرائيلية بأن الهجوم على السفينة كان خطأً غير متعمد لأن ما حدث كان نتيجة قرار اتخذه كبار المسؤولين الإسرائيليين. والدليل على ذلك أن القوات التي هاجمت السفينة كانت تابعة لأكثر من سلاح (الطيران والبحرية والمخابرات). وهذا يعني أن الهجوم تم تخ4ي4ه وليس حادثاً عرضياً. لقد كانت السفينة ترفع الراية الأميركية بوضوح، وحتى لو كانت مجهولة فلا بد أن ما فعله الإسرائيليون عملاً أحمقاً. فلو كانت السفينة سوفيتية مثلاً لأدى ذلك إلى نتائج خطيرى جواً، وفي قناعتي فإن الحادث مازال يشكل جرحاً عميقاً في العلاقات الأميركيى ـ الإسرائيلية".
ولكن لماذا هاجمت إسرائيل السفينة ليبرتي؟
قال الأدميرال "توماس مونر" رئيس الأركان العامة في عام 1967 للتلفزيون البريطاني في البرنامج المذكور أعلاه أن "الهجوم حدث عشية هجوم إسرائيل على الجولان وهو أمر يقتضي استخدام كمية كبيرة من الاتصالات بين القطعات العسكرية الإسرائيلية وقياداتها. ولهذا فإن غاية الإسرائيليين كانت منع الأميركيين من معرفة نواياهم تجاه سوريا والأردن.
أما مجلة "نيوزويك" الأميركية الواسعة الاطلاع فقد ذكرت أن الإسرائيليين تعمّدوا الهجوم على السفينة واحاولوا تدميرها لأنها حصلت على الدليل القاطع بأن إسرائيل هي التي بدأت الحرب في وقت أنها ادعت أن العرب هم الذين بدؤوها.
كان هناك كما ذكرنا سابقاً تحالف بين إسرائيل والمؤسسة العسكرية والأمنية اللأميركية. إلا أن الأميركيين اكتشفوا عقب يومين من بداية الحرب أن أي تفاهم بينهم وبين الإسرائيليين بخصوص "حدود التصرُّف العسكري" الإسرائيلي كان عبارة عن اتفاق باطل وملغي لأن الإسرائيليين تجاهلوه ولم يلتزموا به. وكان الإسرائيليين قد وعدوا الأميركيين أثناء اللقاءات التي تمت بين الطرفين في كانون الثاني ـ يناير وآذار ـ مارس ويوم الرابع والعشرين من مايس ـ مايو للتخطيط للحرب بأن لا تتجاوز أهدافهم حزيمة مصر المهينة لوضع حد لنظام عبد الناصر. وقطع الإسرائيليين على أنفسهم وعداً بأنه في حالة اضطرار الملك حسين للاشتراك بالعمليات الحربية فإن أي اراضي أردنية يحتلوها سيتم الاحتفاظ بها لفترة ضئيلة لا تتجاوز فترة العمليات الحربية. كما تعهدوا بعدم احتلال الضفة الغربية والقدس. إلا أنهم نكثوا بجميع تعهداتهم للأميركيين.
وقد قام الباحث السياسي البريطاني أنتوني بيرسون بالتحقيق في موضوع الهجوم على السفينة ليبرتي وأصدر كتاباً أثار ضجة كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة. وقد ذكر الميجر ماكينا ضابط المخابرات البريطانية لبيرسون في لقائه معه في كينيا أن الحكومة الأميركية برمتها ـ وليس فقط المخابرات المركزية ـ كانت تعمل على وضع سياسة شرق أوسطية جديدة لاستعادة الأرضية التي فقدتها لحسات الاتحاد السوفييتي في المنطقة. وحتى يتمكنوا من ذلك كان يتوجب أولاً الخلاص من العقبة الأساسية المتمثلة بالنجاح الشعبي للقومية العربية اليسارية الاتجاه التي جسدها وقادها عبد الناصر. ولهذا فإنه من المنطقي بالنسبة للأميركيين أن يعتقدوا أنهم إذا شجعوا الإسرائيليين على مواجهة عبد الناصر عسكرياً وإذا أُهين ناصر بشدة فإنه سيفقد بريقه ووهجه الشعبي وبالتالي سيفقد السيطرة على مصر. وبالنتيجة فإن مصر ستعود إلى عهد ما قبل عبد الناصر (المحافظ) وسيُطرد السوفييت من مصر وسيدخل الأميركيين ليحلوا محلهم.
وتابع الميجر ماكينا: لقد حدث خلل في الخطة لأن الإسرائيليين لم يهتموا بالأهداف الأميركية لأن كل ما أرادوه هو الحصول على أراضي جديدة، وقد حصلوا عليها عن طريق إخفاء ما يجري على ساحة القتال وإصدار نشرات كاذبة وقبل أن يدرك الأميركيين ما حصل أو يحاولوا إيقافه كان الإسرائيليين قد احتلوا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس. وكان ذلك أكثر بكثير مما أراد الأميركيين. فقد كان هدف الأميركيين أن يهزم الإسرائيليين الجيش المصري ويدفعوه إلى ضفة قناة السويس ثم يتراجعوا إلى خطوط دفاعية في ممرات متلا والجدي في سيناء. أي أن الأميركيين لم يرغبوا إطلاقاً في أن يحتل الإسرائيليين الضفة الشرقية لقناة السويس بسبب النتائج الغير حميدة الممكنة، وإن كانوا سعيدين حين قام الإسرائيليين ببناء خط بارليف حين أصر عبد الناصر على الاحتفاظ بعلاقته مع السوفييت في أعقاب الحرب.
وتابع ميجر المخابرات البريطانية: قبل أن تبدأ الحرب أصر الأميركيين على الإسرائيليين بأن عليهم التعامل مع الملك حسين بما أسموه "قفاز اللين والهوادة" لأنه كما قالوا "الصديق الحقيقي الوحيد لأميركا في العالم العربي بجانب الملك فيصل". وقدّر الأميركيين أنه إذا دخل الإسرائيليين الأراضي الأردنية فإن ذلك سيؤدي إلى تنفير الملك حسين والملك فيصل من أميركا ولهذا فإن الولايات المتحدة لا تستطيع أخذ مغامرة كهذه حتى لا تهدد شحنات نفطها. وكان الملك فيصل قد أصر دوماً في تعامله مع الولايات المتحدة بضرورة المحافظة على الملك حسين وعرشه. وتابع الميجر قائلاً: حين قام الإسرائيليين بهجومهم على الأرضن فإنهم اعتمدوا على إيمان الملك وثقته بالوعود والتعهدات التي منحتها له الحكومة الأميركية. ولهذا فإن الملك وجيشه تفاجؤا وكانوا غير جاهزين أبداً للدمار الذي لحق بهم .
[email protected]
التعليقات