كيف غطى صحافيو غزة الصدامات الداخلية؟..نشر الغسيل الوسخ والمعتدي مبني للمعلوم

غزة- دنيا الوطن
اعتاد الصحافيون الفلسطينيون، والأجانب، على توخي الحيطة والحذر خلال عملهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بقراءة هذه الكلمات القليلة البسيطة يتوارد فوراً إلى الذهن الحيطة والحذر من استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي لهم بالقتل أو الاعتقال أو الضرب أو غير ذلك خلال تغطيتهم لوقائع انتفاضة الأقصى. بيد أن هذا المفهوم قد تغير أخيرا، سيما في قطاع غزة. هذه البقعة الصغيرة شهدت في الآونة الأخيرة صدامات عنيفة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبشكل أدق، بين ميليشيا فتح وحماس.
بشكل شبه مقارن اعتدنا أن يحظى الصحافيون باحترام المواطنين، فهم بوابتهم للعالم، يفتح المواطنون والمسئولون الأبواب أمام الصحفي لنقل فضائح الاحتلال للعالم. ويرشدونهم للأماكن التي حولها الاحتلال مسرحاً لجرائمهم. كما نرى على شاشات التلفاز الصحفيين، سيما المصورين، يخطون خطوات فدائية، يتسللون إلى أماكن الخطر بدافعية فدائية نابعة من شعوره بالواجب الوطني والأخلاقي لنقل المشاهد التي من المفترض أن يراها العالم، حتى دفع ما لا يقل عن عشرة صحافيين حياتهم، وأصيب المئات بجراح، ثمناً لهذا الواجب. أما أصحاب الكلمات فيتسابقون في وصف الحقائق يتسابقون في انتقاء المفردات (الملائمة) لجرائم الاحتلال.
لكن، وبعد أن أضحت غزة مسرحاً للصراعات الداخلية، وقع الصحافي في عقدة هاملت، وهي ما لم تكن في الحسبان. فهل يصور الأحداث الداخلية و"يفضح شعبه"؟ أم لا يصور ويفقد عمله؟ وهل يكتب بالشكل الذي يتوجب عليه، وربما يثير المشاعر؟ أم لا يكتب وينتهك الأمانة المهنية؟ وهل ينزل للميدان ويعرض حياته للخطر ويموت؟ ومن أجل ماذا؟ وهل هناك فعلاً خطر على حياتهم؟
أوائل الشهر الماضي نشرت منظمة "مراسلون بلا حدود" تقريرأً بعنوان "غزة على فوهة بركان" قالت فيه إن الصحافيين الفلسطينيين بين نارين، مشيرة إلى أنه "لم يعد العاملون المحترفون في القطاع الإعلامي يشعرون بالأمان في قطاع غزة ليس لأنهم يخشون الوقوع ضحية النيران الإسرائيلية وحسب بل أيضاً لأنهم يخشون أن يسقطوا ضحية تصفية الحسابات بين الفلسطينيين."
موت عن موت بيفرق
تقرير مراسلون بلا حدود يؤكده مصور وكالة أنباء رامتان زكريا أبو هربيد (38 عاماً)، الذي قال إن الخطر الذي يحدق بالصحافيين خلال تغطية الأحداث الداخلية أكبر من الخطر من قوات الاحتلال، "على سبيل المثال، خلال تغطية الاجتياح تعرف أين مصدر النيران إذا استثنينا الغارات الجوية، أما في تغطية الأحداث الداخلية، فلا تعرف من أين تنطلق الرصاصات."
إن شدة الخطر ينجلي في حديث أبو هربيد في حديثه عن الموت بدون مقدمات، مسترسلاً بالقول إنه لو قُتل الصحفي خلال تغطية الاعتداءات الاسرائيلية فهو في النهاية شهيد، أما لو قُتل خلال الصدامات فكل طرف سيلقي باللائمة على الآخر، ناهيك عن أن الصحفي ينتابه شعور أنها ميتة غير مشرفة، ف"موت عن موت بيفرق".
وأشار أبو هربيد إلى أن الصحفي يشعر أنه يقدم شيئاً لوطنه أثناء تغطيته للاجتياح والجرائم الاسرائيلية ، فيخدم قضيته بالكلمة والصورة، أما اليوم فأول ما ينتابه الألم الشديد، حتى
وكشف أبو هربيد عن الضغط المعنوي الذي يلاقيه من نفسه، موضحاً أن الصحفي الفلسطيني غير معني بنشر "فضائحنا" على شاشات التلفاز العالمية، فهذه المشاهد المحزنة تمسح التاريخ الفلسطيني المشرف في مقارعة الاحتلال "بأستيكا"، وهو ما ينعكس سلباً على الأداء.
ونوه أبو هربيد إلى ظاهرة أخرى تفرق بين الحالتين، فخلال تغطيات جرائم الاحتلال الإسرائيلي يساهم الناس في مساعدة المصور وإرشاده للأماكن التي تحوي على معلومات وصور يعتقدون أنها هامة تساهم في فضح الاحتلال، أما خلال تغطية الأحداث الداخلية فنقابل العكس. فالجميع يشمئزون منك لأنك "ستنشر غسيلنا المتسخ على الحبل"، بجانب أن كل طرف من المسلحين ينظر إليك نظرة تشكيكية على أنك ربما تعمل لصالح "الجهة الأخرى".
وهذا ما أكده الصحفي، أحمد الشقاقي، (21 عاماً) مراسل صوت القدس، الذي جسد حيث أبو هربيد بتجربة شخصية، ففي إحدى تغطياته للاجتياح الإسرائيلي الأخير لقرية الشوكة في رفح كان على دراية بخط أحمر (وهمي) خطر تجاوزه، أما عندما صادف وجوده في صدامات داخلية قرب مستشفى الشفاء في غزة فأخذ يجري على غير هدي لا يعرف أين يختبيء من الرصاص العشوائي الذي لا يُعرف مصدره ولا هدفه.
ونوه إلى أن الفارق في التغطية يطال الأداء المهني للصحفي، فخلال تغطيته للاعتداءات الإسرائيلية يبذل قصارى جهده لإظهار الحقيقة كاملة من كل الجوانب وبكل التفاصيل بدون أي تأويل، أما خلال تغطيته للمواجهات الداخلية فالأمر معقد، فالصحفي يشعر بالإحباط والخجل "أخجل من نفسي قبل كل شيء".
مشيراً أنه عندما يغطي أي اعتداء إسرائيلي يشعر بدافع وطني يضعه في خانة القيام بعمل وطني أما في تغطية ما يجري في شوارع غزة فإنه يشعر بالخجل من نفسه أولا بجانب الإحباط. الأمر الذي يجبره على عدم الاعتماد على "السبق الصحفي" كما في الحالة الأخرى، بجانب حذره واقتضابه في عرض الخبر حرصاً على عدم تأجيج المشاعر بعكس ما يقدمه من رسائل إعلامية يحاول من خلالها رفع معنويات الجمهور خلال الاعتداءات الإسرائيلية.
ولم يخفِ مراسل صوت القدس من الإشارة إلى ما ينتابه من شعور عند سقوط أحد الضحايا بالقول: "ربما أرسل خبراً أن فلان قُتل، ربما يكون جاري أو أحد أقاربي وبالتالي وفي نفس الوقت ربما يكون قد قُتل على يد أحد الجيران أو الأقارب، الأمر الذي يضعك في وضع نفسي لا تُحسد عليه." واختتم الشقاقي حديثه بالإشارة إلى اعتداءات المسلحين في غزة على الصحافيين واصفاً هذه الأعمال بـ"الخيانة".
الصحفي حاتم موسى (31 عاما)، مصور وكالة الأسوشييتد برس (AP)، تقاطع ما أبو هربيد والشقاقي في موضوع الخطر المحدق بالصحافيين، مؤكداً أن الخطر يحيط بهم في الحالتين، مع الفارق أنه لو قُتل الصحفي خلال اجتياح اسرائلي فليس من الصعب تحديد وجهة القاتل، فهناك شهود عيان بجانب معرفة مصدر النار أما في حالة الاقتتال الداخلي "بتعرفش مين طخك".
وأضاف موسى أنه في حالة الاقتتال الداخلي ربما يكون الصحفي معرض للخطر من الجهتين، فكل جهة ترفض أن تُنشر صورها خلال الأحداث كي لا تنكشف للجهة الأخرى. هذا بجانب أنه في حال تغطية الاجتياحات الاسرائيلية يرى الصحافيون مواطنين في الشوارع ربما يرشدونهم للأماكن الآمنة والخطرة أما في حال الاقتتال الداخلي فالشوارع خالية وأشبه بـ"منع تجول" وان صادف أي من المواطنين فإنه لن يتدخل.
ولم يفت حاتم موسى فرصة الحديث ليعرج على افتقار الصحافيين للحماية في غزة. ففي حال افتقار "البلد" للأمن فعلى المسلحين من فتح أو حماس أو الأجهزة الأمنية أو نقابة الصحافيين (...) أن يقوموا بواجبهم الانساني والأخلاقي وما يتوافق مع الأعراف الدولية بحماية إلا أنهم للأسف لا يقومون بواجبهم في هذا الاطار.
مفردات اللغة تتبخر
أما الصحافية خضرة حمدان، مراسلة ومحررة في وكالة معاً المحلية، فارتكز حديثها على المهارة الصحفية والكتابية خلال كتابة الأخبار التي تتناول الصراعات الداخلية، معرجة على "غياب اللغة وجمودها"، فعلى الرغم من ليونة اللغة وتعدد المفردات والمرادفات إلا أن حمدان تقف حائرة متجهمة أمام وصف حدث ما، فمهارتها في اللعب بمفردات اللغة تتبخر، ما يعني أن الصحفي لا يتعرض إلى خطر جسماني فقط، فالأداء المهني والكفاءة الصحفية باتت تحت الخطر أيضاً.
وكشفت خضرة حمدان عن إحدى التجارب المحيرة في وصف أولئك الذين زهقت أرواحهم خلال الصدامات الداخلية. فعلى سبيل المثال وصفت أحدهم بـ" شهيد"، وهو من طرف فتح ربما يُغضب حماس، والعكس، فاضطرت لوصفهم "ضحايا" كحل وسط التزمت به وكالة "معا".
وانتقلت حمدان إلى مربع آخر، فأشارت إلى "الدافعية" كاشفة إلى أنه خلال تحرير خبر يتعلق بالجرائم الإسرائيلية من قتل واغتيال وتجريف وتدمير، فان الدافعية للعمل تكون قوية كونها تنبع من وازع الشعور بالواجب المهني والوطني، وفي هذا الإطار تحاول استخدام مفردات مناسبة. أما في تغطية الأحداث الداخلية فتحاول حمدان تجاوز ألم قاس نبع من خلال المحافظة على معادلة المهارة والأمانة المهنية في نشر الوقائع والواجب الوطني في محاولة عدم استخدام مفردات من الممكن أن تثير طرف على آخر أو من الممكن أن تساهم في تأجيج المشاعر.
مؤسسات إعلامية وصحافيون كانوا هدفاً للمجموعات المسلحة، في غزة سواء بالاستهداف المادي/ البدني المباشر أو معنوياً عبر التهديد والوعيد. فكثير منهم (رفضوا الكشف عن أسماءهم!) قالوا إنهم تعرضوا للتهديد عبر الهاتف النقال أو برسائل مكتوبة على أبواب منازلهم تهددهم بشدة في حال التصوير أو الكتابة عما يرتكبونه من جرائم.
بجانب ذلك كانت الاعتداءات على الصحافيين تُسجل عادة تحت اسم "مسلحون مجهولون". تلك المعادلة أيضاً تغيرت. حتى أصبحت المؤسسات الاعلامية والصحافيين، وبدون خجل، هدفاً لـ"المجهولين" لدرجة أن المعتدي يعلن جهراً وبشكل "وقح" عن نفسه دون خجل من التاريخ أو الجغرافيا.
ففي الثالث عشر من تشرين أول/ أكتوبر، 2006، تعرض مقر إذاعة صوت العمال للهجوم بالأسلحة النارية والمتفجرات، وأعلن المعتدون جهراً أمام التلفاز عن أنفسهم وعن مسؤوليتهم عن الجريمة، كما أعلنت مجموعة أخرى باسم "سيف الحق" مسؤوليتها عن تفجير مقر تلفزيون العربية بتاريخ 22 كانون ثاني 2007. هذا بجانب اعتداء أشخاص سافرو الأوجه على صحافيين بتاريخ 19 أيلول 2006.
نستحضر هنا الفيلسوف فولتير الذي وجه خطابه لجان جاك روسو، بعد مصادرة الحكومة كتاباً للأخير، قائلاً: " لا أتفق معك في كلمة تقولها ولكن سأدافع عن حقك في التعبير عن رأيك"، أما هنا في غزة فلدينا خطاباً من نوع آخر، إن لم تتفق معي فأنت كافر. الأمر الذي جعل منظمة مراسلون بلا حدود تعارض بشكل عام فكرة تمييز الصحافيين بعلامة مميزة لأنهم بوضوح باتوا هدفاً. ففي تفاصيل المشهد الدموي الذي خيم على غزة، وفي ظل كسر وتخطي كل الخطوط الحمراء التي تغنى بها الساسة والرويبضة، وأصبح الدم مستباحاً، وبات قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أمراً روتينياً، ليس غريباً أن تُستهدف المؤسسات الإعلامية والصحافيين.
اعتاد الصحافيون الفلسطينيون، والأجانب، على توخي الحيطة والحذر خلال عملهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بقراءة هذه الكلمات القليلة البسيطة يتوارد فوراً إلى الذهن الحيطة والحذر من استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي لهم بالقتل أو الاعتقال أو الضرب أو غير ذلك خلال تغطيتهم لوقائع انتفاضة الأقصى. بيد أن هذا المفهوم قد تغير أخيرا، سيما في قطاع غزة. هذه البقعة الصغيرة شهدت في الآونة الأخيرة صدامات عنيفة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبشكل أدق، بين ميليشيا فتح وحماس.
بشكل شبه مقارن اعتدنا أن يحظى الصحافيون باحترام المواطنين، فهم بوابتهم للعالم، يفتح المواطنون والمسئولون الأبواب أمام الصحفي لنقل فضائح الاحتلال للعالم. ويرشدونهم للأماكن التي حولها الاحتلال مسرحاً لجرائمهم. كما نرى على شاشات التلفاز الصحفيين، سيما المصورين، يخطون خطوات فدائية، يتسللون إلى أماكن الخطر بدافعية فدائية نابعة من شعوره بالواجب الوطني والأخلاقي لنقل المشاهد التي من المفترض أن يراها العالم، حتى دفع ما لا يقل عن عشرة صحافيين حياتهم، وأصيب المئات بجراح، ثمناً لهذا الواجب. أما أصحاب الكلمات فيتسابقون في وصف الحقائق يتسابقون في انتقاء المفردات (الملائمة) لجرائم الاحتلال.
لكن، وبعد أن أضحت غزة مسرحاً للصراعات الداخلية، وقع الصحافي في عقدة هاملت، وهي ما لم تكن في الحسبان. فهل يصور الأحداث الداخلية و"يفضح شعبه"؟ أم لا يصور ويفقد عمله؟ وهل يكتب بالشكل الذي يتوجب عليه، وربما يثير المشاعر؟ أم لا يكتب وينتهك الأمانة المهنية؟ وهل ينزل للميدان ويعرض حياته للخطر ويموت؟ ومن أجل ماذا؟ وهل هناك فعلاً خطر على حياتهم؟
أوائل الشهر الماضي نشرت منظمة "مراسلون بلا حدود" تقريرأً بعنوان "غزة على فوهة بركان" قالت فيه إن الصحافيين الفلسطينيين بين نارين، مشيرة إلى أنه "لم يعد العاملون المحترفون في القطاع الإعلامي يشعرون بالأمان في قطاع غزة ليس لأنهم يخشون الوقوع ضحية النيران الإسرائيلية وحسب بل أيضاً لأنهم يخشون أن يسقطوا ضحية تصفية الحسابات بين الفلسطينيين."
موت عن موت بيفرق
تقرير مراسلون بلا حدود يؤكده مصور وكالة أنباء رامتان زكريا أبو هربيد (38 عاماً)، الذي قال إن الخطر الذي يحدق بالصحافيين خلال تغطية الأحداث الداخلية أكبر من الخطر من قوات الاحتلال، "على سبيل المثال، خلال تغطية الاجتياح تعرف أين مصدر النيران إذا استثنينا الغارات الجوية، أما في تغطية الأحداث الداخلية، فلا تعرف من أين تنطلق الرصاصات."
إن شدة الخطر ينجلي في حديث أبو هربيد في حديثه عن الموت بدون مقدمات، مسترسلاً بالقول إنه لو قُتل الصحفي خلال تغطية الاعتداءات الاسرائيلية فهو في النهاية شهيد، أما لو قُتل خلال الصدامات فكل طرف سيلقي باللائمة على الآخر، ناهيك عن أن الصحفي ينتابه شعور أنها ميتة غير مشرفة، ف"موت عن موت بيفرق".
وأشار أبو هربيد إلى أن الصحفي يشعر أنه يقدم شيئاً لوطنه أثناء تغطيته للاجتياح والجرائم الاسرائيلية ، فيخدم قضيته بالكلمة والصورة، أما اليوم فأول ما ينتابه الألم الشديد، حتى
وكشف أبو هربيد عن الضغط المعنوي الذي يلاقيه من نفسه، موضحاً أن الصحفي الفلسطيني غير معني بنشر "فضائحنا" على شاشات التلفاز العالمية، فهذه المشاهد المحزنة تمسح التاريخ الفلسطيني المشرف في مقارعة الاحتلال "بأستيكا"، وهو ما ينعكس سلباً على الأداء.
ونوه أبو هربيد إلى ظاهرة أخرى تفرق بين الحالتين، فخلال تغطيات جرائم الاحتلال الإسرائيلي يساهم الناس في مساعدة المصور وإرشاده للأماكن التي تحوي على معلومات وصور يعتقدون أنها هامة تساهم في فضح الاحتلال، أما خلال تغطية الأحداث الداخلية فنقابل العكس. فالجميع يشمئزون منك لأنك "ستنشر غسيلنا المتسخ على الحبل"، بجانب أن كل طرف من المسلحين ينظر إليك نظرة تشكيكية على أنك ربما تعمل لصالح "الجهة الأخرى".
وهذا ما أكده الصحفي، أحمد الشقاقي، (21 عاماً) مراسل صوت القدس، الذي جسد حيث أبو هربيد بتجربة شخصية، ففي إحدى تغطياته للاجتياح الإسرائيلي الأخير لقرية الشوكة في رفح كان على دراية بخط أحمر (وهمي) خطر تجاوزه، أما عندما صادف وجوده في صدامات داخلية قرب مستشفى الشفاء في غزة فأخذ يجري على غير هدي لا يعرف أين يختبيء من الرصاص العشوائي الذي لا يُعرف مصدره ولا هدفه.
ونوه إلى أن الفارق في التغطية يطال الأداء المهني للصحفي، فخلال تغطيته للاعتداءات الإسرائيلية يبذل قصارى جهده لإظهار الحقيقة كاملة من كل الجوانب وبكل التفاصيل بدون أي تأويل، أما خلال تغطيته للمواجهات الداخلية فالأمر معقد، فالصحفي يشعر بالإحباط والخجل "أخجل من نفسي قبل كل شيء".
مشيراً أنه عندما يغطي أي اعتداء إسرائيلي يشعر بدافع وطني يضعه في خانة القيام بعمل وطني أما في تغطية ما يجري في شوارع غزة فإنه يشعر بالخجل من نفسه أولا بجانب الإحباط. الأمر الذي يجبره على عدم الاعتماد على "السبق الصحفي" كما في الحالة الأخرى، بجانب حذره واقتضابه في عرض الخبر حرصاً على عدم تأجيج المشاعر بعكس ما يقدمه من رسائل إعلامية يحاول من خلالها رفع معنويات الجمهور خلال الاعتداءات الإسرائيلية.
ولم يخفِ مراسل صوت القدس من الإشارة إلى ما ينتابه من شعور عند سقوط أحد الضحايا بالقول: "ربما أرسل خبراً أن فلان قُتل، ربما يكون جاري أو أحد أقاربي وبالتالي وفي نفس الوقت ربما يكون قد قُتل على يد أحد الجيران أو الأقارب، الأمر الذي يضعك في وضع نفسي لا تُحسد عليه." واختتم الشقاقي حديثه بالإشارة إلى اعتداءات المسلحين في غزة على الصحافيين واصفاً هذه الأعمال بـ"الخيانة".
الصحفي حاتم موسى (31 عاما)، مصور وكالة الأسوشييتد برس (AP)، تقاطع ما أبو هربيد والشقاقي في موضوع الخطر المحدق بالصحافيين، مؤكداً أن الخطر يحيط بهم في الحالتين، مع الفارق أنه لو قُتل الصحفي خلال اجتياح اسرائلي فليس من الصعب تحديد وجهة القاتل، فهناك شهود عيان بجانب معرفة مصدر النار أما في حالة الاقتتال الداخلي "بتعرفش مين طخك".
وأضاف موسى أنه في حالة الاقتتال الداخلي ربما يكون الصحفي معرض للخطر من الجهتين، فكل جهة ترفض أن تُنشر صورها خلال الأحداث كي لا تنكشف للجهة الأخرى. هذا بجانب أنه في حال تغطية الاجتياحات الاسرائيلية يرى الصحافيون مواطنين في الشوارع ربما يرشدونهم للأماكن الآمنة والخطرة أما في حال الاقتتال الداخلي فالشوارع خالية وأشبه بـ"منع تجول" وان صادف أي من المواطنين فإنه لن يتدخل.
ولم يفت حاتم موسى فرصة الحديث ليعرج على افتقار الصحافيين للحماية في غزة. ففي حال افتقار "البلد" للأمن فعلى المسلحين من فتح أو حماس أو الأجهزة الأمنية أو نقابة الصحافيين (...) أن يقوموا بواجبهم الانساني والأخلاقي وما يتوافق مع الأعراف الدولية بحماية إلا أنهم للأسف لا يقومون بواجبهم في هذا الاطار.
مفردات اللغة تتبخر
أما الصحافية خضرة حمدان، مراسلة ومحررة في وكالة معاً المحلية، فارتكز حديثها على المهارة الصحفية والكتابية خلال كتابة الأخبار التي تتناول الصراعات الداخلية، معرجة على "غياب اللغة وجمودها"، فعلى الرغم من ليونة اللغة وتعدد المفردات والمرادفات إلا أن حمدان تقف حائرة متجهمة أمام وصف حدث ما، فمهارتها في اللعب بمفردات اللغة تتبخر، ما يعني أن الصحفي لا يتعرض إلى خطر جسماني فقط، فالأداء المهني والكفاءة الصحفية باتت تحت الخطر أيضاً.
وكشفت خضرة حمدان عن إحدى التجارب المحيرة في وصف أولئك الذين زهقت أرواحهم خلال الصدامات الداخلية. فعلى سبيل المثال وصفت أحدهم بـ" شهيد"، وهو من طرف فتح ربما يُغضب حماس، والعكس، فاضطرت لوصفهم "ضحايا" كحل وسط التزمت به وكالة "معا".
وانتقلت حمدان إلى مربع آخر، فأشارت إلى "الدافعية" كاشفة إلى أنه خلال تحرير خبر يتعلق بالجرائم الإسرائيلية من قتل واغتيال وتجريف وتدمير، فان الدافعية للعمل تكون قوية كونها تنبع من وازع الشعور بالواجب المهني والوطني، وفي هذا الإطار تحاول استخدام مفردات مناسبة. أما في تغطية الأحداث الداخلية فتحاول حمدان تجاوز ألم قاس نبع من خلال المحافظة على معادلة المهارة والأمانة المهنية في نشر الوقائع والواجب الوطني في محاولة عدم استخدام مفردات من الممكن أن تثير طرف على آخر أو من الممكن أن تساهم في تأجيج المشاعر.
مؤسسات إعلامية وصحافيون كانوا هدفاً للمجموعات المسلحة، في غزة سواء بالاستهداف المادي/ البدني المباشر أو معنوياً عبر التهديد والوعيد. فكثير منهم (رفضوا الكشف عن أسماءهم!) قالوا إنهم تعرضوا للتهديد عبر الهاتف النقال أو برسائل مكتوبة على أبواب منازلهم تهددهم بشدة في حال التصوير أو الكتابة عما يرتكبونه من جرائم.
بجانب ذلك كانت الاعتداءات على الصحافيين تُسجل عادة تحت اسم "مسلحون مجهولون". تلك المعادلة أيضاً تغيرت. حتى أصبحت المؤسسات الاعلامية والصحافيين، وبدون خجل، هدفاً لـ"المجهولين" لدرجة أن المعتدي يعلن جهراً وبشكل "وقح" عن نفسه دون خجل من التاريخ أو الجغرافيا.
ففي الثالث عشر من تشرين أول/ أكتوبر، 2006، تعرض مقر إذاعة صوت العمال للهجوم بالأسلحة النارية والمتفجرات، وأعلن المعتدون جهراً أمام التلفاز عن أنفسهم وعن مسؤوليتهم عن الجريمة، كما أعلنت مجموعة أخرى باسم "سيف الحق" مسؤوليتها عن تفجير مقر تلفزيون العربية بتاريخ 22 كانون ثاني 2007. هذا بجانب اعتداء أشخاص سافرو الأوجه على صحافيين بتاريخ 19 أيلول 2006.
نستحضر هنا الفيلسوف فولتير الذي وجه خطابه لجان جاك روسو، بعد مصادرة الحكومة كتاباً للأخير، قائلاً: " لا أتفق معك في كلمة تقولها ولكن سأدافع عن حقك في التعبير عن رأيك"، أما هنا في غزة فلدينا خطاباً من نوع آخر، إن لم تتفق معي فأنت كافر. الأمر الذي جعل منظمة مراسلون بلا حدود تعارض بشكل عام فكرة تمييز الصحافيين بعلامة مميزة لأنهم بوضوح باتوا هدفاً. ففي تفاصيل المشهد الدموي الذي خيم على غزة، وفي ظل كسر وتخطي كل الخطوط الحمراء التي تغنى بها الساسة والرويبضة، وأصبح الدم مستباحاً، وبات قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أمراً روتينياً، ليس غريباً أن تُستهدف المؤسسات الإعلامية والصحافيين.
التعليقات