ليل بيروت... من أين كل هذا الجنون؟

ليل بيروت... من أين كل هذا الجنون؟
غزة-دنيا الوطن
تندفع جموع من اللبنانيين ليلاً في حياة صخب وفرح مجنون غير مبالية بأحوال السياسة والأمن، وهي من أعمار مختلفة ولكن يغلب عليها شبان وشابات، وهم من كل الطوائف ولكن يغلب عليهم الإنفتاح والتحرر من العقائد الجاهزة وقبول الآخر كما هو وبالأحرى عدم الإهتمام، ففي إمكانك بالنسبة إليهم أن تكون من تكون، والأمر يرجع إليك أن تحب العيش كأنك في باريس ولندن أو دول الخليج أو طهران. هنا في حانات بيروت والمطاعم كل واحد وحده، والليل طويل يحوّلونه إلى جنون فردي كل على طريقته. فهذه فتاة لا تتردد في أن تقفز إلى الطاولة وترقص على وقع الموسيقى العالي ولباسها تجاوز الربيع إلى الصيف قبل الأوان، وهناك وفي كل مكان الناس اثنين اثنين أو جماعة تحلقوا حول طاولة أو حملتهم الحماسة إلى رقص على السجية ولا أحد يتدخل في شأن أحد، فهناك أمكنة للجميع في بلاد المتناقضات الجميلة هذه.

وما يحصل بعد كل اضطراب أمني أو حتى تطور عسكري أكان داخليًا أم خارجيًا أن الجمهور الليلي المحصور عادة في أمكنة محددة - ولنقل شارع الحمرا وشارع بلس ومنطقة الجميزة والأشرفية على سبيل المثال لا الحصر لأن ثمة حياة ليل تحشد جموعًا في مناطق أبعد مثل محيط جونية والبترون على شاطئ الشمال- يفيض ويتضاعف في الأمكنة العمومية كالساحات والشوارع بانضمام كثيرين لا تسمح لهم ظروفهم في الأوقات العادية بالمشاركة في المهرجانات الخاصة، اليومية المتواصلة على قدم وساق وبقية تفاصيل .

وفي التقاء المجانية ورحابة الأمكنة الوسيعة يصبح مهرجان الفرح الخاص تعبيرًا عن تحدّ عام يصعب على غير عائشي دقائق الإختلافات والمميزات والطبائع في هذه البلاد أن يفهموها ويستوعبوا أشكالها. وهي قد تتسبب بصدمة مثلما حصل لذاك الصحافي الفرنسي الذي أرسلته جريدته مندوبًا لتغطية حرب صيف 2006، فبعد جولة في الضاحية الجنوبية يوم وقف الأعمال الحربية في 14 آب / أغسطس نقلته مترجمته ومرافقته إلى إحدى حانات الجميزة فجعل يصرخ فيها مذهولاً : " لا لا لا أصدق عيني، كنت قبل خمس دقائق في ساحة حرب مرعبة والآن يا إلهي ... هل هذه باريس؟ هل أنتم أكيدون أننا لا نزال في البلد نفسه؟".

لعلم النفس تفسير لهذه الظاهرة جدير بالتوقف عنده. تقول المعالجة النفسية ريتا باسيل لـ "إيلاف" إن معظم اللبنانيين أصيبوا في الحوادث الأخيرة التي غلب عليها الطابع المذهبي بنوع من الإرهاق العام سواء عصبيًا أم مذهبيًا لإدراكهم أنهم باتوا على حافة حرب أهلية أخرى وجميعم يعرفون ماذا تحمل من مآس وفواجع . في مثل هذه الأوضاع يلجأ الناس لا شعوريًا إلى المقاومة النفسية لمواجهة الضغط، وتختلف آثار الإرهاق الناتج من هذه المواجهة بين فرد وآخر باختلاف الشخصيات والأطباع . فالإرهاق النفسي قد يؤدي في أحوال إلى إنهيار داخلي ونشوء حالة رفض وكراهية ولوم وصولاً إلى الوقوع في التشاؤم المطلق، وفي أحوال أخرى يطلق طاقة كبيرة ولكن زائفة وإرادة قوية ونشاط غير عادي، وتتمظهر هذه كلها في تفاؤل مفرط يبديه ذوو الشخصيات العاطفية، النشطة والإنفعالية.

تكون لهؤلاء ردود فعل سريعة على الإستثارات بعد الحوادث الضاغطة أو الأليمة وهذه طريقتهم في التغلب على الأفكار السلبية. هؤلاء يحاولون عادة مصالحة بين الماضي والحاضر من خلال إختراع أعياد واحتفالات عامة يحييها نجوم أو في ضوء البلدية والقمر. وهكذا يتحاشون الحوادث المروعة والمحزنة بأشكال مختلفة من السعادة نراها هذه الأيام في شوارع وسط بيروت وعلى ضفافها.
*ايلاف

التعليقات