هيكل :سر إصرارعبدالناصر علي عمل أولاده معي في الأهرام ومعه في رئاسة الجمهورية
لماذا جمال عبد الناصر..ولماذا محمد حسنين هيكل؟
أما 'عبد الناصر' فلأنها الذكري التسعين لميلاده..
وأما 'هيكل' فلأنه أفضل من يتناول الحقبة الناصرية.. وهو في تناولها مقل.
يملك 'هيكل' الوسائل..والوثائق، التي تجعله يتقدم علي غيره (ممن نهضوا من غياهب النسيان) لرصد ماحدث.
نحاول الوقوف (معه) عبر حوار تخيلي من واقع كتاباته، عند الظروف والملابسات، التي حولت تاريخ 'عبد الناصر' عند البعض إلي أسطورة، بينما حوله آخرون إلي اتهامات، تطاردها اتهامات.
منذ وفاته وحتي الآن، رسخ الخصوم لمشروع الانقلاب (الذي سماه الرئيس - السادات - ثورة تصحيح).. لم تتوقف المحاولة عند شخص وتاريخ 'عبد الناصر' فقط، لكنها حاولت النيل من منجزات ثورة يوليو كلها. وبدلا من أن توضع ثورة التصحيح (تلك) في مكانها الطبيعي - ضمن السياق التاريخ - والتعامل معها باعتبارها مشروعا للترسيخ - ترسيخ - الحكم طبعا لنظام جديد - إذ بالاتباع والمناصرين يخلطون الواقعي بالغيبي..ويحولون الذكريات إلي وثائق ومذكرات..تاهت الحقائق، وسط التسطيح والتلميح..وانعدمت الرؤية عند الأجيال التي لم تشاهد، ولم تشارك.
عندها تحتم الرجوع لرجل شاهد..وشارك، لكنه فضىل أن يترك مساحة بينه وبين الأحداث (قبل وبعد ثورة يوليو) في محاولات لتجريد الوقائع من الرواية الشخصية، كي تظل شهادته لوجه الله..ولوجه التاريخ..
• لماذا تبدو حريصا كل الحرص عند الحديث عن جمال عبدالناصر؟
>> في داخل الوطن العربي لم نتعود بعد أسلوب الحوار.. حوارنا حملات كراهية وحروب بالكلمات، وليس هناك ضمان لأي صاحب رأي يبديه بكل الموضوعية لذا منذ البداية حاولت قدر ما استطيع أن أتجنب الكتابة عن جمال عبدالناصر وحياته الحافلة وتجربته الكبيرة.. ولم اقترب من الحديث عنه إلا عند الضرورة القصوي.
• بمعني...؟
>> فعلت ذلك مرة في أعقاب رحيله مباشرة، ونشرت مقالا في ذكري الأربعين علي رحيله بعنوان 'عبدالناصر ليس أسطورة' أبديت فيه خشيتي من استغلال المستغلين لأغراضهم لقصة البطل فيه والرمز، وعبرت عن مخاوفي من تحويل تراثه إلي كهنوت غيبي جامد، بينما هو في الحقيقة تجربة إنسانية زاخرة قابلة للحياة والنمو والتطور .. ثم فعلت ذلك في ذكري مرور ٣٢ سنة علي ثورة ٣٢ يوليو وكانت الحملات ضده في مصر قد تصاعدت وأردت فقط أن أنبه إلي مقاصدها وإلي مصادرها، ولعلي لم أتجاوز كثيرا حين نسبتها إلي مخططات قوي السيطرة العالمية بشكل عام، وإلي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشكل خاص، ولم يكن ذلك تخمينا أو رجما بالغيب.
• كيف؟
>> يمكن الاستناد في ذلك إلي حقائق معروفة أكدتها ملفات هذه الوكالة التي كانت مفتوحة لمن يقرأ ويفهم ويستوعب، ويمكن الاستشهاد بما انتهت إليه لجان التحقيق الخاصة التي تشكلت لبحث تجاوزات وجرائم هذه الوكالة حيث ثبت يقينا أنها شنت حربا لا هوادة فيها ضد زعماء الثورة الوطنية المعادية للاستعمار وقيادات التقدم في العالم الثالث عموما: بعضهم حاولت اغتياله ماديا وبعضهم حاولت اغتياله معنويا، ونجحت في مرات ولم تنجح في مرات أخري.
• لماذا دائما في تناولك للعهد الناصري تحرص علي التذكير بأنك لا تدافع عنه؟
>> جمال عبدالناصر لا يحتاج مني أو من غيري إلي دفاع عنه، ثم إنني أريد إذا كتبت أن أضع امام الناس صورة متكاملة للتجربة كلها: الضوء والظل، النجاح والفشل، الأصيل والدخيل في كل ما جري وكان، وإيماني بأن أي تقييم نزيه لتجربة عبد الناصر سوف يعطيه أكثر كثيرا مما يأخذ منه.
• وماذا عن روايات عشرات الخارجين من النسيان من رواة الحكايات عن عصر عبدالناصر؟
>> دعوا الكلام لمن يريد الكلام، ولو أصغينا جيدا لوجدنا المتكلمين يروون في الواقع عن أنفسهم وليس عن عبدالناصر.. بعضهم يبحث لنفسه عن تاريخ في الماضي، وبعضهم يبحث عن دور في الحاضر.. ثم إن الروايات كلها قادمة من النسيان، وإلي النسيان تذهب. الاختلاق واضح في كثير منها حتي أن بعض الذين قابلوا جمال عبدالناصر لدقائق ينسبون إليه بخيالهم أحاديث تستغرق أياما بعد أيام والروايات معظمها مختلط متضارب. ولم يتجاسروا جميعا علي سلبياته حتي جاء الموت ومنحهم الحرية وهذا شيء سيئ، واسوأ منه انهم ظلوا من ٨٢ سبتمبر ٠٧٩١ إلي بداية سنة ٤٧٩١ يتمسحون بذكري الراحل والرحيل وكأنهم لا يصدقون المقادير، ثم بعد أربع سنوات كاملة اطمأنوا فيها إلي أن الجسد المكفن بالثوب الأبيض لن يخرج من قبره، فتحوا أفواههم وتكلموا!
• تقصد من تجاوزوا حد المعقول في الاتهامات التي وجهوها؟
>> نعم.. لاسيما اتهام جمال عبدالناصر بأنه اختلس لنفسه وهرىب إلي الخارج لحسابه مبلغ خمسة عشر مليونا من الدولارات .. وهناك شخصيات عاصرت هذه القضية وعاشت التفصيلات كلها، وهم يعرفون أن هذه المبالغ التي تبرع بها الملك سعود جاءت في النور ووضعت في البنود التي كانت مرصودة لها.
• ألا تري أن مثل هذه الاتهامات أكبر من الصراعات والخلافات السياسية الداخلية؟
>> بالقطع هناك الكثير من الاساليب التي اتخذتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مجال توجيه الرأي العام في العالم منذ بدلت نشاطها أثناء الحرب العالمية الثانية خاصة تلك التي لجأت إليها الوكالة في مجالات الصحافة والنشر والإعلام بصفة عامة لكي تضمن تحقيق أغراضها .. من ذلك مثلا: أنها انشأت من وراء ستار دورا صحفية في عديد من بلدان العالم الثالث، ووكالات انباء وصور. كما انشأت الوكالة قسما خاصا لتزييف الكتب، ثم انشأت الوكالة قسما خاطا للتشويه
الاخباري Misinformationكانت مهمته صنع قصص اخبارية تخترع بالتلفيق.
قيم 'ناصر'
• أقرت لجنة تحقيق خاصة في السبعينيات - بالوثائق - ان تبرعات المجهود الحربي لم ينل منها عبدالناصر مليما واحدا غير أننا نريد الوقوف علي البعد القيمي في تفنيد مثل هذه الاتهامات'؟
>> تقصد سلوك عبدالناصر أو مجموعة القيم التي آمن بها، والتي طبعت نمط حياته، واتجاهات سياساته وتصرفاته اليومية؟
• نعم......!
>> أولا لابد أن تعرف أن الثروة أو الغني لم يكن بين مجموعة القيم الاجتماعية التي آمن بها عبدالناصر .. حيث كان انحيازه للفقراء بدليل أن أعدي أعداء عبدالناصر لا يكفون عن اتهامه بالحقد علي الأغنياء، ويعزون كثيرا من سياساته إلي هذا الحقد الذي يتصورونه .. ولم يكن جمال عبدالناصر حاقدا، ولكنه كان يري الغني الفاحش في وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر . وهكذا جعل هدفه الذي لا يحيد عنه تذويب الفوارق بين الطبقات.
ولقد كان من بين المعايير الصارمة التي ألزم بها نفسه ان لا يملك أرضا أوعقارا، ولم يكن ضد الملكية كمبدأ ولكنه كان ضد تجاوز الحدود فيها في مجتمع أغلبيته الساحقة من المعدمين .. وكان رأيه ان الحاكم في مصر لا يجوز له أن يمتلك لأنه بذلك يفقد قدرته علي التعبير عن مصالح الأغلبية ويجد نفسه - مهما حسنت نواياه - يعبر عن مصالح الأقلية.
• ينقلنا هذا لنمط حياته؟
>> لم يكن للرجل - وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه في مصر أو في العالم العربي أو في الدنيا الواسعة كلها - شهوة في طعام أو شراب .. وكان أفخر الطعام عنده علي حد تعبيره 'لحما وأرزا وخضارا' وماذا يأكل الناس غير ذلك؟ .. كان تساؤله ذلك مشوبا بالدهشة والاستغراب حينما كنت أقول له في بعض المرات مداعبا 'إن الدنيا تقدمت ومع التقدم تطور المطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبع ولكنه أصبح فنا من فنون الحياة' .. وكان ذلك في رأيه تجديفا يكاد يقترب من الكفر بنعمة الله (!!).
• لكن البشر - وهو منهم - يطمعون في ثروة يؤمنون بها شيخوختهم؟
>> جمال عبدالناصر كان يعرف انه لن يعيش طويلا، ولربما من هذه النقطة يستطيع عدد من الباحثين ان يعثروا علي السبب الحقيقي الذي دفع جمال عبدالناصر إلي محاولة تحقيق أكثر الكثير من المنجزات في أقل القليل من فسحة الزمن.
• ومستقبل الأولاد؟
>> كان ذلك أمرا لم يخطر علي بال عبدالناصر .. بل العكس، ذلك أنه كان يعتقد اعتقادا جازما لم يخالجه فيه شك أن أسرته لن تحتاج شيئا من بعده، وأذكر - والله شاهد - مرة تحدثنا فيها عن أولاده ومستقبلهم وكان قوله 'إنني أعرف الناس في بلدنا وأعرف طيبة قلوبهم، وأعرف أنهم من بعدي سوف يضعون أولادي في عيونهم' .. وعندما رحل جمال عبدالناصر كان كل ما تركه من حطام الدنيا قرابة أربعة آلاف جنيه، ألفين وخمسمائة منها قيمة بوليصة تأمين علي حياته، عقدها قبل ذهابه إلي حرب فلسطين .. ثم حساب في بنك مصر باسمه شخصيا كان رصيده حوالي ألفين وأربعمائة جنيه، .. ويوم رحل عبدالناصر كانت ابنته الكبري هدي تعمل في سكرتاريته بمرتب قدره ستة وثلاثون جنيها، وكان قرينها حاتم صادق يعمل معي في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام بمرتب قدره مائة جنيه، وكان قبل ذلك في سكرتارية رئاسة الجمهورية.
وكانت ابنته الثانية مني تعمل معي أيضا في دار المعارف المملوكة للأهرام بمرتب قدره ثلاثون جنيها، وكان زوجها أشرف مروان يعمل في سكرتارية الرئيس للمعلومات موظفا في الدرجة السادسة بمرتب قدره اثنان وثلاثون جنيها في الشهر.
• يبدو من كلامك ان عمل أبناء عبدالناصر كان منحصرا في العمل معك 'في الأهرام' أو معه 'في الرئاسة' فما هو السر في ذلك؟
>> حينما تخرجت ابنته هدي وتخرج معها في نفس السنة قرينها حاتم صادق في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كان جمال عبدالناصر في حيرة شديدة، وأتذكره يومها يقول لي: لا أعرف ماذا يفعل حاتم وهدي، لابد لهما بالطبع أن يعملا، ولا استطيع أن أكلم وزيرا أو رئيس مؤسسة لكي يلحقهما بعمل عنده .. ولو تركتهما للظروف الطبيعية فإني أعلم ان كثيرين سوف يتسابقون عليهما وهذه مفسدة لهما في هذه السن .. وسألني بطريقة عابرة: هل تستطيع أن تأخذهما معك في الأهرام .. معك استطيع أن اتكلم بغير حرج وعندك أعرف أنهما لن يجاملا، فإنك بصداقتك لي لست في حاجة إلي استغلالهما زلفي أو تقربا.
• هذا عن أن مجموعة القيم فماذا عن السمات الشخصية؟
>> أعداؤه - قبل أصدقائه - يعترفون له بأنه كان مقاتلا إلي النفس الأخير، ولو كان ممن تقصر هممهم عن تحديات عصرهم لأعفي نفسه - دون حرج - من معارك بعد معارك فرضتها عليه آمال الأمة وكان يستطيع ببساطة أن يجعل أذنا من طين وأذنا من عجين ويصد عن سمعه صوت النداء .. لقد انتخب لرئاسة الجمهورية أول مرة في يونيو ٦٥٩١، وكان في استطاعته أن يعطي نفسه فرصة يتمتع فيها بمزايا المنصب وهي هائلة لمن يريد، لكنه بعد أقل من شهرين كان في عين العاصفة بقراره تأميم قناة السويس .. وبعد حرب السويس كان أسطورة في العالم العربي،فقد حقق للعرب أكبر وأكمل نصر حصلوا عليه في تاريخهم الحديث، وواجهه في ساحة القتال ثلاث دول، بينها اثنتان من الدول العظمي في زمانهما: بريطانيا وفرنسا - وصمد في الميدان رغم تباين القوي العسكرية ولم يستسلم، ثم انطلق بالعمل السياسي من حيث توقف عسكريا ووصل إلي هدفه كاملا: قناة السويس تحت السيطرة المصرية، والانسحاب البريطاني الفرنسي من بورسعيد كاملا، والانسحاب الإسرائيلي من سيناء كلها ومن قطاع غزة لم يرضخ للمساومة .. وكان في استطاعته بعد السويس أن يعيش علي ماضيه .. ماضيه يكفيه ويصنع منه أسطورة لم تسبق .. ولا تلحق.
تصحيح أم اغتيال؟
• وهل نقبل ما كان في النظام كله علي علاته لا نناقشه، أو يكون البديل إسقاط النظام من أساسه بغير مناقشة؟
>> لعلي آخر من يقول بذلك، وشاهدي في ذلك ما كتبته في نقد ممارسات النظام في حياة 'عبد الناصر' نفسه، فلقد كتبت وأفضت في الكلام عن تجاوزات وقعت في كثير من المجالات.. ولخصت رأيي يوما في نقد النظام بأنه 'يعتمد اكثر مما يجب علي سلطة الدولة في الداخل، وأكثر مما يجب علي قوة الدولة في الخارج'، ومازال ذلك نقدي الأساسي لعهد جمال عبد الناصر، وربما لم ينس الناس أن أول محاكمة 'لمراكز القوي في مصر' - وبهذا الوصف نفسه - جرت في عهد عبد الناصر، ولعلي لا أتجاوز حدي إذا قلت إنني المسئول عن سك عبارة وردت في خطاب جمال عبد الناصر أمام مجلس الأمة الذي انتخب علي أساس دستور سنة ٤٦٩١ - والذي رأسه أنور السادات - والتي كان نصها 'أن سيادة القانون لابد لها أن تعلو علي مراكز القوة' وإذن فإني آخر من ينكر حق وواجب أي نظام في تصحيح مساره.
• العلاج لا يعرف الدبلوماسية؟
>> قطعا .. لكني أفرق بين التصحيح وبين الإدانة الكاملة والنهائية. التصحيح ليس ثورة جديدة ولاهو ثورة مضادة. ولكن التصحيح عملية إزالة شوائب لحقت بالعمل الوطني أثناء ممارسته اليومية لمبادئه الأصيلة واستراتيجيته المتصلة وبالتالي فإنها ليست بداية جديدة، وإنما هي دفعة مضافة.
• إذن فأنت لا تعترف بما أطلق عليه البعض 'ثورة التصحيح'؟
>> مع اعتزازي الشديد بالدور الذي قمت به شخصيا إلي جانب أنور السادات في الأحداث التي وقعت في مصر خلال شهر مايو ١٧٩١ - لا أعتبر أن ٥١مايو كان ثورة جديدة في مصر. ولعلي واحد من الذين يرون الاصرار علي اعتبار يوم ٥١مايو بداية ثورة جديدة بدأ بها عهد أنور السادات، ظلما لأنور السادات وإساءة إليه قبل أن تكون الإساءة لغيره .. معني ذلك ببساطة أنهم يأخذون من انور السادات مجد منجزات شارك فيها، وهي من أرصدة قوته، خاصة أمجاد ٣٢ يوليو، والإصلاح الزراعي، وإعلان الجمهورية، وكسر احتكار السلاح، ومعركة مقاومة الاحلاف، وحروب تصفية الاستعمار، وتأميم قناة السويس، وحرب السويس العظيمة نفسها، والتصنيع، والتحول الاشتراكي، والتصدي لمسئولية الوحدة العربية، وبناء السد العالي، وقيادة حركة الثورة الوطنية وتيار عدم الانحياز، وانشاء منظمة الوحدة الافريقية، وعودة بترول العرب للعرب، إلي آخره.. إلي آخره .. ما يحدث في مصر ليس كذلك! إنه إدانة كاملة ونهائية كما قلت. ليست وقفة ولكنها محاولة اغتيال لكل ما كان واذا كانت عودة فهي ليست عودة الي الطريق، ولكنها: عودة عن الطريق، عودة إلي ما قبل ٣٢ يوليو ٢٥٩١!
• وما هو الفيصل بين الحقيقة والاتهامات؟
>> في تجربة عبد الناصر كثير يستحق النقد ويستوجب التصحيح، شأنها في ذلك شأن أي تجربة انسانية ضخمة وهائلة، والفرز ضروري، والتقويم حق، والتصحيح .. لقد ناديت، ومازلت أنادي بضرورة التحقيق النزيه في كل جوانب التجربة حتي يظهر وجه الحقيقة، وقلت ومازلت اقول إن إطلاق التهم بغير تحقيق لن يؤثر في عبد الناصر بقدر ما يؤثر في وجدان الشعب المصري لأنه يفقده الثقة في كل شيء، وليس هناك كائن حي.. فردا كان أو شعبا.. يستطيع ان يعيش ويكافح اذا سقطت في خياله كل المثل.
حكايات المذابح
• هذا لا يعني أن عبدالناصر لم يكن مسئولا عما وقع في عهده.
>> نعم.. إن عبدالناصر مسئول قبل غيره عن كل شيء وقع في عهده، وقد كان هو أول من يصر علي ذلك ويتمسك به.
بما يدل علي أن جمال عبدالناصر نفسه أول الراضين والمصرين علي أن يتحمل المسئولية كلها عن كل ما جري في عهده وإننا عندما نقول بذلك يجب أن ننصب ميزانا لهذه المسئولية يفرز الخطأ عن الصواب، والايجابي عن السلبي، والحقيقة عن الادعاء! .. ثم إن علينا بعد ذلك أن نضع الوقائع في إطارها، والتصرفات في ظروفها، والخيارات في حدود المتاح ومنها وقتها، وإلا كنا بمثابة من يدعي الحكمة بأثر رجعي، أو يطلب عصمة الآلهة لأحكام البشر!
• في سياق تحديد المسئوليات هناك ثلاثة ملفات اتهم فيها عبدالناصر بالتصرف كما يتصرف 'السفاح' اقصد الزج بجيش مصر في اليمن و'سفح' دم العدالة في مذبحة للقضاء، و'سفح' دم الحرية باغلاق الصحف.
>> سوف أبدأ باليمن فاسأل: هل يمكن أن يكون هناك تقييم للتدخل العسكري المصري في اليمن لا يأخذ في حسابه الظروف السياسية التي كانت تسود العالم العربي وقتها؟
أي ظروف؟ بعد مؤامرة الانفصال وما جري في سوريا وقتها، اعقاب مؤتمر 'شتورة' الذي اتخذه النظام الانفصالي في سوريا منبرا للهجوم علي الحركة الوطنية العربية، وكان يبدو أن القوي المعادية للتقدم العربي تريد أن تخنق كل صوت ينادي بالتحرر العربي .. وفي ذلك الوقت جاءت ثورة اليمن وانقضت عليها العواصف. وفي يوم عصيب من أيام شهر اكتوبر ٢٦٩١ كانت ثورة اليمن الوليدة وحدها في مهب العاصفة .. وفي القاهرة كانت هناك مشاورات مستمرة بعد أن طلبت الثورة الوليدة نجدة من مصر بدورها وحجمها في العالم العربي في ذلك الوقت .. وكان أنور السادات اكثر الناس اهتماما بهذا الموضوع في القاهرة لأن اختصاصه السياسي في القيادة المصرية كان يشمل ضمن ما يشمل شئون اليمن والجنوب العربي والخليج، وكانت توصية أنور السادات في (نطاق اختصاصه) تتلخص في أن مصر لا يسعها أن تتفرج علي ما يجري في اليمن مكتوفة اليدين وأن الواجب القومي يحتم عليها أن تتدخل عسكريا خصوصا بالطيران لرد العاصفة عن الثورة اليمنية. ودارت مناقشات واسعة حول هذه التوصية.
وبهذا المنطق تدخلت مصر لنجدة الثورة في اليمن وكان انور السادات ولمدة خمس سنوات متصلة هو المسئول الذي تولي إدارة الجهد السياسي المصري في اليمن في حين أن عبدالحكيم عامر كان المسئول عن الجهد الحربي.
• وماذا كانت النتائج؟
>> لقد أحدث التدخل المصري في اليمن آثارا واسعة المدي ألخصها فيما يلي: 'خرج الاستعمار البريطاني من شبه الجزيرة العربية واستقل الجنوب واستقل الخليج .. تحت ضغط التدخل المصري فإن السيطرة الأمريكية اضطرت إلي ارخاء قبضتها المسيطرة علي الموارد العربية في شبه الجزيرة واتخذت موقفا اكثر تلائما مع الأنظمة الوطنية وسمحت لها بدور متزايد في توجيه أمور ثرواتها .. ان الدول الوطنية في هذه المنطقة اتجهت تحت ضغط الظروف إلي 'التحديث' وقد كا نت من النتائج المباشرة لتطورات المعارك في اليمن أن اعتلي الملك فيصل عرش السعودية وبدأت عملية 'التحديث' في المملكة تحت توجيهه، وراحت الأسرة في السعودية تتحول إلي دولة' .. وهذه كلها منجزات تاريخية ضخمة لا يمكن تقييم التدخل المصري في اليمن بغير ادخالها في الحساب بصرف النظر عن الثمن الذي دفعته مصر.
• لكن دائرة الحرب ومن ثم الخسائر اتسعت!!
>> اتسعت الحرب لا لأن هذا الطرف العربي أو ذلك تدخل فيها، ولكنها اتسعت حينما تدخلت فيها قوي السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية التي جندت للحرب آلافا من الجنود المرتزقة الأجانب، انجليزا وألمانا وفرنسيين وأمريكيين، وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسي بسهولة ما هو حق لنا ونبتلع بسهولة دعاوي الآخرين علينا.
• تقصد أن هناك عوامل ودوافع حتمت مشاركة مصر بما نتج عنها؟
>> بالقطع .. حتي نضع حرب اليمن في سياقها الصحيح من قصة النضال العربي المعاصر.. إطارها مسئولية مصر القومية.. ظروفها الصراع المتصل بين الحركة الوطنية العربية وبين قوي السيطرة العالمية ونتائجها ليست فقط ما دفعته مصر من تضحيات في اليمن ولكن هذا التحول الضخم الذي نراه الآن في شبه الجزيرة العربية وعند طرفها الجنوبي وعلي شطآن الخليج!
• وماذا عما يسمونه مذبحة القضاء عام ٩٦٩١؟
>> سوف أروي بشأنها ما أذكره من ظروفها واعتقد أن ذاكرتي مازالت سليمة .. اقول 'أولا' ان جمال عبدالناصر لم يتدخل في حياته في حكم من احكام القضاء وكان لديه ذلك الاحساس العميق بقدسية العدل وهو احساس له جذوره البعيدة في المجتمع المصري بحكم التكوين الحضاري لشعب استقرت حياته في بيئة زراعية ترسخت فيها فكرة الاحتكام إلي قانون القضاء .. واتذكر الحرج الذي احس به يوما حين جاءه خطاب مكتوب من الملك سعود يرجوه فيه أن يتدخل لكي تحصل السيدة ناريمان ملكة مصر السابقة علي طلاق من زوجها الدكتور أدهم النقيب وكانت ناريمان قد لجأت إلي الملك وكان النزاع بين الزوجين قضية أمام محاكم الاحوال الشخصية في مصر وصلت إلي حد أن طلب الزوج زوجته في بيت الطاعة واستصدر حكما قضائيا بما طلب .. وأراني جمال عبدالناصر خطاب الملك سعود إليه بتوقيعه وهو يقول:
'إنني أريد أن أجامل الرجل في أي شيء يطلبه مني.. ولكنه قصدني حيث لا استطيع أن أجيب طلبه، ولا أعرف كيف أرد عليه، وهل يصدقني إذا قلت له: انني لا استطيع أن اتدخل في اعمال محكمة شرعية؟ وكيف اتدخل؟!'
رويت هذه الواقعة الصغيرة كمقدمة فقط! .. وأصل منها إلي الظروف التي أحاطت بما اطلق عليه وصف مذبحة القضاء في صيف سنة ٩٦٩١، في صيف ذلك العام ٩٦٩١ كان جمال عبدالناصر في اجازة اجبارية بالإسكندرية، كان مقررا أن يسافر في ذلك الصيف للعلاج الطبيعي مرة ثانية في مصحة 'تسخالطوبو' في الاتحاد السوفيتي ولكن تطورات حرب الاستنزاف أعاقته عن السفر، وأجل سفره اسبوعا بعد اسبوع ثم ألغي سفره في تلك السنة تماما ليكون بقرب المعارك الدائرة علي الجبهة ونصحه الأطباء بأسبوعين علي الأقل يقضيهما في اجازة كاملة .. ولكن شواغله كانت تلح عليه، ولا تمنحه الفرصة التي يلح عليها أطباؤه وسمعت منه ذات مرة خلال تلك الفترة في الإسكندرية أن بعض المشاكل في مجال القضاء تطرح نفسها عليه، وأن تقارير أمامه تشير إلي أن بعض المحاكم تطرد فلاحين من أراضيهم المستأجرة لصالح كبار الملاك ثم ان بعض هذه التقارير يشير إلي أن بعض القضاة الذين اصدروا مثل هذه الاحكام سبق أن طبقت عليهم أو علي أسرهم احكام قانون الإصلاح الزراعي، وكان رأيه أن ذلك وضع لابد من بحثه وأنه شكل لذلك لجنة خاصة سوف تقدم إليه توصياتها وكان بين اعضائها السادة شعراوي جمعة وسامي شرف والمستشار عمر الشريف المستشار القانوني لرئاسة الجمهورية وآخرون .. ولاحظ هو تحفظي علي ما سمعته منه فأضاف: انني وضعت أنور السادات علي رأسهم لكي يتابع ما يفعلون وهو بينهم الذي يتصل بي.
• وبماذا شعرت في هذا الرد؟
>> أحسست بارتياح إلي وجود أنور السادات بالقرب من عمل هذه اللجنة غير أن الحساسية الخاصة لموضوع القضاء جعلتني أفكر وأحاول من بعيد متابعة عمل اللجنة واسأل كثيرين من المتصلين بالمسألة وبينهم المستشار ممتاز نصار رئيس مجلس إدارة نادي القضاة، وقد لقيته في تلك الفترة اكثر من مرة. وذات مرة في الإسكندرية كنت علي موعد مع جمال عبدالناصر في استراحة المعمورة في الساعة الثانية عشرة ظهرا وكنت أريد أن أكلمه ضمن موضوعات اخري في مسألة القضاء. ولكي أكون مستعدا دعوت الدكتور جمال العطيفي وهو المستشار القانوني ل'الأهرام' وقتها ووكيل مجلس الشعب الآن، إلي لقائي في الصباح الباكر من ذلك اليوم وأثرت معه موضوع القضاء تفصيلا، وسمعت منه رأيه وهو رأي خبير يدرك أهمية وخطورة وجلال تناول موضوع له هذه الحساسية وطال حديثنا إلي قرب الظهر وراودني احساس بأن جمال عبدالناصر يجب أن يسمع ما سمعت من جمال العطيفي ولكن كيف؟! .. انني علي موعد مع الرئيس وسوف أقول له ما سمعت منك، وأريدك أن تركب معي في سيارتي وتنتظر فيها حتي إذا ما احتجت إلي أي تفاصيل اثناء حديثني مع جمال عبدالناصر خرجت فاستوضحت منك ما أريده.
وذهبنا إلي المعمورة ودخلت مكتب جمال عبدالناصر وسيارتي في الخارج ينتظرني فيها جمال العطيفي وفتحت الموضوع.. قلت إن مسألة القضاء حساسة فهو مرفق في مصر مقدس، وأي اقتراب منه يجب أن يكون بمنتهي الدقة والتحرز. ثم قلت إنني تحدثت في هذا الموضوع مع خبراء يعرفون أهميته وقدره وبينهم جمال العطيفي الذي كان معي هنا هذا الصباح وحتي الظهر وكان بودي لو أن الرئيس استطاع ان يسمعه مباشرة.
ثم اضفت : لقد فكرت ان أجيء بجمال العطيفي ليقابلك معي وحتي تسمع منه ولكني ترددت .. وقال جمال عبدالناصر: ليتك فعلت.. إنني حقيقة أريد أن أسمع رأي خبير لا علاقة له بجهاز الدولة.. كثيرا ما حاولت ذلك في مسائل أخري ولكنهم يجيئون امامي فلا يتكلمون .. قلت: أظن أن جمال العطيفي يمكن أن يتكلم خصوصا إذا كنت معه.
وقال الرئيس: ليس لك حق أنك لم تأت به .. وقلت معترفا: جمال العطيفي معي في سيارتي هنا في المعمورة ولم أقل له إن هناك احتمالا لأن يراك .. وقال عبدالناصر: اذهب وأت به.. وخرجت إلي سيارتي وجمال العطيفي ينتظرني فيها أقول له إن الرئيس يطلبه، وفتحت الدهشة فمه ولكنه سار معي.. وقلت له ونحن ندخل البيت .. جمال: هذه فرصة لا تعوض.. وأرجوك أن تتكلم بنفس الصراحة التي كنت تتحدث بها معي.
• وماذا حدث بعد ذلك؟
>> ودخلنا علي جمال عبدالناصر.. بعد عشر دقائق من الحديث كان جمال عبدالناصر قد أزال بحديثه البسيط كل أثر للدهشة والرهبة عند رجل لم يكن يعرف أنه سيلقاه، ولم يكن مستعدا للقائه، ثم استمرت جلستنا في شرفة بيت المعمورة لمدة قاربت الثلاث ساعات و كان جمال العطيفي يتكلم وكان جمال عبدالناصر يسأل ويستوضح ويستوثق .. وفي النهاية قال الرئيس: جمال.. هل عندك مانع أن تنضم إلي اللجنة التي تقوم بدراسة الموضوع ؟ وكان رد جمال العطيفي انه يشرفه القيام بأي خدمة يطلبها منه الرئيس. وأحسست بعد هذه المقابلة أنني أديت واجبي كمواطن وكصديق لجمال عبدالناصر .. وكان منطقي أنه إذا كانت اللجنة التي تبحث موضوع القضاء تعمل تحت رقابة أنور السادات ويشترك في اعمالها جمال العطيفي إذن فالأمور في مسارها الصحيح .. وصدرت بعد ذلك يوم ١٣ أغسطس ٩٦٩١ إجراءات في مجال القضاء وأثارت هذه الإجراءات ردود فعل كان يمكن أن يسمعها جمال عبدالناصر ويستجيب لها، ولكن الثورة في ليبيا قامت يوم أول سبتمبر ٩٦٩١ وشدت الانتباه كله إلي ناحية أخري.
• هل هذه خلاصة ما حدث؟
>> نعم فأمام عيني لم يكن الرجل مندفعا بشراسة قاتل! إلي مذبحة للقضاء، لقد كانت امامه مشكلة اجتماعية سياسية رآها من وجهة نظره خطأ أو صوابا تتطلب حلا. وشكل لجنة لدراستها والتوصية بما يمكن عمله حيالها، ضمن اعضائها مستشار الرئاسة القانوني ووضع فوق اللجنة زميلا له 'السادات' موثوقا به ليتابع اعمالها ثم كان علي استعداد لأن يسمع، بل وكان علي استعداد لأن يناقش اكثر مع من يستطيع مناقشته في موضوعه ولو بغير موعد سابق، وليكن أن شيئا ما فيما اتخذ من إجراءات جانبه التوفيق.. ليكن.
• يبدو أننا ننتقل إلي الاتهام الثالث المتعلق بسفح دم الحرية وإغلاق الصحف.
>> أظن أن القائلين بها يقصدون واقعة اغلاق جريدة 'المصري' التي كان يملكها الاستاذ محمود أبوالفتح التي كان يرأس تحريرها أخوه الاستاذ أحمد أبوالفتح .. وكان احمد أبو الفتح قد تعرف إلي جمال عبدالناصر عن طريق صهره ثروت عكاشة الذي كان عضوا مرموقا في حركة الضباط الأحرار .. وكان صوت الاستاذ احمد أبو الفتح من الاصوات المسموعة لدي مجلس الثورة في الفترة الأولي .. ومع بداية سنة ٣٥٩١ كانت الخلافات قد بدأت تدب في العلاقات ما بين جمال عبدالناصر والاستاذ احمد ابو الفتح وكانت لهذه الخلافات اسباب بعضها سياسي (تفسير معني الديمقراطية) والآخر نفسي متعلق بناتج مكانة أحمد ابو الفتح وسط النظام الحاكم الجديد والتي لم تنعكس وتترجم إلي واقع عملي حتي تحمي مصالح الشقيق الأكبر لأحمد أبو الفتح وجملة أنشطته التي عددها في أوربا وفي بعض العواصم العربية وبالذات 'بغداد' نوري السعيد .. وقال القضاء إن محمود أبو الفتوح أتي أفعالا ضد سلامة الوطن ومن شأنها افساد أداة الحكم وذلك أنه في غضون سنة ٤٥٩١، قام بدعايات واتصالات ضد نظام الحكم القائم بقصد تقويض النشاط القومي للبلاد .. أغري موظفا عموميا بطرق غير مشروعة بالمساهمة في اتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية .. وفي يوم ٢ مايو ٤٥٩١ اصدرت محكمة الثورة حكمها وكان الحكم إلي جانب السجن والمصادرة، ينص بالحرف علي 'سحب رخصة جريدة المصري منه وبذلك تتعطل الجريدة عن الصدور ابتداء من اليوم' .. وتشكلت محكمة الثورة التي حاكمت وحكمت علي النحو التالي: قائد الجناح عبداللطيف البغدادي رئيسا .. القائم مقام أنور السادات عضو يمين .. قائد الأسراب حسن إبراهيم عضو يسار .. كان هؤلاء الثلاثة هم القضاة الذين وضعوا ايديهم علي المصحف الشريف واقسموا علي أن يراعوا الله والوطن والضمير في أحكامهم .. ثم عرض الحكم للتصديق علي مجلس الثورة وكان رئيسه اللواء محمد نجيب وتمت الموافقة عليه .. فماذا أقول بعد ذلك؟!
الاعتقالات والحراسات والفصل التعسفي
• يميل الثوار 'أحيانا' إلي العنف.. فأين عبد الناصر من هذه الصفة؟
>> كان عبد الناصر بطبيعته ينفر من العنف.. وأظن أن الحملة الدائرة في مصر ضده تشهد له بذلك علي غير قصد من أصحابها.. تشهد له بأنه تصرف كإنسان يصيب ويخطئ، ولكنه كان عزوفا عن سفك الدماء باسم الثورة أو حتي طلبا لحمايتها.. وفي معركته مع الطبقة التي كان لها احتكار الثروة والسلطة في مصر فلقد قصد إلي تصفية امتيازات الطبقة ولكنه رفض تصفية أفرادها كبشر.. وبقي هؤلاء في الانتظار حتي واتتهم الفرصة بعد رحيله، فتحالفوا مع عناصر وقوي جديدة ضالعة وطامعة ثم اندفعوا جميعا الي هجوم مضاد علي الثورة كلها وعليه كرمز لها وشنوا عاصفة الخماسين المثقلة برمال الاحقاد الصفراء والاتربة السوداء التي تهب علي مصر الآن في محاولة لتغطية وجه الشمس!..
• لكن هل الاعتماد علي السلطة في تأمين الدولة قوض بعض دعائم الحرية.. والبعض يقولون إنه قوض الحرية كلها؟
>> أشهد أمانة علي ان ذلك ليس صحيحا ولكن الحملة الموجهة الي شعب مصر تركز وتركز حتي لا يستطيع أحد أن يفتح فمه قبل أن يبرئ نفسه من أي مسئولية ويبدأ بإدانة التجاوزات كلها جملة وتفصيلا ثم يروح بعد ذلك - إذا شاء - فيدافع عن الحقيقة علي استحياء، وذلك في حد ذاته يثبت في الاذهان ان الاتهام أصيل وأن الدفع فرعي.
• كيف تري دورك في هذه الاشكالية؟
>> أعتقد أن السكوت عن ذلك نوع من القبول بالتشهير - وإذا كنت لا اقبل لنفسي ان اسكت إزاءه - فإنه يشجعني أن السجل فيما يتعلق بي واضح ومعروف. لقد تصديت لتجاوزات السلطة في وقتها، ولم الزم السكوت حتي اليوم لأتكلم، وكانت لي سلسلة مقالات في حياة جمال عبد الناصر نقدت فيها دور أجهزة الامن تحت عنوان: 'زوار الفجر' وكان ذلك تعبيري الذي شاع وابتذل فيما بعد! .. ووقعت في مشاكل عويصة حينما انتقدت كتابة ما تعرض له بعض المعتقلين من الاخوان المسلمين في السجن سنة ٦٥٩١ واتصل بي جمال عبد الناصر يقول لي: 'إنني كنت قاسيا فيما كتبت وأن شمس الدين بدران الذي كان يشرف علي تحقيقات الإخوان المسلمين وقتها غضب وقدم استقالته'.
وكتبت وألححت علي صفحات 'الأهرام' وعلي شاشات التليفزيون أدعو وألح في الدعوة إلي مجتمع مفتوح يسود فيه القانون ويعرف كل مواطن حدود المسموح به له والمحظور عليه سلفا حتي لاتنقض عليه المفاجآت من المجهول .. أقول ذلك اليوم لا لأتباهي به ولكن لكي يكون واضحا أن الذين سكتوا - حتي جاء الموت - إزاء قضية الحرية في مصر لا يحق لهم أن يزايدوا علي الذين لم يسكتوا من قبل أن يجيء الموت!!
• هذا يجعلنا نتساءل كيف نبحث عن الحقيقة .. كيف نعرف أنها كانت كما يصفون، أو أكثر مما يصفون أو أقل مما يصفون؟
>> السبيل الوحيد، وقد ناديت أن يكون هناك تحقيق في كل الحالات التي حدث فيها تجاوز للسلطة.. تحقيق في ظروفها، وفي وقائعها، وفي تفاصيلها يمسك بها جميعا واحدة واحدة ويستجلي فيها وجه الحق وينصف كل مظلوم ويحاسب كل ظالم أليس ذلك أجدي؟ أليس هو أجدي من إطلاق الأوصاف والنعوت شائعة، ومن إطلاق التهم معممة، ومن إطلاق الأحكام بغير حيثيات وبغير فرصة لنقضها؟ إليس ذلك أجدي؟ ثم أليس هو الحق؟!
• دعني أتوقف عند جمال عبد الناصر تحديدا .. هل لم يكن يعرف هذا كله؟
>> قبل أن نستعمل تعبير 'هذا كله' أليس واجبا علينا أولا تحديد وتوصيف 'هذا كله'؟!.. نعم لقد حدثت تجاوزات.. نعم لقد وصل عدد المعتقلين في مصر في وقت من الأوقات إلي قرابة خمسة آلاف معتقل.. نعم لقد فصل بعض الناس من عملهم بقرارات صدرت .. نعم لقد عذب بعض الناس في سجون مصر.. نعم حدث ذلك .. مثلا: لقد كان حجم ذلك كله - مع عدم موافقتنا عليه - هينا اذا اخذت في الحساب فترة عشرين سنة حافلة بالتغييرات الاجتماعية والاقتصادية .. إن بعض العنف كان حتميا - مهما كان مكروها - خصوصا في عملية استرداد ثروات ضخمة بالاصلاح الزراعي أو التأميم.. هذه كلها عمليات لايمكن تحقيقها بالاقناع والاقتناع الديمقراطي.
• وهل هذا مبرر؟
>> لست علي استعداد لقبوله علي علاته.. فاعتقال إنسان واحد من غير حق، وتعذيب إنسان واحد مهما كانت الظروف بينما هو في قبضة سلطة الدولة، وحرمان إنسان واحد من عمله بغير تحقيق أشياء كلها كئيبة، وكلها مرفوضة، وكلها يجب ان تكون. موضع حساب، يجري بعد تحقيق.
• وأين كان عبدالناصر مما يحدث؟
>> نعم عرف في بعض المرات وسوف اروي نماذج لذلك في حدود ما رأته عيناي! وقبل أن ادخل في تفاصيل أية وقائع فلابد أن نتفق علي شيء.. ذلك هو ان جمال عبد الناصر كان انسانا طبيعيا، لاهو مجنون ك'نيرون' الذي حرق 'روما' وراح يغني علي اطلالها، ولاهو مثل بطل قصة 'دراكولا' مصاص دماء!.. ثم إنه كان انسانا يكره العنف والتسلط، وتلك شهادة أنور السادات فيه سواء في قصة الملك فاروق او في قصة الديكتاتورية العسكرية.. ثم إنه كان إنسانا يعرف حدود السلطات التي تمسك بها يداه ويستشعر مسئوليته بها، وكثيرا ما سمعته يقول: 'لا أتخذ قرارا إذا انفعلت.. إذا احسست بذلك فإنني أنام الليل علي قراري، ذلك أنه بمثل السلطات التي لدي فإنني لا أملك ولا اتحمل ان اتصرف بانفعال'.
• ما معني هذا؟
>> معناه أنه يجب ان نفترض ان جمال عبد الناصر اذا اشار بتصرف أو سكت عن تصرف فإنه يفعل ذلك بناء علي معلومات حقيقية لديه أو معلومات يتصور أنها حقيقية لديه.
• وماذا عن الوقائع؟
>> أبدأ بمسألة الاعتقالات.. أتذكر انني في صيف ٥٦٩١ وهي الفترة التي وصل فيها عدد المعتقلين الي قرابة خمسة آلاف - إنني ذهبت الي جمال عبد الناصر أقول له: ان معلوماتنا في 'الاهرام' تقول إن عدد المعتقلين خلال الشهر الاخير قد زاد علي خمسمائة معتقل.. وكان رده: لقد وصلوا الآن إلي سبعمائة مع الاسف، وانا اعرف، ولكن ماذا أفعل؟
لقد كان بين خطط التنظيم السري الذي قبض علي قيادته خطط بنسف كباري جسور والقيام بعملية اغتيالات بالجملة ولقد وافقت علي اعتقالات واسعة اخذا بالاحوط لاني لا استطيع ان اقبل بنسف كباري او جسور، ثم إن 'البلد' لايستطيع في هذه الظروف ان يتحمل احتكام بعض الناس الي المسدس يغتالون به من يخالفونهم في الرأي.. ولاحظ هو ترددي وكان قوله: مشكلتي انني لا استطيع ان اتردد.. انت كصحفي تستطيع ان تفكر من اليوم إلي الأبد ولكن مسئوليتي عن 'البلد' تحتم علي أن افكر حتي لحظة معينة ثم اقرر واتحمل المسئولية
• وقرارات الفصل؟
>> وفي موضوع الفصل بقرارات اتذكر انني ذهبت اليه في حادثتين تصادف أنني أعرف أبطالهما، ومع أنني كنت أوثر إغفال الاسماء منعا لأي حرج فإني اجازف واحدد الاسماء حتي أقطع الشك باليقين اتذكر انني ذهبت إليه مرة بعد احالة السفير 'حسين عزيز' الذي كان وكيلا لوزارة الخارجية إلي المعاش بقرار مفاجئ.. وكنت واحدا من المعجبين 'بحسين عزيز' أراه سفيرا قديرا شديد الجلد علي العمل.. وقلت لجمال عبد الناصر أليس غريبا أن يحال رجل مثل حسين عزيز علي المعاش بغير سبب؟! وفوجئت به يقول: لقد وافقت علي القرار وكان له سببه.
وكان السبب رسالة من 'جواهر لال نهرو' رئيس وزراء الهند وقتها يقول فيها انه قرأ تقريرا لسفير الهند في القاهرة عن مقابلة له مع وكيل وزارة الخارجية المصرية ورأي ان وكيل الخارجية المصرية في حديثه مع سفير الهند أبدي آراء متعارضة مع سياسة مصر كما يفهمها هو.. بل إن وكيل الخارجية كان قاسيا في نقده لخطوط السياسة المصرية وكان في حديثه يعرىض بها صراحة .. وكان رأي 'نهرو' أن مصر لابد ان تتحدث بصوت واحد، وأنه لايهمه أن ذلك الحديث كان مع سفير الهند وهو سفير دولة صديقة ولكنه يخشي من مثل ذلك مع سفراء دول اخري ليست صديقة وليست متفهمة للسياسة المصرية وقال لي جمال عبد الناصر بعدها: اذا كان لديه اعتراض علي السياسة المصرية فقد كان يجب ان يتحدث في ذلك مع وزيره الدكتور محمود فوزي واذا لم يقتنع بها بعد حديثه مع الدكتور فوزي فلقد كان عليه ان يطلب نقله من منصبه او يستقيل.. اما ان يرسم بنفسه سياسة تختلف عن سياسة الحكومة وينتقدها مع سفير اجنبي فهذا ما لا يمكن قبوله.. وبصرف النظر عن الصواب والخطأ فقد كان ذلك هو الجو الذي تصرف فيه والمنطق الذي تصرف منه، والغريب ان 'حسين عزيز' في عهد جمال عبد الناصر لجأ إلي مجلس الدولة وصدر له حكم بإعادته إلي الخدمة ولم يكن في استطاعة الحكومة ان تقدم السبب الحقيقي لمجلس الدولة لأن ذلك كان من شأنه إفشاء أسرار مراسلات بين عبد الناصر و'نهرو'!
وأما الحادثة الثانية فقد كان بطلها السيد 'أحمد ابو العلاء' نائب محافظ البنك المركزي آنذاك وقد صدر هو الآخر قرار بإحالته علي المعاش.
وكنت أعتبر 'أحمد أبو العلاء' واحدا من اذكي الاقتصاديين في مصر وكانت دهشتي شديدة لقرار إحالته علي المعاش ومرة أخري فتحت موضوعه مع جمال عبد الناصر.. كان يعرف بالقرار وكان قد وافق عليه والسبب ان أحد المسئولين في السفارة البريطانية كان موضوعا تحت الرقابة لأسباب معينة .. وذات مرة في سجلات المراقبة عليه وردت تفاصيل مكالمة تليفونية له مع 'احمد ابو العلاء' وخلال الحديث بينهما علي التليفون قال المسئول البريطاني: 'إن معلوماتنا أن حالتكم الاقتصادية سيئة.. معلوماتنا أن أرصدتكم من النقد الاجنبي لم تعد تزيد الآن علي عشرة ملايين جنيه'.. وجاء رد أحمد أبو العلاء: 'الموقف اسوأ من ذلك.. أمامي الآن آخر التقارير عن أوضاعنا.. رصيدنا الآن لايزيد علي مليونين وربع'! .. وبمعرفتي 'بأحمد ابو العلاء' فلقد تصورت انه شارك في الحديث كله بحسن نية، وأن رده لم يكن افشاء لسر دولة وانما كان نوعا من 'الدردشة الاجتماعية' ولكن جمال عبد الناصر كان له رأي اخر .. وسواء اتفقت او اختلفت معه فقد كان ذلك هو الجو الذي تصرف فيه، والمنطق الذي تصرف منه.
• نصل إلي موضوع التعذيب
>> اتذكر انني كنت اول من ذهب إلي جمال عبد الناصر بقصة ماحدث للدكتور 'شهدي عطية' في احد السجون المصرية فقد ضربه احد سجانيه بقدمه، وجاءت الضربة في موضع ادت الي وفاته.. وكان 'شهدي عطية' من اصدق واخلص اقطاب الحركة الشيوعية في مصر.. واشهد ان ثورة جمال عبد الناصر علي ما سمع مني كانت ثورة عارمة .. رفع التليفون واتصل بوزير الداخلية وقتها وروي له ما سمع مني ثم اضاف بالحرف تقريبا: 'إذا كان ذلك يمكن ان يحدث في عهد الثورة فالاشرف والله ان 'نفضها' ونعود إلي بيوتنا .. والله يصبح عهد الملك فاروق احسن'.. وطلب جمال عبد الناصر تحقيقا وطلب حسابا وكان مدير مصلحة السجون نفسه أول الضحايا، فقد أحيل إلي المعاش بعد ثلاثة ايام .. وأتذكر ان الدكتور 'عبد المنعم الشرقاوي' جاءني بقصة ماحدث له اثناء اعتقاله، واتصلت بجمال عبد الناصر أروي له ما سمعت وأقول بعده:
إنني أنوي نشر القصة، فمثل ذلك لايجوز السكوت عليه'.. وقال جمال عبد الناصر علي الفور 'بيدك الحق.. انشر حتي يعرف هؤلاء جميعا انه ليست هناك حماية لأحد فوق القانون'.
• إلي أين نصل من هنا؟
>> أصل لكي أقول نعم لقد حدثت تجاوزات ونعم كان هناك جو ومنطق وراء التصرفات ونعم كان هناك الخطأ والصواب ولكن الطريق السليم لمعرفة الحقيقة هو التحقيق في كل حالة.. واحدة بعد واحدة.. ولست اطلب ذلك انصافا لجمال عبد الناصر.
• إذن تطلبه لمن؟
>> اطلبه إنصافا للضمير المصري، لكي لا نحمل الشعب المصري 'عقدة ذنب' كتلك التي تحملها الشعب الالماني حينما سأل نفسه بعد الحرب العالمية الثانية قائلا: 'واين كنا نحن حينما كان ذلك يجري كلة تحت اعلام النازي' ان الشعب المصري لاينبغي تحميله 'بعقدة الذنب' لتضاف الي اثقاله إلا اذا كان مطلوبا كهدف تقييد حركة الشعب المصري 'بعقدة ذنب' تصده مستقبلا عن طلب الحرية الاجتماعية لان ثمنها علي الحرية السياسية باهظ وفادح!!
النكسة
• أستاذ 'هيكل' نتوقف عند نكسة 'هزيمة' يونيو ٧٦، ومسئولية عبد الناصر عنها؟
>> إن جمال عبد الناصر مسئول عما حدث سنة ٧٦٩١، وقد قبل هو بتحمل كل المسئولية فيما جري وصارح بذلك شعبه وأمته، وكانت رغبتهما بعد ذلك معا هي الطلب بأن يظل في موقعه ويقود الحرب.. لقد خسرنا معركة، ولكن الحرب مستمرة!
• ماذا تعني هذه المسئولية؟
>> مسئولية عبد الناصر، في الدرجة الأولي، تنبع من سببين: 'الأول': الخطأ في حسابات عملية إغلاق خليج العقبة .. 'الثاني': الخطأ في ترك المشير عبد الحكيم عامر يقود المعركة فعلا، بينما هو عمليا لا يصلح لقيادتها، لأنه تحول في الحقيقة عند رتبة الرائد، من ضابط إلي سياسي.
• وماذا عن الأجواء العامة التي احاطت بما حدث؟
>> فعلا، لكي توضع مسئولية جمال عبد الناصر في إطارها العملي والتاريخي فإنه يتحتم علينا إلقاء نظرة واسعة علي الصورة العامة للموقف السياسي والعسكري كما بدت أمامه وقتها.. وفيما يتعلق برؤيته العامة لمجري الصراع العربي - الاسرائيلي: كان جمال عبد الناصر حريصا كل الحرص فيما يتعلق بالصدام المسلح مع إسرائيل لعدة أسباب، منها: ان الصدام المسلح مع إسرائيل لابد فيه من حساب احتمالات التدخل الأمريكي، وهو احتمال قائم يستهدف فرض الهزيمة علي العرب إذا استطاع أو سلبهم ثمار النصر إذا استطاعوا، وإذن فان نجاح الصدام المسلح في رأيه كان مرهونا بظرف دولي وعربي ملائم تكون فيه القوة الأمريكية مصابة بالشلل، أو يمكن إصابتها به، كما كان رأيه ان القوات المسلحة المصرية تحتاج علي الأقل إلي خمسة عشر عاما تستوعب فيها سلاحها الذي حصلت عليه من الاتحاد السوفيتي ولم يكن يقيس هذه المدة بتاريخ عقد أول صفقة سلاح سنة ٩٥٩١، وإنما كان يقيس ابتداء من سنة ٧٥٩١. ومن هنا، فقد كانت الفترة المحتملة للصدام المسلح في تقديره هي الفترة الواقعة ما بين سنة ٢٧٩١ وسنة ٥٧٩١، وكان رأي جمال عبد الناصر أن إسرائيل 'نمو' دخيل في وسط الجسد العربي، وأن مقاطعتها وإحكام الحصار من حولها وتشديد الضغط عليها كل يوم، سوف يؤدي إلي حبس الدم عن خلاياها، ومن ثم إلي ضمورها وسقوطها.
• وماذا عن تصوره العام لمجري الصراع سنة ٧٦٩١؟
>> مع بداية سنة ٧٦٩١، فإن جمال عبد الناصر راح يتابع صورة التطورات في الشرق الأوسط باهتمام مشوب بحذر شديد لعدة اسباب: (١) كان يشعر أن علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلي نقطة عنف شديد عبر عنها قرار الرئيس الأمريكي 'ليندون جونسون' بوقف بيع القمح الأمريكي إلي مصر، (٢) لم يكن يستبعد، والأمر كذلك ان تلجأ الولايات المتحدة إلي 'الرادع الإسرائيلي' كما فعلت بريطانيا وفرنسا في حرب السويس سنة ٦٥٩١، (٣) كان يري ان الظروف غير ملائمة له عسكريا بسبب وجود فرقتين من الجيش المصري في اليمن وقتها وكان يقدر انه إذا أرادت إسرائيل استغلال فرصة، فهذه هي الفرصة المتاحة لها، وكان قد حاول من قبل أكثر من مرة ان ينهي معركة اليمن، ولكن محاولاته جميعا لم تصل الي نتيجة، وتلك قصة أخري علي أي حال!.
• حدثنا عن التوتر علي الجبهة السورية ودوره في التمهيد للنكسة؟
>> بدأ ليفي اشكول - رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت - وتبعه اسحاق رابين - رئيس هيئة اركان الجيش الإسرائيلي - يوجهان التهديدات الصريحة إلي سوريا، ويتحدثان علنا عن 'الزحف علي دمشق' وبدأ جمال عبد الناصر يتقصي حجم الخطر الموجه إلي سوريا، وتصادف في ذلك الوقت أن كان أنور السادات في موسكو عائدا من رحلة في 'كوريا الشمالية'، فإذا بالرئيس 'نيكولاي بادجورني' يطلب اليه نقل رسالة إلي عبد الناصر عن الخطر الموجه إلي سوريا، وعن استعدادات إسرائيل لتوجيه ضربة إليها، وتواترت معلومات عن حشد ما بين تسعة ألوية إلي أحد عشر لواء أمام سوريا ثم تلقي جمال عبد الناصر من دمشق تقريرا بعث به السفير السوري هناك وقتها، وهو الاستاذ صلاح الطرزي، يقول :'إن مصادر موثوق بها اكدت له أن الهجوم علي سوريا قد تحدد بالفترة ما بين ٦١ و 22 مايو' .. وهكذا واجهته ضرورة اتخاذ قرار، فلقد تأكدت امامه احتمالات ضربة عسكرية موجهة الي سوريا، ولم يكن في مقدور مصر ان تقف مكتوفة اليدين ولست اعرف ماذا كانوا يقولون عنه او عن مصر لو أنه وقف ساكتا ولم يتحرك، وترك سوريا للغزو وحدها.
• وماهي طبيعة هذا التحرك الداعم لسوريا، وفلسفته؟
>> كان عليه أن يتحرك قبل ٦١مايو واتخذ قرارا بحشد قوات مصرية في سيناء تأهبا واستعدادا لمساعدة سوريا وتخفيف الضغط عليها.
• وقرار إغلاق خليج العقبة؟
>> كان الطلب المصري الأساسي هو إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين 'طابا' و'رفح' ولكن 'بوثانت' السكرتير العام للأمم المتحدة، بناء علي نصيحة من مساعده الأمريكي الدكتور 'رالف بانش'، قال إن 'عمل قوات الطوارئ هو مهمة سلام لا تتجزأ'.. وبالتالي 'فليس هناك مجال لسحب جزء من القوة وابقاء جزء منها، لأن وجود القوة في رأيه 'مهمة' تؤديها بالكامل او تتخلي عنها بالكامل، وإذن فهي إما أن تبقي في مواقعها كما هي، وإما أن تنسحب من جميع مواقعها، وهذا حق مصر علي أي حال بمقتضي اتفاقها مع سلفه داج همر شولد سنة ٧٥٩١'.. ولم يكن امام جمال عبد الناصر من حل إلا أن يطلب سحب القوة من كل مواقعها، والا فإن هذه القوة سوف تكون مانعا بينه وبين اي عمل لنجدة سوريا. وكان طلب خروج القوة كلها.
• وكيف تلاحقت التطورات فيما بعد؟
>> وصلت وحدات الجيش المصري إلي شرم الشيخ وطرحت حكاية خليج العقبة نفسها علي الموقف، يقفل الخليج أو لا يقفل في وجه الملاحة الإسرائيلية؟.. إن اغلاق الخليج حق مصري بمقتضي قوانين السيادة والحرب.. ثم إن اغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية كان مطلبا عربيا يلح به الكل علي مصر، ولكن القرار لابد أن يصدر بعد دراسة مسئولة.. ودعيت اللجنة التنفيذية العليا لاجتماع طارئ وطرح امامها موضوع اغلاق خليج العقبة، وقررت اللجنة باجماع الآراء إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية تمسكا بحق السيادة، ونزولا علي مقتضيات حالة الحرب، واستجابة لمطلب عربي ملح، ثم إقرارا بأمر واقع نشأ عن سحب قوة الطوارئ الدولية من كل سيناء.. اللجنة كلها بإجماع الآراء قررت، ولم يكن القرار انفراديا من جمال عبد الناصر.
• لكنك كتبت آنذاك محذرا من مخاطر إغلاق خليج العقبة وأن هذا القرار يعني الحرب.
>> نعم، ويومها اتهمت علنا بالانهزامية وبين الذين اتهموني وقتها بعض الذين يتهمون جمال عبد الناصر اليوم بالتهور في ذلك القرار!
• ماهو البعد في تضخيم الهزيمة علي هذا النحو الذي نراه؟
>> لقد نسينا عندما وقعت الهزيمة ان حربنا مستمرة.. كان شعورنا بالمهانة شديدا، ولهذا أسباب تبرره، ولكننا كان يجب ان ندرك ان من بين اهداف اعداء العرب تلطيخ سمعة الجيش المصري، واقناع الشعب المصري والأمة العربية انه ليس في مقدور ايهما ان يعتمد عليه.. كان من أهدافهم ان يسقونا الشعور بالمهانة، وأن يترسب هذا الشعور بالمهانة الي اعماق اعماقنا.. وساعدناهم وشربنا .. لقد هزمت أمم قبلنا في معارك، ولكنها لم تعتبر هزيمة معركة خسارة للحرب، طالما انها تملك إرادتها..
• لكنك لم تحدثنا عن مسئولية جمال عبد الناصر عن النكسة؟
>> جمال عبد الناصر مسئول، ولا يمكن لأحد أن يعفيه من مسئوليته بل ولم يقبل هو بديلا عن الاعتراف بها كاملة، ولم يتمسح بشيء ولا تواري خلف احد وعندما يجيء وقت الحكم التاريخي عليه في مسألة الهزيمة، فلابد أن توضع في الاعتبار عوامل كثيرة: ظروف الازمة وتداعيها، وهل كان في وسعه ان يتقاعس عن نجدة سوريا؟ قيادته للحركة السياسية في الازمة، والطريقة التي حاول بها تفادي الانفجار، تمثيله للارادة العربية في الصمود بعد الهزيمة وهذا في حد ذاته من امجد مواقفه، فالهزيمة الحقيقية هي هزيمة الارادة، وليست الهزيمة هي التراجع عن ارض.. وخصوصا ان الصراع طويل ومستمر. نجاحه في اعادة بناء القوات المسلحة في ظرف ستة شهور من الهزيمة، عودته الي ميدان القتال طبقا لسياسة الدفاع - والردع - والتحرير وقد بلغت عودته الي ميدان القتال قمتها في حرب الاستنزاف التي هي الجولة الرابعة في الحرب العربية - الاسرائيلية.. استعداده وتخطيطه لمعركة التحرير.. ثم إن الهزيمة بكل مسئولياتها يجب ان توضع في اطارها من كفاحه كله، فلم تكن معركة ٥يونيو هي معركته الوحيدة، وإنما كانت واحدة من معاركه.. نجح في بعضها، ولم ينجح في البعض الآخر.
• ومن ينصف الزعيم الراحل؟
>> بعد مئات السنين وحينما يكتب التاريخ بشرف وامانة، وبغير احقاد وعقد، فإن التاريخ سوف ينصف جمال عبد الناصر حتي في هزيمة سنة ٧٦٩١.. ابسط ما سوف يقال عنه:
انه كان رجلا.. تحمل مسئوليته بشجاعة، وتقبل الحساب عنه في كبرياء .. ومثل كرامة وإرادة أمة بأسرها في يوم من احلك ايامها.. وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية انسانا آمن بوطنه وأمته وبمثلهما العليا، واعطي حياته لخدمة هذه المثل بشرف، وأصاب مرات واخطأ مرات، ولكنه حارب طول الوقت بايمان ويقين ولم يستسلم حتي النفس الاخير.. وكذلك يفعل الرجال.
نهاية المطاف
• وكيف تري تجربة عبدالناصر؟
>> إن جمال عبد الناصر كان تجربة هائلة في حياة هذه الأمة العربية وفي زماننا المعاصر كله، ومثل كل تجربة هائلة - خصوصا اذا كانت بالثورة - فإن التجربة تصبح حافلة، ذلك انها بالثورة تواجه بدايات جديدة، ثم انها تعطي للتحديات التي تطرح نفسها عليها اجابات مختلفة، وهذا مجال الصواب والخطأ .. وقد اصاب جمال عبد الناصر واخطأ، واعتقادي ان الايجابي في تجربته يرجح السلبي بكثير، ومحصلة اي حساب امين تعطيه اكثر مما تأخذ منه بفارق كبير لصالحه، ويكفي لأي واحد منا ان يلقي نظرة علي خريطة المنطقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وموازين القوي فيها، قبل جمال عبد الناصر وبعده، ليري الحقيقة ظاهرة وناصعة.
• وماهي مقاييس الحكم علي التجربة؟
>> عندما توزن اخطاء تجربة في مثل حجم تجربة جمال عبد الناصر، فإن هذه التجربة لايمكن ان تقاس الا بأهدافها هي، والا بظروفها هي، والا بالتحديات التي واجهتها هي والا بالخيارات التي كانت مفتوحة امامها والا اصبح التقييم تعسفا وانحدر التاريخ الي مستوي المؤامرة.. ثم إنه لايستطيع ان يقضي في مثل هذه التجربة، ولا حتي بالتقييم، هؤلاء الذين عادوا التجربة بمبادئها وحركتها وجماهيرها فعادتهم هذه التجربة مبدأ وحركة وجماهير. ان هؤلاء الاعداء لهم حق الكلام بالطبع، لايخنقه احد في حناجرهم ولكن كلامهم يكون من موقع العداء وليس من موضع القضاء ويجب ان يكون هذا واضحا لكي لاتختلط الصور.
*الاسبوع
أما 'عبد الناصر' فلأنها الذكري التسعين لميلاده..
وأما 'هيكل' فلأنه أفضل من يتناول الحقبة الناصرية.. وهو في تناولها مقل.
يملك 'هيكل' الوسائل..والوثائق، التي تجعله يتقدم علي غيره (ممن نهضوا من غياهب النسيان) لرصد ماحدث.
نحاول الوقوف (معه) عبر حوار تخيلي من واقع كتاباته، عند الظروف والملابسات، التي حولت تاريخ 'عبد الناصر' عند البعض إلي أسطورة، بينما حوله آخرون إلي اتهامات، تطاردها اتهامات.
منذ وفاته وحتي الآن، رسخ الخصوم لمشروع الانقلاب (الذي سماه الرئيس - السادات - ثورة تصحيح).. لم تتوقف المحاولة عند شخص وتاريخ 'عبد الناصر' فقط، لكنها حاولت النيل من منجزات ثورة يوليو كلها. وبدلا من أن توضع ثورة التصحيح (تلك) في مكانها الطبيعي - ضمن السياق التاريخ - والتعامل معها باعتبارها مشروعا للترسيخ - ترسيخ - الحكم طبعا لنظام جديد - إذ بالاتباع والمناصرين يخلطون الواقعي بالغيبي..ويحولون الذكريات إلي وثائق ومذكرات..تاهت الحقائق، وسط التسطيح والتلميح..وانعدمت الرؤية عند الأجيال التي لم تشاهد، ولم تشارك.
عندها تحتم الرجوع لرجل شاهد..وشارك، لكنه فضىل أن يترك مساحة بينه وبين الأحداث (قبل وبعد ثورة يوليو) في محاولات لتجريد الوقائع من الرواية الشخصية، كي تظل شهادته لوجه الله..ولوجه التاريخ..
• لماذا تبدو حريصا كل الحرص عند الحديث عن جمال عبدالناصر؟
>> في داخل الوطن العربي لم نتعود بعد أسلوب الحوار.. حوارنا حملات كراهية وحروب بالكلمات، وليس هناك ضمان لأي صاحب رأي يبديه بكل الموضوعية لذا منذ البداية حاولت قدر ما استطيع أن أتجنب الكتابة عن جمال عبدالناصر وحياته الحافلة وتجربته الكبيرة.. ولم اقترب من الحديث عنه إلا عند الضرورة القصوي.
• بمعني...؟
>> فعلت ذلك مرة في أعقاب رحيله مباشرة، ونشرت مقالا في ذكري الأربعين علي رحيله بعنوان 'عبدالناصر ليس أسطورة' أبديت فيه خشيتي من استغلال المستغلين لأغراضهم لقصة البطل فيه والرمز، وعبرت عن مخاوفي من تحويل تراثه إلي كهنوت غيبي جامد، بينما هو في الحقيقة تجربة إنسانية زاخرة قابلة للحياة والنمو والتطور .. ثم فعلت ذلك في ذكري مرور ٣٢ سنة علي ثورة ٣٢ يوليو وكانت الحملات ضده في مصر قد تصاعدت وأردت فقط أن أنبه إلي مقاصدها وإلي مصادرها، ولعلي لم أتجاوز كثيرا حين نسبتها إلي مخططات قوي السيطرة العالمية بشكل عام، وإلي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشكل خاص، ولم يكن ذلك تخمينا أو رجما بالغيب.
• كيف؟
>> يمكن الاستناد في ذلك إلي حقائق معروفة أكدتها ملفات هذه الوكالة التي كانت مفتوحة لمن يقرأ ويفهم ويستوعب، ويمكن الاستشهاد بما انتهت إليه لجان التحقيق الخاصة التي تشكلت لبحث تجاوزات وجرائم هذه الوكالة حيث ثبت يقينا أنها شنت حربا لا هوادة فيها ضد زعماء الثورة الوطنية المعادية للاستعمار وقيادات التقدم في العالم الثالث عموما: بعضهم حاولت اغتياله ماديا وبعضهم حاولت اغتياله معنويا، ونجحت في مرات ولم تنجح في مرات أخري.
• لماذا دائما في تناولك للعهد الناصري تحرص علي التذكير بأنك لا تدافع عنه؟
>> جمال عبدالناصر لا يحتاج مني أو من غيري إلي دفاع عنه، ثم إنني أريد إذا كتبت أن أضع امام الناس صورة متكاملة للتجربة كلها: الضوء والظل، النجاح والفشل، الأصيل والدخيل في كل ما جري وكان، وإيماني بأن أي تقييم نزيه لتجربة عبد الناصر سوف يعطيه أكثر كثيرا مما يأخذ منه.
• وماذا عن روايات عشرات الخارجين من النسيان من رواة الحكايات عن عصر عبدالناصر؟
>> دعوا الكلام لمن يريد الكلام، ولو أصغينا جيدا لوجدنا المتكلمين يروون في الواقع عن أنفسهم وليس عن عبدالناصر.. بعضهم يبحث لنفسه عن تاريخ في الماضي، وبعضهم يبحث عن دور في الحاضر.. ثم إن الروايات كلها قادمة من النسيان، وإلي النسيان تذهب. الاختلاق واضح في كثير منها حتي أن بعض الذين قابلوا جمال عبدالناصر لدقائق ينسبون إليه بخيالهم أحاديث تستغرق أياما بعد أيام والروايات معظمها مختلط متضارب. ولم يتجاسروا جميعا علي سلبياته حتي جاء الموت ومنحهم الحرية وهذا شيء سيئ، واسوأ منه انهم ظلوا من ٨٢ سبتمبر ٠٧٩١ إلي بداية سنة ٤٧٩١ يتمسحون بذكري الراحل والرحيل وكأنهم لا يصدقون المقادير، ثم بعد أربع سنوات كاملة اطمأنوا فيها إلي أن الجسد المكفن بالثوب الأبيض لن يخرج من قبره، فتحوا أفواههم وتكلموا!
• تقصد من تجاوزوا حد المعقول في الاتهامات التي وجهوها؟
>> نعم.. لاسيما اتهام جمال عبدالناصر بأنه اختلس لنفسه وهرىب إلي الخارج لحسابه مبلغ خمسة عشر مليونا من الدولارات .. وهناك شخصيات عاصرت هذه القضية وعاشت التفصيلات كلها، وهم يعرفون أن هذه المبالغ التي تبرع بها الملك سعود جاءت في النور ووضعت في البنود التي كانت مرصودة لها.
• ألا تري أن مثل هذه الاتهامات أكبر من الصراعات والخلافات السياسية الداخلية؟
>> بالقطع هناك الكثير من الاساليب التي اتخذتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مجال توجيه الرأي العام في العالم منذ بدلت نشاطها أثناء الحرب العالمية الثانية خاصة تلك التي لجأت إليها الوكالة في مجالات الصحافة والنشر والإعلام بصفة عامة لكي تضمن تحقيق أغراضها .. من ذلك مثلا: أنها انشأت من وراء ستار دورا صحفية في عديد من بلدان العالم الثالث، ووكالات انباء وصور. كما انشأت الوكالة قسما خاصا لتزييف الكتب، ثم انشأت الوكالة قسما خاطا للتشويه
الاخباري Misinformationكانت مهمته صنع قصص اخبارية تخترع بالتلفيق.
قيم 'ناصر'
• أقرت لجنة تحقيق خاصة في السبعينيات - بالوثائق - ان تبرعات المجهود الحربي لم ينل منها عبدالناصر مليما واحدا غير أننا نريد الوقوف علي البعد القيمي في تفنيد مثل هذه الاتهامات'؟
>> تقصد سلوك عبدالناصر أو مجموعة القيم التي آمن بها، والتي طبعت نمط حياته، واتجاهات سياساته وتصرفاته اليومية؟
• نعم......!
>> أولا لابد أن تعرف أن الثروة أو الغني لم يكن بين مجموعة القيم الاجتماعية التي آمن بها عبدالناصر .. حيث كان انحيازه للفقراء بدليل أن أعدي أعداء عبدالناصر لا يكفون عن اتهامه بالحقد علي الأغنياء، ويعزون كثيرا من سياساته إلي هذا الحقد الذي يتصورونه .. ولم يكن جمال عبدالناصر حاقدا، ولكنه كان يري الغني الفاحش في وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر . وهكذا جعل هدفه الذي لا يحيد عنه تذويب الفوارق بين الطبقات.
ولقد كان من بين المعايير الصارمة التي ألزم بها نفسه ان لا يملك أرضا أوعقارا، ولم يكن ضد الملكية كمبدأ ولكنه كان ضد تجاوز الحدود فيها في مجتمع أغلبيته الساحقة من المعدمين .. وكان رأيه ان الحاكم في مصر لا يجوز له أن يمتلك لأنه بذلك يفقد قدرته علي التعبير عن مصالح الأغلبية ويجد نفسه - مهما حسنت نواياه - يعبر عن مصالح الأقلية.
• ينقلنا هذا لنمط حياته؟
>> لم يكن للرجل - وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه في مصر أو في العالم العربي أو في الدنيا الواسعة كلها - شهوة في طعام أو شراب .. وكان أفخر الطعام عنده علي حد تعبيره 'لحما وأرزا وخضارا' وماذا يأكل الناس غير ذلك؟ .. كان تساؤله ذلك مشوبا بالدهشة والاستغراب حينما كنت أقول له في بعض المرات مداعبا 'إن الدنيا تقدمت ومع التقدم تطور المطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبع ولكنه أصبح فنا من فنون الحياة' .. وكان ذلك في رأيه تجديفا يكاد يقترب من الكفر بنعمة الله (!!).
• لكن البشر - وهو منهم - يطمعون في ثروة يؤمنون بها شيخوختهم؟
>> جمال عبدالناصر كان يعرف انه لن يعيش طويلا، ولربما من هذه النقطة يستطيع عدد من الباحثين ان يعثروا علي السبب الحقيقي الذي دفع جمال عبدالناصر إلي محاولة تحقيق أكثر الكثير من المنجزات في أقل القليل من فسحة الزمن.
• ومستقبل الأولاد؟
>> كان ذلك أمرا لم يخطر علي بال عبدالناصر .. بل العكس، ذلك أنه كان يعتقد اعتقادا جازما لم يخالجه فيه شك أن أسرته لن تحتاج شيئا من بعده، وأذكر - والله شاهد - مرة تحدثنا فيها عن أولاده ومستقبلهم وكان قوله 'إنني أعرف الناس في بلدنا وأعرف طيبة قلوبهم، وأعرف أنهم من بعدي سوف يضعون أولادي في عيونهم' .. وعندما رحل جمال عبدالناصر كان كل ما تركه من حطام الدنيا قرابة أربعة آلاف جنيه، ألفين وخمسمائة منها قيمة بوليصة تأمين علي حياته، عقدها قبل ذهابه إلي حرب فلسطين .. ثم حساب في بنك مصر باسمه شخصيا كان رصيده حوالي ألفين وأربعمائة جنيه، .. ويوم رحل عبدالناصر كانت ابنته الكبري هدي تعمل في سكرتاريته بمرتب قدره ستة وثلاثون جنيها، وكان قرينها حاتم صادق يعمل معي في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام بمرتب قدره مائة جنيه، وكان قبل ذلك في سكرتارية رئاسة الجمهورية.
وكانت ابنته الثانية مني تعمل معي أيضا في دار المعارف المملوكة للأهرام بمرتب قدره ثلاثون جنيها، وكان زوجها أشرف مروان يعمل في سكرتارية الرئيس للمعلومات موظفا في الدرجة السادسة بمرتب قدره اثنان وثلاثون جنيها في الشهر.
• يبدو من كلامك ان عمل أبناء عبدالناصر كان منحصرا في العمل معك 'في الأهرام' أو معه 'في الرئاسة' فما هو السر في ذلك؟
>> حينما تخرجت ابنته هدي وتخرج معها في نفس السنة قرينها حاتم صادق في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كان جمال عبدالناصر في حيرة شديدة، وأتذكره يومها يقول لي: لا أعرف ماذا يفعل حاتم وهدي، لابد لهما بالطبع أن يعملا، ولا استطيع أن أكلم وزيرا أو رئيس مؤسسة لكي يلحقهما بعمل عنده .. ولو تركتهما للظروف الطبيعية فإني أعلم ان كثيرين سوف يتسابقون عليهما وهذه مفسدة لهما في هذه السن .. وسألني بطريقة عابرة: هل تستطيع أن تأخذهما معك في الأهرام .. معك استطيع أن اتكلم بغير حرج وعندك أعرف أنهما لن يجاملا، فإنك بصداقتك لي لست في حاجة إلي استغلالهما زلفي أو تقربا.
• هذا عن أن مجموعة القيم فماذا عن السمات الشخصية؟
>> أعداؤه - قبل أصدقائه - يعترفون له بأنه كان مقاتلا إلي النفس الأخير، ولو كان ممن تقصر هممهم عن تحديات عصرهم لأعفي نفسه - دون حرج - من معارك بعد معارك فرضتها عليه آمال الأمة وكان يستطيع ببساطة أن يجعل أذنا من طين وأذنا من عجين ويصد عن سمعه صوت النداء .. لقد انتخب لرئاسة الجمهورية أول مرة في يونيو ٦٥٩١، وكان في استطاعته أن يعطي نفسه فرصة يتمتع فيها بمزايا المنصب وهي هائلة لمن يريد، لكنه بعد أقل من شهرين كان في عين العاصفة بقراره تأميم قناة السويس .. وبعد حرب السويس كان أسطورة في العالم العربي،فقد حقق للعرب أكبر وأكمل نصر حصلوا عليه في تاريخهم الحديث، وواجهه في ساحة القتال ثلاث دول، بينها اثنتان من الدول العظمي في زمانهما: بريطانيا وفرنسا - وصمد في الميدان رغم تباين القوي العسكرية ولم يستسلم، ثم انطلق بالعمل السياسي من حيث توقف عسكريا ووصل إلي هدفه كاملا: قناة السويس تحت السيطرة المصرية، والانسحاب البريطاني الفرنسي من بورسعيد كاملا، والانسحاب الإسرائيلي من سيناء كلها ومن قطاع غزة لم يرضخ للمساومة .. وكان في استطاعته بعد السويس أن يعيش علي ماضيه .. ماضيه يكفيه ويصنع منه أسطورة لم تسبق .. ولا تلحق.
تصحيح أم اغتيال؟
• وهل نقبل ما كان في النظام كله علي علاته لا نناقشه، أو يكون البديل إسقاط النظام من أساسه بغير مناقشة؟
>> لعلي آخر من يقول بذلك، وشاهدي في ذلك ما كتبته في نقد ممارسات النظام في حياة 'عبد الناصر' نفسه، فلقد كتبت وأفضت في الكلام عن تجاوزات وقعت في كثير من المجالات.. ولخصت رأيي يوما في نقد النظام بأنه 'يعتمد اكثر مما يجب علي سلطة الدولة في الداخل، وأكثر مما يجب علي قوة الدولة في الخارج'، ومازال ذلك نقدي الأساسي لعهد جمال عبد الناصر، وربما لم ينس الناس أن أول محاكمة 'لمراكز القوي في مصر' - وبهذا الوصف نفسه - جرت في عهد عبد الناصر، ولعلي لا أتجاوز حدي إذا قلت إنني المسئول عن سك عبارة وردت في خطاب جمال عبد الناصر أمام مجلس الأمة الذي انتخب علي أساس دستور سنة ٤٦٩١ - والذي رأسه أنور السادات - والتي كان نصها 'أن سيادة القانون لابد لها أن تعلو علي مراكز القوة' وإذن فإني آخر من ينكر حق وواجب أي نظام في تصحيح مساره.
• العلاج لا يعرف الدبلوماسية؟
>> قطعا .. لكني أفرق بين التصحيح وبين الإدانة الكاملة والنهائية. التصحيح ليس ثورة جديدة ولاهو ثورة مضادة. ولكن التصحيح عملية إزالة شوائب لحقت بالعمل الوطني أثناء ممارسته اليومية لمبادئه الأصيلة واستراتيجيته المتصلة وبالتالي فإنها ليست بداية جديدة، وإنما هي دفعة مضافة.
• إذن فأنت لا تعترف بما أطلق عليه البعض 'ثورة التصحيح'؟
>> مع اعتزازي الشديد بالدور الذي قمت به شخصيا إلي جانب أنور السادات في الأحداث التي وقعت في مصر خلال شهر مايو ١٧٩١ - لا أعتبر أن ٥١مايو كان ثورة جديدة في مصر. ولعلي واحد من الذين يرون الاصرار علي اعتبار يوم ٥١مايو بداية ثورة جديدة بدأ بها عهد أنور السادات، ظلما لأنور السادات وإساءة إليه قبل أن تكون الإساءة لغيره .. معني ذلك ببساطة أنهم يأخذون من انور السادات مجد منجزات شارك فيها، وهي من أرصدة قوته، خاصة أمجاد ٣٢ يوليو، والإصلاح الزراعي، وإعلان الجمهورية، وكسر احتكار السلاح، ومعركة مقاومة الاحلاف، وحروب تصفية الاستعمار، وتأميم قناة السويس، وحرب السويس العظيمة نفسها، والتصنيع، والتحول الاشتراكي، والتصدي لمسئولية الوحدة العربية، وبناء السد العالي، وقيادة حركة الثورة الوطنية وتيار عدم الانحياز، وانشاء منظمة الوحدة الافريقية، وعودة بترول العرب للعرب، إلي آخره.. إلي آخره .. ما يحدث في مصر ليس كذلك! إنه إدانة كاملة ونهائية كما قلت. ليست وقفة ولكنها محاولة اغتيال لكل ما كان واذا كانت عودة فهي ليست عودة الي الطريق، ولكنها: عودة عن الطريق، عودة إلي ما قبل ٣٢ يوليو ٢٥٩١!
• وما هو الفيصل بين الحقيقة والاتهامات؟
>> في تجربة عبد الناصر كثير يستحق النقد ويستوجب التصحيح، شأنها في ذلك شأن أي تجربة انسانية ضخمة وهائلة، والفرز ضروري، والتقويم حق، والتصحيح .. لقد ناديت، ومازلت أنادي بضرورة التحقيق النزيه في كل جوانب التجربة حتي يظهر وجه الحقيقة، وقلت ومازلت اقول إن إطلاق التهم بغير تحقيق لن يؤثر في عبد الناصر بقدر ما يؤثر في وجدان الشعب المصري لأنه يفقده الثقة في كل شيء، وليس هناك كائن حي.. فردا كان أو شعبا.. يستطيع ان يعيش ويكافح اذا سقطت في خياله كل المثل.
حكايات المذابح
• هذا لا يعني أن عبدالناصر لم يكن مسئولا عما وقع في عهده.
>> نعم.. إن عبدالناصر مسئول قبل غيره عن كل شيء وقع في عهده، وقد كان هو أول من يصر علي ذلك ويتمسك به.
بما يدل علي أن جمال عبدالناصر نفسه أول الراضين والمصرين علي أن يتحمل المسئولية كلها عن كل ما جري في عهده وإننا عندما نقول بذلك يجب أن ننصب ميزانا لهذه المسئولية يفرز الخطأ عن الصواب، والايجابي عن السلبي، والحقيقة عن الادعاء! .. ثم إن علينا بعد ذلك أن نضع الوقائع في إطارها، والتصرفات في ظروفها، والخيارات في حدود المتاح ومنها وقتها، وإلا كنا بمثابة من يدعي الحكمة بأثر رجعي، أو يطلب عصمة الآلهة لأحكام البشر!
• في سياق تحديد المسئوليات هناك ثلاثة ملفات اتهم فيها عبدالناصر بالتصرف كما يتصرف 'السفاح' اقصد الزج بجيش مصر في اليمن و'سفح' دم العدالة في مذبحة للقضاء، و'سفح' دم الحرية باغلاق الصحف.
>> سوف أبدأ باليمن فاسأل: هل يمكن أن يكون هناك تقييم للتدخل العسكري المصري في اليمن لا يأخذ في حسابه الظروف السياسية التي كانت تسود العالم العربي وقتها؟
أي ظروف؟ بعد مؤامرة الانفصال وما جري في سوريا وقتها، اعقاب مؤتمر 'شتورة' الذي اتخذه النظام الانفصالي في سوريا منبرا للهجوم علي الحركة الوطنية العربية، وكان يبدو أن القوي المعادية للتقدم العربي تريد أن تخنق كل صوت ينادي بالتحرر العربي .. وفي ذلك الوقت جاءت ثورة اليمن وانقضت عليها العواصف. وفي يوم عصيب من أيام شهر اكتوبر ٢٦٩١ كانت ثورة اليمن الوليدة وحدها في مهب العاصفة .. وفي القاهرة كانت هناك مشاورات مستمرة بعد أن طلبت الثورة الوليدة نجدة من مصر بدورها وحجمها في العالم العربي في ذلك الوقت .. وكان أنور السادات اكثر الناس اهتماما بهذا الموضوع في القاهرة لأن اختصاصه السياسي في القيادة المصرية كان يشمل ضمن ما يشمل شئون اليمن والجنوب العربي والخليج، وكانت توصية أنور السادات في (نطاق اختصاصه) تتلخص في أن مصر لا يسعها أن تتفرج علي ما يجري في اليمن مكتوفة اليدين وأن الواجب القومي يحتم عليها أن تتدخل عسكريا خصوصا بالطيران لرد العاصفة عن الثورة اليمنية. ودارت مناقشات واسعة حول هذه التوصية.
وبهذا المنطق تدخلت مصر لنجدة الثورة في اليمن وكان انور السادات ولمدة خمس سنوات متصلة هو المسئول الذي تولي إدارة الجهد السياسي المصري في اليمن في حين أن عبدالحكيم عامر كان المسئول عن الجهد الحربي.
• وماذا كانت النتائج؟
>> لقد أحدث التدخل المصري في اليمن آثارا واسعة المدي ألخصها فيما يلي: 'خرج الاستعمار البريطاني من شبه الجزيرة العربية واستقل الجنوب واستقل الخليج .. تحت ضغط التدخل المصري فإن السيطرة الأمريكية اضطرت إلي ارخاء قبضتها المسيطرة علي الموارد العربية في شبه الجزيرة واتخذت موقفا اكثر تلائما مع الأنظمة الوطنية وسمحت لها بدور متزايد في توجيه أمور ثرواتها .. ان الدول الوطنية في هذه المنطقة اتجهت تحت ضغط الظروف إلي 'التحديث' وقد كا نت من النتائج المباشرة لتطورات المعارك في اليمن أن اعتلي الملك فيصل عرش السعودية وبدأت عملية 'التحديث' في المملكة تحت توجيهه، وراحت الأسرة في السعودية تتحول إلي دولة' .. وهذه كلها منجزات تاريخية ضخمة لا يمكن تقييم التدخل المصري في اليمن بغير ادخالها في الحساب بصرف النظر عن الثمن الذي دفعته مصر.
• لكن دائرة الحرب ومن ثم الخسائر اتسعت!!
>> اتسعت الحرب لا لأن هذا الطرف العربي أو ذلك تدخل فيها، ولكنها اتسعت حينما تدخلت فيها قوي السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية التي جندت للحرب آلافا من الجنود المرتزقة الأجانب، انجليزا وألمانا وفرنسيين وأمريكيين، وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسي بسهولة ما هو حق لنا ونبتلع بسهولة دعاوي الآخرين علينا.
• تقصد أن هناك عوامل ودوافع حتمت مشاركة مصر بما نتج عنها؟
>> بالقطع .. حتي نضع حرب اليمن في سياقها الصحيح من قصة النضال العربي المعاصر.. إطارها مسئولية مصر القومية.. ظروفها الصراع المتصل بين الحركة الوطنية العربية وبين قوي السيطرة العالمية ونتائجها ليست فقط ما دفعته مصر من تضحيات في اليمن ولكن هذا التحول الضخم الذي نراه الآن في شبه الجزيرة العربية وعند طرفها الجنوبي وعلي شطآن الخليج!
• وماذا عما يسمونه مذبحة القضاء عام ٩٦٩١؟
>> سوف أروي بشأنها ما أذكره من ظروفها واعتقد أن ذاكرتي مازالت سليمة .. اقول 'أولا' ان جمال عبدالناصر لم يتدخل في حياته في حكم من احكام القضاء وكان لديه ذلك الاحساس العميق بقدسية العدل وهو احساس له جذوره البعيدة في المجتمع المصري بحكم التكوين الحضاري لشعب استقرت حياته في بيئة زراعية ترسخت فيها فكرة الاحتكام إلي قانون القضاء .. واتذكر الحرج الذي احس به يوما حين جاءه خطاب مكتوب من الملك سعود يرجوه فيه أن يتدخل لكي تحصل السيدة ناريمان ملكة مصر السابقة علي طلاق من زوجها الدكتور أدهم النقيب وكانت ناريمان قد لجأت إلي الملك وكان النزاع بين الزوجين قضية أمام محاكم الاحوال الشخصية في مصر وصلت إلي حد أن طلب الزوج زوجته في بيت الطاعة واستصدر حكما قضائيا بما طلب .. وأراني جمال عبدالناصر خطاب الملك سعود إليه بتوقيعه وهو يقول:
'إنني أريد أن أجامل الرجل في أي شيء يطلبه مني.. ولكنه قصدني حيث لا استطيع أن أجيب طلبه، ولا أعرف كيف أرد عليه، وهل يصدقني إذا قلت له: انني لا استطيع أن اتدخل في اعمال محكمة شرعية؟ وكيف اتدخل؟!'
رويت هذه الواقعة الصغيرة كمقدمة فقط! .. وأصل منها إلي الظروف التي أحاطت بما اطلق عليه وصف مذبحة القضاء في صيف سنة ٩٦٩١، في صيف ذلك العام ٩٦٩١ كان جمال عبدالناصر في اجازة اجبارية بالإسكندرية، كان مقررا أن يسافر في ذلك الصيف للعلاج الطبيعي مرة ثانية في مصحة 'تسخالطوبو' في الاتحاد السوفيتي ولكن تطورات حرب الاستنزاف أعاقته عن السفر، وأجل سفره اسبوعا بعد اسبوع ثم ألغي سفره في تلك السنة تماما ليكون بقرب المعارك الدائرة علي الجبهة ونصحه الأطباء بأسبوعين علي الأقل يقضيهما في اجازة كاملة .. ولكن شواغله كانت تلح عليه، ولا تمنحه الفرصة التي يلح عليها أطباؤه وسمعت منه ذات مرة خلال تلك الفترة في الإسكندرية أن بعض المشاكل في مجال القضاء تطرح نفسها عليه، وأن تقارير أمامه تشير إلي أن بعض المحاكم تطرد فلاحين من أراضيهم المستأجرة لصالح كبار الملاك ثم ان بعض هذه التقارير يشير إلي أن بعض القضاة الذين اصدروا مثل هذه الاحكام سبق أن طبقت عليهم أو علي أسرهم احكام قانون الإصلاح الزراعي، وكان رأيه أن ذلك وضع لابد من بحثه وأنه شكل لذلك لجنة خاصة سوف تقدم إليه توصياتها وكان بين اعضائها السادة شعراوي جمعة وسامي شرف والمستشار عمر الشريف المستشار القانوني لرئاسة الجمهورية وآخرون .. ولاحظ هو تحفظي علي ما سمعته منه فأضاف: انني وضعت أنور السادات علي رأسهم لكي يتابع ما يفعلون وهو بينهم الذي يتصل بي.
• وبماذا شعرت في هذا الرد؟
>> أحسست بارتياح إلي وجود أنور السادات بالقرب من عمل هذه اللجنة غير أن الحساسية الخاصة لموضوع القضاء جعلتني أفكر وأحاول من بعيد متابعة عمل اللجنة واسأل كثيرين من المتصلين بالمسألة وبينهم المستشار ممتاز نصار رئيس مجلس إدارة نادي القضاة، وقد لقيته في تلك الفترة اكثر من مرة. وذات مرة في الإسكندرية كنت علي موعد مع جمال عبدالناصر في استراحة المعمورة في الساعة الثانية عشرة ظهرا وكنت أريد أن أكلمه ضمن موضوعات اخري في مسألة القضاء. ولكي أكون مستعدا دعوت الدكتور جمال العطيفي وهو المستشار القانوني ل'الأهرام' وقتها ووكيل مجلس الشعب الآن، إلي لقائي في الصباح الباكر من ذلك اليوم وأثرت معه موضوع القضاء تفصيلا، وسمعت منه رأيه وهو رأي خبير يدرك أهمية وخطورة وجلال تناول موضوع له هذه الحساسية وطال حديثنا إلي قرب الظهر وراودني احساس بأن جمال عبدالناصر يجب أن يسمع ما سمعت من جمال العطيفي ولكن كيف؟! .. انني علي موعد مع الرئيس وسوف أقول له ما سمعت منك، وأريدك أن تركب معي في سيارتي وتنتظر فيها حتي إذا ما احتجت إلي أي تفاصيل اثناء حديثني مع جمال عبدالناصر خرجت فاستوضحت منك ما أريده.
وذهبنا إلي المعمورة ودخلت مكتب جمال عبدالناصر وسيارتي في الخارج ينتظرني فيها جمال العطيفي وفتحت الموضوع.. قلت إن مسألة القضاء حساسة فهو مرفق في مصر مقدس، وأي اقتراب منه يجب أن يكون بمنتهي الدقة والتحرز. ثم قلت إنني تحدثت في هذا الموضوع مع خبراء يعرفون أهميته وقدره وبينهم جمال العطيفي الذي كان معي هنا هذا الصباح وحتي الظهر وكان بودي لو أن الرئيس استطاع ان يسمعه مباشرة.
ثم اضفت : لقد فكرت ان أجيء بجمال العطيفي ليقابلك معي وحتي تسمع منه ولكني ترددت .. وقال جمال عبدالناصر: ليتك فعلت.. إنني حقيقة أريد أن أسمع رأي خبير لا علاقة له بجهاز الدولة.. كثيرا ما حاولت ذلك في مسائل أخري ولكنهم يجيئون امامي فلا يتكلمون .. قلت: أظن أن جمال العطيفي يمكن أن يتكلم خصوصا إذا كنت معه.
وقال الرئيس: ليس لك حق أنك لم تأت به .. وقلت معترفا: جمال العطيفي معي في سيارتي هنا في المعمورة ولم أقل له إن هناك احتمالا لأن يراك .. وقال عبدالناصر: اذهب وأت به.. وخرجت إلي سيارتي وجمال العطيفي ينتظرني فيها أقول له إن الرئيس يطلبه، وفتحت الدهشة فمه ولكنه سار معي.. وقلت له ونحن ندخل البيت .. جمال: هذه فرصة لا تعوض.. وأرجوك أن تتكلم بنفس الصراحة التي كنت تتحدث بها معي.
• وماذا حدث بعد ذلك؟
>> ودخلنا علي جمال عبدالناصر.. بعد عشر دقائق من الحديث كان جمال عبدالناصر قد أزال بحديثه البسيط كل أثر للدهشة والرهبة عند رجل لم يكن يعرف أنه سيلقاه، ولم يكن مستعدا للقائه، ثم استمرت جلستنا في شرفة بيت المعمورة لمدة قاربت الثلاث ساعات و كان جمال العطيفي يتكلم وكان جمال عبدالناصر يسأل ويستوضح ويستوثق .. وفي النهاية قال الرئيس: جمال.. هل عندك مانع أن تنضم إلي اللجنة التي تقوم بدراسة الموضوع ؟ وكان رد جمال العطيفي انه يشرفه القيام بأي خدمة يطلبها منه الرئيس. وأحسست بعد هذه المقابلة أنني أديت واجبي كمواطن وكصديق لجمال عبدالناصر .. وكان منطقي أنه إذا كانت اللجنة التي تبحث موضوع القضاء تعمل تحت رقابة أنور السادات ويشترك في اعمالها جمال العطيفي إذن فالأمور في مسارها الصحيح .. وصدرت بعد ذلك يوم ١٣ أغسطس ٩٦٩١ إجراءات في مجال القضاء وأثارت هذه الإجراءات ردود فعل كان يمكن أن يسمعها جمال عبدالناصر ويستجيب لها، ولكن الثورة في ليبيا قامت يوم أول سبتمبر ٩٦٩١ وشدت الانتباه كله إلي ناحية أخري.
• هل هذه خلاصة ما حدث؟
>> نعم فأمام عيني لم يكن الرجل مندفعا بشراسة قاتل! إلي مذبحة للقضاء، لقد كانت امامه مشكلة اجتماعية سياسية رآها من وجهة نظره خطأ أو صوابا تتطلب حلا. وشكل لجنة لدراستها والتوصية بما يمكن عمله حيالها، ضمن اعضائها مستشار الرئاسة القانوني ووضع فوق اللجنة زميلا له 'السادات' موثوقا به ليتابع اعمالها ثم كان علي استعداد لأن يسمع، بل وكان علي استعداد لأن يناقش اكثر مع من يستطيع مناقشته في موضوعه ولو بغير موعد سابق، وليكن أن شيئا ما فيما اتخذ من إجراءات جانبه التوفيق.. ليكن.
• يبدو أننا ننتقل إلي الاتهام الثالث المتعلق بسفح دم الحرية وإغلاق الصحف.
>> أظن أن القائلين بها يقصدون واقعة اغلاق جريدة 'المصري' التي كان يملكها الاستاذ محمود أبوالفتح التي كان يرأس تحريرها أخوه الاستاذ أحمد أبوالفتح .. وكان احمد أبو الفتح قد تعرف إلي جمال عبدالناصر عن طريق صهره ثروت عكاشة الذي كان عضوا مرموقا في حركة الضباط الأحرار .. وكان صوت الاستاذ احمد أبو الفتح من الاصوات المسموعة لدي مجلس الثورة في الفترة الأولي .. ومع بداية سنة ٣٥٩١ كانت الخلافات قد بدأت تدب في العلاقات ما بين جمال عبدالناصر والاستاذ احمد ابو الفتح وكانت لهذه الخلافات اسباب بعضها سياسي (تفسير معني الديمقراطية) والآخر نفسي متعلق بناتج مكانة أحمد ابو الفتح وسط النظام الحاكم الجديد والتي لم تنعكس وتترجم إلي واقع عملي حتي تحمي مصالح الشقيق الأكبر لأحمد أبو الفتح وجملة أنشطته التي عددها في أوربا وفي بعض العواصم العربية وبالذات 'بغداد' نوري السعيد .. وقال القضاء إن محمود أبو الفتوح أتي أفعالا ضد سلامة الوطن ومن شأنها افساد أداة الحكم وذلك أنه في غضون سنة ٤٥٩١، قام بدعايات واتصالات ضد نظام الحكم القائم بقصد تقويض النشاط القومي للبلاد .. أغري موظفا عموميا بطرق غير مشروعة بالمساهمة في اتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية .. وفي يوم ٢ مايو ٤٥٩١ اصدرت محكمة الثورة حكمها وكان الحكم إلي جانب السجن والمصادرة، ينص بالحرف علي 'سحب رخصة جريدة المصري منه وبذلك تتعطل الجريدة عن الصدور ابتداء من اليوم' .. وتشكلت محكمة الثورة التي حاكمت وحكمت علي النحو التالي: قائد الجناح عبداللطيف البغدادي رئيسا .. القائم مقام أنور السادات عضو يمين .. قائد الأسراب حسن إبراهيم عضو يسار .. كان هؤلاء الثلاثة هم القضاة الذين وضعوا ايديهم علي المصحف الشريف واقسموا علي أن يراعوا الله والوطن والضمير في أحكامهم .. ثم عرض الحكم للتصديق علي مجلس الثورة وكان رئيسه اللواء محمد نجيب وتمت الموافقة عليه .. فماذا أقول بعد ذلك؟!
الاعتقالات والحراسات والفصل التعسفي
• يميل الثوار 'أحيانا' إلي العنف.. فأين عبد الناصر من هذه الصفة؟
>> كان عبد الناصر بطبيعته ينفر من العنف.. وأظن أن الحملة الدائرة في مصر ضده تشهد له بذلك علي غير قصد من أصحابها.. تشهد له بأنه تصرف كإنسان يصيب ويخطئ، ولكنه كان عزوفا عن سفك الدماء باسم الثورة أو حتي طلبا لحمايتها.. وفي معركته مع الطبقة التي كان لها احتكار الثروة والسلطة في مصر فلقد قصد إلي تصفية امتيازات الطبقة ولكنه رفض تصفية أفرادها كبشر.. وبقي هؤلاء في الانتظار حتي واتتهم الفرصة بعد رحيله، فتحالفوا مع عناصر وقوي جديدة ضالعة وطامعة ثم اندفعوا جميعا الي هجوم مضاد علي الثورة كلها وعليه كرمز لها وشنوا عاصفة الخماسين المثقلة برمال الاحقاد الصفراء والاتربة السوداء التي تهب علي مصر الآن في محاولة لتغطية وجه الشمس!..
• لكن هل الاعتماد علي السلطة في تأمين الدولة قوض بعض دعائم الحرية.. والبعض يقولون إنه قوض الحرية كلها؟
>> أشهد أمانة علي ان ذلك ليس صحيحا ولكن الحملة الموجهة الي شعب مصر تركز وتركز حتي لا يستطيع أحد أن يفتح فمه قبل أن يبرئ نفسه من أي مسئولية ويبدأ بإدانة التجاوزات كلها جملة وتفصيلا ثم يروح بعد ذلك - إذا شاء - فيدافع عن الحقيقة علي استحياء، وذلك في حد ذاته يثبت في الاذهان ان الاتهام أصيل وأن الدفع فرعي.
• كيف تري دورك في هذه الاشكالية؟
>> أعتقد أن السكوت عن ذلك نوع من القبول بالتشهير - وإذا كنت لا اقبل لنفسي ان اسكت إزاءه - فإنه يشجعني أن السجل فيما يتعلق بي واضح ومعروف. لقد تصديت لتجاوزات السلطة في وقتها، ولم الزم السكوت حتي اليوم لأتكلم، وكانت لي سلسلة مقالات في حياة جمال عبد الناصر نقدت فيها دور أجهزة الامن تحت عنوان: 'زوار الفجر' وكان ذلك تعبيري الذي شاع وابتذل فيما بعد! .. ووقعت في مشاكل عويصة حينما انتقدت كتابة ما تعرض له بعض المعتقلين من الاخوان المسلمين في السجن سنة ٦٥٩١ واتصل بي جمال عبد الناصر يقول لي: 'إنني كنت قاسيا فيما كتبت وأن شمس الدين بدران الذي كان يشرف علي تحقيقات الإخوان المسلمين وقتها غضب وقدم استقالته'.
وكتبت وألححت علي صفحات 'الأهرام' وعلي شاشات التليفزيون أدعو وألح في الدعوة إلي مجتمع مفتوح يسود فيه القانون ويعرف كل مواطن حدود المسموح به له والمحظور عليه سلفا حتي لاتنقض عليه المفاجآت من المجهول .. أقول ذلك اليوم لا لأتباهي به ولكن لكي يكون واضحا أن الذين سكتوا - حتي جاء الموت - إزاء قضية الحرية في مصر لا يحق لهم أن يزايدوا علي الذين لم يسكتوا من قبل أن يجيء الموت!!
• هذا يجعلنا نتساءل كيف نبحث عن الحقيقة .. كيف نعرف أنها كانت كما يصفون، أو أكثر مما يصفون أو أقل مما يصفون؟
>> السبيل الوحيد، وقد ناديت أن يكون هناك تحقيق في كل الحالات التي حدث فيها تجاوز للسلطة.. تحقيق في ظروفها، وفي وقائعها، وفي تفاصيلها يمسك بها جميعا واحدة واحدة ويستجلي فيها وجه الحق وينصف كل مظلوم ويحاسب كل ظالم أليس ذلك أجدي؟ أليس هو أجدي من إطلاق الأوصاف والنعوت شائعة، ومن إطلاق التهم معممة، ومن إطلاق الأحكام بغير حيثيات وبغير فرصة لنقضها؟ إليس ذلك أجدي؟ ثم أليس هو الحق؟!
• دعني أتوقف عند جمال عبد الناصر تحديدا .. هل لم يكن يعرف هذا كله؟
>> قبل أن نستعمل تعبير 'هذا كله' أليس واجبا علينا أولا تحديد وتوصيف 'هذا كله'؟!.. نعم لقد حدثت تجاوزات.. نعم لقد وصل عدد المعتقلين في مصر في وقت من الأوقات إلي قرابة خمسة آلاف معتقل.. نعم لقد فصل بعض الناس من عملهم بقرارات صدرت .. نعم لقد عذب بعض الناس في سجون مصر.. نعم حدث ذلك .. مثلا: لقد كان حجم ذلك كله - مع عدم موافقتنا عليه - هينا اذا اخذت في الحساب فترة عشرين سنة حافلة بالتغييرات الاجتماعية والاقتصادية .. إن بعض العنف كان حتميا - مهما كان مكروها - خصوصا في عملية استرداد ثروات ضخمة بالاصلاح الزراعي أو التأميم.. هذه كلها عمليات لايمكن تحقيقها بالاقناع والاقتناع الديمقراطي.
• وهل هذا مبرر؟
>> لست علي استعداد لقبوله علي علاته.. فاعتقال إنسان واحد من غير حق، وتعذيب إنسان واحد مهما كانت الظروف بينما هو في قبضة سلطة الدولة، وحرمان إنسان واحد من عمله بغير تحقيق أشياء كلها كئيبة، وكلها مرفوضة، وكلها يجب ان تكون. موضع حساب، يجري بعد تحقيق.
• وأين كان عبدالناصر مما يحدث؟
>> نعم عرف في بعض المرات وسوف اروي نماذج لذلك في حدود ما رأته عيناي! وقبل أن ادخل في تفاصيل أية وقائع فلابد أن نتفق علي شيء.. ذلك هو ان جمال عبد الناصر كان انسانا طبيعيا، لاهو مجنون ك'نيرون' الذي حرق 'روما' وراح يغني علي اطلالها، ولاهو مثل بطل قصة 'دراكولا' مصاص دماء!.. ثم إنه كان انسانا يكره العنف والتسلط، وتلك شهادة أنور السادات فيه سواء في قصة الملك فاروق او في قصة الديكتاتورية العسكرية.. ثم إنه كان إنسانا يعرف حدود السلطات التي تمسك بها يداه ويستشعر مسئوليته بها، وكثيرا ما سمعته يقول: 'لا أتخذ قرارا إذا انفعلت.. إذا احسست بذلك فإنني أنام الليل علي قراري، ذلك أنه بمثل السلطات التي لدي فإنني لا أملك ولا اتحمل ان اتصرف بانفعال'.
• ما معني هذا؟
>> معناه أنه يجب ان نفترض ان جمال عبد الناصر اذا اشار بتصرف أو سكت عن تصرف فإنه يفعل ذلك بناء علي معلومات حقيقية لديه أو معلومات يتصور أنها حقيقية لديه.
• وماذا عن الوقائع؟
>> أبدأ بمسألة الاعتقالات.. أتذكر انني في صيف ٥٦٩١ وهي الفترة التي وصل فيها عدد المعتقلين الي قرابة خمسة آلاف - إنني ذهبت الي جمال عبد الناصر أقول له: ان معلوماتنا في 'الاهرام' تقول إن عدد المعتقلين خلال الشهر الاخير قد زاد علي خمسمائة معتقل.. وكان رده: لقد وصلوا الآن إلي سبعمائة مع الاسف، وانا اعرف، ولكن ماذا أفعل؟
لقد كان بين خطط التنظيم السري الذي قبض علي قيادته خطط بنسف كباري جسور والقيام بعملية اغتيالات بالجملة ولقد وافقت علي اعتقالات واسعة اخذا بالاحوط لاني لا استطيع ان اقبل بنسف كباري او جسور، ثم إن 'البلد' لايستطيع في هذه الظروف ان يتحمل احتكام بعض الناس الي المسدس يغتالون به من يخالفونهم في الرأي.. ولاحظ هو ترددي وكان قوله: مشكلتي انني لا استطيع ان اتردد.. انت كصحفي تستطيع ان تفكر من اليوم إلي الأبد ولكن مسئوليتي عن 'البلد' تحتم علي أن افكر حتي لحظة معينة ثم اقرر واتحمل المسئولية
• وقرارات الفصل؟
>> وفي موضوع الفصل بقرارات اتذكر انني ذهبت اليه في حادثتين تصادف أنني أعرف أبطالهما، ومع أنني كنت أوثر إغفال الاسماء منعا لأي حرج فإني اجازف واحدد الاسماء حتي أقطع الشك باليقين اتذكر انني ذهبت إليه مرة بعد احالة السفير 'حسين عزيز' الذي كان وكيلا لوزارة الخارجية إلي المعاش بقرار مفاجئ.. وكنت واحدا من المعجبين 'بحسين عزيز' أراه سفيرا قديرا شديد الجلد علي العمل.. وقلت لجمال عبد الناصر أليس غريبا أن يحال رجل مثل حسين عزيز علي المعاش بغير سبب؟! وفوجئت به يقول: لقد وافقت علي القرار وكان له سببه.
وكان السبب رسالة من 'جواهر لال نهرو' رئيس وزراء الهند وقتها يقول فيها انه قرأ تقريرا لسفير الهند في القاهرة عن مقابلة له مع وكيل وزارة الخارجية المصرية ورأي ان وكيل الخارجية المصرية في حديثه مع سفير الهند أبدي آراء متعارضة مع سياسة مصر كما يفهمها هو.. بل إن وكيل الخارجية كان قاسيا في نقده لخطوط السياسة المصرية وكان في حديثه يعرىض بها صراحة .. وكان رأي 'نهرو' أن مصر لابد ان تتحدث بصوت واحد، وأنه لايهمه أن ذلك الحديث كان مع سفير الهند وهو سفير دولة صديقة ولكنه يخشي من مثل ذلك مع سفراء دول اخري ليست صديقة وليست متفهمة للسياسة المصرية وقال لي جمال عبد الناصر بعدها: اذا كان لديه اعتراض علي السياسة المصرية فقد كان يجب ان يتحدث في ذلك مع وزيره الدكتور محمود فوزي واذا لم يقتنع بها بعد حديثه مع الدكتور فوزي فلقد كان عليه ان يطلب نقله من منصبه او يستقيل.. اما ان يرسم بنفسه سياسة تختلف عن سياسة الحكومة وينتقدها مع سفير اجنبي فهذا ما لا يمكن قبوله.. وبصرف النظر عن الصواب والخطأ فقد كان ذلك هو الجو الذي تصرف فيه والمنطق الذي تصرف منه، والغريب ان 'حسين عزيز' في عهد جمال عبد الناصر لجأ إلي مجلس الدولة وصدر له حكم بإعادته إلي الخدمة ولم يكن في استطاعة الحكومة ان تقدم السبب الحقيقي لمجلس الدولة لأن ذلك كان من شأنه إفشاء أسرار مراسلات بين عبد الناصر و'نهرو'!
وأما الحادثة الثانية فقد كان بطلها السيد 'أحمد ابو العلاء' نائب محافظ البنك المركزي آنذاك وقد صدر هو الآخر قرار بإحالته علي المعاش.
وكنت أعتبر 'أحمد أبو العلاء' واحدا من اذكي الاقتصاديين في مصر وكانت دهشتي شديدة لقرار إحالته علي المعاش ومرة أخري فتحت موضوعه مع جمال عبد الناصر.. كان يعرف بالقرار وكان قد وافق عليه والسبب ان أحد المسئولين في السفارة البريطانية كان موضوعا تحت الرقابة لأسباب معينة .. وذات مرة في سجلات المراقبة عليه وردت تفاصيل مكالمة تليفونية له مع 'احمد ابو العلاء' وخلال الحديث بينهما علي التليفون قال المسئول البريطاني: 'إن معلوماتنا أن حالتكم الاقتصادية سيئة.. معلوماتنا أن أرصدتكم من النقد الاجنبي لم تعد تزيد الآن علي عشرة ملايين جنيه'.. وجاء رد أحمد أبو العلاء: 'الموقف اسوأ من ذلك.. أمامي الآن آخر التقارير عن أوضاعنا.. رصيدنا الآن لايزيد علي مليونين وربع'! .. وبمعرفتي 'بأحمد ابو العلاء' فلقد تصورت انه شارك في الحديث كله بحسن نية، وأن رده لم يكن افشاء لسر دولة وانما كان نوعا من 'الدردشة الاجتماعية' ولكن جمال عبد الناصر كان له رأي اخر .. وسواء اتفقت او اختلفت معه فقد كان ذلك هو الجو الذي تصرف فيه، والمنطق الذي تصرف منه.
• نصل إلي موضوع التعذيب
>> اتذكر انني كنت اول من ذهب إلي جمال عبد الناصر بقصة ماحدث للدكتور 'شهدي عطية' في احد السجون المصرية فقد ضربه احد سجانيه بقدمه، وجاءت الضربة في موضع ادت الي وفاته.. وكان 'شهدي عطية' من اصدق واخلص اقطاب الحركة الشيوعية في مصر.. واشهد ان ثورة جمال عبد الناصر علي ما سمع مني كانت ثورة عارمة .. رفع التليفون واتصل بوزير الداخلية وقتها وروي له ما سمع مني ثم اضاف بالحرف تقريبا: 'إذا كان ذلك يمكن ان يحدث في عهد الثورة فالاشرف والله ان 'نفضها' ونعود إلي بيوتنا .. والله يصبح عهد الملك فاروق احسن'.. وطلب جمال عبد الناصر تحقيقا وطلب حسابا وكان مدير مصلحة السجون نفسه أول الضحايا، فقد أحيل إلي المعاش بعد ثلاثة ايام .. وأتذكر ان الدكتور 'عبد المنعم الشرقاوي' جاءني بقصة ماحدث له اثناء اعتقاله، واتصلت بجمال عبد الناصر أروي له ما سمعت وأقول بعده:
إنني أنوي نشر القصة، فمثل ذلك لايجوز السكوت عليه'.. وقال جمال عبد الناصر علي الفور 'بيدك الحق.. انشر حتي يعرف هؤلاء جميعا انه ليست هناك حماية لأحد فوق القانون'.
• إلي أين نصل من هنا؟
>> أصل لكي أقول نعم لقد حدثت تجاوزات ونعم كان هناك جو ومنطق وراء التصرفات ونعم كان هناك الخطأ والصواب ولكن الطريق السليم لمعرفة الحقيقة هو التحقيق في كل حالة.. واحدة بعد واحدة.. ولست اطلب ذلك انصافا لجمال عبد الناصر.
• إذن تطلبه لمن؟
>> اطلبه إنصافا للضمير المصري، لكي لا نحمل الشعب المصري 'عقدة ذنب' كتلك التي تحملها الشعب الالماني حينما سأل نفسه بعد الحرب العالمية الثانية قائلا: 'واين كنا نحن حينما كان ذلك يجري كلة تحت اعلام النازي' ان الشعب المصري لاينبغي تحميله 'بعقدة الذنب' لتضاف الي اثقاله إلا اذا كان مطلوبا كهدف تقييد حركة الشعب المصري 'بعقدة ذنب' تصده مستقبلا عن طلب الحرية الاجتماعية لان ثمنها علي الحرية السياسية باهظ وفادح!!
النكسة
• أستاذ 'هيكل' نتوقف عند نكسة 'هزيمة' يونيو ٧٦، ومسئولية عبد الناصر عنها؟
>> إن جمال عبد الناصر مسئول عما حدث سنة ٧٦٩١، وقد قبل هو بتحمل كل المسئولية فيما جري وصارح بذلك شعبه وأمته، وكانت رغبتهما بعد ذلك معا هي الطلب بأن يظل في موقعه ويقود الحرب.. لقد خسرنا معركة، ولكن الحرب مستمرة!
• ماذا تعني هذه المسئولية؟
>> مسئولية عبد الناصر، في الدرجة الأولي، تنبع من سببين: 'الأول': الخطأ في حسابات عملية إغلاق خليج العقبة .. 'الثاني': الخطأ في ترك المشير عبد الحكيم عامر يقود المعركة فعلا، بينما هو عمليا لا يصلح لقيادتها، لأنه تحول في الحقيقة عند رتبة الرائد، من ضابط إلي سياسي.
• وماذا عن الأجواء العامة التي احاطت بما حدث؟
>> فعلا، لكي توضع مسئولية جمال عبد الناصر في إطارها العملي والتاريخي فإنه يتحتم علينا إلقاء نظرة واسعة علي الصورة العامة للموقف السياسي والعسكري كما بدت أمامه وقتها.. وفيما يتعلق برؤيته العامة لمجري الصراع العربي - الاسرائيلي: كان جمال عبد الناصر حريصا كل الحرص فيما يتعلق بالصدام المسلح مع إسرائيل لعدة أسباب، منها: ان الصدام المسلح مع إسرائيل لابد فيه من حساب احتمالات التدخل الأمريكي، وهو احتمال قائم يستهدف فرض الهزيمة علي العرب إذا استطاع أو سلبهم ثمار النصر إذا استطاعوا، وإذن فان نجاح الصدام المسلح في رأيه كان مرهونا بظرف دولي وعربي ملائم تكون فيه القوة الأمريكية مصابة بالشلل، أو يمكن إصابتها به، كما كان رأيه ان القوات المسلحة المصرية تحتاج علي الأقل إلي خمسة عشر عاما تستوعب فيها سلاحها الذي حصلت عليه من الاتحاد السوفيتي ولم يكن يقيس هذه المدة بتاريخ عقد أول صفقة سلاح سنة ٩٥٩١، وإنما كان يقيس ابتداء من سنة ٧٥٩١. ومن هنا، فقد كانت الفترة المحتملة للصدام المسلح في تقديره هي الفترة الواقعة ما بين سنة ٢٧٩١ وسنة ٥٧٩١، وكان رأي جمال عبد الناصر أن إسرائيل 'نمو' دخيل في وسط الجسد العربي، وأن مقاطعتها وإحكام الحصار من حولها وتشديد الضغط عليها كل يوم، سوف يؤدي إلي حبس الدم عن خلاياها، ومن ثم إلي ضمورها وسقوطها.
• وماذا عن تصوره العام لمجري الصراع سنة ٧٦٩١؟
>> مع بداية سنة ٧٦٩١، فإن جمال عبد الناصر راح يتابع صورة التطورات في الشرق الأوسط باهتمام مشوب بحذر شديد لعدة اسباب: (١) كان يشعر أن علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلي نقطة عنف شديد عبر عنها قرار الرئيس الأمريكي 'ليندون جونسون' بوقف بيع القمح الأمريكي إلي مصر، (٢) لم يكن يستبعد، والأمر كذلك ان تلجأ الولايات المتحدة إلي 'الرادع الإسرائيلي' كما فعلت بريطانيا وفرنسا في حرب السويس سنة ٦٥٩١، (٣) كان يري ان الظروف غير ملائمة له عسكريا بسبب وجود فرقتين من الجيش المصري في اليمن وقتها وكان يقدر انه إذا أرادت إسرائيل استغلال فرصة، فهذه هي الفرصة المتاحة لها، وكان قد حاول من قبل أكثر من مرة ان ينهي معركة اليمن، ولكن محاولاته جميعا لم تصل الي نتيجة، وتلك قصة أخري علي أي حال!.
• حدثنا عن التوتر علي الجبهة السورية ودوره في التمهيد للنكسة؟
>> بدأ ليفي اشكول - رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت - وتبعه اسحاق رابين - رئيس هيئة اركان الجيش الإسرائيلي - يوجهان التهديدات الصريحة إلي سوريا، ويتحدثان علنا عن 'الزحف علي دمشق' وبدأ جمال عبد الناصر يتقصي حجم الخطر الموجه إلي سوريا، وتصادف في ذلك الوقت أن كان أنور السادات في موسكو عائدا من رحلة في 'كوريا الشمالية'، فإذا بالرئيس 'نيكولاي بادجورني' يطلب اليه نقل رسالة إلي عبد الناصر عن الخطر الموجه إلي سوريا، وعن استعدادات إسرائيل لتوجيه ضربة إليها، وتواترت معلومات عن حشد ما بين تسعة ألوية إلي أحد عشر لواء أمام سوريا ثم تلقي جمال عبد الناصر من دمشق تقريرا بعث به السفير السوري هناك وقتها، وهو الاستاذ صلاح الطرزي، يقول :'إن مصادر موثوق بها اكدت له أن الهجوم علي سوريا قد تحدد بالفترة ما بين ٦١ و 22 مايو' .. وهكذا واجهته ضرورة اتخاذ قرار، فلقد تأكدت امامه احتمالات ضربة عسكرية موجهة الي سوريا، ولم يكن في مقدور مصر ان تقف مكتوفة اليدين ولست اعرف ماذا كانوا يقولون عنه او عن مصر لو أنه وقف ساكتا ولم يتحرك، وترك سوريا للغزو وحدها.
• وماهي طبيعة هذا التحرك الداعم لسوريا، وفلسفته؟
>> كان عليه أن يتحرك قبل ٦١مايو واتخذ قرارا بحشد قوات مصرية في سيناء تأهبا واستعدادا لمساعدة سوريا وتخفيف الضغط عليها.
• وقرار إغلاق خليج العقبة؟
>> كان الطلب المصري الأساسي هو إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين 'طابا' و'رفح' ولكن 'بوثانت' السكرتير العام للأمم المتحدة، بناء علي نصيحة من مساعده الأمريكي الدكتور 'رالف بانش'، قال إن 'عمل قوات الطوارئ هو مهمة سلام لا تتجزأ'.. وبالتالي 'فليس هناك مجال لسحب جزء من القوة وابقاء جزء منها، لأن وجود القوة في رأيه 'مهمة' تؤديها بالكامل او تتخلي عنها بالكامل، وإذن فهي إما أن تبقي في مواقعها كما هي، وإما أن تنسحب من جميع مواقعها، وهذا حق مصر علي أي حال بمقتضي اتفاقها مع سلفه داج همر شولد سنة ٧٥٩١'.. ولم يكن امام جمال عبد الناصر من حل إلا أن يطلب سحب القوة من كل مواقعها، والا فإن هذه القوة سوف تكون مانعا بينه وبين اي عمل لنجدة سوريا. وكان طلب خروج القوة كلها.
• وكيف تلاحقت التطورات فيما بعد؟
>> وصلت وحدات الجيش المصري إلي شرم الشيخ وطرحت حكاية خليج العقبة نفسها علي الموقف، يقفل الخليج أو لا يقفل في وجه الملاحة الإسرائيلية؟.. إن اغلاق الخليج حق مصري بمقتضي قوانين السيادة والحرب.. ثم إن اغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية كان مطلبا عربيا يلح به الكل علي مصر، ولكن القرار لابد أن يصدر بعد دراسة مسئولة.. ودعيت اللجنة التنفيذية العليا لاجتماع طارئ وطرح امامها موضوع اغلاق خليج العقبة، وقررت اللجنة باجماع الآراء إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية تمسكا بحق السيادة، ونزولا علي مقتضيات حالة الحرب، واستجابة لمطلب عربي ملح، ثم إقرارا بأمر واقع نشأ عن سحب قوة الطوارئ الدولية من كل سيناء.. اللجنة كلها بإجماع الآراء قررت، ولم يكن القرار انفراديا من جمال عبد الناصر.
• لكنك كتبت آنذاك محذرا من مخاطر إغلاق خليج العقبة وأن هذا القرار يعني الحرب.
>> نعم، ويومها اتهمت علنا بالانهزامية وبين الذين اتهموني وقتها بعض الذين يتهمون جمال عبد الناصر اليوم بالتهور في ذلك القرار!
• ماهو البعد في تضخيم الهزيمة علي هذا النحو الذي نراه؟
>> لقد نسينا عندما وقعت الهزيمة ان حربنا مستمرة.. كان شعورنا بالمهانة شديدا، ولهذا أسباب تبرره، ولكننا كان يجب ان ندرك ان من بين اهداف اعداء العرب تلطيخ سمعة الجيش المصري، واقناع الشعب المصري والأمة العربية انه ليس في مقدور ايهما ان يعتمد عليه.. كان من أهدافهم ان يسقونا الشعور بالمهانة، وأن يترسب هذا الشعور بالمهانة الي اعماق اعماقنا.. وساعدناهم وشربنا .. لقد هزمت أمم قبلنا في معارك، ولكنها لم تعتبر هزيمة معركة خسارة للحرب، طالما انها تملك إرادتها..
• لكنك لم تحدثنا عن مسئولية جمال عبد الناصر عن النكسة؟
>> جمال عبد الناصر مسئول، ولا يمكن لأحد أن يعفيه من مسئوليته بل ولم يقبل هو بديلا عن الاعتراف بها كاملة، ولم يتمسح بشيء ولا تواري خلف احد وعندما يجيء وقت الحكم التاريخي عليه في مسألة الهزيمة، فلابد أن توضع في الاعتبار عوامل كثيرة: ظروف الازمة وتداعيها، وهل كان في وسعه ان يتقاعس عن نجدة سوريا؟ قيادته للحركة السياسية في الازمة، والطريقة التي حاول بها تفادي الانفجار، تمثيله للارادة العربية في الصمود بعد الهزيمة وهذا في حد ذاته من امجد مواقفه، فالهزيمة الحقيقية هي هزيمة الارادة، وليست الهزيمة هي التراجع عن ارض.. وخصوصا ان الصراع طويل ومستمر. نجاحه في اعادة بناء القوات المسلحة في ظرف ستة شهور من الهزيمة، عودته الي ميدان القتال طبقا لسياسة الدفاع - والردع - والتحرير وقد بلغت عودته الي ميدان القتال قمتها في حرب الاستنزاف التي هي الجولة الرابعة في الحرب العربية - الاسرائيلية.. استعداده وتخطيطه لمعركة التحرير.. ثم إن الهزيمة بكل مسئولياتها يجب ان توضع في اطارها من كفاحه كله، فلم تكن معركة ٥يونيو هي معركته الوحيدة، وإنما كانت واحدة من معاركه.. نجح في بعضها، ولم ينجح في البعض الآخر.
• ومن ينصف الزعيم الراحل؟
>> بعد مئات السنين وحينما يكتب التاريخ بشرف وامانة، وبغير احقاد وعقد، فإن التاريخ سوف ينصف جمال عبد الناصر حتي في هزيمة سنة ٧٦٩١.. ابسط ما سوف يقال عنه:
انه كان رجلا.. تحمل مسئوليته بشجاعة، وتقبل الحساب عنه في كبرياء .. ومثل كرامة وإرادة أمة بأسرها في يوم من احلك ايامها.. وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية انسانا آمن بوطنه وأمته وبمثلهما العليا، واعطي حياته لخدمة هذه المثل بشرف، وأصاب مرات واخطأ مرات، ولكنه حارب طول الوقت بايمان ويقين ولم يستسلم حتي النفس الاخير.. وكذلك يفعل الرجال.
نهاية المطاف
• وكيف تري تجربة عبدالناصر؟
>> إن جمال عبد الناصر كان تجربة هائلة في حياة هذه الأمة العربية وفي زماننا المعاصر كله، ومثل كل تجربة هائلة - خصوصا اذا كانت بالثورة - فإن التجربة تصبح حافلة، ذلك انها بالثورة تواجه بدايات جديدة، ثم انها تعطي للتحديات التي تطرح نفسها عليها اجابات مختلفة، وهذا مجال الصواب والخطأ .. وقد اصاب جمال عبد الناصر واخطأ، واعتقادي ان الايجابي في تجربته يرجح السلبي بكثير، ومحصلة اي حساب امين تعطيه اكثر مما تأخذ منه بفارق كبير لصالحه، ويكفي لأي واحد منا ان يلقي نظرة علي خريطة المنطقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وموازين القوي فيها، قبل جمال عبد الناصر وبعده، ليري الحقيقة ظاهرة وناصعة.
• وماهي مقاييس الحكم علي التجربة؟
>> عندما توزن اخطاء تجربة في مثل حجم تجربة جمال عبد الناصر، فإن هذه التجربة لايمكن ان تقاس الا بأهدافها هي، والا بظروفها هي، والا بالتحديات التي واجهتها هي والا بالخيارات التي كانت مفتوحة امامها والا اصبح التقييم تعسفا وانحدر التاريخ الي مستوي المؤامرة.. ثم إنه لايستطيع ان يقضي في مثل هذه التجربة، ولا حتي بالتقييم، هؤلاء الذين عادوا التجربة بمبادئها وحركتها وجماهيرها فعادتهم هذه التجربة مبدأ وحركة وجماهير. ان هؤلاء الاعداء لهم حق الكلام بالطبع، لايخنقه احد في حناجرهم ولكن كلامهم يكون من موقع العداء وليس من موضع القضاء ويجب ان يكون هذا واضحا لكي لاتختلط الصور.
*الاسبوع
![وفاة "سيدة المسرح العربي" سميحة أيوب عن 93 عاما](http://images-cache.alwatanvoice.com/thumb/614/378/news/large/864b0352-9a85-406f-9e67-a928a6d1424e.jpg?1 "وفاة "سيدة المسرح العربي" سميحة أيوب عن 93 عاما")
!["كان يا ما كان في غزة" يفوز بجائزة أفضل إخراج في "كان"](http://images-cache.alwatanvoice.com/thumb/614/378/news/large/0a079abb-32a5-4202-8888-bd20641d1e2c.jpg?1 ""كان يا ما كان في غزة" يفوز بجائزة أفضل إخراج في "كان"")
![تعاون عالمي لإنتاج فيلم يخلد قصة "هند رجب"](http://images-cache.alwatanvoice.com/thumb/614/378/news/large/e17e9c32-6ad1-4397-9f14-bd4182413706.jpg?1 "تعاون عالمي لإنتاج فيلم يخلد قصة "هند رجب"")
![بعد فيديو "التحرش".. نادين نجيم تهدد باللجوء للقضاء](http://images-cache.alwatanvoice.com/thumb/614/378/news/large/3a3a033a-bea9-44d0-9a85-08bf719ff5a5.jpg?1 "بعد فيديو "التحرش".. نادين نجيم تهدد باللجوء للقضاء")
![ما الهدف من تدشين السعودية أول سرية من منظومة "ثاد" الأميركية؟](http://images-cache.alwatanvoice.com/thumb/392/273/news/large/9889792a-9628-40d7-a905-52bfcb378bd1.jpg?1 "ما الهدف من تدشين السعودية أول سرية من منظومة "ثاد" الأميركية؟")
التعليقات