عكا... مدينة دحرت نابليون وهزمتها إسرائيل

عكا... مدينة دحرت نابليون وهزمتها إسرائيل
غزة-دنيا الوطن
في شهر تموز / يوليو 1948، أعدت خطة لطرد الفلسطينيين من مدينة عكا إلى مكان آخر، ربما إلى يافا، ولكن وزير الأقليات في الحكومة الإسرائيلية آنذاك بيخور شطريت تدخل في الأمر، وصرح بأن استيعاب آلاف المبعدين في يافا أمر غير ممكن من الناحية الاقتصادية وقرر إلغاء مخطط الإبعاد، وهكذا ظل الآلاف من الفلسطينيين في المدينة، يعيشون جنبًا إلى جنب مع الإسرائيليين، القاطنون الجدد. ولكن نتيجة إهمالهم، وتهميش حقهم في حياة كريمة، وتفشي الفقر والبطالة في صفوفهم، فقد وجه الفلسطينيون مرات عديدة الاتهامات للسلطات بمحاولة شيطنتهم وممارسة العنصرية ضدهم، كمقدمة لدفعهم إلى الهجرة من بيوتهم. وهي وضعية أبقت عكا تعيش في أجواء ساخنة متوترة، مرشحة للتدهور والتصادم، وليست أحداث العنف الأخيرة بين العرب والإسرائيليين التي عايشتها شوارع المدينة سوى دليل على ذلك.

"عكو"... الرمل الحار

عكا تاريخيًا، تعتبر من أقدم مدن فلسطين، وأكثرها إستراتيجية، أسستها إحدى القبائل الكنعانية في الألف الثالثة ق.م، وسميت "عكو" أي الرمل الحار، واشتهرت بسهولها الخصبة، ونخيلها الشامخ، وقلاعها العالية، وببناياتها ذات الطراز الشرقي، ومآذنها، وأبراجها، وقبابها المستديرة التي تزداد تألقا مع ساعات الصباح والمساء حينما ترتسم في مياه البحر الزرقاء، ليغدو منظرها هلاميًا.

ونتيجة لجمالها وموقعها الجغرافي، تعرضت المدينة لسلسة من الغزوات على مدار التاريخ، حيث ظهر الكثير من القادة على مسرحها، مثل: تحتمس، سرجون، بختنصر، قمبيز، الاسكندر، انطيوخوس، وبومبي، ثم معاوية، وصلاح الدين الأيوبي، وربكاردوس، وإبراهيم باشا، وغيرهم.

والمدينة تحتضن من المعالم الأثرية والدينية، البارزة، الكثير، ففيها: كنيسة ودير سانت جورج، وكنيسة القديس يوحنا، وكنيسة القديس اندراوس، والكنيسة البروتستانتية، وقاعات الفرسان، وقبو القديس يوحنا الكريبتا، بالإضافة لمسجد الجزاز، ومسجد الزاوية الشاذلية، ومسجد الزيتونة، وجامع ظاهر العمر، وكذلك جامع الرمل، وهو أقدم مساجد عكا، وجامع المجادلة، وجامع اللبابيدي، وهو الوحيد الواقع خارج أسوار المدينة.

أسوارها ونابليون

كما أنها مشهورة بأسوارها الشامخة المدعمة بأبراج المراقبة، التي شيدها، وحسنها، أمير الجليل، ظاهر العمر الزيداني، وبلغت مجدها، عندما صدت جيش نابليون بونابرت إبان الحملة الفرنسية عام 1799، وكان الزيداني بني أيضًا قلعة في الشمال الغربي من المدينة، وتحولت لاحقًا لسجن في أيام العثمانيين والانتداب البريطاني، وبني أيضا مسجدين، ومبني للسرايا (مركز القيادة)، كما بني كنيسًا للأقلية اليهودية التي قطنت عكا آنذاك، وشيدت الأسواق، وشهدت المدينة ازدهارًا اقتصاديًا، وحصنت عسكريًا.

وبحسب الدراسات التاريخية فإن حصار نابليون البري والبحري لعكا، المتزامن مع الهجوم العنيف على أسوارها وبواباتها، وقلاعها، وأبراج مراقبتها، استمر نحو شهر، لكنه لم يتمكن من اختراق حصونها، بفعل دفاعاتها المتينة، بالإضافة لصمود أهلها، وتعاضدهم بقيادة الجزار باشا، والمساعدة التي استمدها من البريطانيين، الذين كانوا يخوضون مع الفرنسيين صراعًا للسيطرة على المناطق الإستراتيجية في العالم.

تقهقر جيش نابليون أمام أسوار عكا، بعدما كان احتل مصر وسواحل فلسطين الأخرى، فقام برمي قبعته من فوق إحدى سور عكا داخلها، لأنه لم يستطع دخولها، وماتت أحلامه في الاستيلاء على الشرق، وأرتد بجيشه منهزمًا. بعد ذلك سلم الجزار باشا، مفاتيح عكا إلى، سليمان باشا العادل، الذي قام بترميم المدينة، ومتن أسوارها وقلاعها من جديد، ثم تسلمها بعد ذلك، عبد الله باشا، وبين الأعوام 1831 – 1841 احتل المنطقة محمد على باشا والي مصر، بعدما صمدت أسوار عكا أمام جيش أبنه إبراهيم، قرابة خمسة شهور، ولكنها ما لبثت عادت إلى الحكم العثماني بعد ثمان أعوام فقط.

وخلال الحقبة الماضية، تواجدت في عكا، الديانات الأربع، التي ما زالت بصماتها بائنة على نحو كبير في المدينة، ومنها، المساجد الإسلامية الكبيرة، والكنائس، وبيت عبود مؤسس الأحياء المسيحية، وحديقة قبر بهاء الله. وبعد الحرب العالمية الأولى، وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، واحتلت القوات البريطانية عكا دون مقاومة تقريبًا، وذلك بتاريخ، 23 أيلول 1918، ليبدأ اليهود بعد ذلك بالتدفق نحو فلسطين.

المدينة تسقط في يد الإسرائيليين


ومع تزايد هجرة اليهود إلى فلسطين، كانت المناوشات تحتدم بين العصابات الصهيونية والثوار العرب والفلسطينيين، وسيطرت الأولى في نهاية المطاف، على معظم البلدات والقرى الساحلية، ومنها مدينة عكا، التي خاض الثوار فيها، قتالاً شرسًا لمدة 22 ساعة، ولكنهم اضطروا للاستسلام في منتصف ليل 18 أيار/ مايو 1948.

وذلك بسبب هبوط المعنويات وشح الإمدادات. وقد فتحت بوابات عكا في ساعات الصباح الباكر. وفرض عليها الحكم العسكري، مما دفع بعض سكانها للهجرة، وبخاصة إلى لبنان، وبقي في المدينة نحو 15 ألف نسمة، مع الإشارة أنه قبل قيام دولة إسرائيل كانت أغلبية سكان عكا من الفلسطينيين، بينما عاشت فيها طائفة يهودية صغيرة، ولكن بعد النكبة حدث انقلاب بالصورة، وأمسى الفلسطينيون هم الأقلية.

حيث إن مجموع سكان عكا من الفلسطينيين، تناقص ليصبح نحو ثلاثة آلاف بعد النكبة مباشرة، ولكنه ما لبث ارتفع إلى نحو خمسة آلاف في عام 1965، وبفعل سياسيات الإجلاء الإسرائيلية القسرية بقي مجموع العرب ثابتاً في المدينة حتى عام 1973، ما لبث بالزيادة بفعل الخصوبة العالية عند النساء الفلسطينيات.

ويقدر عدد سكان عكا هذه الأيام بنحو 50 ألف نسمة، ثلثهم من الفلسطينيين الذين يسكن أغلبيتهم في البلدة القديمة من المدينة، ويعانون من التهميش والفقر، وممنوعون من الحصول على تراخيص بناء، أو حتى ترميم لبيوتهم، ويمكن عبر جولة بسيطة في عكا أن يلحظ المرء الفارق الكبير بين الأحياء اليهودية والعربية، فالبنية التحتية، في أحياء الفلسطينيين، فقيرة للغاية وتعاني من الحفر والترهل، بل أن بعض بيوتها القديمة، حجارتها بحاجة لترميم وعناية، تفاديًا لانهيارها في الظروف الجوية السيئة.

الاتهامات متواصلة... والمستقبل مجهول

ونتيجة ما سبق، يتهم الفلسطينيون في المدينة، المؤسسة الإسرائيلية بمحاولة طردهم، وأزداد هذا التوجه، بعدما لم تقم الشرطة بكبح جماح الشبان الإسرائيليين الذين هاجموا العديد من البيوت الفلسطينية في عكا، خلال الأيام الأخيرة، على خلفية الإدعاء ان شاب فلسطيني دخل الحي الشرقي من المدينة، بسيارته منتصف ليل الأربعاء الماضي، بالتزامن مع يوم الغفران، الذي يمتنع اليهود به عن القيام باحتفالات، أو استخدام السيارات. وعلى الفور، سرت إشاعة في بيوت الفلسطينيين، أن السائق تعرض للقتل، وصدحت بذلك مكبرات المساجد، فخرج المئات من الشبان العرب، واشتبكوا مع نظرائهم من الإسرائيليين، حتى الساعة الثالثة فجرًا، ولم تتوقف المناوشات إلا بعدما تدخلت الشرطة بعد غيابها 3 ساعات عن مسرح الحدث.

ولذلك يرى العديد من المراقبين أن التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مدينة عكا، تحكمه منظومة متكاملة، لا تنفصل عن الواقع الذي يعيشه كافة الفلسطينيين في الدولة العبرية. فلا يمكن الجزم بأن الاشتباكات والمواجهات لن تتكرر في المستقبل المنظور في عكا وغيرها من المدن المختلطة، بل أن الأوضاع ستبقى مرشحة للتصاعد، ما دامت المؤسسة السياسية في تل أبيب، تصر على إبقاء الثغرة قائمة، عبر تهميشها لحقوق الفلسطينيين، وتوفيرها غطاءا لأفعال الإسرائيليين، وبخاصة ذو التوجه اليميني المتطرف.
*خلف خلف- إيلاف

التعليقات