زعامة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز.. لماذا وكيف؟

زعامة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز.. لماذا وكيف؟
غزة-دنيا الوطن
بزغ نجم الملك عبد الله قبل عقدين من الزمن في سماء منطقة تسمى «الشرق الأوسط»، المنطقة التي تملك مقدرات الإنتاج والتفوق والقوة والاستقلال كافة، إلا أنها مع كل ذلك تفقد - مع شديد الأسف - ما يكفل لشعوبها وأنظمتها وحكوماتها الأمن والاستقرار، مما حال بينها وبين النهوض والتقدم والرفاه والاحترام. إنها منطقة الأزمات والانتكاسات المتتابعة، ومنطقة النزاعات والخلافات المتوالدة. لذلك ساد الإحباط بين شعوبها وانجذبت مجاميع من الشباب فيها لمنظومات التشدد والعنف والإرهاب.. مؤثرة «الانتحار الجماعي» والعيش في جبال تورا بورا ووديان ومعسكرات ومخيمات التكفير والقتل والتفجير على الحياة الطبيعية والتعلم والاستقامة والانفتاح، والنضال العلمي والتعايش السلمي.

تصدر العاهل السعودي الملك عبد الله المرتبة الأولى في ثقة الشعوب الإسلامية للمرة الثانية في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «بيو» الأميركية الشهيرة عن الاتجاهات العالمية في 25 دولة من جميع أنحاء العالم. وأظهر الاستطلاع أن الغالبية العظمى في 25 دولة، منها 8 دول عربية، اختارت الملك عبد الله بن عبد العزيز أكثر قائد إسلامي يحظى بالثقة، وأنه سيفعل الشيء الصحيح في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. وذكرت مؤسسة «بيو» البحثية أن الملك عبد الله كان أكثر شعبية في بلدين عربيين هما الأردن ومصر، حيث حقق نسبة شعبية بلغت 92 في المائة في الأردن، مما يعني أن أكثر من تسعة من بين كل عشرة أردنيين قالوا إن لديهم ثقة كبيرة في الملك عبد الله، في حين جاءت مصر، التي يبلغ عدد سكانها الآن 82 مليون نسمة، في المرتبة الثانية حيث قال 83 في المائة ممن شملهم الاستطلاع من المصريين إن لديهم ثقة في الملك عبد الله بمعدل أكثر من ثمانية أشخاص من بين كل عشرة مصريين.

سعى الملك عبد الله في خطوات متأنية لتأهيل الشعب السعودي نفسيا وفكريا واجتماعيا ودينيا ومهنيا، كما سعى لإعادة بناء الأنظمة والقوانين والمؤسسات الثقافية والتعليمية والقضائية والسياسية. واجه المتطلبات لتحديث الدولة وإدخالها في القرن الحادي والعشرين بعزيمة وجدية وصراحة. كانت المساعي الإصلاحية شاملة من دون تردد أو استثناءات، فشملت تنظيم شؤون الأسرة المالكة بتأسيس هيئة البيعة، وشملت المؤسسة الدينية من خلال تنوع مذاهب أعضاء هيئة كبار العلماء، وتم استحداث نظامين متطورين للقضاء ولديوان المظالم تضمنا محكمة عليا لكل منهما ومحاكم للاستئناف ومحاكم متخصصة ومختصة.

نال التعليم عناية الملك الخاصة، فأصدر المراسيم التي تقتضي إصلاح التعليم وإعادة تأسيسه في جميع المراحل والاختصاصات. مع التشجيع على البعثات التعليمية للدراسة في أفضل جامعات العالم. ازدهرت مصادر ومؤسسات التعليم العام والعالي والفني والمهني في توسع غير مسبوق، وتم إنشاء جامعة في كل منطقة إدارية.. متوجة بتأسيس جامعة إكسفور أو جامعة هارفرد أو معهد ماساتشوستس للتقنية للعالم العربي ولمنطقة الشرق الأوسط، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «كاوست» من دون التفات لمرجعيات التشكيك والتفكيك، وتجاوزت البعثات للطلبة والطالبات في مختلف أنحاء العالم 70 ألف بعثة، وربما تتضاعف الأعداد في غضون 5 سنوات قادمة لتسهم تلك العقول بعد عودتها في بناء «الدولة السعودية الحديثة» التي تواكب المستجدات وتحافظ على المكتسبات، وتطور ثقافة المجتمع، وتحرز الانفتاح والإنتاجية والتفوق.

حمل الملك عبد الله على عاتقيه مسؤولية نشر وترسيخ ثقافة التسامح، وإزالة الخوف لدى العرب والمسلمين من منهجية الحوار مع مختلف الثقافات والأديان والشعوب، ليعيش العرب والمسلمون في وئام فيما بينهم، وفي انسجام مع الشعوب والثقافات والأديان الأخرى، وليعود لهم اعتبارهم بين الأمم في ظل أجواء من الاحترام المتبادل والعيش المشترك، والتعاون بين الجميع فيما فيه خدمة للبشرية جمعاء.. بعيدا عن المشاحنات والمصادمات والنزاعات والحروب التي يدرك الجميع أنها صغرت أم كبرت تستنزف الموارد وتنهك الشعوب وتشغل الجميع عن بناء الإنسان وتعمير الأرض.

انطلقت الرسالة مدوية واضحة من السعودية حاضنة الحرمين الشريفين، ومحضن مثوى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقبلة المسلمين، والدولة التي تتشرف بخدمة ملايين الحجاج والمعتمرين والزوار، والدولة التي تأسست على دعوة، والتزمت طيلة تاريخها بتحكيم الشريعة الإسلامية الغراء، وحمل لواء التضامن الإسلامي. ثم إنها الدولة الوحيدة القادرة على عرقلة أو إفشال مشاريع التنوير أو التغيير عندما تتصدى لها مؤسساتها السياسية والدينية، لما تملكه الدولة السعودية من مؤسسات دينية فاعلة وعلماء ودعاة قادرين متحمسين داخلها وفي مختلف أنحاء العالم، ولما لتوجهها السياسي من قوة وفعالية على مستوى العالم. ثم إنه عرف عن الدولة السعودية أنها طيلة عهودها دولة محافظة دينيا حريصة على التحقق من صحة الخطوات الدينية التي تتبناها في الداخل والخارج مع تحفظ وتريث أحيانا لما تشعر به من مسؤولية جسيمة تجاه خطواتها وتحركاتها. لذا، كسبت مناداة الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين الثقافات والأديان أهمية قصوى.

من هذا المنطلق اعتبر البعض أن دعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار والتسامح «ثورة» في قلب العالم الإسلامي، ورد ذلك في مقالة للكاتب ديكي كريستوفر بمجلة «نيوزويك» الأميركية 30/3/2009، وتبنى المفهوم نفسه د. عبد الرحمن السعيد المستشار في الديوان الملكي السعودي الذي تحدث في المؤتمر السنوي 18 للمجلس الوطني للعلاقات العربية الأميركية، حيث قال: «إن الملك عبد الله يضغط من أجل تحفيز النقاش الحر والمفتوح بخصوص المسائل ذات الأهمية، وقد أحدث النقاش ثورة في المنطقة، إن الحوار أصبح أسلوبا للحياة في المملكة العربية السعودية وفي المنطقة (جريدة الرياض 18/10/2009 العدد 15091).

لقد خطا الملك عبد الله الخطوات المدروسة ومعه في مشروعه الشعب السعودي بقادته وعلمائه ومفكريه وبدبلوماسيته النشطة وبمؤسساته الإعلامية المؤثرة، كما أن مع جلالته العلماء والمفكرين وقادة العالمين العربي والإسلامي قبل أن يخاطب قادة العالم ومؤسساته في الشرق أو الغرب، وقبل أن يعبر المحيطات لتقديم رؤاه وحمل مشاريعه، التي هي في أساسها تعبر عن احتياجات وتطلعات العرب والمسلمين، وتصنع أصدقاء لدولهم وقضاياهم وثقافتهم.

وجه الملك عبد الله بن عبد العزيز يوم كان وليا للعهد بتنظيم حوار سعودي - سعودي، وتم ذلك في 15 - 18/6/2003م تحت عنوان «الوحدة الوطنية والمعاهدات الدولية» شارك فيه 30 من العلماء والمفكرين من ثقافات ومذاهب ومناطق مختلفة في المملكة، وكان اللقاء الأول في تاريخ البلاد السعودية الذي نوقشت فيه موضوعات غير مرغوب في مناقشتها سابقا. تمخض ذلك اللقاء، المحدود في تعداد المشاركين فيه وفي أيام انعقاده، الكبير في مضامينه ومراميه، عن قرارات في 26 فقرة صنعت توجها جديدا للدولة والمجتمع.. كما أراد له من بادر بتبنيه الزعيم الحكيم صانع التاريخ المضيء، ومن ذلك ما ورد في الفقرة 2 التي تنص على «إدراك أن الاختلاف والتنوع الفكري وتعدد المذاهب واقع مشاهد في حياتنا وطبيعة من طبائع البشر يستثمر في التأسيس نحو استراتيجية التعامل في الدعوة والنصح والحوار، وتوجيهه الوجهة السليمة التي تخدم أهداف المملكة وثوابتها وقيمها الشرعية». وما ورد في الفقرة 17 التي تنص على «أهمية الحوار باعتباره وسيلة للتعبير عن الرأي، وأسلوبا للحياة وتأطيره، لتحقيق التعايش من خلال منهجية شاملة تلتزم بالأصول والضوابط الشرعية». على أثر ذلك الحوار المغلق، وجه الملك في كلمة متلفزة بإنشاء مركز للحوار ليكون قناة الدولة في تهيئة المجتمع لمتطلبات الحياة في ظل العولمة وانفتاح العالم عبر الأجواء المفتوحة ووسائل الثقافة الحديثة، مع عدم التفريط في الأسس والهوية، ولقد ورد في تلك الكلمة ما نصه «ولا يراودني أدنى شك أن إنشاء المركز وتواصل الحوار تحت رعايته سوف يكون بإذن الله إنجازا تاريخيا يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسؤول سيكون له أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف ويوجد مناخا نقيا تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي». تم عقد القمة الإسلامية الاستثنائية الثالثة في رحاب مكة المكرمة في 7 - 8 ديسمبر (كانون الأول) 2005م تحت عنوان «مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، التضامن في العمل» ولقد كان لما بذلته منظمة المؤتمر الإسلامي بالتعاون مع قيادات وزارة الخارجية السعودية أكبر الأثر في إنجاح المؤتمر الذي استهدف في الأساس رسم الاستراتيجيات المطلوبة للنهوض بالعالم الإسلامي ولمواجهة الأزمات المتلاحقة التي قسمت العالم الإسلامي وأهدرت موارده وأضعفت مكانته ومواقفه. بناء على قرارات قادة العالم الإسلامي سابقة الذكر، نظمت رابطة العالم الإسلامي بتوجيه من الملك عبد الله مؤتمرا بتاريخ 4/6/2008م لقادة الرأي والفكر في الأمة الإسلامية داخل العالم الإسلامي وخارجه من مفتين وعلماء وأئمة ودعاة، ومن زعماء أحزاب وجماعات إسلامية، ومن مديري مراكز ومعاهد في مختلف المذاهب والمشارب لعقد مؤتمر إسلامي عالمي للحوار الإسلامي - الإسلامي، للإسهام في بث روح المحبة والثقة، وبناء جسور التعارف والتعاون في مكة المكرمة، وكانت الاستجابة للدعوة بالمشاركة في المؤتمر من الجميع إيجابية. اتسمت اللقاءات في المؤتمر بالروح العالية والنقاشات الجادة، وكان على المنصة الرئيسية ثم بناء الافتتاح مع جلالته مفتي عام المملكة والرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني. أصدر قادة الرأي المشاركون في «المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار» ما أطلقوا عليه «نداء مكة المكرمة»، والذي أوضحوا فيه مشروعية الحوار ودعوة الإسلام إليه مع أتباع الأديان السماوية وأتباع الثقافات الأخرى لاعتبارات ومسوغات كثيرة، أوردها العلماء. انتقل الحوار إلى مدريد عاصمة إسبانيا ذات التاريخ العريق في مجال التعايش والحوار، بعد تهيئة وإعداد واستعداد، افتتح خادم الحرمين الشريفين المؤتمر في 16/7/2008م بحضور الملك خوان كارلوس ملك إسبانيا، وخوسيه لويس رئيس الوزراء الإسباني وأكثر من 300 من العلماء والمثقفين المسلمين، ومن الكرادلة المسيحيين، وقيادات من الديانتين اليهودية والبوذية بزيهم الديني. اهتم العالم بذلك الحدث التاريخي المعبر عن الحكمة والشجاعة والرغبة في التفاهم بدلا عن التصادم، والمؤشر بوضوح على أن المملكة العربية السعودية ومعها العالم الإسلامي عازمة على زرع الثقة في بنية الأمة الإسلامية ونزع الخوف من الآخر، وعازمة على هزيمة عقيدة التطرف.

تحقق ما كان يسعى إليه الملك عبد الله، وانطلقت فعاليات اللقاء في مقر هيئة الأمم المتحدة بنيويورك يوم الأربعاء 12/11/2008م في مقر الأمم المتحدة في نيويورك.

حققت رؤى ومبادرات الزعيم الحكيم والملك العادل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود في عقدين من الزمن للعروبة والإسلام ما لم يحققه كثير من القادة في قرنين من الزمان. تلقى القادة والمفكرون والكتاب والعلماء في العالمين العربي والإسلامي مبادراته بالقبول والإعجاب، واستجاب قادة العالم في مختلف الدول والقارات لندائه بثقة وتقدير. استطاع الملك أن يزرع الثقة لدى المسلمين، وأن يقرب المسافات بينهم وبين الآخرين، وأن يؤسس لحوار عربي - عربي، ولحوار إسلامي - إسلامي، ولحوار إسلامي - مسيحي، واستطاع أن يهدئ وتيرة التجاذب والتصادم بين العالم الشرقي المسلم والعالم الغربي المسيحي، مع امتداد الحوار والتواصل لجميع الثقافات والمذاهب والشعوب من دون تحيز أو إقصاء.

لقد خدمت المكانة الدينية والإمكانات الاقتصادية للدولة السعودية أهداف الأمة السامية، فساعدت على زرع ثقة المسلمين بدينهم وأنفسهم، وعلى نزع المخاوف من الأديان والثقافات المختلفة عنهم، وساعدت في نشر وترسيخ ثقافة التسامح، وصناعة البيئة الملائمة لإرساء دعائم الحوار وقبول خيار التفاهم بديلا عن التصادم. لذا، يمكن القول، باطمئنان، إن زعامة الملك عبد الله - يحفظه الله - منحت منهجية الحوار وثقافة التسامح الشرعية والمصداقية والقبول على جميع الأصعدة.

* عضو سابق في مجلس الشورى السعودي، والمقال أصله ورقة ألقاها الكاتب في ندوة خاصة عن الملك عبد الله بن عبد العزيز في مهرجان الجنادرية 25

التعليقات