على شبكة الانترنت .. المباراة المصر-جزائرية لم تنته بعد

هدى فايق

"المباراة لم تنته بعد".. هكذا يريدها نشطاء الإنترنت وغيرهم كثير على الجانبين المصري والجزائري؛ فالمباراة التي وضعت أوزارها مساء الأربعاء بخسارة الفراعنة وفوز "محاربي الصحراء" تبعها مزيد من الصراعات والمعارك تماما كما سبقتها؛ وهي صراعات دوما ما كانت جانبية وهامشية، لكنها في ظل وجودها على الشبكة وطبيعة مضامينها المثيرة دُفع بها للمقدمة والصدارة.

فالخاسر بألم وحسرة، والمنتصر بنشوة وبهجة، كلاهما يمتلكان المزيد من خطابات الكراهية، والعنصرية، والتفاخر، والادعاء والتبرير، وهي مفردات وصفت بها جماهير المنتخبين، وقد عملت على تأجيج مشاعر وحروب جماعية مفتوحة على الجراح كلها التي سقط ملح المباراة عليها، وهو ما تورط فيه السياسي والإعلامي، وتلقفه المواطن العادي الباحث عن أي انتصار بديل في الملعب الأخضر.

فرحة الفوز بعد تلك الصراعات الغبراء كان لها طعم مختلف كما طعم مرارة الخسارة أيضا، وهما نتيجتان لحدث واحد سيفعلان فعلهما في صفوف المتعصبين الذين انضم إليهم الملايين، فالحشد والشحن والعزف على أوتار دينية وسياسية ووطنية وتاريخية جعلت من المواطن "إسفنجة" تمتص ما يقع عليها، وهو امتصاص وصل ذروته، وبنتائج المباراة سيحدث التفريغ لا محالة.

المختلف هنا أن الإنترنت كوسيلة جماهيرية لم تنقل نبض الشارع بسلبياته وإيجابياته، بل كانت وسيلة بيد المتعصبين والمتعطشين للنصر من كلا الطرفين لإنتاج خطاب ومضامين تنزل الشارع لتكون جزءا منه، حيث تقدم الشبكة مضامين كثيرة صنعها طرفي الصراع تعمل حاليا على تغذيتهم وتكريس تعصبهم وكرههم.

مصحة نفسية

شبكة الإنترنت التي تمتلك مقومات القيام بمباراة افتراضية موازية وتعرض المباراة وتجعلها تحت الطلب الذي تستجيب له آنيا من خلال ما يزودها به النشطاء تحولت برأي البعض إلى "مصحة نفسية" مثلما وصفها الكاتب السعودي "محمد المختار الفال". وهو يرى أنها ستواصل القيام بدورها هذا، وبجدارة ومهارة فائقة، وسيتكتل في سراديبها المأزومون من لا وعيهم، وسطوة الرقابة الاجتماعية على مشاعرهم، فيثرثرون ويخرجون عقدهم المكبوتة، ومرارات حقدهم، وسخائم بواطنهم وكراهيتهم، وكل ما توارى في نفوسهم من قهر التربية ومظالم المجتمع.

فكيف يمكن أن يكون الحال إذا كان الوضع الجديد مدعوما من المجتمع هذه المرة؟ هذا يعني ضمن ما يعنيه أن المجتمع هذه المرة سيؤيد خطابات متخلفة وعنيفة وهمجية، سواء على خلفيات النصر أو الهزيمة أيضا.

لننظر في نماذج من الخطابات التي ظهرت على الشبكة بعد ساعات من خسارة الفريق المصري:

مجموعة على الفيس بوك تدعو لتغيير اسم "شارع الجزائر" بالمعادي وتسميته بـ"شارع متعب"، وأخرى "وقفة لكرامة المصري أولا" تدعو لوقفة سلمية بعد صلاة الجمعة أمام مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، وأخرى "اعتصام من أجل ترحيل سفير الجزائر"، وأخرى بعنوان: "كرامة المصريين لن تعود إلا بطرد السفير وأخذ الثأر من الجزائريين"، وأخرى "نعم لإغلاق الصحيفة الصفراء الجزائرية الشروق"، وأخرى بعنوان: "الحملة القومية لرد كرامة المصريين".

وداخل هذه المجموعات -على اختلاف- تسمع عن موت العروبة، وإهدار كرامة المصريين، ورغبات مجنونة كانت دوما مكبوتة ويصعب الإفصاح عنها، لكنها اليوم دعوات تمتد وينساق لبعضها مثقفون أيضا، وهي ليست إلا قمة جبل الجيلد التي يمكن ملاحظتها على الشبكة في الساعات الأولى من الواقعة الكروية.

على الجانب الجزائري الفائز فرحة وبهجة بانتصار يُرى أن لا مثيل له، يرافقها على الشبكة تمجيد وتقديس لـ"عنتر يحيى" اللاعب الذي أحرز الهدف الوحيد، وفي المقابل شماتة وتعبيرات تنم عن حقد وعنصرية وتشف لا سابق لها؛ وهو ما يظهر بالعربية والفرنسية أيضا.

دكتور "هشام عطية" يتطرق لذلك الاهتمام غير المسبوق بالنصر أو الهزيمة في مباراة كرة قدم قائلا: "المناخ العام السائد في الوطن العربي بفعل اختفاء السياسة من على الساحة فتح المجال لكرة القدم كي تبقى مجالا واسعا للجدل ومتنفسا للحرية".

ويضيف قائلا: "الأهم هنا أن التعبير عن التعصب في الكرة لا يوقع صاحبه تحت طائلة القانون أو العقاب المؤسسي, على العكس، ربما يجد دعما لعصبيته من المؤسسات الرسمية؛ وهو ما سيجعل من الشبكة المكان الأكثر خصوبة لرفع الأعلام بعد أن زوت في ميادين الخاسرين، ورفعت بقوة في ميادين المنتصرين".

وهنا لا يمكن إنكار العلاقة التي تربط بين استخدام الإنترنت وخلق التكتلات المتعصبة؛ وهو الأمر الذي يرجع لطبيعة الشبكة ذاتها, بما لها من قدرة على تجاوز الحدود والحواجز الجغرافية والزمنية، فتعمل على ربط الأفراد في أي بقعة من بقاع الأرض ما داموا يتشاركون الاهتمامات والميول والاحتياجات (وما أكثر ذلك في لحظات الانتصار والهزيمة، حيث الجماهير على قلب رجل واحد)، وفق ما ترى دكتورة "مها عبد المجيد"، خبير الإعلام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية الجنائية.

هنا ترى دكتورة مها عبد المجيد أن تصاعد حدة الاحتجاجات الاجتماعية كظاهرة جديدة في المجتمع العربي والمصري بالضرورة جاءت كإحدى أشكال التأثر بالتعبير عن الرأي في المجتمعات الأخرى؛ وهو ما تنقله لنا الإنترنت بسهولة، بل وتسمح بوجود قنوات جديدة يمكن للأفراد من خلالها أن ينظموا أنفسهم ويوحدوا جهودهم حتى لو كان فيما يعتبره البعض مرضا أو هلاكا ممثلا بالتعصب.

لكن الأمر لا يمكن تعميمه -كما تقول د. مها- لأن "هذه التكتلات الصغيرة مبعثرة في الفضاء الإلكتروني بما يمكن أن يجعلها أشبه بجزر مبعثرة.. ولا توجد صلات بينها وبين بعضها".

انفلات في التعبير

روح العصبية والعنصرية التي نمت على الشحن قبل المباراة غذاها الفوز والخسارة معا، فتباين حالة الفرح التي عاشها المصريون عقب الفوز الذي جاء صعبا، وحالة الغضب التي عمت الشارع الجزائري رافقها تباين آخر في مباراة السودان؛ وهو أمر يستثمره كل طرف على الشبكة لصناعة منتجات فنية ودعائية وصور وتعليقات ساخرة ورسومات وأغان... إلخ، أصبحت كلها ممكنة بفعل الشبكة وإمكاناتها الحديثة، والتنامي في استخدامها عربيا، وهي هنا تكرس خطاب الكراهية والحقد من ناحية، والمظلومية وشعور الضحية من ناحية أخرى.

ذلك التنامي المطرد في استخدام الإنترنت في التعبير الحر واللامحدود يوصل إلى حالة من الانفلات في التعبير عن الذات لدى الكثير من الشباب العربي الذي يعاني حالة من الكبت السياسي الذي يحول دون أن يمارس حقوقه في التعبير بالأفعال أو حتى الأقوال.

والنماذج الدالة هنا كثيرة قبل المباراة كما بعدها تماما، فأغاني الراب العربي على الجانبين المصري والجزائري شملت وصلات "ردح" قام أصحابها ببثها على مواقع الإنترنت وعلى رأسها اليوتيوب الأوسع انتشارا.. أغان تتعرض للرموز الوطنية لكلا البلدين, والمعايرة، والتهجم، والطعن فيما يمتلك كل شعب من إجماعات وطنية تقليدية وعلاقات تاريخية.

كل من الجانبين استخدم برامج التعامل مع الصور لتقديم صور مسيئة للفريق المضاد عبر تركيب أجسام لاعبي المنتخب على وجوه ممثلات، أو عبر تقديم صور للفريق القومي تعبر عن القوة والصلابة مثل صورة كتيبة الإعدام للمنتخب المصري، وهو أمر لا يحتاج لجهد وكثير خبرة في استخدام ما يتيحه الجهاز العبقري/ الكمبيوتر ملجأ الملايين ومهربهم للذود عن "كراماتهم المهدورة".

نرى مثلا نموذج لناشط يمعن في الاستفادة من مشهد هزيمة هتلر في الفيلم الألماني قام بتركيب ترجمة تصور هتلر قائدا للمنتخب الجزائري (قبل المباراة الفاصلة)، وأن مصر أولته هزيمة ستؤدي به للانتحار.. هذا عدا الكم الهائل من مجموعات الفيس بوك التي أنشئت لأجل الـ90 دقيقة، حيث طغت أحاديث القتل والانتحار والايحاءات الجنسية المبتذلة.

شكلت هذه الهجمة المنظمة من قبل الجانبين حالة من تهييج العواطف القومية لدى الشعبين، واستثار الأمر حتى غير المهتمين بالكرة؛ إذ غدا الأمر متعلقا بالوطن وكرامته والدفاع عن شرفه!

لكن هذا لا يمثل السبب الرئيسي خلف هذه العصبية؛ إذ ترى آراء أخرى أن طبيعة الإنترنت بما يتيحه من مساحات تزداد في امتدادها يعد وسيلة سهلة الاستخدام للتعبير عن الآراء حتى لو كانت مخالفة؛ حيث يمكن لأي رأي أن يخلق تيارا مؤيدا له.

هذا بالإضافة لكونه وسيلة محفزة للتعبير, فالإتاحة والفردية والجماهيرية جميعها صفات في الوسيط الإنترنتي تخلق الرغبة في التعبير عن الآراء، بل تسهم في تغيير الاتجاهات وخلق سلوك جديد، وذلك أضعف الإيمان طبعا، فالشبكة وعلى خلفية المباراة غصت بأحاديث ومقاطع فيلمية لا تنم إلا عن تخلف وقلة قيمة.

يدعمان بعضهما

هنا وعند الحديث عن الإعلام الشعبي دوما ما يستحضر الإعلام الرسمي الذي يعتبر وفق رأي دكتور شريف درويش، المحاضر في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، تمما دور بعضهم البعض.
يستشهد اللبان: "الإعلام الرسمي قام بلملمة الجزر المبعثرة على الإنترنت، ووحد صفوفها ليصدح صوت 80 ألف مشجع في إستاد القاهرة بالدعاء عقب أذان المغرب لنصرة الفريق المصري، وقام الملايين للصلاة والتشجيع ورفع الأعلام وتحضيرها لمباراة قادمة (أي في أم درمان) وفي الجزائر حدث ذات الأمر".

ويضيف: "قامت القنوات الفضائية والصحف والموجات الإذاعية بحملة إعلامية بدت وكأنها مدروسة على مستوى عال باللعب على وتر الوطنية والتاريخ الرياضي المتأزم بين البلدين، مستفزة للروح الوطنية غير الإيجابية عن طريق استعادة أحداث وملابسات المباراة الأخيرة التي أقيمت في الجزائر، وتسمم خلالها لاعبو المنتخب المصري، واعتبرها المصريون محاولة للقضاء على اللاعبين مع سبق الإصرار والترصد".

ويشير اللبان إلى أنه لولا وجود هذا الدعم من الإعلام الجماهيري للإعلام الشخصي لما تحولت مصر بمحافظاتها إلى احتفالية أعلام، ولما ارتكبت أحداث شغب في مارسيليا بعد انتهاء مباراة السبت لصالح إعادة الجولة في السودان.

وعلى الأغلب فإن حالة المشهدية التي ظهرت فيها مباراة الجزائر مصر الأخيرة وما قبلها صنع الإنترنت جزءا كبيرا منه وغذاه، وستتلاحق بصور ومشاهد لن تعمل على ترميم الصورة التي انكسرت وتشوهت بين الشعبين، بل على العكس تماما، فكيف والحال أن ما تقدمه الشبكة حاضر في كل وقت ومن أي مكان، ويمكن استدعاؤه في كبسة زر سيجعلها المتعصبون على اللون الأحمر إلى ما شاء الله، على غرار أغنية: "خلي السلاح صاح".

التعليقات