دنيا الوطن تنفرد بنشر خفايا لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات :الذئب وابن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن

غزة- دنيا الوطن
حظي كتاب الدكتور اللواء المتقاعد كامل أبو عيسى والمنشور بعنوان " لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات " باهتمام الأوساط الثقافية والسياسية وقد نشرت صحيفة الأهرام المصرية خبرا خاصا ومهما عن الكتاب بتاريخ 24/6/2009 ولهذا وللأهمية فان دنيا الوطن وبمناسبة انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح والذكرى السنوية لميلاد الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات " أبو عمار " تنفرد بنشر الفصل الرابع من الكتاب والمعروف باسم " الذئب وابن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن ":
الفصل الرابع :
"الذئب وأبن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن"
كان " أبو السعيد" خالد الحسن فيلسوف وحكيم الواقعية الثورية في الساحة الفلسطينية وكان عضواً فاعلاً ومؤسساً على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح، ولهذا فأن زيارته للاتحاد السوفييتي وفي إطار وفد حركي عالي المستوى مع بداية شهر نوفمبر من عام 1984م ربما تعني الكثير لمن يفهم ويُحلل بواطن الأمور، فهو اليميني المتهم دائماً وأبداً من قبل فصائل اليسار الفلسطيني بالانحياز للأنظمة الرجعية العربية والتفريط السياسي على صعيد القضية الفلسطينية وهو صاحب المذكرات الشهيرة والتي أحدثت ضجة بعد نشرها مُنذ مدة وتحت عنوان مذكرات " حمار وطني " كما كانت له المساهمة الرئيسية في إنجاز مسودة مبادئ اتفاق عمان والذي تم توقيعه فيما بعد بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية، ذهبت للسلام عليه وعلى بقية أعضاء الوفد مع لفيف من الكوادر الطلابية والحركية المتواجدة في ساحة الاتحاد السوفييتي ، وقد أطلعته في حينه على المذكرة الدفاعية التي أعددتها للدفاع عن أطروحتي كما قدمت له الدعوة لحضور مناقشة الأطروحة في يوم التخرج وأبلغته بأنني قدمت دعوة مماثلة للأخ القائد محمود عباس " أبو مازن "، وفي اليوم التالي اتصلت به للتأكيد على موعد الدعوة وضرورة حضوره وحتى يتمكن مسؤولي معهد آسيا وأفريقيا من تحضير أنفسهم لاستقبال الضيوف الفلسطينيين ، أبلغني الأخ أبو السعيد خالد الحسن بأن الأخ أبو مازن اضطر للسفر بشكل مُفاجئ وأنه سيحضر شخصياً لينوب عن الأخ أبو مازن وعن نفسه مبدياً في نفس الوقت إعجابه بالنصوص السياسية الواردة في المذكرة الدفاعية وخاصة لجهة تأكيدها على المكانة الريادية والقيادية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في قيادة النضال الوطني وتركيزها على م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ودفاعها الواضح والصريح عن مكانة وزعامة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بالإضافة إلى رفضها لسياسات العبث السورية في الشأن الداخلي الفلسطيني واعتبار أن العدوان الإسرائيلي ضد لبنان في عام 1982م لم يستهدف فقط القضاء على قوات الثورة الفلسطينية وترحيل م.ت.ف وقياداتها السياسية من بيروت وسائر الأراضي اللبنانية وإنما بالأساس يحمل في أهدافه ونتائجه خطة أمريكية إسرائيلية لبلقنة منطقة المشرق العربي " وبلاد الشام" على وجه الخصوص وعبر هدم المنظومة الكيانية القائمة لحساب منظومة جديدة مكونة من عديد الدويلات الطائفية وعلى أسس عرقية ودينية تبدأ بالعراق وتنتهي بسوريا ولبنان وشرق الأردن وحيث تخضع هذه الكيانات الطائفية والدينية والعرقية الهزيلة لسطوة الكيان الصهيوني في إطار مشروع الهيمنة الأمريكي المعد لعموم المنطقة ، فمن يسيطر على منطقة القلب يسهل عليه الزحف والسيطرة على منطقة الأطراف ومنابع النفط في شبة الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.
طقوس عملية الدفاع عن الأطروحة وبهدف نيل شهادة الدكتوراة ليست بالسهلة أو اليسيرة فهي تخضع لمجموعة من الشروط والمراحل التي يجب تنفيذها واجتيازها فقبل موعد الجلسة بثلاثة شهور أي قبل التئام شمل المجلس العلمي المكون من أربعة وعشرين أستاذ كرسي من البروفسورات وحملة شهادة الدكتوراة المتخصصين بالدراسات الشرقية وسياسات الشرق الأوسط والمنطقة العربية والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تمت طباعة الملخص الشامل والجامع عن الرسالة وبحدود الخمسين صفحة من الحجم المتوسط باسم الباحث أي طالب الدراسات العليا المتقدم بالبحث لنيل الشهادة "أي باسمي " بالإضافة إلى أسماء الدكتور المشرف والدكتور المساعد وكذلك أسماء الدكاترة النقاد لأهمية وقيمة العمل المقدم هذا بالإضافة لمشاركة معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية.
ولهذا ولذلك كان لحضور الأخ أبو السعيد خالد الحسن أهمية خاصة وأهمية كبيرة فهو سيشارك ومن موقعه القيادي في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة وسيتعرف عن قرب على صانعي السياسات الاستراتيجية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية من جهة أخرى وسيعتمد في حوارا ته اللاحقة مع القيادات السوفييتية على المذكرة الدفاعية التي أعددتها في حال إقرارها من قبل أعضاء المجلس العلمي.
حضر الأخ أبو السعيد خالد الحسن في تمام الساعة العاشرة صباحاً وبرفقته عدد كبير من الكوادر الفلسطينية وموظفي السفارة وفي مقدمتهم جميعاً الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر وكان في استقباله حشد كبير من طلبة المعهد وموظفو الإدارات وعلى رأسهم مدير عام المعهد رئيس اللجنة العالمية للحفاظ على التراث الفلسطيني التابعة للأمم المتحدة وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي البروفسور " اَخراموفتش". استمر المجلس العلمي في انعقاده لمدة سبعة ساعات متواصلة تخللتها نصف ساعة فقط للراحة، وبالنظر لوجود الأخ القائد " أبو السعيد " خالد الحسن فأن رئيس المعهد الرفيق " اخراموفتش" ظل ملتزماً في حضوره حتى النهاية ،كانت النقاشات حادة وشديدة في بعض الأحيان وسلسلة عبر السرد ألمعلوماتي للنتائج المبنية على واقع الأحداث في أحيان أخرى ، وأخيراً تمت عملية التصويت وفازت الأطروحة بإجماع الحاضرين من أعضاء المجلس العلمي وبدون أي معترض وبدون أي ممتنع عن التصويت ، وأمام هذه المفاجأة السارة وقف الأخ خالد الحسن ليلقي كلمة فلسفية مُعبرة عن كفاح ونضال الشعب الفلسطيني وعن العباقرة الفلسطينيين المنتشرين بحكم واقع التشرد القسري المفروض عليهم وعلى شعبهم في كافة إرجاء الكرة الأرضية ، في حين تمنى الرفيق " أخراموفتش " في كلمته القصيرة والمقتضبة على الطلبة السوفييت والروس الدارسين في المعهد أن يحتذوا بهذا المثال المتجسد في كفاح ونجاح وتفوق هذا الطالب الفلسطيني، بعد ذلك خرجنا من قاعة المجلس العلمي وحيث التقى الرفيق " أخراموفتش " في مكتبه بحضوري وحضور الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر مع الأخ أبو السعيد خالد الحسن ولمدة ساعة أخرى تحدث فيها عن المعاناة الشديدة التي يتعرض لها الجنود السوفييت في أفغانستان ، وباعتبار أنه قد حضر قبل يومين من هناك وحيث أمضى في " كابول " مدة أسبوع وقال: مختتماً حديثة انه رفع تقريراً بوجهة نظره للقيادة المركزية يوصي فيه بضرورة الإسراع في الانسحاب من المستنقع الأفغاني . وهو الأمر الذي توقف عنده الأخ أبو السعيد خالد الحسن عديد المرات في حواره اللاحق معي فانسحاب القوات السوفييتية ومن وجهه نظره تعني أن هناك تحولات استراتيجية كبيرة تنتظر مجمل السياسات الخارجية السوفييتية وربما أيضاً وكذلك على الصعيد الداخلي . وعند عودته إلى مقر القيادة في تونس علمت أنه تحدث مطولاً في اجتماع اللجنة المركزية للحركة عن الأطروحة والمعهد والسياسات السوفييتية الجديدة ، كما أشاد بالدكتور كامل قائلاً: " انه اكتشف فيه عقلاً ذكياً ولامعاً بل وربما يكون من انضف وأذكى العقول الفلسطينية على الإطلاق" ولهذا ولذلك لم يكن من اللائق بتاتاً أن لا أقوم بزيارته والسلام عليه كلما تتاح لي الفرصة بالسفر إلى تونس وقد حدث هذا بالفعل عديد المرات الاّ أن زيارتي له في منتصف عام 1985م حملت طابعاً أخراً بل وكادت أن تكون نقطة تحول كبيرة في مسار المهمة التي أقوم بها مع الرئيس عرفات في الاتحاد السوفييتي ، قال لي وبالحرف الواحد اسمعني جيداً يابُني .... أنت دكتور كبير وأكاديمي لامع وعقل استراتيجي ليس من السهل الاستغناء عنه أو تعويضه ، ولذلك لا أريد لك الاستمرار في تنفيذ مهمات المشاكل العويصة في الاتحاد السوفييتي ، ياسر عرفات يريد منك العمل معه وبكل الوسائل لإبعاد رامي الشاعر وبعض الموظفين عن السفارة وهذا من حقه ولكن ليس من حقه أن يزج بك في هذه المعركة بالذات وأنت العقل والطاقة والفكر الاستراتيجي المتنور والمنفتح على كافة السياسات الإقليمية والدولية ، وعليه أن يُكلف أناس آخرين للقيام بما يريد من أعمال ومهمات هناك، أن مكتب وسفارة فلسطين في موسكو والذي لا يزيد حجمه عن حجم الجهاز التناسلي للعقربة يحوي بداخله معادلات كل جواسيس الكون وأنت تقف في وجه هذه المعادلات وحيداً وبلا سند حقيقي وهي المعادلات التي تلاحق الرئيس عرفات نفسه ولا مقارنة بالتأكيد بين حجمك الصغير والمتواضع وحجم الرئيس عرفات فهو أقدر منك على المواجهة والتحمل، وعليه أن يتدبر الأمر بطريقة أخرى إذا كنت تريد الزواج فلك هذا مني وعلى نفقتي وحسابي ، وإذا كنت تحتاج للنقود فخذها من عندي علماً بأنني متهم بالبخل كما يشاع عني، يجب أن نعمل سوية ونبحث لك عن موقع لائق نعتمد من خلاله عليك وعلى قدراتك العقلية المستنيرة فألى متى سنظل نسخر طاقة المثقف والمتعلم في خدمة الأمي؟ وهو واقع الحال الذي نعيشه على صعيد الثورة ومنظمة التحرير . أخي أبو عمار ومع احترامي الشديد لشخصه تعود أن يعد الشهداء وأنت أصبحت مشروع شهادة مع وقف التنفيذ، وفي كل يوم وفي كل ساعة يمكن أن تنجح بعض هذه القوى الشيطانية في اغتيالك، سيبكيك عرفات على طريقته الخاصة ويؤبنك ويقيم على روحك الطاهرة عدة ولائم ويعلق لك ملصق فوق رأسه ولمدة ثلاثة أيام فقط ومن ثم ينساك ولا يتذكرك تحت ضغط وقائع الحياة .أنصحك بالاعتذار عن إكمال هذه المهمة ودعه يغضب منك وعليك لبعض الوقت فنحن سنكون معك ولن نخذلك إلى أن يستفيق من غضبته وتعود المياه إلى مجاريها "كالعادة وزيادة". ودعته وخرجت مصدوماً وملخوماً مما سمعت وعند لقائي الأخ هايل عبد الحميد أبو الهول مساءاً صارحته بحقيقة الأمر وما جرى ودار من حديث بيني وبين الأخ أبو السعيد خالد الحسن.
امتقع وجهه من شدة المفاجأة ، كان غاضباً وقد بدأت على ملامحه علامات الحنق بالرغم من ابتسامته الظاهرة وقال لي بصوته الخفيض الناعم وماذا ستفعل على ضوء ذلك مع الأخ الرئيس؟ فأجبته على الفور يا أخ أبو الهول جئت إليك وانتظر منك حلاًَ لهذه الألغاز، فأنت الأدرى والأعلم بما يجري قال لي وهو يضحك بعد أن تمالك نفسه: يبدو أن "أبو السعيد" خالد الحسن قد تمكن منّي قبل أن يتمكن منك، أقواله منطقية وصحيحة إلى حد كبير، فأنت تعيش في الخطر وتكابد ويلاته لحظة بلحظة وأبو عمار يقودنا تاريخياً عبر قوافل من الشهداء، ولكن لماذا الخوف؟ ونحن جميعاً مشاريع شهادة، أنت يا دكتور تؤدي واجبك في مهمة عظيمة وليس من المعقول أو السهل عليك وعلينا أن نتراجع في مُنتصف الطريق، سأبلغ الأخ أبو عمار اختصاراً بما جرى وحتى نمنحه الفرصة الكافية للتفكير في الأمر، قبل أن تمر عليه وتسمع منه الإجابة ، ولكن إياك ثم إياك أن تهتز أو تجبن أمام المصاعب ، وما يهمني في النهاية هو أن تبقى علاقتك القوية مع الأخ الرئيس وهو بالمناسبة يعزك كثيراً ويعتز بك أكثر وخاصة في غيابك فهو دائماً يذكرك بالخير وبنوع من الحنان الأبوي الصادق . في اليوم التالي وفي ساعة متأخرة من المساء التقيت مع الأخ الرئيس في مكتب الأخ " أبو جهاد " خليل الوزير، جلسنا في غرفة معزولة صغيرة على أريكتين متقابلتين تفصل بينهما منضدة صغيرة كان هناك أيضاً "حربي المالية " وقد طلب منه الأخ أبو عمار إحضار فنجانين من القهوة ومن ثم إغلاق الباب نظر إليّ بنوع من الرجاء والعطف وطلب مني إشعال سيجارة ، اعتذرت وامتنعت وقلت له: احتراماً لسيادتك لن أدخن أمامك، قال لا خذ راحتك وأشعل السيجارة قبل أن نبدأ حديثنا ، وهو ما تم بالفعل أشعلت السيجارة بينما بدأ هو بالحديث قائلاً: لقد علمت كل شيء من الأخ هايل عبد الحميد "أبو الهول" أنت على حق والأخ أبو الهول على حق والأخ أبو السعيد سامحه الله إلى حد كبير على حق ، ولكن فلسطين تنتظر مني ومنك ومن الأخوين أبو السعيد وأبو الهول انتصاراً لها بالحق ونحن جميعاً مشاريع شهادة ولن نخذلها وأرجوك أن تستمع مني جيداً لهذه القصة، كان هناك ذئب يسطو ليلاً على حظائر القرية مع ابنه بحثاً عن وليمة من الدجاج وفي إحدى الليالي استفاق عليه أهل القرية فخرجوا بالنبابيت والعصي مهرولين للامساك به مع ابنه ، وبينما كان يركض أمامهم طلباً للسلامة والنجاة تعب الابن وصاح بوالده، لقد تعبت يا أبتي من الركض ولا أعلم ولا أدرى لماذا يركض كل هؤلاء الناس وراءنا بكل هذه العصي والنبابيت؟ فرد عليه الأب قائلاً: " من كثرة ما أكلنا من دجاجهم" لا تستسلم للتعب وحاول الفرار معي قبل أن يفتكوا بنا . ابتسمت وقلت له لقد فهمتك يا أخ أبو عمار كما يجب وكما تريد وبدون تشبيه أنت الذئب وأنا ابن الذئب ، قال نعم وعليك أن تفهم أن التباطؤ والتراجع يعني هلاكنا فليس أمامنا من خيار إلاّ السير وبخطوات حثيثة ومُتسارعة إلى الأمام والآن قل لي لماذا تُصر دائماً على إحضار الفواتير لتغطية المبالغ المقرة لموازنة العمل؟ نحن يا كامل لا يوجد بيننا حساب، قلت له : بمناسبة الموازنة والاحتياجات هناك حاجة ماسة لمساعدة عدد من الطلبة وهم حوالي ثلاثين طالب من أبناء الحركة تم فصلهم من دراستهم للعديد من الأسباب ويرفض مكتب السفارة وبتعليمات من الأخ رامي الشاعر مساعدتهم على حل مشاكلهم الدراسية أو تقديم عون مالي طارئ لهم حتى تنتهي مشاكلهم سأحاول المساعدة على حل مشاكلهم جميعاً من خلال أصدقاءنا ولكن يلزمهم عون مالي وبواقع ثلاثمئة دولار لكل طالب وباعتقادي أن هذا المبلغ يكفي حتى ينتظموا مجدداً في دراستهم وتعود إليهم منحهم المالية المستحقة من وزارة التربية والتعليم السوفييتية عبر المعاهد والجامعات التي سيعودوا إليها، وبعد أن أطلعته على كشف الأسماء وقع كتاباً بالصرف العاجل بكافة المبالغ المطلوبة، نهضت مستأذناً من سيادته بالمغادرة بعد أن عاهدته على مواصلة مشوار المهمة وعلى طريقة الفاتح العربي "طارق بن زياد" عندما خاطب جنوده قائلاً: العدو من أمامكم والبحر من خلفكم ومالكم والله من سبيل غير النصر أو الشهادة.
عدت على وجه السرعة لمكتب الأخ أبو الهول وأبلغته بتفاصيل الحوار والاتفاق الذي جرى بيني وبين الأخ أبو عمار فوجدته يضحك من كل قلبه على التوصيف المتعلق بدجاج القرية وقال: منذ الآن أنت ابن الذئب والأخ أبو عمار الذئب ، وعليكم أن تتخلصوا بأي شكل من الأشكال من نبابيت الفلاحين وأرجو في نهاية المطاف ألا ينطبق علينا وتحت ضغط خلافاتنا الداخلية المثل القائل يا دكتور " ناس بتاكل دجاج وناس بتوقع في السياج" اذهب ورتب أمورك للسفر وتوكل على الله .
قلت له حسناً هذا ما سوف أفعله ولكن الأخ الرئيس طلب مني لقاء الأخ "أبو اللطف" فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية صباح الغد وإبلاغه سراً وبدون حضور أحد عن الموقف الرسمي للدولة السوفييتية من اتفاق عمان وعن رؤيتي وتوقعاتي حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي في غضون السنوات الخمس القادمة تحت ضغط الأزمات وصراعات مراكز القوى والتي تعصف بالبلاد، وقد كان ذلك وحيث التقيت مع الأخ أبو اللطف أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأحد أبرز القادة التاريخيين والمؤسسين على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح ، أبلغته على انفراد وعلى امتداد نصف ساعة برؤيتي حول واقع التناقضات المستفحلة التي يعاني منها الاتحاد السوفييتي والتي قد تؤدي إلى انهيار السلطة المركزية في نهاية المطاف وبروز عدد من الجمهوريات المستقلة على انقاضه كما أكدت له وبالتشديد على أن الموقف الرسمي للدولة اتجاه اتفاق عمان يختلف وإلى أبعد الحدود مع المواقف السوفييتية التي يجري تسويقها إعلامياً وعبر مؤسسة لجنة التضامن الأفروآسيوية وقسم الشرق الأوسط في المخابرات السوفييتية "كي جي بي" ، وعملياً فأن لديهم موقف واقعي مبني على استراتيجية توازن المصالح وهو أقل بكثير من اتفاق عمان نفسه ألاّ أنهم وفي إطار صراع الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية يحاولون وعبر تمرير المواقف الإعلامية المتصلبة توسيع شبكة النفوذ والمصالح الخاصة بالدولة على الصعيدين الدولي والإقليمي وفي إطار ما يمكن تسميته بشبكة العلاقات العامة التي يحاولون توسيعها وفي كل الاتجاهات وبقدر الممكن والمستطاع وهم وبلغة الواقع أسياد في لعبة الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم والفرق والتيارات والقوى المختلفة، وللأمانة والموضوعية فقد تفاعل الأخ أبو اللطف وبعمق مع هذه الرؤيا الجديدة حول الموقف السوفييتي ، كما ضحك كثيراً ومن كل قلبه على موضوعه شطارتهم في الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم وقال: كان لدي إحساس بهذا من خلال خلافاتي مع الأخ أبو عمار بسبب رفضي لإتفاق عمان ، ولكن الملعون رامي الشاعر ومن خلال موقعه المؤقت كقائم بالأعمال يبلغني بمواقف نقيضة لكل ما سمعته منك، ومواقفه هذه تزيد من شقة الخلافات الداخلية حول المواقف السياسية فيما بيننا في بعض الاحيان عندها تشجعت وقلت له إن الأخ رامي الشاعر ليس كوالده، ومواقفه تأتيكم بتعليمات من لجنة التضامن ومن قسم الشرق الأوسط في المخابرات، وهي ربما تكون نسخة كربونية على ورق فلسطيني لما يقوم بتعميمه وتسويقه عليكم ضابط محطتهم في السفارة السوفييتية في تونس "نيكولاي نيكولايفتش " خطأ وخطيئة رامي الشاعر في موقعه الرسمي كقائم بالأعمال أنه يرى الدولة السوفيتية فقط من خلال عيون فئة محددة ربما تفقد أهميتها وتأثيرها على الصعيد الاستراتيجي داخل الهرم الإداري للسلطة ا لحاكمة في المستقبل القريب، التفت إلى الأخ أبو اللطف وقال: سأجمع لك الآن بعض كوادر الدائرة السياسية لتتحدث معهم برفق ولطف عن كيفية توسيع شبكة علاقاتنا مع الاتحاد السوفييتي وعلى ضوء المتغيرات الجارية وبدون أن تتطرق إلى أي شيء عن المواضيع التي تحدثنا بها الآن على الإطلاق وحتى لا تلحق الأذى بنفسك ، وسنظل على تواصل وإن شاء الله دائماً نسمع منك الأخبار الطيبة وحاول من جهتك وقدر الامكان إبعاد الأخ القائم بالأعمال المؤقت رامي الشاعر عن مثل هذه التأثيرات الضارة بالمواقف الفلسطينية . وبالفعل فقد تحدثت مع بعض كوادر الدائرة السياسية في العموميات وبدون الخوض في المسائل الشائكة وكذلك عن الجهد الكبير الذي تبذله القيادات السوفييتية الجديدة في إطار عملية إعادة البناء والشفافية بقيادة الرفيق الرئيس ميخائيل سرجفتش قربتشوف.
خرجت من المكتب بعد أن أنهيت حديثي وتوجهت مجدداً حيث يجلس الأخ أبو اللطف طمأنته على كل شيء وسلمت عليه مودعاً وعلى أمل اللقاء به في مناسبات أخرى.
مع بداية تموز يوليو عدت إلى موسكو محملاً بالمتاع الطيب من الهدايا إلاّ أنني توقفت طويلاً عند مجموعة من العطور والنظارات الشمسية النسائية ، من الذي اشتراها ودسها بين المشتريات الأخرى؟ ولماذا؟ على العموم لا بأس 000، فعند عودتي مجدداً إلى تونس سوف أعرف من كان صاحب هذه الفكرة الجهنمية ، وباعتبار أنني ممنوع من ملاطفة الجنس الآخر تحت ضغط المسؤولية وخوفاً " من فضيحة الإسقاط" وهو الفخ الذي حذرني من الوقوع في شراكة الأخ الرئيس، سأقوم بتوزيعها على بعض الأصدقاء السوفييت فمن له زوجة أو صديقة أو ابنة بالغة سيفرح ربما بمثل هذه الهدية خاصة وأننا في فصل الصيف، والنظارة الشمسية مع زجاجة العطر لها قيمتها لمن تريد أن تصطاف على ضفاف الأنهار والبحيرات والبحار والخلجان السوفييتية الجميلة ، أحد الأصدقاء أبلغني مازحاً وهو يضحك بأن زوجته التي غضبت منه قبل عدة شهور بسبب استضافته لصديق أجنبي في بيتها "وكانت تقصدني" أثناء فترة عملها وهي مسؤولة قسم في وزارة التجارة وكادت أن تشي به لاعتبارات تتعلق بالخصوصيات الأمنية السائدة في تلك الفترة والتي تمنع على الموظفين الكبار في وزارات ومؤسسات الدولة القيام بمثل هذه الأمور، قبلت الهدية خاصة وأنها كانت بحاجة لنظارة شمسية من النوع الفاخر لاستخدامها عند الاستجمام على الشواطئ وهي تنوي قضاء جزءاً من عطلتها في منتجعات سوتشي.
بعد عدة أيام من وصولي تم إبلاغ الطلبة المفصولين بالمنحة المالية المقدمة إليهم من الرئيس عرفات وبتوجيهاته الحاسمة بضرورة العمل وبكافة الوسائل والأساليب الممكنة مع الأصدقاء السوفييت لحل مشاكلهم الدراسية وبما يضمن عودتهم مجدداً إلى مقاعد الدراسة ، وكما يبدو وكما اتضح لاحقاً وبشكل مكشوف فإن تطور الأوضاع على الساحة الطلابية وباتجاه نجاح التنظيم الحركي لحركة فتح في استعادة عافيته ودوره الطليعي من جهة والتقدم المتنامي للعلاقات الرسمية السوفييتية الفلسطينية بعيداً عن الدور التقليدي لمكتب السفارة الفلسطينية في موسكو من جهة أخرى أثار نوعاً من الارتباك لدى خصوم عرفات في الساحة السوفييتية وقد انعكس ذلك بوضوح من خلال المواقف والتصريحات والأفعال المتناقضة وهو الأمر الذي شجعني على فكرة اللقاء مجدداً بالأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر، وجدته يعلم مُسبقاً بلقائي مع الأخ القائد فاروق القدومي "أبو اللطف" وبالمداخلة التي تحدثت فيها مع بعض كوادر الدائرة السياسية عن العهد السوفييتي الجديد والقيادة الشابة وسياسات إعادة البناء والشفافية التي تنادي بها وتعمل على أساسها وبأمانة وللحقيقة فقد كنت أشعر بنوع من الود والتعاطف مع عائلة العميد السفير المرحوم محمد الشاعر فهي عائلة مناضلة كريمة ومحترمة تستحق كل الرعاية والاحترام من القيادة الفلسطينية ولهذا كُنت أحاول وبقدر المستطاع والمتاح إقناع الأخ رامي الشاعر بالابتعاد عن وساوس أصدقاء السوء والعمل على تطبيع علاقته المتوترة مع الأخ الرئيس أبو عمار، وأذكر أنني ذكرته بحادثة وفاة والده وكيف تنامي لدي شعور داخلي خاص أثناء مراسم التأبين وكأنني في تلك اللحظة الحزينة أشارك في تشييع جنازة والدي رحمه الله مما دفعني وتحت ضغط هذه المشاعر الغريبة إلى الاتصال مع الأهل في دير البلح وإذا بهم وعند سؤالي عن الوالد يفاجئوني بنبأ وفاته قبل عدة أيام. بعد ذلك وعبر استرسالنا في الحديث والحوار سألني وباستغراب هل فعلاً أنك نجحت وكما أسمع بفتح علاقات للأخ الرئيس أبو عمار معبعض الجهات السوفييتية ؟! قلت له نعم وهي علاقات جيدة ومبنية على التعاون والثقة المتبادلة . قال لي: ولكنني استفسرت وسألت عن ذلك جهات سوفييتية صديقة بدون فائدة ، قلت له : هذا شأن الجهات التي تسألها أو التي تثق بها، أنت سألتني وأنا أجبتك بمنتهي الوضوح والصراحة وعليك أن تصدقني وتثق بنصيحتي فنحن أخوة ولا أريدك أن تبقى أسيراً تتخبط في دائرة الأخطاء والخطايا، وأخشى ما أخشاه في هذا الصدد أن تصبح يا أخي العزيز جزءاً من مصالحهم في لعبة صراع مراكز القوى الدائرة بصمت فيما بينهم ، وقد تنامت عوامل الاسترابة من المواقف السياسية التي ترسل بها إلى مقر القيادة الفلسطينية في تونس، وعليك أن تعرف بأن الأعمار بيد الله ولكن الإهمال المقصود لحالة والدك الصحية في آخر أيامه كان يعبر عن إستياء وعداء بعض هؤلاء الأصدقاء الذين تتحدث عنهم لأسباب تتعلق بنشاطه الصادق على امتداد الشهور الأخيرة من حياته في مجال مكافحة الصهيونية والهجرة اليهودية. صمت لبرهة من الوقت وعاد ليقول هذا شأنك فيما أنت تفكر فيه وإن كنت على يقين بأنك على خطأ وبالمناسبة لا يوجد للسوفييت عدة مواقف بل موقف واحد وهو الذي أخاطب القيادة السياسية به عند الضرورة ، مع نهاية هذا العام ستنتهي إقامتك ولن يتم تجديدها وباعتبار أنك قد أنهيت الدراسة ولن يكون بمقدور مكتب السفارة التدخل في هذا الشأن وعليك أن تتدبر أمورك منذ الآن ، وأنصحك بالمغادرة لأن البعض منهم لم يعد يطيق سماع اسمك وأحياناً يتهمونك بترويج أفكار ومواقف سياسية معادية للدولة السوفييتية وللحزب الشيوعي السوفييتي بسبب خلافاتهم مع الأخ أبو عمار. ابتسمت وقلت له: يبدو أنك نسيت الجزء الأهم في ديباجة هذه الاتهامات "فهو عنصري ومعادي للسامية والجنس اليهودي" على العموم شكراً لك على هذه الصراحة الأخوية وأتمني عليك أن نتواصل باستمرار لتبادل المعلومات وحتى لا يتم الضحك علينا خاصة وأن إدارات العسس أصبحت جزءاً من الأزمة وشريكاً غير مؤتمن على صعيد تمرير المواقف والمعلومات. واعترف هنا وبمنتهي الصراحة بأنني كنت وحتى تلك اللحظة أعمل جهدي على تطبيع علاقته مع الأخ الرئيس أبو عمار وكنت أقصد من وراء صراحتي معه أن أدفعه بهذا الاتجاه إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما يقال، فهو عنيد ومليء بمشاعر الغرور والعظمة ويتصرف وكأنه يمتلك بين أصابعه كل مفاتيح اللعبة خاصة بعد فجيعتنا ونكستنا المريعة التي انتهت بطرد الأخ صخر حبش "أبو نزار" من موسكو وانتهاء مهمته كممثل وسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي بعد عدة أسابيع من تعيينه . ودعنا بعض بكل كياسة ولباقة وعلى أمل التواصل عند الضرورات إلا أنني أحسست في تلك الليلة بأن أشياء كثيرة قد تغيرت في قواعد اللعبة فهو يتحدث عن فترة وجيزة متبقية لي بحسب الإقامة الدراسية أي عدة شهور فقط وهناك من ينتظر بفارغ الصبر إنقضاء هذه المدة للمطالبة برحيلي عن البلاد وبمعني آخر فإن قضية الخلاص من وجودي المزعج أصبحت مطروحة وتنتظر الشكل المناسب والوقت والمناسب والتخريجة المناسبة في ظل توازنات الصراع المحتدم على المصالح بين مراكز القوى. أبلغت الأصدقاء بهذه الهواجس التي انتابتني فسارعوا جميعاً لطمأنتي بأن ذلك لن يحدث أبداً ، ولو كان بإمكان من يفكر بمثل هذه الأمور القدرة على تنفيذها لما تواني لحظة واحدة الاّ أنهم كانوا غير مرتاحين من شدة الحملة وشراستها التي بدأت تقوم بها شخصيات وتيارات بعضها محسوب على حركة فتح وبعضها على فصائل اليسار بغرض النيل من الرئيس عرفات من جهة وتشويه صورتي وبشكل غير لائق من جهة أخرى ، وعبر سيل من التقارير الكيدية والكاذبة، وأمام هذه المستجدات اتصلت مع الأخ أبو الهول في مكتبه فلم أجدة بسبب السفر ومن ثم عدت للاتصال مساءاً بالأخ المناضل لؤي عيسى وهو ابن أخت الأخ أبو الهول ومن الكوادر الطلابية النقابية الفاعلة والكبيرة فهو عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة فلسطين ولعدة دورات انتخابية وهو الاتحاد الذي كان في حينه مصنعاً للقيادات الشابة الفلسطينية وله عشرات الفروع المنتشرة في كافة القارات على الصعيد الدولي، وقد أوصاني الأخ ابو الهول وبالنظر لثقته العالية بقدرات الأخ لؤي عيسى الأمنية والسياسية الاتصال به عند الضرورة وباعتبار أنه يستطيع ايصال المعلومات والملاحظات المطلوبة في حال عدم تواجده في مقره في تونس، أبلغت الأخ لؤي بآخر المستجدات عن حملات الدبابير والزنابير التي تفرغ سمومها وأحقاد زيباناتها على أوراق التقارير الساقطة وبهدف الإساءة للأخ الرئيس عرفات وتشويه صورتي وعبر سيل من الاتهامات البغيضة وقد علمت منه أيضاً بأن لهذه الحملات قواعد ومكامن موجودة في العديد من مقراتنا في تونس وهي تعكس في نفس الوقت بعض أوجه الصراع الداخلي على صعيد اللجنة المركزية للحركة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وباعتبار أن موقع السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو يعتبر من المواقع الاستراتيجية الخطيرة بالنسبة إليهم جميعاً ، كما لفت نظري إلى أن بعض كوادر الدائرة السياسية من أصحاب العلاقات المصلحية مع رامي الشاعر يشاركون في هذه الحملة المسيئة، وعلى الفور وبعد انتهاء المكالمة استقر بي الرأي على ضرورة وأهمية النزول إلى مقر القيادة في تونس مع بداية شهر آب "أغسطس" لإستبيان حقيقة الأوضاع والمواقف المتوترة ومعرفة الأسباب التي تقف وراء حملات التشويه المغرضة وتبيان خطورة ذلك على واقع ومستقبل العلاقات السوفييتية الفلسطينية المهتزة أصلاً تحت ضغط الوقائع والمتغيرات التي تعصف بالكيانية السياسية للجانبين السوفييتي والفلسطيني.وقبل أسبوع من سفري التقيت بأحد الأصدقاء السوفييت المعروف بنشاطه السياسي الكبير وخبرته الأمنية الواسعة فهو وبالفعل يختزن في ذاكرته أرشيفاً من المعلومات المتعلقة بالأوضاع العربية والفلسطينية ، وقد بادرني بالاعتذار عن عدم تمكن البعض الآخر من الحضور بسبب الانشغال في عطلاتهم الصيفية، وشكرهم الجماعي على الهدايا التي حملتها معي في السفرة السابقة وخاصة قال : وهو يبتسم زجاجات العطور والنظارات الشمسية النسائية ، كان غير مرتاح للسرعة في عمليات التغيير وإعادة البناء فالموضوع يحتاج إلى قدر كبير من التروي وإلى حكمة السلحفاء وليس إلى روعنة الأرنب" ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة كما يقول المثل العربي " وعبر حواراتنا الأخرى أفادني بأنهم وبدون إعلامي وبالنظر لكثرة التقارير الحقيرة والتي وصلت عبر أطراف فلسطينية مختلفة ، قاموا وبطرقهم ووسائلهم الخاصة بالتحري والاستقصاء عني وعن تاريخ حياتي وعن أهلي في فلسطين، وهم يأسفون لفعل ذلك إلا أن ضرورات حسم المسألة ووقف هذا اللغظ التافة والغير مسؤول اقتضت ذلك ، وقد تبين لهم بأنني ابن لعائلة كريمة وبسيطة تعيش في دير البلح وقد تشتت شملها بفعل ضغوط الوقائع المفروضة بقوة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يوجد حالياً من أسرتي هناك وبعد وفاة والدي أحد سوى والدتي المسنة وأختي الغير متزوجة والتي تقوم على رعايتها ، كما يوجد لي أخت أخرى ترعي أحوال زوجها المقعد والمصاب برصاص الجيش الإسرائيلي مُنذ عام 1967م وأن سيرتي الاجتماعية والسياسية والأمنية ممتازة ولا غبار عليها من الناحية الوطنية ، وحيث تعرضت للسجن ولمدة أربعة سنوات ولملاحقة واضطهاد الإسرائيليين بعد ذلك ، وأن الجميع هناك مُشتاقون لي ويفتخرون بما قمت وأقوم به من أعمال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
واعترف أنني ومن شدة المفاجأة أصبت بنوبة من الذهول والإشمئزاز وإن كنت أقدر لهم هذا الجهد الحريص، فهم يمثلون دولة عظمى تقود نصف العالم في مواجهتها مع الإمبريالية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبحت بالنسبة لما يمثلوه حالة هامة وهامة للغاية وباعتباري حلقة الوصل الوحيدة المتبقية للرئيس عرفات مع السلطة السوفييتية والقيادة الجديدة منها على وجه الخصوص قلت له : وبعد أن تمالكت نفسي سأبلغ الرئيس عرفات والأخ أبو الهول بذلك فرد بالقول: وعليك أيضاً إبلاغهم بأنه ليس من اللائق أن يذهب الرفيق أبو جعفر وهو المساعد الأول لرئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية لسفارتنا في تونس ويسلم المسؤولين فيها رسالة تؤكد على رفضهم لكل مقترحات الرئيس عرفات بخصوص تعيينك ممثل أو سفير فوق العادة للمنظمة في موسكو وباعتبار أنك تعمل على تخريب العلاقات السوفييتية الفلسطينية ومن خلال أقوال منسوبة إليك حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي وزواله عن الخارطة السياسية للأمم في غضون السنوات الخمس القادمة . نحن أيها الصديق والأخ العزيز لم نعد بحاجة إليهم وللعلاقات المريضة والموبوءة معهم ، فهذا نوع تافة من اليسار العاجز تاريخياً وقد وجدوا في منظمة التحرير مظلة ملائمة يحتمون بها لستر عجزهم ، وبدون حركة فتح وبدون ياسر عرفات لا معنى ولا قيمة لوجودهم بالمطلق وعلى الإطلاق بهذه الطريقة نحن نعيد قراءة الواقع، لذلك أرجو تذكير الرئيس عرفات بأهمية إرسال رسالة كبيرة ومرتبة في أفكارها لتهنئة القيادة السوفييتية الجديدة والرئيس ميخائيل سرجفتش جربتشوف بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر المجيدة وسنعمل بالتأكيد على نشرها وبشكل مٌلفت في وسائل الإعلام والصحف المركزية السوفييتية . أما القضية الأخيرة والتي عليكم الانتباه لها مع إنني غير مخول بالحديث عنها بالنظر لخطورتها وسريتها معكم أو مع غيركم ولكنها تصيب في الصميم عملنا القائم على التعاون المشترك وهي: أنه يوجد لدينا حالة اشتباه خطيرة تتعلق بعمل شخصية أمنية مسؤولة في سفارتنا بتونس ولهذا: أطلب من الرئيس عرفات والرفيق أبو الهول الضغط على الجميع طرفكم لتقليص حجم الاعتماد على السفارة عند إرسال التقارير المتعلقة بالمعلومات والمواقف الأمنية والسياسية، ودعته بعد أن استمع مني الكثير من عبارات الشكر على هذا الجهد النبيل والشريف والذي يعبر عن روح المسؤولية الأخلاقية والحرص الأكيد على تكريس نوع جديد من علاقات التعاون المشترك بين م.ت.ف والاتحاد السوفييتي وبين الرئيس عرفات والرفيق جربتشوف على وجه التحديد.
نزلت إلى تونس وفي تونس هذه المرة بدأ غبار المعركة يتصاعد وهو يحمل في داخله نذر مواجهة شديدة وشرسة على الصعيد الداخلي بين أطراف وأقطاب اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير، وقد كان لوضع السفارة الفلسطينية في موسكو والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي مساحته الكبيرة في خلافات هذه المعركة ، بالإضافة إلى توابع اتفاق عمان الموقع بالأحرف الأولى بين الرئيس عرفات والملك حسين، وهذا ما تم توضيحه في لقائي مع الأخ أبو الهول والذي كان يبدي تفاؤلاً بتجاوز كل هذه العقبات والصعاب وعلى قاعدة خلق حالة من الوفاق الداخلي في صفوف حركة فتح تسمح في النهاية بلم الوضع في الساحة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير من جديد وبالنظر لأهمية وخطورة المعلومات التي استمع اليها طلب مني التكتم عليها والاكتفاء فقط باعلام الأخ أبو عمار ، وهو لذلك اتصل هاتفياً أثناء وجودي معه بالرئيس وطلب منه تحديد موعد لمقابلتي على انفراد ، فكان ذلك في تمام الساعة السادسة والنصف بعد العصر وقبل المغرب في مكتب الأخ حكم بلعاوي" أبو مروان " أي في داخل السفارة الفلسطينية، ذهبت إلى هناك وبحسب الموعد وبدون أن أنسى وصية الأخ أبو الهول حول نتف وبر "أبو حجلة" أي الأخ أبو جعفر ، أمام الأخ الرئيس إذا سمحت الفرصة بذلك، وهو ما تم بالفعل فبعد أن سجل أبو عمار العديد من الملاحظات على ورقة صغيرة أمامه وبما في ذلك ضرورة إرسال رسالة ا لتهنئة بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر الاشتراكية نظر إليّ وقال : الرسالة وبالتأكيد وبحسب علمي وفي مثل هذه المناسبة أهم بكثير من البرقية، ثم استطرد قائلاً : "الجواسيس عاوزين يعملوا منك جاسوس إسرائيلي بأي طريقة زي ما بحاولوا تصويري وكأني عميل إمبريالي مخضرم000 ولكن فشروا ،إحنا وياهم والزمن طويل" قلت له : ولكن يا أخ أبو عمار فعلة أبو جعفر تؤذينا وتؤذي علاقاتنا المتنامية مع الأصدقاء السوفييت فرد بسخط وهو يكتم موجة من الغضب بداخله، اتركه لي وغدا ستسمع وترى ماذا سأفعل به، المهم أن تعود أنت بسرعة إلى موسكو ولا تجعل من هذه المشاكل والخلافات قضية تؤثر على عملك ونشاطك . ودعته وخرجت وفي ساعة متأخرة من الليل التقيت مجدداً بالأخ أبو الهول وكان في حالة معنوية مريحة أبلغته بكل ما جرى فقال لي وبعد خروجك من عنده مباشرة انفجر على الهاتف في وجه أبو جعفر ولمدة نصف ساعة وبطريقة مؤذية للغاية المهم الآن أن تقوم بترتيب أمورك للسفر ونحن معك وتوكل على الله. في اليوم التالي التقيت مع الأخ حكم بلعاوي "أبو مروان" وأبلغته بقصة النظارات الشمسية والعطور فابتسم وقال: انت يا دكتور وجه خير وبتستاهل كل خير ويبدوا أن أحد " الزعران " اجتهد أكثر من اللازم عندما أمرتهم بتوضيب بعض الهدايا . الرئيس مرتاح جداً من عملك ونشاطك وأنا أتابع أمورك معه باستمرار، ودائماً خلي شعارك أمامك " الكلاب تنبح والقافلة تسير" وإذا مش عاجبك هذا الشعار استخدم شعار صاحبك أبو عمار "يا جبل ما يهزك ريح " لكن 000 يا دكتور " طيب في جبال بتخلعها الرياح العاتية من أساسها صاحبنا مش دارس جغرافيا كويس" المهم الحمد لله على سلامتك وإن شاء الله سوف نستمر في سماع أخبارك الطيبة، وبعد أن شكرته على حسن الضيافة ودعته وذهبت للراحة في الفندق وباعتبار أنني سأمكث في تونس عدة أيام بانتظار الرحلة الأسبوعية لطائرة " الأيروفلوت" السوفييتية ، وفي صبيحة ا ليوم قبل الأخير على موعد السفر والطائرة اتصل بي على هاتف الفندق الأخ عضو المجلس الثوري لحركة فتح والسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في عدن أي في "جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية" الأخ "أبو مشعل" عباس زكي وقال : أنه سمع بوجودي وسيحضر بعد نصف ساعة للدردشة معي والتعرف على أحوال البلاد السوفييتية، رحبت به ونزلت إلى قاعة ومقهى خاص بالزوار بغرض انتظاره والترحيب به، حضر الرجل وبعد تبادل عبارات الترحيب وتقديم واجبات الضيافة دخل في الموضوع وبدون مقدمات قائلاً: اسمع يا دكتور الاتحاد السوفييتي دولة عظمي وليس من المعقول أن " يبقى شاب مبتدئ " بمستوى وحجم رامي الشاعر يتحكم في العلاقات الفلسطينية السوفييتية لهذا فقد تحدثت مع الأخ أبو إياد بما يكفي في هذا الموضوع وهو عاتب عليك كثيراً لأنك وعلى امتداد العامين الأخيرين لم تتصل به ولو لمرة واحدة وأنت تعلم أنه يعتبر نفسه قيادياً في مستوى الأخ أبو عمار على صعيد الحركة والمنظمة، لا داعي للعتب فالرجل يحترمك كثيراً ويقدر لك موهبتك وشجاعتك وصمودك في وجه التحديات والصعوبات وهو ينتظرك الآن في مكتبه وعليك أن تتحرك معي لمقابلته، واعترف بأنني قد ترددت لبعض الوقت بسبب الخلافات المستفحلة على الصعيد الداخلي وفي النهاية قمت معه واتجهنا في سيارته إلى مكتب الأمن الموحد . استقبلني الأخ القائد أبو إياد بابتسامة عريضة وقال مازحاً وهو يرحب بي الحمد لله على سلامتك، في بيروت كنت تعرف عنواننا جيداً وهنا في تونس سقط منك سهواً وبعد ربع ساعة من الحوار الدافئ والمريح أمسك بدفتر من الحجم الكبير وقلم وبدأ يكتب وبعد أن وقع باسمه تحت نهاية السطور في الورقة قال لي: خذها وأقرأها جيداً ومن ثم ضعها في هذا المظروف، أنها رسالة مني لرامي الشاعر وأطلب منه فيها وبالأمر أن يتعاون معك في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بأمور السفارة وأتمني عليك وعليه أن تكونا على قلب رجل واحد في مواجهة الصعاب والملمات من أجل فلسطين، وإذا رفض كلامي وتمرد عليه تصرف بصورة من الرسالة بالطريقة المناسبة والتي تعجبك وتقوي من وجودك هناك، اعتقد أنك لمّاح وذكي جداً وقد فهمت مقصدي ، ونهض من مكانه وصافحني مودعاً بحرارة وعلى أمل اللقاء وسماع الأخبار الطيبة .
عدت إلى الفندق بعد أن شكرت الأخ "أبو مشعل" عباس زكي على هذه المبادرة الشجاعة والجرئية، وفي مساء ذلك اليوم ذهبت لوداع الأخ أبو الهول وقد أبلغته بما جرى كما قرأ رسالة الأخ القائد أبو إياد المرسلة معي للأخ رامي الشاعر بتمعن وإمعان شديد ، ومن ثم ضحك من قلبه وهو يبادرني بالسؤال مستفسراً عن سر هذا التحول المفاجئ ، قلت له لا علم لي وربما أجد لديكم التفسير المناسب والجواب الشافي ، فرد بالقول أن الأخ أبو إياد في موقفه هذا يقدم لنا أحجية بعدة ألغاز بعضها يسهل تفسيره وبعضها الآخر سيبقى سراً غامضاً صعب التفسير ولفترة من الوقت بانتظار المتغيرات والمستجدات اللاحقة ، كل ما أستطيع قوله الآن أنه ربما سيعمل لاحقاً على قبول ترشيح الأخ عباس زكي لمنصب السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو، وهو وإن كان مضطراً وللحفاظ على علاقته مع بعض الأطراف الأمنية السوفيتية المحتجة على عملك ووجودك يؤلب زبانيته للعمل العلني ضدك وباعتبار أنك تمثل الرئيس عرفات فقط فإنه وفي نفس الوقت يريد حمايتك منهم وقد سلحك بهذه الرسالة لهذه الغاية على وجه التحديد، عموماً عند عودة الأخ الرئيس أبو عمار من عمان سأقوم بعرض الموضوع عليه والاستماع لتوجيهاته بهذا الصدد، اذهب الآن ورتب أمورك للسفر فأمامك رحلة شاقة وطويلة وإن شاء الله نلتقي في القريب العاجل وفي ظروف أفضل من هذه الظروف الصعبة والقاسية علينا جميعاً، وعليك أن تفهم وتدرك دائماًَ حقيقة واحدة وهي أننا نختلف ونتشاجر فيما بيننا لكي نتفق ولا سبيل أمامنا في هذه المسيرة الشاقة إلا سبيل التفاهم والوفاق والتآخي والمحبة.
حظي كتاب الدكتور اللواء المتقاعد كامل أبو عيسى والمنشور بعنوان " لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات " باهتمام الأوساط الثقافية والسياسية وقد نشرت صحيفة الأهرام المصرية خبرا خاصا ومهما عن الكتاب بتاريخ 24/6/2009 ولهذا وللأهمية فان دنيا الوطن وبمناسبة انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح والذكرى السنوية لميلاد الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات " أبو عمار " تنفرد بنشر الفصل الرابع من الكتاب والمعروف باسم " الذئب وابن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن ":
الفصل الرابع :
"الذئب وأبن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن"
كان " أبو السعيد" خالد الحسن فيلسوف وحكيم الواقعية الثورية في الساحة الفلسطينية وكان عضواً فاعلاً ومؤسساً على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح، ولهذا فأن زيارته للاتحاد السوفييتي وفي إطار وفد حركي عالي المستوى مع بداية شهر نوفمبر من عام 1984م ربما تعني الكثير لمن يفهم ويُحلل بواطن الأمور، فهو اليميني المتهم دائماً وأبداً من قبل فصائل اليسار الفلسطيني بالانحياز للأنظمة الرجعية العربية والتفريط السياسي على صعيد القضية الفلسطينية وهو صاحب المذكرات الشهيرة والتي أحدثت ضجة بعد نشرها مُنذ مدة وتحت عنوان مذكرات " حمار وطني " كما كانت له المساهمة الرئيسية في إنجاز مسودة مبادئ اتفاق عمان والذي تم توقيعه فيما بعد بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية، ذهبت للسلام عليه وعلى بقية أعضاء الوفد مع لفيف من الكوادر الطلابية والحركية المتواجدة في ساحة الاتحاد السوفييتي ، وقد أطلعته في حينه على المذكرة الدفاعية التي أعددتها للدفاع عن أطروحتي كما قدمت له الدعوة لحضور مناقشة الأطروحة في يوم التخرج وأبلغته بأنني قدمت دعوة مماثلة للأخ القائد محمود عباس " أبو مازن "، وفي اليوم التالي اتصلت به للتأكيد على موعد الدعوة وضرورة حضوره وحتى يتمكن مسؤولي معهد آسيا وأفريقيا من تحضير أنفسهم لاستقبال الضيوف الفلسطينيين ، أبلغني الأخ أبو السعيد خالد الحسن بأن الأخ أبو مازن اضطر للسفر بشكل مُفاجئ وأنه سيحضر شخصياً لينوب عن الأخ أبو مازن وعن نفسه مبدياً في نفس الوقت إعجابه بالنصوص السياسية الواردة في المذكرة الدفاعية وخاصة لجهة تأكيدها على المكانة الريادية والقيادية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في قيادة النضال الوطني وتركيزها على م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ودفاعها الواضح والصريح عن مكانة وزعامة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بالإضافة إلى رفضها لسياسات العبث السورية في الشأن الداخلي الفلسطيني واعتبار أن العدوان الإسرائيلي ضد لبنان في عام 1982م لم يستهدف فقط القضاء على قوات الثورة الفلسطينية وترحيل م.ت.ف وقياداتها السياسية من بيروت وسائر الأراضي اللبنانية وإنما بالأساس يحمل في أهدافه ونتائجه خطة أمريكية إسرائيلية لبلقنة منطقة المشرق العربي " وبلاد الشام" على وجه الخصوص وعبر هدم المنظومة الكيانية القائمة لحساب منظومة جديدة مكونة من عديد الدويلات الطائفية وعلى أسس عرقية ودينية تبدأ بالعراق وتنتهي بسوريا ولبنان وشرق الأردن وحيث تخضع هذه الكيانات الطائفية والدينية والعرقية الهزيلة لسطوة الكيان الصهيوني في إطار مشروع الهيمنة الأمريكي المعد لعموم المنطقة ، فمن يسيطر على منطقة القلب يسهل عليه الزحف والسيطرة على منطقة الأطراف ومنابع النفط في شبة الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.
طقوس عملية الدفاع عن الأطروحة وبهدف نيل شهادة الدكتوراة ليست بالسهلة أو اليسيرة فهي تخضع لمجموعة من الشروط والمراحل التي يجب تنفيذها واجتيازها فقبل موعد الجلسة بثلاثة شهور أي قبل التئام شمل المجلس العلمي المكون من أربعة وعشرين أستاذ كرسي من البروفسورات وحملة شهادة الدكتوراة المتخصصين بالدراسات الشرقية وسياسات الشرق الأوسط والمنطقة العربية والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تمت طباعة الملخص الشامل والجامع عن الرسالة وبحدود الخمسين صفحة من الحجم المتوسط باسم الباحث أي طالب الدراسات العليا المتقدم بالبحث لنيل الشهادة "أي باسمي " بالإضافة إلى أسماء الدكتور المشرف والدكتور المساعد وكذلك أسماء الدكاترة النقاد لأهمية وقيمة العمل المقدم هذا بالإضافة لمشاركة معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية.
ولهذا ولذلك كان لحضور الأخ أبو السعيد خالد الحسن أهمية خاصة وأهمية كبيرة فهو سيشارك ومن موقعه القيادي في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة وسيتعرف عن قرب على صانعي السياسات الاستراتيجية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية من جهة أخرى وسيعتمد في حوارا ته اللاحقة مع القيادات السوفييتية على المذكرة الدفاعية التي أعددتها في حال إقرارها من قبل أعضاء المجلس العلمي.
حضر الأخ أبو السعيد خالد الحسن في تمام الساعة العاشرة صباحاً وبرفقته عدد كبير من الكوادر الفلسطينية وموظفي السفارة وفي مقدمتهم جميعاً الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر وكان في استقباله حشد كبير من طلبة المعهد وموظفو الإدارات وعلى رأسهم مدير عام المعهد رئيس اللجنة العالمية للحفاظ على التراث الفلسطيني التابعة للأمم المتحدة وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي البروفسور " اَخراموفتش". استمر المجلس العلمي في انعقاده لمدة سبعة ساعات متواصلة تخللتها نصف ساعة فقط للراحة، وبالنظر لوجود الأخ القائد " أبو السعيد " خالد الحسن فأن رئيس المعهد الرفيق " اخراموفتش" ظل ملتزماً في حضوره حتى النهاية ،كانت النقاشات حادة وشديدة في بعض الأحيان وسلسلة عبر السرد ألمعلوماتي للنتائج المبنية على واقع الأحداث في أحيان أخرى ، وأخيراً تمت عملية التصويت وفازت الأطروحة بإجماع الحاضرين من أعضاء المجلس العلمي وبدون أي معترض وبدون أي ممتنع عن التصويت ، وأمام هذه المفاجأة السارة وقف الأخ خالد الحسن ليلقي كلمة فلسفية مُعبرة عن كفاح ونضال الشعب الفلسطيني وعن العباقرة الفلسطينيين المنتشرين بحكم واقع التشرد القسري المفروض عليهم وعلى شعبهم في كافة إرجاء الكرة الأرضية ، في حين تمنى الرفيق " أخراموفتش " في كلمته القصيرة والمقتضبة على الطلبة السوفييت والروس الدارسين في المعهد أن يحتذوا بهذا المثال المتجسد في كفاح ونجاح وتفوق هذا الطالب الفلسطيني، بعد ذلك خرجنا من قاعة المجلس العلمي وحيث التقى الرفيق " أخراموفتش " في مكتبه بحضوري وحضور الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر مع الأخ أبو السعيد خالد الحسن ولمدة ساعة أخرى تحدث فيها عن المعاناة الشديدة التي يتعرض لها الجنود السوفييت في أفغانستان ، وباعتبار أنه قد حضر قبل يومين من هناك وحيث أمضى في " كابول " مدة أسبوع وقال: مختتماً حديثة انه رفع تقريراً بوجهة نظره للقيادة المركزية يوصي فيه بضرورة الإسراع في الانسحاب من المستنقع الأفغاني . وهو الأمر الذي توقف عنده الأخ أبو السعيد خالد الحسن عديد المرات في حواره اللاحق معي فانسحاب القوات السوفييتية ومن وجهه نظره تعني أن هناك تحولات استراتيجية كبيرة تنتظر مجمل السياسات الخارجية السوفييتية وربما أيضاً وكذلك على الصعيد الداخلي . وعند عودته إلى مقر القيادة في تونس علمت أنه تحدث مطولاً في اجتماع اللجنة المركزية للحركة عن الأطروحة والمعهد والسياسات السوفييتية الجديدة ، كما أشاد بالدكتور كامل قائلاً: " انه اكتشف فيه عقلاً ذكياً ولامعاً بل وربما يكون من انضف وأذكى العقول الفلسطينية على الإطلاق" ولهذا ولذلك لم يكن من اللائق بتاتاً أن لا أقوم بزيارته والسلام عليه كلما تتاح لي الفرصة بالسفر إلى تونس وقد حدث هذا بالفعل عديد المرات الاّ أن زيارتي له في منتصف عام 1985م حملت طابعاً أخراً بل وكادت أن تكون نقطة تحول كبيرة في مسار المهمة التي أقوم بها مع الرئيس عرفات في الاتحاد السوفييتي ، قال لي وبالحرف الواحد اسمعني جيداً يابُني .... أنت دكتور كبير وأكاديمي لامع وعقل استراتيجي ليس من السهل الاستغناء عنه أو تعويضه ، ولذلك لا أريد لك الاستمرار في تنفيذ مهمات المشاكل العويصة في الاتحاد السوفييتي ، ياسر عرفات يريد منك العمل معه وبكل الوسائل لإبعاد رامي الشاعر وبعض الموظفين عن السفارة وهذا من حقه ولكن ليس من حقه أن يزج بك في هذه المعركة بالذات وأنت العقل والطاقة والفكر الاستراتيجي المتنور والمنفتح على كافة السياسات الإقليمية والدولية ، وعليه أن يُكلف أناس آخرين للقيام بما يريد من أعمال ومهمات هناك، أن مكتب وسفارة فلسطين في موسكو والذي لا يزيد حجمه عن حجم الجهاز التناسلي للعقربة يحوي بداخله معادلات كل جواسيس الكون وأنت تقف في وجه هذه المعادلات وحيداً وبلا سند حقيقي وهي المعادلات التي تلاحق الرئيس عرفات نفسه ولا مقارنة بالتأكيد بين حجمك الصغير والمتواضع وحجم الرئيس عرفات فهو أقدر منك على المواجهة والتحمل، وعليه أن يتدبر الأمر بطريقة أخرى إذا كنت تريد الزواج فلك هذا مني وعلى نفقتي وحسابي ، وإذا كنت تحتاج للنقود فخذها من عندي علماً بأنني متهم بالبخل كما يشاع عني، يجب أن نعمل سوية ونبحث لك عن موقع لائق نعتمد من خلاله عليك وعلى قدراتك العقلية المستنيرة فألى متى سنظل نسخر طاقة المثقف والمتعلم في خدمة الأمي؟ وهو واقع الحال الذي نعيشه على صعيد الثورة ومنظمة التحرير . أخي أبو عمار ومع احترامي الشديد لشخصه تعود أن يعد الشهداء وأنت أصبحت مشروع شهادة مع وقف التنفيذ، وفي كل يوم وفي كل ساعة يمكن أن تنجح بعض هذه القوى الشيطانية في اغتيالك، سيبكيك عرفات على طريقته الخاصة ويؤبنك ويقيم على روحك الطاهرة عدة ولائم ويعلق لك ملصق فوق رأسه ولمدة ثلاثة أيام فقط ومن ثم ينساك ولا يتذكرك تحت ضغط وقائع الحياة .أنصحك بالاعتذار عن إكمال هذه المهمة ودعه يغضب منك وعليك لبعض الوقت فنحن سنكون معك ولن نخذلك إلى أن يستفيق من غضبته وتعود المياه إلى مجاريها "كالعادة وزيادة". ودعته وخرجت مصدوماً وملخوماً مما سمعت وعند لقائي الأخ هايل عبد الحميد أبو الهول مساءاً صارحته بحقيقة الأمر وما جرى ودار من حديث بيني وبين الأخ أبو السعيد خالد الحسن.
امتقع وجهه من شدة المفاجأة ، كان غاضباً وقد بدأت على ملامحه علامات الحنق بالرغم من ابتسامته الظاهرة وقال لي بصوته الخفيض الناعم وماذا ستفعل على ضوء ذلك مع الأخ الرئيس؟ فأجبته على الفور يا أخ أبو الهول جئت إليك وانتظر منك حلاًَ لهذه الألغاز، فأنت الأدرى والأعلم بما يجري قال لي وهو يضحك بعد أن تمالك نفسه: يبدو أن "أبو السعيد" خالد الحسن قد تمكن منّي قبل أن يتمكن منك، أقواله منطقية وصحيحة إلى حد كبير، فأنت تعيش في الخطر وتكابد ويلاته لحظة بلحظة وأبو عمار يقودنا تاريخياً عبر قوافل من الشهداء، ولكن لماذا الخوف؟ ونحن جميعاً مشاريع شهادة، أنت يا دكتور تؤدي واجبك في مهمة عظيمة وليس من المعقول أو السهل عليك وعلينا أن نتراجع في مُنتصف الطريق، سأبلغ الأخ أبو عمار اختصاراً بما جرى وحتى نمنحه الفرصة الكافية للتفكير في الأمر، قبل أن تمر عليه وتسمع منه الإجابة ، ولكن إياك ثم إياك أن تهتز أو تجبن أمام المصاعب ، وما يهمني في النهاية هو أن تبقى علاقتك القوية مع الأخ الرئيس وهو بالمناسبة يعزك كثيراً ويعتز بك أكثر وخاصة في غيابك فهو دائماً يذكرك بالخير وبنوع من الحنان الأبوي الصادق . في اليوم التالي وفي ساعة متأخرة من المساء التقيت مع الأخ الرئيس في مكتب الأخ " أبو جهاد " خليل الوزير، جلسنا في غرفة معزولة صغيرة على أريكتين متقابلتين تفصل بينهما منضدة صغيرة كان هناك أيضاً "حربي المالية " وقد طلب منه الأخ أبو عمار إحضار فنجانين من القهوة ومن ثم إغلاق الباب نظر إليّ بنوع من الرجاء والعطف وطلب مني إشعال سيجارة ، اعتذرت وامتنعت وقلت له: احتراماً لسيادتك لن أدخن أمامك، قال لا خذ راحتك وأشعل السيجارة قبل أن نبدأ حديثنا ، وهو ما تم بالفعل أشعلت السيجارة بينما بدأ هو بالحديث قائلاً: لقد علمت كل شيء من الأخ هايل عبد الحميد "أبو الهول" أنت على حق والأخ أبو الهول على حق والأخ أبو السعيد سامحه الله إلى حد كبير على حق ، ولكن فلسطين تنتظر مني ومنك ومن الأخوين أبو السعيد وأبو الهول انتصاراً لها بالحق ونحن جميعاً مشاريع شهادة ولن نخذلها وأرجوك أن تستمع مني جيداً لهذه القصة، كان هناك ذئب يسطو ليلاً على حظائر القرية مع ابنه بحثاً عن وليمة من الدجاج وفي إحدى الليالي استفاق عليه أهل القرية فخرجوا بالنبابيت والعصي مهرولين للامساك به مع ابنه ، وبينما كان يركض أمامهم طلباً للسلامة والنجاة تعب الابن وصاح بوالده، لقد تعبت يا أبتي من الركض ولا أعلم ولا أدرى لماذا يركض كل هؤلاء الناس وراءنا بكل هذه العصي والنبابيت؟ فرد عليه الأب قائلاً: " من كثرة ما أكلنا من دجاجهم" لا تستسلم للتعب وحاول الفرار معي قبل أن يفتكوا بنا . ابتسمت وقلت له لقد فهمتك يا أخ أبو عمار كما يجب وكما تريد وبدون تشبيه أنت الذئب وأنا ابن الذئب ، قال نعم وعليك أن تفهم أن التباطؤ والتراجع يعني هلاكنا فليس أمامنا من خيار إلاّ السير وبخطوات حثيثة ومُتسارعة إلى الأمام والآن قل لي لماذا تُصر دائماً على إحضار الفواتير لتغطية المبالغ المقرة لموازنة العمل؟ نحن يا كامل لا يوجد بيننا حساب، قلت له : بمناسبة الموازنة والاحتياجات هناك حاجة ماسة لمساعدة عدد من الطلبة وهم حوالي ثلاثين طالب من أبناء الحركة تم فصلهم من دراستهم للعديد من الأسباب ويرفض مكتب السفارة وبتعليمات من الأخ رامي الشاعر مساعدتهم على حل مشاكلهم الدراسية أو تقديم عون مالي طارئ لهم حتى تنتهي مشاكلهم سأحاول المساعدة على حل مشاكلهم جميعاً من خلال أصدقاءنا ولكن يلزمهم عون مالي وبواقع ثلاثمئة دولار لكل طالب وباعتقادي أن هذا المبلغ يكفي حتى ينتظموا مجدداً في دراستهم وتعود إليهم منحهم المالية المستحقة من وزارة التربية والتعليم السوفييتية عبر المعاهد والجامعات التي سيعودوا إليها، وبعد أن أطلعته على كشف الأسماء وقع كتاباً بالصرف العاجل بكافة المبالغ المطلوبة، نهضت مستأذناً من سيادته بالمغادرة بعد أن عاهدته على مواصلة مشوار المهمة وعلى طريقة الفاتح العربي "طارق بن زياد" عندما خاطب جنوده قائلاً: العدو من أمامكم والبحر من خلفكم ومالكم والله من سبيل غير النصر أو الشهادة.
عدت على وجه السرعة لمكتب الأخ أبو الهول وأبلغته بتفاصيل الحوار والاتفاق الذي جرى بيني وبين الأخ أبو عمار فوجدته يضحك من كل قلبه على التوصيف المتعلق بدجاج القرية وقال: منذ الآن أنت ابن الذئب والأخ أبو عمار الذئب ، وعليكم أن تتخلصوا بأي شكل من الأشكال من نبابيت الفلاحين وأرجو في نهاية المطاف ألا ينطبق علينا وتحت ضغط خلافاتنا الداخلية المثل القائل يا دكتور " ناس بتاكل دجاج وناس بتوقع في السياج" اذهب ورتب أمورك للسفر وتوكل على الله .
قلت له حسناً هذا ما سوف أفعله ولكن الأخ الرئيس طلب مني لقاء الأخ "أبو اللطف" فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية صباح الغد وإبلاغه سراً وبدون حضور أحد عن الموقف الرسمي للدولة السوفييتية من اتفاق عمان وعن رؤيتي وتوقعاتي حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي في غضون السنوات الخمس القادمة تحت ضغط الأزمات وصراعات مراكز القوى والتي تعصف بالبلاد، وقد كان ذلك وحيث التقيت مع الأخ أبو اللطف أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأحد أبرز القادة التاريخيين والمؤسسين على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح ، أبلغته على انفراد وعلى امتداد نصف ساعة برؤيتي حول واقع التناقضات المستفحلة التي يعاني منها الاتحاد السوفييتي والتي قد تؤدي إلى انهيار السلطة المركزية في نهاية المطاف وبروز عدد من الجمهوريات المستقلة على انقاضه كما أكدت له وبالتشديد على أن الموقف الرسمي للدولة اتجاه اتفاق عمان يختلف وإلى أبعد الحدود مع المواقف السوفييتية التي يجري تسويقها إعلامياً وعبر مؤسسة لجنة التضامن الأفروآسيوية وقسم الشرق الأوسط في المخابرات السوفييتية "كي جي بي" ، وعملياً فأن لديهم موقف واقعي مبني على استراتيجية توازن المصالح وهو أقل بكثير من اتفاق عمان نفسه ألاّ أنهم وفي إطار صراع الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية يحاولون وعبر تمرير المواقف الإعلامية المتصلبة توسيع شبكة النفوذ والمصالح الخاصة بالدولة على الصعيدين الدولي والإقليمي وفي إطار ما يمكن تسميته بشبكة العلاقات العامة التي يحاولون توسيعها وفي كل الاتجاهات وبقدر الممكن والمستطاع وهم وبلغة الواقع أسياد في لعبة الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم والفرق والتيارات والقوى المختلفة، وللأمانة والموضوعية فقد تفاعل الأخ أبو اللطف وبعمق مع هذه الرؤيا الجديدة حول الموقف السوفييتي ، كما ضحك كثيراً ومن كل قلبه على موضوعه شطارتهم في الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم وقال: كان لدي إحساس بهذا من خلال خلافاتي مع الأخ أبو عمار بسبب رفضي لإتفاق عمان ، ولكن الملعون رامي الشاعر ومن خلال موقعه المؤقت كقائم بالأعمال يبلغني بمواقف نقيضة لكل ما سمعته منك، ومواقفه هذه تزيد من شقة الخلافات الداخلية حول المواقف السياسية فيما بيننا في بعض الاحيان عندها تشجعت وقلت له إن الأخ رامي الشاعر ليس كوالده، ومواقفه تأتيكم بتعليمات من لجنة التضامن ومن قسم الشرق الأوسط في المخابرات، وهي ربما تكون نسخة كربونية على ورق فلسطيني لما يقوم بتعميمه وتسويقه عليكم ضابط محطتهم في السفارة السوفييتية في تونس "نيكولاي نيكولايفتش " خطأ وخطيئة رامي الشاعر في موقعه الرسمي كقائم بالأعمال أنه يرى الدولة السوفيتية فقط من خلال عيون فئة محددة ربما تفقد أهميتها وتأثيرها على الصعيد الاستراتيجي داخل الهرم الإداري للسلطة ا لحاكمة في المستقبل القريب، التفت إلى الأخ أبو اللطف وقال: سأجمع لك الآن بعض كوادر الدائرة السياسية لتتحدث معهم برفق ولطف عن كيفية توسيع شبكة علاقاتنا مع الاتحاد السوفييتي وعلى ضوء المتغيرات الجارية وبدون أن تتطرق إلى أي شيء عن المواضيع التي تحدثنا بها الآن على الإطلاق وحتى لا تلحق الأذى بنفسك ، وسنظل على تواصل وإن شاء الله دائماً نسمع منك الأخبار الطيبة وحاول من جهتك وقدر الامكان إبعاد الأخ القائم بالأعمال المؤقت رامي الشاعر عن مثل هذه التأثيرات الضارة بالمواقف الفلسطينية . وبالفعل فقد تحدثت مع بعض كوادر الدائرة السياسية في العموميات وبدون الخوض في المسائل الشائكة وكذلك عن الجهد الكبير الذي تبذله القيادات السوفييتية الجديدة في إطار عملية إعادة البناء والشفافية بقيادة الرفيق الرئيس ميخائيل سرجفتش قربتشوف.
خرجت من المكتب بعد أن أنهيت حديثي وتوجهت مجدداً حيث يجلس الأخ أبو اللطف طمأنته على كل شيء وسلمت عليه مودعاً وعلى أمل اللقاء به في مناسبات أخرى.
مع بداية تموز يوليو عدت إلى موسكو محملاً بالمتاع الطيب من الهدايا إلاّ أنني توقفت طويلاً عند مجموعة من العطور والنظارات الشمسية النسائية ، من الذي اشتراها ودسها بين المشتريات الأخرى؟ ولماذا؟ على العموم لا بأس 000، فعند عودتي مجدداً إلى تونس سوف أعرف من كان صاحب هذه الفكرة الجهنمية ، وباعتبار أنني ممنوع من ملاطفة الجنس الآخر تحت ضغط المسؤولية وخوفاً " من فضيحة الإسقاط" وهو الفخ الذي حذرني من الوقوع في شراكة الأخ الرئيس، سأقوم بتوزيعها على بعض الأصدقاء السوفييت فمن له زوجة أو صديقة أو ابنة بالغة سيفرح ربما بمثل هذه الهدية خاصة وأننا في فصل الصيف، والنظارة الشمسية مع زجاجة العطر لها قيمتها لمن تريد أن تصطاف على ضفاف الأنهار والبحيرات والبحار والخلجان السوفييتية الجميلة ، أحد الأصدقاء أبلغني مازحاً وهو يضحك بأن زوجته التي غضبت منه قبل عدة شهور بسبب استضافته لصديق أجنبي في بيتها "وكانت تقصدني" أثناء فترة عملها وهي مسؤولة قسم في وزارة التجارة وكادت أن تشي به لاعتبارات تتعلق بالخصوصيات الأمنية السائدة في تلك الفترة والتي تمنع على الموظفين الكبار في وزارات ومؤسسات الدولة القيام بمثل هذه الأمور، قبلت الهدية خاصة وأنها كانت بحاجة لنظارة شمسية من النوع الفاخر لاستخدامها عند الاستجمام على الشواطئ وهي تنوي قضاء جزءاً من عطلتها في منتجعات سوتشي.
بعد عدة أيام من وصولي تم إبلاغ الطلبة المفصولين بالمنحة المالية المقدمة إليهم من الرئيس عرفات وبتوجيهاته الحاسمة بضرورة العمل وبكافة الوسائل والأساليب الممكنة مع الأصدقاء السوفييت لحل مشاكلهم الدراسية وبما يضمن عودتهم مجدداً إلى مقاعد الدراسة ، وكما يبدو وكما اتضح لاحقاً وبشكل مكشوف فإن تطور الأوضاع على الساحة الطلابية وباتجاه نجاح التنظيم الحركي لحركة فتح في استعادة عافيته ودوره الطليعي من جهة والتقدم المتنامي للعلاقات الرسمية السوفييتية الفلسطينية بعيداً عن الدور التقليدي لمكتب السفارة الفلسطينية في موسكو من جهة أخرى أثار نوعاً من الارتباك لدى خصوم عرفات في الساحة السوفييتية وقد انعكس ذلك بوضوح من خلال المواقف والتصريحات والأفعال المتناقضة وهو الأمر الذي شجعني على فكرة اللقاء مجدداً بالأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر، وجدته يعلم مُسبقاً بلقائي مع الأخ القائد فاروق القدومي "أبو اللطف" وبالمداخلة التي تحدثت فيها مع بعض كوادر الدائرة السياسية عن العهد السوفييتي الجديد والقيادة الشابة وسياسات إعادة البناء والشفافية التي تنادي بها وتعمل على أساسها وبأمانة وللحقيقة فقد كنت أشعر بنوع من الود والتعاطف مع عائلة العميد السفير المرحوم محمد الشاعر فهي عائلة مناضلة كريمة ومحترمة تستحق كل الرعاية والاحترام من القيادة الفلسطينية ولهذا كُنت أحاول وبقدر المستطاع والمتاح إقناع الأخ رامي الشاعر بالابتعاد عن وساوس أصدقاء السوء والعمل على تطبيع علاقته المتوترة مع الأخ الرئيس أبو عمار، وأذكر أنني ذكرته بحادثة وفاة والده وكيف تنامي لدي شعور داخلي خاص أثناء مراسم التأبين وكأنني في تلك اللحظة الحزينة أشارك في تشييع جنازة والدي رحمه الله مما دفعني وتحت ضغط هذه المشاعر الغريبة إلى الاتصال مع الأهل في دير البلح وإذا بهم وعند سؤالي عن الوالد يفاجئوني بنبأ وفاته قبل عدة أيام. بعد ذلك وعبر استرسالنا في الحديث والحوار سألني وباستغراب هل فعلاً أنك نجحت وكما أسمع بفتح علاقات للأخ الرئيس أبو عمار معبعض الجهات السوفييتية ؟! قلت له نعم وهي علاقات جيدة ومبنية على التعاون والثقة المتبادلة . قال لي: ولكنني استفسرت وسألت عن ذلك جهات سوفييتية صديقة بدون فائدة ، قلت له : هذا شأن الجهات التي تسألها أو التي تثق بها، أنت سألتني وأنا أجبتك بمنتهي الوضوح والصراحة وعليك أن تصدقني وتثق بنصيحتي فنحن أخوة ولا أريدك أن تبقى أسيراً تتخبط في دائرة الأخطاء والخطايا، وأخشى ما أخشاه في هذا الصدد أن تصبح يا أخي العزيز جزءاً من مصالحهم في لعبة صراع مراكز القوى الدائرة بصمت فيما بينهم ، وقد تنامت عوامل الاسترابة من المواقف السياسية التي ترسل بها إلى مقر القيادة الفلسطينية في تونس، وعليك أن تعرف بأن الأعمار بيد الله ولكن الإهمال المقصود لحالة والدك الصحية في آخر أيامه كان يعبر عن إستياء وعداء بعض هؤلاء الأصدقاء الذين تتحدث عنهم لأسباب تتعلق بنشاطه الصادق على امتداد الشهور الأخيرة من حياته في مجال مكافحة الصهيونية والهجرة اليهودية. صمت لبرهة من الوقت وعاد ليقول هذا شأنك فيما أنت تفكر فيه وإن كنت على يقين بأنك على خطأ وبالمناسبة لا يوجد للسوفييت عدة مواقف بل موقف واحد وهو الذي أخاطب القيادة السياسية به عند الضرورة ، مع نهاية هذا العام ستنتهي إقامتك ولن يتم تجديدها وباعتبار أنك قد أنهيت الدراسة ولن يكون بمقدور مكتب السفارة التدخل في هذا الشأن وعليك أن تتدبر أمورك منذ الآن ، وأنصحك بالمغادرة لأن البعض منهم لم يعد يطيق سماع اسمك وأحياناً يتهمونك بترويج أفكار ومواقف سياسية معادية للدولة السوفييتية وللحزب الشيوعي السوفييتي بسبب خلافاتهم مع الأخ أبو عمار. ابتسمت وقلت له: يبدو أنك نسيت الجزء الأهم في ديباجة هذه الاتهامات "فهو عنصري ومعادي للسامية والجنس اليهودي" على العموم شكراً لك على هذه الصراحة الأخوية وأتمني عليك أن نتواصل باستمرار لتبادل المعلومات وحتى لا يتم الضحك علينا خاصة وأن إدارات العسس أصبحت جزءاً من الأزمة وشريكاً غير مؤتمن على صعيد تمرير المواقف والمعلومات. واعترف هنا وبمنتهي الصراحة بأنني كنت وحتى تلك اللحظة أعمل جهدي على تطبيع علاقته مع الأخ الرئيس أبو عمار وكنت أقصد من وراء صراحتي معه أن أدفعه بهذا الاتجاه إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما يقال، فهو عنيد ومليء بمشاعر الغرور والعظمة ويتصرف وكأنه يمتلك بين أصابعه كل مفاتيح اللعبة خاصة بعد فجيعتنا ونكستنا المريعة التي انتهت بطرد الأخ صخر حبش "أبو نزار" من موسكو وانتهاء مهمته كممثل وسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي بعد عدة أسابيع من تعيينه . ودعنا بعض بكل كياسة ولباقة وعلى أمل التواصل عند الضرورات إلا أنني أحسست في تلك الليلة بأن أشياء كثيرة قد تغيرت في قواعد اللعبة فهو يتحدث عن فترة وجيزة متبقية لي بحسب الإقامة الدراسية أي عدة شهور فقط وهناك من ينتظر بفارغ الصبر إنقضاء هذه المدة للمطالبة برحيلي عن البلاد وبمعني آخر فإن قضية الخلاص من وجودي المزعج أصبحت مطروحة وتنتظر الشكل المناسب والوقت والمناسب والتخريجة المناسبة في ظل توازنات الصراع المحتدم على المصالح بين مراكز القوى. أبلغت الأصدقاء بهذه الهواجس التي انتابتني فسارعوا جميعاً لطمأنتي بأن ذلك لن يحدث أبداً ، ولو كان بإمكان من يفكر بمثل هذه الأمور القدرة على تنفيذها لما تواني لحظة واحدة الاّ أنهم كانوا غير مرتاحين من شدة الحملة وشراستها التي بدأت تقوم بها شخصيات وتيارات بعضها محسوب على حركة فتح وبعضها على فصائل اليسار بغرض النيل من الرئيس عرفات من جهة وتشويه صورتي وبشكل غير لائق من جهة أخرى ، وعبر سيل من التقارير الكيدية والكاذبة، وأمام هذه المستجدات اتصلت مع الأخ أبو الهول في مكتبه فلم أجدة بسبب السفر ومن ثم عدت للاتصال مساءاً بالأخ المناضل لؤي عيسى وهو ابن أخت الأخ أبو الهول ومن الكوادر الطلابية النقابية الفاعلة والكبيرة فهو عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة فلسطين ولعدة دورات انتخابية وهو الاتحاد الذي كان في حينه مصنعاً للقيادات الشابة الفلسطينية وله عشرات الفروع المنتشرة في كافة القارات على الصعيد الدولي، وقد أوصاني الأخ ابو الهول وبالنظر لثقته العالية بقدرات الأخ لؤي عيسى الأمنية والسياسية الاتصال به عند الضرورة وباعتبار أنه يستطيع ايصال المعلومات والملاحظات المطلوبة في حال عدم تواجده في مقره في تونس، أبلغت الأخ لؤي بآخر المستجدات عن حملات الدبابير والزنابير التي تفرغ سمومها وأحقاد زيباناتها على أوراق التقارير الساقطة وبهدف الإساءة للأخ الرئيس عرفات وتشويه صورتي وعبر سيل من الاتهامات البغيضة وقد علمت منه أيضاً بأن لهذه الحملات قواعد ومكامن موجودة في العديد من مقراتنا في تونس وهي تعكس في نفس الوقت بعض أوجه الصراع الداخلي على صعيد اللجنة المركزية للحركة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وباعتبار أن موقع السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو يعتبر من المواقع الاستراتيجية الخطيرة بالنسبة إليهم جميعاً ، كما لفت نظري إلى أن بعض كوادر الدائرة السياسية من أصحاب العلاقات المصلحية مع رامي الشاعر يشاركون في هذه الحملة المسيئة، وعلى الفور وبعد انتهاء المكالمة استقر بي الرأي على ضرورة وأهمية النزول إلى مقر القيادة في تونس مع بداية شهر آب "أغسطس" لإستبيان حقيقة الأوضاع والمواقف المتوترة ومعرفة الأسباب التي تقف وراء حملات التشويه المغرضة وتبيان خطورة ذلك على واقع ومستقبل العلاقات السوفييتية الفلسطينية المهتزة أصلاً تحت ضغط الوقائع والمتغيرات التي تعصف بالكيانية السياسية للجانبين السوفييتي والفلسطيني.وقبل أسبوع من سفري التقيت بأحد الأصدقاء السوفييت المعروف بنشاطه السياسي الكبير وخبرته الأمنية الواسعة فهو وبالفعل يختزن في ذاكرته أرشيفاً من المعلومات المتعلقة بالأوضاع العربية والفلسطينية ، وقد بادرني بالاعتذار عن عدم تمكن البعض الآخر من الحضور بسبب الانشغال في عطلاتهم الصيفية، وشكرهم الجماعي على الهدايا التي حملتها معي في السفرة السابقة وخاصة قال : وهو يبتسم زجاجات العطور والنظارات الشمسية النسائية ، كان غير مرتاح للسرعة في عمليات التغيير وإعادة البناء فالموضوع يحتاج إلى قدر كبير من التروي وإلى حكمة السلحفاء وليس إلى روعنة الأرنب" ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة كما يقول المثل العربي " وعبر حواراتنا الأخرى أفادني بأنهم وبدون إعلامي وبالنظر لكثرة التقارير الحقيرة والتي وصلت عبر أطراف فلسطينية مختلفة ، قاموا وبطرقهم ووسائلهم الخاصة بالتحري والاستقصاء عني وعن تاريخ حياتي وعن أهلي في فلسطين، وهم يأسفون لفعل ذلك إلا أن ضرورات حسم المسألة ووقف هذا اللغظ التافة والغير مسؤول اقتضت ذلك ، وقد تبين لهم بأنني ابن لعائلة كريمة وبسيطة تعيش في دير البلح وقد تشتت شملها بفعل ضغوط الوقائع المفروضة بقوة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يوجد حالياً من أسرتي هناك وبعد وفاة والدي أحد سوى والدتي المسنة وأختي الغير متزوجة والتي تقوم على رعايتها ، كما يوجد لي أخت أخرى ترعي أحوال زوجها المقعد والمصاب برصاص الجيش الإسرائيلي مُنذ عام 1967م وأن سيرتي الاجتماعية والسياسية والأمنية ممتازة ولا غبار عليها من الناحية الوطنية ، وحيث تعرضت للسجن ولمدة أربعة سنوات ولملاحقة واضطهاد الإسرائيليين بعد ذلك ، وأن الجميع هناك مُشتاقون لي ويفتخرون بما قمت وأقوم به من أعمال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
واعترف أنني ومن شدة المفاجأة أصبت بنوبة من الذهول والإشمئزاز وإن كنت أقدر لهم هذا الجهد الحريص، فهم يمثلون دولة عظمى تقود نصف العالم في مواجهتها مع الإمبريالية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبحت بالنسبة لما يمثلوه حالة هامة وهامة للغاية وباعتباري حلقة الوصل الوحيدة المتبقية للرئيس عرفات مع السلطة السوفييتية والقيادة الجديدة منها على وجه الخصوص قلت له : وبعد أن تمالكت نفسي سأبلغ الرئيس عرفات والأخ أبو الهول بذلك فرد بالقول: وعليك أيضاً إبلاغهم بأنه ليس من اللائق أن يذهب الرفيق أبو جعفر وهو المساعد الأول لرئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية لسفارتنا في تونس ويسلم المسؤولين فيها رسالة تؤكد على رفضهم لكل مقترحات الرئيس عرفات بخصوص تعيينك ممثل أو سفير فوق العادة للمنظمة في موسكو وباعتبار أنك تعمل على تخريب العلاقات السوفييتية الفلسطينية ومن خلال أقوال منسوبة إليك حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي وزواله عن الخارطة السياسية للأمم في غضون السنوات الخمس القادمة . نحن أيها الصديق والأخ العزيز لم نعد بحاجة إليهم وللعلاقات المريضة والموبوءة معهم ، فهذا نوع تافة من اليسار العاجز تاريخياً وقد وجدوا في منظمة التحرير مظلة ملائمة يحتمون بها لستر عجزهم ، وبدون حركة فتح وبدون ياسر عرفات لا معنى ولا قيمة لوجودهم بالمطلق وعلى الإطلاق بهذه الطريقة نحن نعيد قراءة الواقع، لذلك أرجو تذكير الرئيس عرفات بأهمية إرسال رسالة كبيرة ومرتبة في أفكارها لتهنئة القيادة السوفييتية الجديدة والرئيس ميخائيل سرجفتش جربتشوف بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر المجيدة وسنعمل بالتأكيد على نشرها وبشكل مٌلفت في وسائل الإعلام والصحف المركزية السوفييتية . أما القضية الأخيرة والتي عليكم الانتباه لها مع إنني غير مخول بالحديث عنها بالنظر لخطورتها وسريتها معكم أو مع غيركم ولكنها تصيب في الصميم عملنا القائم على التعاون المشترك وهي: أنه يوجد لدينا حالة اشتباه خطيرة تتعلق بعمل شخصية أمنية مسؤولة في سفارتنا بتونس ولهذا: أطلب من الرئيس عرفات والرفيق أبو الهول الضغط على الجميع طرفكم لتقليص حجم الاعتماد على السفارة عند إرسال التقارير المتعلقة بالمعلومات والمواقف الأمنية والسياسية، ودعته بعد أن استمع مني الكثير من عبارات الشكر على هذا الجهد النبيل والشريف والذي يعبر عن روح المسؤولية الأخلاقية والحرص الأكيد على تكريس نوع جديد من علاقات التعاون المشترك بين م.ت.ف والاتحاد السوفييتي وبين الرئيس عرفات والرفيق جربتشوف على وجه التحديد.
نزلت إلى تونس وفي تونس هذه المرة بدأ غبار المعركة يتصاعد وهو يحمل في داخله نذر مواجهة شديدة وشرسة على الصعيد الداخلي بين أطراف وأقطاب اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير، وقد كان لوضع السفارة الفلسطينية في موسكو والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي مساحته الكبيرة في خلافات هذه المعركة ، بالإضافة إلى توابع اتفاق عمان الموقع بالأحرف الأولى بين الرئيس عرفات والملك حسين، وهذا ما تم توضيحه في لقائي مع الأخ أبو الهول والذي كان يبدي تفاؤلاً بتجاوز كل هذه العقبات والصعاب وعلى قاعدة خلق حالة من الوفاق الداخلي في صفوف حركة فتح تسمح في النهاية بلم الوضع في الساحة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير من جديد وبالنظر لأهمية وخطورة المعلومات التي استمع اليها طلب مني التكتم عليها والاكتفاء فقط باعلام الأخ أبو عمار ، وهو لذلك اتصل هاتفياً أثناء وجودي معه بالرئيس وطلب منه تحديد موعد لمقابلتي على انفراد ، فكان ذلك في تمام الساعة السادسة والنصف بعد العصر وقبل المغرب في مكتب الأخ حكم بلعاوي" أبو مروان " أي في داخل السفارة الفلسطينية، ذهبت إلى هناك وبحسب الموعد وبدون أن أنسى وصية الأخ أبو الهول حول نتف وبر "أبو حجلة" أي الأخ أبو جعفر ، أمام الأخ الرئيس إذا سمحت الفرصة بذلك، وهو ما تم بالفعل فبعد أن سجل أبو عمار العديد من الملاحظات على ورقة صغيرة أمامه وبما في ذلك ضرورة إرسال رسالة ا لتهنئة بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر الاشتراكية نظر إليّ وقال : الرسالة وبالتأكيد وبحسب علمي وفي مثل هذه المناسبة أهم بكثير من البرقية، ثم استطرد قائلاً : "الجواسيس عاوزين يعملوا منك جاسوس إسرائيلي بأي طريقة زي ما بحاولوا تصويري وكأني عميل إمبريالي مخضرم000 ولكن فشروا ،إحنا وياهم والزمن طويل" قلت له : ولكن يا أخ أبو عمار فعلة أبو جعفر تؤذينا وتؤذي علاقاتنا المتنامية مع الأصدقاء السوفييت فرد بسخط وهو يكتم موجة من الغضب بداخله، اتركه لي وغدا ستسمع وترى ماذا سأفعل به، المهم أن تعود أنت بسرعة إلى موسكو ولا تجعل من هذه المشاكل والخلافات قضية تؤثر على عملك ونشاطك . ودعته وخرجت وفي ساعة متأخرة من الليل التقيت مجدداً بالأخ أبو الهول وكان في حالة معنوية مريحة أبلغته بكل ما جرى فقال لي وبعد خروجك من عنده مباشرة انفجر على الهاتف في وجه أبو جعفر ولمدة نصف ساعة وبطريقة مؤذية للغاية المهم الآن أن تقوم بترتيب أمورك للسفر ونحن معك وتوكل على الله. في اليوم التالي التقيت مع الأخ حكم بلعاوي "أبو مروان" وأبلغته بقصة النظارات الشمسية والعطور فابتسم وقال: انت يا دكتور وجه خير وبتستاهل كل خير ويبدوا أن أحد " الزعران " اجتهد أكثر من اللازم عندما أمرتهم بتوضيب بعض الهدايا . الرئيس مرتاح جداً من عملك ونشاطك وأنا أتابع أمورك معه باستمرار، ودائماً خلي شعارك أمامك " الكلاب تنبح والقافلة تسير" وإذا مش عاجبك هذا الشعار استخدم شعار صاحبك أبو عمار "يا جبل ما يهزك ريح " لكن 000 يا دكتور " طيب في جبال بتخلعها الرياح العاتية من أساسها صاحبنا مش دارس جغرافيا كويس" المهم الحمد لله على سلامتك وإن شاء الله سوف نستمر في سماع أخبارك الطيبة، وبعد أن شكرته على حسن الضيافة ودعته وذهبت للراحة في الفندق وباعتبار أنني سأمكث في تونس عدة أيام بانتظار الرحلة الأسبوعية لطائرة " الأيروفلوت" السوفييتية ، وفي صبيحة ا ليوم قبل الأخير على موعد السفر والطائرة اتصل بي على هاتف الفندق الأخ عضو المجلس الثوري لحركة فتح والسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في عدن أي في "جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية" الأخ "أبو مشعل" عباس زكي وقال : أنه سمع بوجودي وسيحضر بعد نصف ساعة للدردشة معي والتعرف على أحوال البلاد السوفييتية، رحبت به ونزلت إلى قاعة ومقهى خاص بالزوار بغرض انتظاره والترحيب به، حضر الرجل وبعد تبادل عبارات الترحيب وتقديم واجبات الضيافة دخل في الموضوع وبدون مقدمات قائلاً: اسمع يا دكتور الاتحاد السوفييتي دولة عظمي وليس من المعقول أن " يبقى شاب مبتدئ " بمستوى وحجم رامي الشاعر يتحكم في العلاقات الفلسطينية السوفييتية لهذا فقد تحدثت مع الأخ أبو إياد بما يكفي في هذا الموضوع وهو عاتب عليك كثيراً لأنك وعلى امتداد العامين الأخيرين لم تتصل به ولو لمرة واحدة وأنت تعلم أنه يعتبر نفسه قيادياً في مستوى الأخ أبو عمار على صعيد الحركة والمنظمة، لا داعي للعتب فالرجل يحترمك كثيراً ويقدر لك موهبتك وشجاعتك وصمودك في وجه التحديات والصعوبات وهو ينتظرك الآن في مكتبه وعليك أن تتحرك معي لمقابلته، واعترف بأنني قد ترددت لبعض الوقت بسبب الخلافات المستفحلة على الصعيد الداخلي وفي النهاية قمت معه واتجهنا في سيارته إلى مكتب الأمن الموحد . استقبلني الأخ القائد أبو إياد بابتسامة عريضة وقال مازحاً وهو يرحب بي الحمد لله على سلامتك، في بيروت كنت تعرف عنواننا جيداً وهنا في تونس سقط منك سهواً وبعد ربع ساعة من الحوار الدافئ والمريح أمسك بدفتر من الحجم الكبير وقلم وبدأ يكتب وبعد أن وقع باسمه تحت نهاية السطور في الورقة قال لي: خذها وأقرأها جيداً ومن ثم ضعها في هذا المظروف، أنها رسالة مني لرامي الشاعر وأطلب منه فيها وبالأمر أن يتعاون معك في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بأمور السفارة وأتمني عليك وعليه أن تكونا على قلب رجل واحد في مواجهة الصعاب والملمات من أجل فلسطين، وإذا رفض كلامي وتمرد عليه تصرف بصورة من الرسالة بالطريقة المناسبة والتي تعجبك وتقوي من وجودك هناك، اعتقد أنك لمّاح وذكي جداً وقد فهمت مقصدي ، ونهض من مكانه وصافحني مودعاً بحرارة وعلى أمل اللقاء وسماع الأخبار الطيبة .
عدت إلى الفندق بعد أن شكرت الأخ "أبو مشعل" عباس زكي على هذه المبادرة الشجاعة والجرئية، وفي مساء ذلك اليوم ذهبت لوداع الأخ أبو الهول وقد أبلغته بما جرى كما قرأ رسالة الأخ القائد أبو إياد المرسلة معي للأخ رامي الشاعر بتمعن وإمعان شديد ، ومن ثم ضحك من قلبه وهو يبادرني بالسؤال مستفسراً عن سر هذا التحول المفاجئ ، قلت له لا علم لي وربما أجد لديكم التفسير المناسب والجواب الشافي ، فرد بالقول أن الأخ أبو إياد في موقفه هذا يقدم لنا أحجية بعدة ألغاز بعضها يسهل تفسيره وبعضها الآخر سيبقى سراً غامضاً صعب التفسير ولفترة من الوقت بانتظار المتغيرات والمستجدات اللاحقة ، كل ما أستطيع قوله الآن أنه ربما سيعمل لاحقاً على قبول ترشيح الأخ عباس زكي لمنصب السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو، وهو وإن كان مضطراً وللحفاظ على علاقته مع بعض الأطراف الأمنية السوفيتية المحتجة على عملك ووجودك يؤلب زبانيته للعمل العلني ضدك وباعتبار أنك تمثل الرئيس عرفات فقط فإنه وفي نفس الوقت يريد حمايتك منهم وقد سلحك بهذه الرسالة لهذه الغاية على وجه التحديد، عموماً عند عودة الأخ الرئيس أبو عمار من عمان سأقوم بعرض الموضوع عليه والاستماع لتوجيهاته بهذا الصدد، اذهب الآن ورتب أمورك للسفر فأمامك رحلة شاقة وطويلة وإن شاء الله نلتقي في القريب العاجل وفي ظروف أفضل من هذه الظروف الصعبة والقاسية علينا جميعاً، وعليك أن تفهم وتدرك دائماًَ حقيقة واحدة وهي أننا نختلف ونتشاجر فيما بيننا لكي نتفق ولا سبيل أمامنا في هذه المسيرة الشاقة إلا سبيل التفاهم والوفاق والتآخي والمحبة.
التعليقات