المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي:السينما وطن لا يستطيع أن يحتله أحد وأرفض تحرير فلسطين وتدمير الشعب

غزة-دنيا الوطن-سامي أبو سالم
في الشارع الرئيس لغزة "عمر المختار"، ينشغل المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، بتوجيه المصور لالتقاط صور مختلفة لجوانب من المدينة، وذلك في إطار صناعة فيلمه التسجيلي الجديد "صباح الخير غزة".
توقف مشهراوي أمام مبنى سينما النصر المدمّر بأيدٍ فلسطينية، بعد محاولة ترميمه عام 1996، عاد بذاكرته إلى طفولته، عندما كان يتسلل بين عدد من الشبان أو يدخر مصروف المدرسة "إن وُجِد" من أجل مشاهدة فيلم.
"هتكوا عرض السينما، وهتكوا عرض الوطن"، هذا ما خرج من فم مشهراوي حزناً وأسى على ما وصل إليه حال السينما الفلسطينية. يعتقد مشهراوي أن نهضة السينما لن تعود إلا عندما يعود الوطن. "أن يعود الوطن إلينا في داخلنا بغض النظر عما إذا كان هناك احتلال أم لا، فمفهوم الوطن انضرب".
فالوطن وفقاً لرؤية مشهراوي ليس اسماً أو ألوان علم، بل هو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان على نفسه ومستقبله، وهو المكان الذي يود العودة إليه في لحظة غياب. "لا أريد أن تعود فلسطين ويُدمر الشعب لأن تدمير الشعب بحجة بناء الوطن هو تدمير للوطن، والإنسان أهم من الوطن".
يتنقل مشهراوي مع فريقه في زوايا مختلفة في مدينة غزة، يعيش تفاصيل عائلة صياد فلسطيني يعاني حصار البحر، وحداد يعاني حصار البر، وفرقة راب محلية تعاني حصاراً ثقافياً، وعائلة توزع أبناؤها بين فتح وحماس تعاني الاقتتال الداخلي، وشعب يعاني من كل أنواع الحصار، عناصر مختلفة يقدمها مشهراوي في فيلمه الوثائقي الجديد "صباح الخير غزة"، يغوص من خلاله في تفاصيل غزة تحت الحصار وصراعها من أجل البقاء بأي ثمن، وضمان مستقبل أفضل.
وحول مستقبل أفضل للسينما الفلسطينية، كشف مشهراوي أنه يعمل حالياً على مشروع فيلم روائي طويل عن النسيان الجماعي للعرب بعنوان "كتابة على الثلج".
وقال إن الفيلم سيتناول العالم العربي الفاقد للذاكرة، فكل ما قدمه العرب على فترات التاريخ الإنسانية وكل ما حل بهم من جرائم إبادة في فلسطين والعراق والجزائر وليبيا وكل الدول العربية، كلها ذهبت مع الريح ولم تعد مواضيع للنقاش، وانقلب النقاش إلى أننا إرهابيون، ونكثف جهودنا إلى إثبات العكس، بمعنى أننا بتنا في قفص الاتهام. بجانب أننا نحن العرب أوقفنا الحديث عن أوروبا وأمريكا، وبتنا ننتظر ماذا هم يتحدثون عنا، فالعرب والفلسطينيون أصبحوا ردة فعل أكثر من فعل. هذا ما سيتم تناوله من خلال حكاية فلسطينية تعالج موضوعاً عربياً.
وأشار إلى أن هناك اهتماماً عربياً كبيراً بهذا العمل، فهناك عروض للإنتاج والتصوير في سوريا، وتلفزيون إماراتي يساهم في المشروع وهناك ممثلون وطواقم عمل من مختلف الدول العربية، فالمشروع لم يأت صدفة، حيث أن المنطقة العربية مفعمة بالترهلات والنسيان والأخطار على رأسها فلسطين والعراق وغيرها على الطريق.
ويحاول مشهراوي أن يجد مدخلاً لما يعتمل في الذاكرة وسط زحمة الأحداث من خلال وقفة مع الذات، معتقداً أنه من خلال الفيلم سيقطع خطوة جديدة على طريق إقحام السينما الفلسطينية إلى العالمية.
عين مشهراوي ترقب تفاصيل شوارع غزة، استفزه مشهد شاب في مقتبل العمر بملابس مدنية يحمل بندقية "كلاشينكوف"، فقال: "هذا المشهد هو أساس الفلتان الأمني في غزة، بأي حق يسير هذا الشاب هكذا؟ فأنا لا أعرف من هو هذا، هل هو مدسوس، أم مقاوم أم من فتح أم من أي فصيل آخر؟ وهذا أمر خلقه الترهل الاقتصادي والسياسي، الأمر الذي ينعكس بالطبع على الجانب الثقافي. ومساهمة في الخروج من هذا اللغط الأمني يقترح مشهراوي أنه يتوجب على "الموطنين العاديين أن يوحدوا ملبسهم كي يتميزوا عن اللي مش عاديين".
نظرته التشاؤمية حول كل شيء خلقت سؤالاً حول سبب غلبة اللمسة التراجيدية على أفلامه، فقال إن الواقع الذي يحيط بالشعب الفلسطيني هو الذي يفرض نفسه على كل تحركات الشعب بمختلف فئاته، فهو واقع ليس سهلاً، والأفلام التي لها علاقة "بالهيومر" (الطرافة والمزاح) ليس من الصعب إخراجها، فليس من الصعب أن تُنتزع الضحكة من المشاهد الفلسطيني، الذي يلهث وراء ابتسامة في ظل الضنك، أما من خلال الفيلم الروائي، فهو يؤرخ للحظات يجب أن يشهد لها التاريخ، ففيلم "موسم حب" (عام2000) كان أول فيلم عن انتفاضة الأقصى، وهو مليء بالمشاهد الدموية، لكن ما أجبره على صناعته هو الصورة المشوهة للأم الفلسطينية التي رُوج أنها لا تكترث لفقدان فلذة كبدها، بل وتزغرد لفراقه، وقد حاول المخرج أن يدحض هذه الرؤية ويقدم حقيقة أننا كفلسطينيين بشر ككل الشعوب ونحن من يتعرض للقتل.
ولا ينفي مشهراوي وجود "كوميديا" غير مباشرة تأتي في إطار الواقع المر، ففي فيلم "حتى إشعار آخر"، رغم أن المشهد مأساوي نرى فيه ضحكات الأطفال، ضحكة ناتجة عن عبث وسخرية سخرية سوداء، كذلك فيلم "حيفا"، الشخصية الرئيسة التي لعبه- اسم حيفا- عملياً شخصية طريفة من بداية الفيلم لنهايتها، تدخل في إطار المضحك المبكي.
مررنا بـ "غاليري المينا" التابع لوزارة الثقافة في غزة، وهنا شن مشهراوي هجوماً على المؤسسة الرسمية لقصورها في دعم أو حتى الالتفات إلى السينما.
فجل الأعمال تُنتج بتمويل غير فلسطيني، سواء أكان عربياً أو أجنبياً، مع مساهمات فلسطينية ضئيلة، غير متناسٍ تمويل الوزارة لفيلم "انتظار" الذي يتناول قضية اللاجئين الفلسطينيين.
وأشار المخرج رشيد مشهراوي إلى أن مؤسساتنا باختلافها واختلافاتها لا تتمتع بوعي كاف لأهمية السينما، الأمر الذي يحول كل شخص (مخرج) إلى مؤسسة، فهو الممول وهو المنتج وهو المخرج وهو كل شيء، من أجل أن يخرج فيلماً.
وأضاف أنه يوجد أفلام ومخرجون لكن لا توجد ظاهرة سينما فلسطينية حقيقية، فالسينما الفلسطينية أوجدها أفراد وليس مؤسسات، آخذاً بعين الاعتبار أن الأعمال التي نراها أو حتى بدايات السينما كلها مشاريع فردية، وكي تصبح مشروع دولة، يجب تخصيص صندوق خاص بالسينما." فالوضع السياسي الحالي بتركيبته وتعقيداته وانشغالاته لم يترك مساحة فكرية أو مادية أو غيرها للنهوض بالعمل السينمائي".
وحول النهوض بالسينما الفلسطينية، يرى مشهراوي أن مشروعاً كهذا لا يُنفّذ بين عشية وضحاها، مشيراً إلى ضرورة إنتاج عشرات بل مئات الأفلام للخروج بالسينما الفلسطينية كظاهرة، الأمر الذي يعني تكاتف الجهود على أكثر من صعيد، الإنتاج والتدريب والتسويق، معتقداً أنه يحاول الانضمام إلى من يحاربون من أجل سينما فلسطينية، بنمط ورائحة فلسطينية، فقطع شوطاً كغيره في هذا الإطار، حيث تخرج على يديه ما يقارب من ثمانين من الشبان والشابات (بين 18 و25 عاماً) في دورات تدريبية. ويرى أنه لو نجح خمسة أشخاص من بين الثمانين فهذا يشكل انجازاً كبيراً، هذا إلى جانب إخراجه لـ 16 فيلماً قصيراً، ناهيك عن الأفلام الطويلة والدراما.
ولا يكتفي مشهراوي بعمله مخرجاً بالشكل المجرد، بل يحاول أن يخرج من هذه العباءة إلى أفق أوسع لينضم لأولئك الذين يحاربون من أجل سينما فلسطينية، أن نصنع صوتاً فلسطينياً ونمطاً فلسطينياً برائحة فلسطينية.
ويرى مشهراوي أن النهوض بالسينما يلزمه النهوض بأدوات مركزية لها، على رأسه توفير نص قوي، لاسيما للدراما، وهنا كشف مشهراوي عن "شح" من يعتمد عليهم محلياً في إطار الكتابة، وأنه لم يتعامل بشكل فعلي حتى الآن بكتّاب سيناريو بشكل مباشر، فهو ينتقي مشاريعه بناءً على معايشة شخصية مستعيناً بمن له علاقة بالأعمال السينمائية والكتابة من أجل تطوير الشخصيات والمحافظة على سلامة الخط الدرامي مثل المخرج السوري محمد ملص، والكاتب اللبناني غازي قهوجي، والناقد المصري سمير فريد، وحسين البرغوثي وخالد حوراني وسعيد مراد وإبراهيم المزين من فلسطين.
خلال جولته في هذا اليوم، توجه مشهراوي لحضور فيلم "دموع بطعم آخر"، للمخرج عبد السلام شحادة، الذي يتناول دموع الألم والفرح قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والذي ساهمت فيه في الجزء المتعلق بالمستوطنين، المخرجة الإسرائيلية المناهضة للاحتلال أوسنات طرابلسي. قادنا الفيلم للحديث عن الأعمال التي توصف بـ "المشتركة" مع الإسرائيليين. قال مشهراوي إن هناك أفلاماً صادقة مثل "دموع بطعم آخر" و"طريق 181" للمخرج ميشيل خليفة وايال سيفان، لكن يبقى هناك خطر اللبس وسوء الفهم في العالم. فلو افترضنا أن هناك 10 أو 50 مخرجاً يسارياً إسرائيلياً يعملون لصالح القضية الفلسطينية، بغض النظر إن صدقوا أم لا، فإن هذه الأعمال لا تشكل ظاهرة، لكن الاشتراك فيها يعطي انطباعاً خاطئاً أمام العالم، وكأننا نحن وهم نعيش في نفس المستوى. فهي تساهم في إلغاء حقيقة المحتل والقابع تحت الاحتلال، وتلغي واقع الضحية (نحن) والجلاد (الاحتلال)، بمعنى أنني ضد هذه الأعمال."
وأضاف أن الأساس في العلاقة هو المساواة، العيش في دولتين منفصلتين، ثم بعد ذلك من أراد أن يعمل أعمال مشتركة "هو حر".
وأشار إلى أن بعض المخرجين هي شخصيات خارج سياق السينما، متطوعين إسرائيليين في ثوب مخرجين فلسطينيين أو عرباً، "تافهين ولا يتبعوننا وفي كل الدول لا ينتمون لنا، يبزغون فجأة وينطفئون بسرعة."
واستدرك مشهراوي إلى أن هذه النظرة لا تنطبق على فلسطينيي الـ (48)، وليس محرماً عليهم في أن يتعاملوا مع مؤسسات إسرائيلية، سيما أنه لا يتوفر لديهم أي بديل أو مساندة ثقافية أو مادية وهم يعيشون في واقع محاصر وهم أعلم به، وقدموا أعمالاً نفتخر بها كفلسطينيين أبرزها "يد إلهية" لإيليا سليمان، و"الجنة الآن" لهاني أبو أسعد.
أما في حديثه عن "شماعة شح الإمكانيات" التي يتغنى بها الكثيرون معلقين عدم نجاحهم عليها، رد مشهراوي بشكل متواز فأشار إلى القول الشائع "أعطني خبزاً أعطيك فناً"، مشيراً إلى أن التدهور الاقتصادي في فلسطين ينعكس بشكل قوي على صناعة الأفلام والأنشطة الثقافية الأخرى.
لكن من عنده الإرادة للعمل فليعمل، ولا يشتري المبررات، وليس بالضرورة بالمستوى العالمي، لكن يجب استغلال كل مساحة للتحرك. وإذا صنع مخرج فيلماً لمدة 3 دقائق وهو تحت الحصار، فالمرة القادمة سيصنع فيلماً 5 دقائق، وفي ظروف قاسية كهذه يعتقد أنه "بالجوال بعمل فيلم".
لم تفارق السياسة حديث مشهراوي عن السينما، فكما هي فارضة نفسها على تفاصيل المشهد اليومي، كذلك على المشهد السينمائي، إذ إنه هو يعتبر نفسه محارباً من أجل فلسطين يحمل سلاح الفن السابع، مؤمناً بقوة السينمائيين الفلسطينيين، استطاعوا أن يصنعوا وطناً فلسطينياً في العالم، الأمر الذي فشل فيه الساسة".
ويعتقد أن مهمة السينمائيين الفلسطينيين تكمن في الحفاظ على الذاكرة والثقافة من خلال أعمال فنية جيدة. فإذا كانت إسرائيل تمتلك دبابات وطائرات وخيارات سياسية ودعماً أمريكياً، فالشعب الفلسطيني يملك الأرض التي تحكي الحكاية، ففي السينما تحكي يافا عن نفسها ونحارب الجدار والاستيطان وأطرح فلسطين الحقيقية".
ويرى مشهراوي أن السينما هي وطن لا يستطيع أن يحتله أحد، وبها يشعر أنه أكبر من أي شيء. ففيها تقول الأرض هؤلاء أصحابي وهؤلاء يملكوني، وهذا ما تقوله السينما، وغيرها من الفنون، فنحن في الوطن العربي الذي بات يسمى "الشرق الأوسط" يثبتنا الثقافة العربية والسينما والموسيقى وغيرها، وهو ما لا يمكن احتلاله.
لم تبدُ الدهشة على وجه المشهراوي عندما سؤل عن تعليقه على اتهام بعض المراقبين له بأنه "متصنع ومبتذل"، ابتسم مشهراوي وقال "كل واحد حر في وجهة نظره"، معتقداً أن أي عمل أو أي شخصية لها من يحبها أو يعترض معها، مؤكداً أن ذلك لا يشكل شيئاً في مسيرته السينمائية.
في أزقة مخيم الشاطئ، تتبع المخرج حياة صياد فلسطيني كجزء من فيلمه "صباح الخير غزة"، القهر يرقد بين ألواح الأسبست والأزقة وبين أصابع الأطفال.
وكان هنا موضع سؤال ما إذا كان القهر والحرمان مصدراً للإبداع؟ لم يتفق مشهراوي مع هذه الرؤية، مستشهداً بإدوارد سعيد الذي عاش حياة مترفة (مادياً) واحتل مكاناً مرموقاً بين مبدعي ومفكري العالم. ولفت مشهراوي إلى أن تعامله في أفلامه الأولى كانت مع المخيم لأنه البيئة التي تربى فيها، وهو واقع انعكس على عدد من أفلامه، فحوالي سبعة أفلام مهتمة باللاجئين، وشدد بالقول: "كوننا شعب فلسطيني تحت الاحتلال فنحن أصحاب قضية عادلة، لكن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نصنع سينما ولا يساعدنا، فقبل أن تكون ابن مخيم يجب أن تكون سينمائياً كي تخدم القضية من خلال السينما".
في الشارع الرئيس لغزة "عمر المختار"، ينشغل المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، بتوجيه المصور لالتقاط صور مختلفة لجوانب من المدينة، وذلك في إطار صناعة فيلمه التسجيلي الجديد "صباح الخير غزة".
توقف مشهراوي أمام مبنى سينما النصر المدمّر بأيدٍ فلسطينية، بعد محاولة ترميمه عام 1996، عاد بذاكرته إلى طفولته، عندما كان يتسلل بين عدد من الشبان أو يدخر مصروف المدرسة "إن وُجِد" من أجل مشاهدة فيلم.
"هتكوا عرض السينما، وهتكوا عرض الوطن"، هذا ما خرج من فم مشهراوي حزناً وأسى على ما وصل إليه حال السينما الفلسطينية. يعتقد مشهراوي أن نهضة السينما لن تعود إلا عندما يعود الوطن. "أن يعود الوطن إلينا في داخلنا بغض النظر عما إذا كان هناك احتلال أم لا، فمفهوم الوطن انضرب".
فالوطن وفقاً لرؤية مشهراوي ليس اسماً أو ألوان علم، بل هو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان على نفسه ومستقبله، وهو المكان الذي يود العودة إليه في لحظة غياب. "لا أريد أن تعود فلسطين ويُدمر الشعب لأن تدمير الشعب بحجة بناء الوطن هو تدمير للوطن، والإنسان أهم من الوطن".
يتنقل مشهراوي مع فريقه في زوايا مختلفة في مدينة غزة، يعيش تفاصيل عائلة صياد فلسطيني يعاني حصار البحر، وحداد يعاني حصار البر، وفرقة راب محلية تعاني حصاراً ثقافياً، وعائلة توزع أبناؤها بين فتح وحماس تعاني الاقتتال الداخلي، وشعب يعاني من كل أنواع الحصار، عناصر مختلفة يقدمها مشهراوي في فيلمه الوثائقي الجديد "صباح الخير غزة"، يغوص من خلاله في تفاصيل غزة تحت الحصار وصراعها من أجل البقاء بأي ثمن، وضمان مستقبل أفضل.
وحول مستقبل أفضل للسينما الفلسطينية، كشف مشهراوي أنه يعمل حالياً على مشروع فيلم روائي طويل عن النسيان الجماعي للعرب بعنوان "كتابة على الثلج".
وقال إن الفيلم سيتناول العالم العربي الفاقد للذاكرة، فكل ما قدمه العرب على فترات التاريخ الإنسانية وكل ما حل بهم من جرائم إبادة في فلسطين والعراق والجزائر وليبيا وكل الدول العربية، كلها ذهبت مع الريح ولم تعد مواضيع للنقاش، وانقلب النقاش إلى أننا إرهابيون، ونكثف جهودنا إلى إثبات العكس، بمعنى أننا بتنا في قفص الاتهام. بجانب أننا نحن العرب أوقفنا الحديث عن أوروبا وأمريكا، وبتنا ننتظر ماذا هم يتحدثون عنا، فالعرب والفلسطينيون أصبحوا ردة فعل أكثر من فعل. هذا ما سيتم تناوله من خلال حكاية فلسطينية تعالج موضوعاً عربياً.
وأشار إلى أن هناك اهتماماً عربياً كبيراً بهذا العمل، فهناك عروض للإنتاج والتصوير في سوريا، وتلفزيون إماراتي يساهم في المشروع وهناك ممثلون وطواقم عمل من مختلف الدول العربية، فالمشروع لم يأت صدفة، حيث أن المنطقة العربية مفعمة بالترهلات والنسيان والأخطار على رأسها فلسطين والعراق وغيرها على الطريق.
ويحاول مشهراوي أن يجد مدخلاً لما يعتمل في الذاكرة وسط زحمة الأحداث من خلال وقفة مع الذات، معتقداً أنه من خلال الفيلم سيقطع خطوة جديدة على طريق إقحام السينما الفلسطينية إلى العالمية.
عين مشهراوي ترقب تفاصيل شوارع غزة، استفزه مشهد شاب في مقتبل العمر بملابس مدنية يحمل بندقية "كلاشينكوف"، فقال: "هذا المشهد هو أساس الفلتان الأمني في غزة، بأي حق يسير هذا الشاب هكذا؟ فأنا لا أعرف من هو هذا، هل هو مدسوس، أم مقاوم أم من فتح أم من أي فصيل آخر؟ وهذا أمر خلقه الترهل الاقتصادي والسياسي، الأمر الذي ينعكس بالطبع على الجانب الثقافي. ومساهمة في الخروج من هذا اللغط الأمني يقترح مشهراوي أنه يتوجب على "الموطنين العاديين أن يوحدوا ملبسهم كي يتميزوا عن اللي مش عاديين".
نظرته التشاؤمية حول كل شيء خلقت سؤالاً حول سبب غلبة اللمسة التراجيدية على أفلامه، فقال إن الواقع الذي يحيط بالشعب الفلسطيني هو الذي يفرض نفسه على كل تحركات الشعب بمختلف فئاته، فهو واقع ليس سهلاً، والأفلام التي لها علاقة "بالهيومر" (الطرافة والمزاح) ليس من الصعب إخراجها، فليس من الصعب أن تُنتزع الضحكة من المشاهد الفلسطيني، الذي يلهث وراء ابتسامة في ظل الضنك، أما من خلال الفيلم الروائي، فهو يؤرخ للحظات يجب أن يشهد لها التاريخ، ففيلم "موسم حب" (عام2000) كان أول فيلم عن انتفاضة الأقصى، وهو مليء بالمشاهد الدموية، لكن ما أجبره على صناعته هو الصورة المشوهة للأم الفلسطينية التي رُوج أنها لا تكترث لفقدان فلذة كبدها، بل وتزغرد لفراقه، وقد حاول المخرج أن يدحض هذه الرؤية ويقدم حقيقة أننا كفلسطينيين بشر ككل الشعوب ونحن من يتعرض للقتل.
ولا ينفي مشهراوي وجود "كوميديا" غير مباشرة تأتي في إطار الواقع المر، ففي فيلم "حتى إشعار آخر"، رغم أن المشهد مأساوي نرى فيه ضحكات الأطفال، ضحكة ناتجة عن عبث وسخرية سخرية سوداء، كذلك فيلم "حيفا"، الشخصية الرئيسة التي لعبه- اسم حيفا- عملياً شخصية طريفة من بداية الفيلم لنهايتها، تدخل في إطار المضحك المبكي.
مررنا بـ "غاليري المينا" التابع لوزارة الثقافة في غزة، وهنا شن مشهراوي هجوماً على المؤسسة الرسمية لقصورها في دعم أو حتى الالتفات إلى السينما.
فجل الأعمال تُنتج بتمويل غير فلسطيني، سواء أكان عربياً أو أجنبياً، مع مساهمات فلسطينية ضئيلة، غير متناسٍ تمويل الوزارة لفيلم "انتظار" الذي يتناول قضية اللاجئين الفلسطينيين.
وأشار المخرج رشيد مشهراوي إلى أن مؤسساتنا باختلافها واختلافاتها لا تتمتع بوعي كاف لأهمية السينما، الأمر الذي يحول كل شخص (مخرج) إلى مؤسسة، فهو الممول وهو المنتج وهو المخرج وهو كل شيء، من أجل أن يخرج فيلماً.
وأضاف أنه يوجد أفلام ومخرجون لكن لا توجد ظاهرة سينما فلسطينية حقيقية، فالسينما الفلسطينية أوجدها أفراد وليس مؤسسات، آخذاً بعين الاعتبار أن الأعمال التي نراها أو حتى بدايات السينما كلها مشاريع فردية، وكي تصبح مشروع دولة، يجب تخصيص صندوق خاص بالسينما." فالوضع السياسي الحالي بتركيبته وتعقيداته وانشغالاته لم يترك مساحة فكرية أو مادية أو غيرها للنهوض بالعمل السينمائي".
وحول النهوض بالسينما الفلسطينية، يرى مشهراوي أن مشروعاً كهذا لا يُنفّذ بين عشية وضحاها، مشيراً إلى ضرورة إنتاج عشرات بل مئات الأفلام للخروج بالسينما الفلسطينية كظاهرة، الأمر الذي يعني تكاتف الجهود على أكثر من صعيد، الإنتاج والتدريب والتسويق، معتقداً أنه يحاول الانضمام إلى من يحاربون من أجل سينما فلسطينية، بنمط ورائحة فلسطينية، فقطع شوطاً كغيره في هذا الإطار، حيث تخرج على يديه ما يقارب من ثمانين من الشبان والشابات (بين 18 و25 عاماً) في دورات تدريبية. ويرى أنه لو نجح خمسة أشخاص من بين الثمانين فهذا يشكل انجازاً كبيراً، هذا إلى جانب إخراجه لـ 16 فيلماً قصيراً، ناهيك عن الأفلام الطويلة والدراما.
ولا يكتفي مشهراوي بعمله مخرجاً بالشكل المجرد، بل يحاول أن يخرج من هذه العباءة إلى أفق أوسع لينضم لأولئك الذين يحاربون من أجل سينما فلسطينية، أن نصنع صوتاً فلسطينياً ونمطاً فلسطينياً برائحة فلسطينية.
ويرى مشهراوي أن النهوض بالسينما يلزمه النهوض بأدوات مركزية لها، على رأسه توفير نص قوي، لاسيما للدراما، وهنا كشف مشهراوي عن "شح" من يعتمد عليهم محلياً في إطار الكتابة، وأنه لم يتعامل بشكل فعلي حتى الآن بكتّاب سيناريو بشكل مباشر، فهو ينتقي مشاريعه بناءً على معايشة شخصية مستعيناً بمن له علاقة بالأعمال السينمائية والكتابة من أجل تطوير الشخصيات والمحافظة على سلامة الخط الدرامي مثل المخرج السوري محمد ملص، والكاتب اللبناني غازي قهوجي، والناقد المصري سمير فريد، وحسين البرغوثي وخالد حوراني وسعيد مراد وإبراهيم المزين من فلسطين.
خلال جولته في هذا اليوم، توجه مشهراوي لحضور فيلم "دموع بطعم آخر"، للمخرج عبد السلام شحادة، الذي يتناول دموع الألم والفرح قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والذي ساهمت فيه في الجزء المتعلق بالمستوطنين، المخرجة الإسرائيلية المناهضة للاحتلال أوسنات طرابلسي. قادنا الفيلم للحديث عن الأعمال التي توصف بـ "المشتركة" مع الإسرائيليين. قال مشهراوي إن هناك أفلاماً صادقة مثل "دموع بطعم آخر" و"طريق 181" للمخرج ميشيل خليفة وايال سيفان، لكن يبقى هناك خطر اللبس وسوء الفهم في العالم. فلو افترضنا أن هناك 10 أو 50 مخرجاً يسارياً إسرائيلياً يعملون لصالح القضية الفلسطينية، بغض النظر إن صدقوا أم لا، فإن هذه الأعمال لا تشكل ظاهرة، لكن الاشتراك فيها يعطي انطباعاً خاطئاً أمام العالم، وكأننا نحن وهم نعيش في نفس المستوى. فهي تساهم في إلغاء حقيقة المحتل والقابع تحت الاحتلال، وتلغي واقع الضحية (نحن) والجلاد (الاحتلال)، بمعنى أنني ضد هذه الأعمال."
وأضاف أن الأساس في العلاقة هو المساواة، العيش في دولتين منفصلتين، ثم بعد ذلك من أراد أن يعمل أعمال مشتركة "هو حر".
وأشار إلى أن بعض المخرجين هي شخصيات خارج سياق السينما، متطوعين إسرائيليين في ثوب مخرجين فلسطينيين أو عرباً، "تافهين ولا يتبعوننا وفي كل الدول لا ينتمون لنا، يبزغون فجأة وينطفئون بسرعة."
واستدرك مشهراوي إلى أن هذه النظرة لا تنطبق على فلسطينيي الـ (48)، وليس محرماً عليهم في أن يتعاملوا مع مؤسسات إسرائيلية، سيما أنه لا يتوفر لديهم أي بديل أو مساندة ثقافية أو مادية وهم يعيشون في واقع محاصر وهم أعلم به، وقدموا أعمالاً نفتخر بها كفلسطينيين أبرزها "يد إلهية" لإيليا سليمان، و"الجنة الآن" لهاني أبو أسعد.
أما في حديثه عن "شماعة شح الإمكانيات" التي يتغنى بها الكثيرون معلقين عدم نجاحهم عليها، رد مشهراوي بشكل متواز فأشار إلى القول الشائع "أعطني خبزاً أعطيك فناً"، مشيراً إلى أن التدهور الاقتصادي في فلسطين ينعكس بشكل قوي على صناعة الأفلام والأنشطة الثقافية الأخرى.
لكن من عنده الإرادة للعمل فليعمل، ولا يشتري المبررات، وليس بالضرورة بالمستوى العالمي، لكن يجب استغلال كل مساحة للتحرك. وإذا صنع مخرج فيلماً لمدة 3 دقائق وهو تحت الحصار، فالمرة القادمة سيصنع فيلماً 5 دقائق، وفي ظروف قاسية كهذه يعتقد أنه "بالجوال بعمل فيلم".
لم تفارق السياسة حديث مشهراوي عن السينما، فكما هي فارضة نفسها على تفاصيل المشهد اليومي، كذلك على المشهد السينمائي، إذ إنه هو يعتبر نفسه محارباً من أجل فلسطين يحمل سلاح الفن السابع، مؤمناً بقوة السينمائيين الفلسطينيين، استطاعوا أن يصنعوا وطناً فلسطينياً في العالم، الأمر الذي فشل فيه الساسة".
ويعتقد أن مهمة السينمائيين الفلسطينيين تكمن في الحفاظ على الذاكرة والثقافة من خلال أعمال فنية جيدة. فإذا كانت إسرائيل تمتلك دبابات وطائرات وخيارات سياسية ودعماً أمريكياً، فالشعب الفلسطيني يملك الأرض التي تحكي الحكاية، ففي السينما تحكي يافا عن نفسها ونحارب الجدار والاستيطان وأطرح فلسطين الحقيقية".
ويرى مشهراوي أن السينما هي وطن لا يستطيع أن يحتله أحد، وبها يشعر أنه أكبر من أي شيء. ففيها تقول الأرض هؤلاء أصحابي وهؤلاء يملكوني، وهذا ما تقوله السينما، وغيرها من الفنون، فنحن في الوطن العربي الذي بات يسمى "الشرق الأوسط" يثبتنا الثقافة العربية والسينما والموسيقى وغيرها، وهو ما لا يمكن احتلاله.
لم تبدُ الدهشة على وجه المشهراوي عندما سؤل عن تعليقه على اتهام بعض المراقبين له بأنه "متصنع ومبتذل"، ابتسم مشهراوي وقال "كل واحد حر في وجهة نظره"، معتقداً أن أي عمل أو أي شخصية لها من يحبها أو يعترض معها، مؤكداً أن ذلك لا يشكل شيئاً في مسيرته السينمائية.
في أزقة مخيم الشاطئ، تتبع المخرج حياة صياد فلسطيني كجزء من فيلمه "صباح الخير غزة"، القهر يرقد بين ألواح الأسبست والأزقة وبين أصابع الأطفال.
وكان هنا موضع سؤال ما إذا كان القهر والحرمان مصدراً للإبداع؟ لم يتفق مشهراوي مع هذه الرؤية، مستشهداً بإدوارد سعيد الذي عاش حياة مترفة (مادياً) واحتل مكاناً مرموقاً بين مبدعي ومفكري العالم. ولفت مشهراوي إلى أن تعامله في أفلامه الأولى كانت مع المخيم لأنه البيئة التي تربى فيها، وهو واقع انعكس على عدد من أفلامه، فحوالي سبعة أفلام مهتمة باللاجئين، وشدد بالقول: "كوننا شعب فلسطيني تحت الاحتلال فنحن أصحاب قضية عادلة، لكن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نصنع سينما ولا يساعدنا، فقبل أن تكون ابن مخيم يجب أن تكون سينمائياً كي تخدم القضية من خلال السينما".
التعليقات