قصة ضرب المفاعل العراقي كما رواها الموساد وكيف تتبع الموساد خطوات المسؤولين عن البرنامج النووي العراقي? بقلم:د . سمير محمود قديح

قصة ضرب المفاعل العراقي كما رواها الموساد

من هو العالم العراقي الذي نجح الموساد في تجنيده?

كيف تتبع الموساد خطوات المسؤولين عن البرنامج النووي العراقي?

د . سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية

" لقد قرأت العديد من الكتب المترجمة عن قصة ضرب المفاعل العراقي ولكن جميعها تمجد في دور الموساد الإسرائيلي في تدمير المفاعل ، وحاولت جاهداً للبحث عن كتب او مقالات عربية ، واستطعت الخروج بخلاصة الموضوع بعد قراتي لرواية الكاتبة العراقية بهية مارديني ، ومن هنا اترك القارئ ان يحكم بنفسه بين رواية الموساد والرواية العربية " د . سمير قديح

ربما مثلت عملية تدمير مفاعل تموز "عام 1981" صدمة حقيقية للكثيرين من الذين راهنوا على ذلك المشروع, ورغم محاولات البحث عن أسباب تمكن إسرائيل من اختراق جدار السرية الذي استند إليه المسؤولون عن بناء المفاعل إلا أن الأمر يتطلب مراجعة للظروف التي رافقت بناء المفاعل وصولا إلى العملية الإسرائيلية التي أودت بآمال العلماء العراقيين الذين بذلوا في بنائه جهودا أقل ما يمكن وصفها بأنها غير عادية. من المعروف أن إسرائيل تملك ومنذ سنوات طويلة قنبلة نووية تحتفظ بها كعامل ردع يساعدها على ضمان تفوقها العسكري على الدول العربية مجتمعة, وكانت إسرائيل "وما زالت" تعتقد أن الخطر العربي يصبح حقيقة إذا تمكن العرب من امتلاك زمام التكنولوجيا, وهي التي طالما روجت إلى احتمال ظهور الخطر العربي مع تخلص العرب من عقدة القراءة حسب التعبير الإسرائيلي. وبغض النظر عن خلافاتنا مع صدام حسين وتحفظنا على تبديده للأموال على صناعات بعضها حقيقي والبعض الآخر وهمي بكل المقاييس إلا أن العراق سعى منذ مطلع 1975 لامتلاك كافة أسباب القوة عن طريق الإعداد لقنبلة نووية وذلك انطلاقا من أهمية هذا الإنجاز في تحقيق توازن عسكري حقيقي مع إسرائيل التي أعلنت رسميا ومنذ عام 1954 إنشاء أول لجنة للطاقة الذرية بعد موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية باقتراح من الولايات المتحدة الأمريكية.. وطوال السنوات الماضية كانت العراق وسوريا والجزائر ومصر, الدول العربية المرشحة لتقف بمواجهة إسرائيل نوويا .. ولكن حرب حزيران "يونيو" 1967 شلت الحلم النووي المصري والأوضاع الداخلية غير المستقرة شغلت الجزائر.. وعدم امتلاك سورية لثروات تمكنها من النهوض بذلك المشروع أبقى العراق كمرشح أول للقيام بتلك المهمة وقد ساعدت الأوضاع الاقتصادية المميزة للعراق بعد تأميم شركات النفط والاستقرار السياسي النسبي إثر قيام التحالف بين عدد من الأحزاب السياسية في جبهة وطنية ساعدت هذه الأوضاع في العمل الجاد باتجاه تحقيق ذلك, فوقع في 18 نوفمبر 1975 اتفاقا مع فرنسا للتعاون النووي.. وتم توفير الإمكانيات المادية والأجهزة العلمية وتجنيد آلاف العلماء العراقيين إضافة لمجموعة كبيرة من المهندسين الذين قطعوا شوطا كبيرا عن طريق إنجاز بناء المفاعل المنشود كما استعان العراق بعلماء من خارج العراق ومن أشهرهم يحيى المشد الذي لاحقه الموساد الإسرائيلي على خلفية عمله في بناء مفاعل تموز وقتله في باريس يوم الجمعة 13 حزيران "يونيو" .1980

وقد ساهمت ظروف الحرب مع إيران بالحصول على مساعدات تقنية أجنبية, إذ تعاطفت معظم الدول العربية والأجنبية مع العراق, فبادرت بعض الدول الأوروبية لفتح مراكز البحوث للعلماء العراقيين.

كفاءة علمية وتخلف إداري

ورغم جدية العمل والإصرار على تحقيق الهدف, إلا أن سوء الإدارة لعب دورا في خلق ثغرات أضعفت جدار المشروع وجعلته عرضة لهزات محتملة, فقد اهتمت الإدارة السياسية للمشروع بتنمية الجوانب العلمية للمهندسين العراقيين العاملين في المشروع دون الالتفات إلى الجوانب الإنسانية لحياة هؤلاء الذين كانوا يقضون أياما بلياليها في مختبرات المفاعل على حساب حياتهم وحياة عوائلهم, بل وصل أمر الثغرات في الإدارة السياسية للمشروع حد تطبيق قرار مجلس قيادة الثورة بمضاعفة رواتب العاملين العرب في العراق لدفع مخصصات إضافية للعاملين في المشروع, بحيث وجد المهندس العراقي نفسه يتقاضى ما يعادل ال- 50% من مرتب زميله العربي أو الأجنبي. وفي تلك الفترة نشطت أذرع الموساد في سبيل معرفة ما يخطط له المسؤولون وما يحاول العلماء تحقيقه, فتتبع الموساد خطوات المسؤولين عن البرنامج النووي العراقي. وهو ما ساعد على فتح الطريق أمام الطائرات الإسرائيلية لتقوم بتدمير المفاعل ووضع حد للطموح النووي العراقي.

وبغض النظر عن دقة ما يرويه الموساد, فإننا في جريدة الاتجاه الآخر نتمنى أن تكون الواقعة التي نقدمها لقرائنا درسا للحكومات التي تفرط بأبنائها وتساهم في إضعافهم وجعلهم عرضة لابتزاز الآخرين.

وحسب الرواية الإسرائيلية فإن الموساد قام بتجنيد عالم عراقي كان بحاجة لمعالجة ابنه المصاب بالسرطان خارج العراق في فترة كانت السلطات تمنع السفر خلالها, ويدعي الموساد أن حاجة العالم لمعالجة ابنه مثلت نقطة ضعف استغلها الموساد, وإن كان كشف الموساد لمعلومات محددة حول شخصية العالم تثير الشكوك بصحة الرواية المتعلقة بذلك العالم, إذ من غير المعقول أن يقدم جهاز مخابرات معلومات تفصيلية عن أحد عملائه على طبق من ذهب إلى الدولة التي ينتمي إليها ذلك العميل, خاصة وأن رواية الموساد تحدد زمان اللقاء ومكانه بالإضافة إلى دلالة خاصة وهي إصابة ابنه بمرض السرطان بما يعني وفقا للمطلعين على خطط المخابرات أن التوصيف الإسرائيلي يكون قائما على محاولة الإيقاع بشخصية علمية عراقية رفضت التعاون معه والتغطية والتمويه على شخصية علمية عراقية تعاونت مع جهاز الموساد ولكنها بعيدة عن توصيفاته سواء في زمان ومكان اللقاء بها أو ظروفها الحياتية الخاصة.

الرواية على ذمة الموساد

وفي كل الأحوال نقدم الرواية لأنها تحمل درسا يمكن الاستفادة منه لدعم وحماية الناس الذين يعملون لصالح الوطن. إن وراء العمليات التي يقوم بها الموساد الإسرائيلي دولة تضع كل قدراتها وإمكانياتها وتقنياتها في دراسة نقاط ضعف الآخرين. ومن هذا الباب يحاول الموساد, في الآونة الأخيرة كما قلنا الولوج ونشر تفاصيل عملياته لأنه رغم نجاحه في العديد من العمليات التي قام بها إلا أن هناك العديد من الإخفاقات التي م ني بها مثل محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن ومحاولة زرع أجهزة تنصت في بيت نشطاء حزب الله في سويسرا ومحاولة أخرى ضد حزب الله في قبرص ومحاولة اغتيال مروان البرغوثي في فلسطين, وهو يريد أن يقنع الجمهور الإسرائيلي أولا والعالم ثانيا بأنه مقابل هذه الإخفاقات حقق العديد من النجاحات الباهرة وذلك بغية تشجيع الشباب الإسرائيلي بالانخراط في صفوفه والانضمام إليه.

فسمح ضمن هذا الإطار لضابطة في الموساد أن تتكلم عن إحدى العمليات التي تعتبر السبب الرئيس وراء كشف طبيعة عمل المفاعل الذري العراقي والذي يطلق عليه "مفاعل تموز" والواقع في منطقة التويثة القريبة من بغداد وشرحت الضابطة من خلال كلامها العديد من النقاط المبهمة حول كيفية صدور قرار قصفه وتدميره بالطائرات الإسرائيلية يوم السابع من حزيران عام 1981 أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

لقد قدم الموساد الواقعة, والتي لمحنا فيها جانبا من السذاجة في عملية تسليم الوثائق السرية من بغداد إلى تل أبيب وهو ما حاول الموساد تبريره في انه أخفى جانبا من الحقيقة بهدف التمويه وغير في العديد من الأسماء والأحداث لئلا تظهر خيوط تؤدي إلى كشف هوية الشخصيات والمواقع بالتفصيل ونشرت هذه المعلومات دون ذكر الأسماء الحقيقية للضابطة المسؤولة عن العملية والضابط المشرف على تنفيذها والعالم العراقي المتورط في خدمة "الموساد".

وقد بدأ التخطيط للعملية في مطلع 1980 عندما قررت إسرائيل رفع مستوى اهتمامها بما يجري في العراق من تطوير للأسلحة بعد أن بلغها أن هذا البلد العربي يحاول الحصول على مواد تساعده في صنع القنبلة النووية. وكان الموساد يراقب بالتعاون مع أجهزة استخبارات أخرى في العالم برامج التسلح العراقية خطوة خطوة بدءا بالعمليات الحربية "خلال الحرب الإيرانية العراقية" والتصوير بالأقمار الصناعية وحتى رصد العلماء العراقيين الخبراء في الأسلحة عموما وفي شؤون الذرة بشكل خاص وتحركاتهم داخل العراق وخارجه.. فلاحظ أن عددا منهم يسافرون إلى كل من فنلندا والبرازيل وباكستان وبعض الدول الأوروبية للمشاركة في مؤتمرات ودورات علمية تتعلق بالذرة.. وفي شهر حزيران "يونيو" 1980 التقى كبار علماء الذرة العراقيين "الأعضاء في اللجنة العليا للطاقة النووية" مع عدد من أصحاب الأفران الذرية في إيطاليا وفرنسا وبدا أن الهدف هو إقامة فرن ذري في العراق لأهداف مدنية وفوجىء الأوروبيون بأن العراق يطلب الحصول "على اليورانيوم المخصب 93" والذي يصلح لصنع القنبلة النووية. وقبل أن يعقد اللقاء كان الموساد قد تلقى معلومات تكشف عن اسم الفندق الذي سيتم فيه هذا الاجتماع فقرر رئيس دائرة جمع المعلومات في الموساد "الملقب باسم ميخائيل" أن يسافر بنفسه إلى تلك الدولة ويقيم في الفندق نفسه قبل أن يصل إليه العراقيون مصطحبا معاونيه الضابطة "سارة" والضابط "يوسف".. كما أطلق عليهما..

الخطوة الأولى نحو الفخ

وفي موعد وصول الوفد العراقي, جلس يوسف وسارة في لوبي الفندق ونثرا مجموعة من الملفات والأوراق على الطاولة ليتظاهرا بأنهما يتحاوران حول شروط صفقة جديدة هما في صدد توقيعها كرجال أعمال بارزين.. ووصل العراقيون بالفعل إلى الفندق وبعد فترة استراحة نزلوا إلى اللوبي فقرر الضابط يوسف الانسحاب إلى موقع آخر ليراقب من بعيد فيما بقيت سارة مع أوراقها.. ثم راحت تتفرس في وجوه ا لعراقيين وتراقب تصرفاتهم فردا فردا على أمل أن تتوصل إلى تمييز رئيس الوفد عن زملائه وكانت المهمة بالغة السهولة.. ثم توجهت إلى ميخائيل وأبلغته ملاحظاتها عن العلماء العراقيين فقد وجدت أن أحدهم يبدو حزينا وانعزاليا ولم يشارك باقي أعضاء الوفد أحاديثه أو ضحكاته ولم يغادر الفندق أبدا بل كان طوال الوقت يدخن السجائر بتوتر بالغ, فطلب منها ميخائيل أن "تهتم به" وعادت سارة بعد حصولها على موافقة ميخائيل لتجد العالم العراقي "الذي اختاروا له اسم علي" يجلس في نفس المكان, فاختارت مقعدا يقابله, وعندما التقت عيناهما ابتسمت له فرد على ابتسامتها بأخرى فتقدمت منه وقالت له بحنان بالغ: "لفت نظري أنك تدخن بشكل مؤذ لصحتك وأنا كنت مثلك لكن طبيبا نصحني بهذه العلكة التي تساعد على التخفيف من التدخين ثم التخلص منه فهل تسمح لي بتقديم علبة منها هدية لك?".. وانطلقت محادثة طويلة بينهما وقدمت له نفسها على أنها مديرة شركة استثمارات كبرى في أوروبا وأنها تعيش أزمة عائلية ستنتهي بالطلاق..وتطرق العالم العراقي إلى الحديث عن مشاكله الشخصية فهو أب لولد مريض بالسرطان واضطر إلى قطع دراسة الدكتوراه ليهتم بابنه.. وأكملا حديثهما على وجبة عشاء في مطعم الفندق وانتهت السهرة بمنح سارة رقم غرفتها لعلي ثم قالت له: "إذا احتجت إلى العلكة فلا تتردد في الاتصال بي والحضور لأخذها".. وتكررت اللقاءات فسألته عن زوجته, وعن عمله وحي--اته فأخبرها أن زوجته من أصل غربي.. وأن عائلته تض-------م العديد من موظفي الدولة واعترف لها بأنه لا يحب النظام الحاكم في العراق وأنه يعمل في مجال التكنولوجيا والعلم وأن زيارته لهذه الدولة التي تقابلا فيها جاءت بهدف تطوير الخبرات العلمية لبلده ولكنه لم يكشف عن علاقته بالموضوع النووي.

وكانت هذه المعلومات كافية كي يتدخل ميخائيل بنفسه, فتقرر أن ترتب سارة تعارفه مع علي, وعندما يدعوها إلى العشاء تختار مطعما محددا وبمجرد ذهابهما إليه ت صور لعلي أن الصدفة وحدها هي التي تدخلت حتى تلتقي مع ميخائيل الذي عرفته إليه على أنه "صديق جيد لها وهو نائب المدير العام في إحدى الشركات الضخمة في أوروبا" ثم دعت ميخائيل للجلوس معهما وأخبرته بقصة ابن علي المريض بالسرطان وسألته إن كان مصنع الدواء التابع لشركته قادرا على الاهتمام بمعالجته فأبدى الاستعداد للمساعدة وتبادلا العناوين وأرقام الهواتف.

الصداقة مع الشيطان

واتفقا على أن يحمل معه في زيارته المقبلة إلى الدولة الملف الطبي لولده.. ولم يخبره ميخائيل بالطبع أنه إسرائيلي. وبالفعل كانت هناك لقاءات أخرى.. وأحضر العالم العراقي الملف الطبي وأخذه ميخائيل وأرسله إلى طبيب إسرائيلي.. فقال الطبيب إنه لا يستطيع عمل شيء من دون أن يلتقي الطفل المريض ويجري الفحوصات الطبية اللازمة له بنفسه.. فتم استئجار عيادة طبية خاصة لهذا الغرض.. وتحمس علي للفكرة وشكر ميخائيل وسارة على هذه المساعدة وسافر إلى العراق لكي يحضر ابنه.. لكنه لم يستطع الحصول على إذن لسفر ابنه ففشل المخطط.. إلا أن ميخائيل وسارة استغلا هذه المسألة لتعميق الهوة بين علي وبين النظام في العراق "فأية دولة هي تلك التي تمنع أبا من توفير علاج لابنه المريض?!" فتتحول العلاقة إلى صداقة حميمة يتعمق فيها الحوار ليصل إلى عالم "البزنس" عندما تطرق ميخائيل إلى موضوع رغبته في أن يقيم فرعا لشركته في بغداد حتى يطور أعماله والعلاقات الاقتصادية بين البلدين, فرحب علي بالفكرة لكن ميخائيل قال له متحفظا بأن هناك مشكلة تعيق تعاونه معه وهي أنه يخشى أن يقوم العراق بتطوير سلاحه النووي فيضع أمواله في المكان الخاطىء إن قامت إسرائيل بتدميره, أو حدث خطأ ما وانفجر, لأنه ستفشل مشاريعه وينهار فرع شركته.. ومن هذا التخوف انطلق ميخائيل إلى موضوع آخر فيجب أن يجري "علي" فحصا دقيقا حول موضوع التسلح النووي في العراق وأعطاه أرقام هواتفه في أوروبا واتفقا على الالتقاء في كل زيارة له إلى أوروبا ثم اتفقا على طريقة الكتابة السرية.. وهكذا شيئا فشيئا وقع علي في الفخ وأدرك أنه يخدم "الموساد" الإسرائيلي وصار يفعل ذلك بوعي وبمقابل مادي.. وبعد أن كشف ميخائيل عن بعض هذه التفاصيل قال في أحد لقاءاته الصحفية: "كنت ألتقي "علي" كلما غادر العراق إلى أوروبا وكان واضحا من المعلومات التي يقدمها لنا أن العراقيين حاولوا الوصول إلى مكان إنتاج القنبلة النووية التي لو انفجرت لأدت إلى مقتل 200 ألف إنسان, فقد كان علي أحد أهم المصادر العراقية والأكثر جودة بالنسبة إلى الاستخبارات الإسرائيلية, لقد أرسل لنا مسودات الخرائط للفرن الذري وتقاريره شكلت أحد المؤشرات الأساسية في القرار الإسرائيلي القاضي بقصف الفرن الذري العراقي وتدميره". ويضيف ضابط الموساد: "لقد التقيته بعد أن قمنا بهذه العملية وكان واضحا أنه يدرك أنه ساهم في ذلك وتوقف بذلك عن مغادرة العراق ولم نعد نلتقي مع أنه كان بحاجة إلى الدواء لابنه.. وقبل أن يقطع اتصالاته بنا, أبلغنا أن الحكومة العراقية بدأت في ترميم الفرن الذري ولم تتخل عن مخططاتها لإنتاج القنبلة الذرية وفهمت في ما بعد أن ابنه توفي متأثرا بالمرض وأن وفاته هي السبب في قطع العلاقات مثلما كانت السبب في العلاقة منذ البداية"..


القصة العراقية لضرب مفاعل تموز

يعود الطرح العراقي لامتلاك السلاح النووي وتحقيق انعطافة قوية في البناء العسكري إلى عام 1959 أي بعد عام من ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 التي قادها عدد من الضباط العراقيين ضد الحكم الملكي في العراق حيث تم توقيع اتفاق أولي مع الاتحاد السوفييتي السابق وذلك من أجل التعاون النووي.

وفي تموز (يوليو) 1960 تم التوقيع على بروتوكول نهائي لبناء مفاعل نووي تجريبي صغير للأغراض السلمية بطاقة 2 (ميغاواط) في التويثة, بين العراق والاتحاد السوفييتي وبالفعل سلمت موسكو بغداد اليورانيوم 235 المخصب بنسبة عالية وبادرت إلى تأهيل وتدريب وتعليم خبراء عراقيين لإدارته..

ومنذ بداية السبعينات التفت العراقيون إلى فرنسا للحصول على التقنيات الغربية المتقدمة والمتطورة في مجال التسلح النووي وجاءت زيارة جاك شيراك إلى بغداد في كانون الأول (ديسمبر) عام 1975 عندما كان رئيسا للوزراء لتكلل التعاون الفرنسي العراقي في صورة مفاعل يعمل بالماء المخفف واليورانيوم المخصب بنسبة 93% وتوجت الاتفاقات بعد الزيارة الناجحة التي قام بها صدام حسين إلى فرنسا, لتكتمل الصورة ويتكامل عمل لجنة الطاقة الذرية التي كان يرأسها صدام حسين بنفسه..

وقد أكد برزان التكريتي, الأخ غير الشقيق لصدام حسين, أثناء مقابلته للدكتور حسين الشهرستاني في زنزانته هدف صدام مبلورا رغبته الأكيدة في برنامج نووي متكامل لأغراض عسكرية حيث طلب التكريتي من الدكتور الشهرستاني الخروج من السجن للعودة إلى لجنة الطاقة الذرية والمساهمة في صنع القنبلة الذرية العراقية وكان الدكتور عبد الرزاق الهاشمي حاضرا في تلك المقابلة لأنه كان مع همام عبد الخالق يمثلان القصر الجمهوري في لجنة الطاقة الذرية العراقية..

وكان الدكتوران حسين الشهرستاني وجعفر ضياء جعفر من أوائل الخبراء العراقيين الكبار في المجال النووي بين عامي 1970 و 1980 فالدكتور الأول متخصص بالكيمياء النووية والدكتور الثاني متخصص بالفيزياء النووية وأحدهما يكمل الآخر وكانا مستشارين لرئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية صدام حسين..

إلا أن الدكتور حسين الشهرستاني أصبح معارضا معروفا وقضى (11 سنة) في السجن لرفضه استمرار العمل في القنبلة النووية..

ولكن ما الذي حصل بالفعل لهذا المفاعل الحلم في صباح يوم السابع من حزيران عام 1981?

في الحقيقة لم يكن صباح ذلك اليوم مختلفا عن بقية الأيام في العراق حيث لم يصدم العراقيون بسماع أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات التي اعتادوا عليها منذ ثمانية أشهر طوال.. قضوها في حرب مع إيران, حاول خلالها صدام حسين إقناع العراقيين والعرب بأنها حرب قومية واجبة باعتبارها حربا بين العراق والفرس وأن العراق بتصديه لإيران يقوم بالدور القومي لحماية (البوابة الشرقية) للوطن العربي من الغزو (الفارسي المجوسي) ولكن المفاجأة التي صدمت العراقيين بحق, هي أن أصوات القصف لم يكن مصدرها الطائرات الإيرانية بل إنها كانت طائرات إسرائيلية محملة بقنابل ذات أنواع مختلفة.. والمفاجأة الأكبر كانت في معرفتهم أن الطائرات الإسرائيلية دمرت (المفاعل النووي العراقي) حلم العراق في توازن القوى مع إسرائيل.

إن ما حذر منه البروفسور اليهودي إسرائيل شاحاك في كتابه (أسرار مكشوفة.. سياسات إسرائيل النووية والخارجية) قد تجسد واقعا مؤلما فقد قال في الصفحة 56 من الكتاب:

(أشعر بأن من الواجب تذكير القراء من غير الإسرائيليين أنه في حين أن الاستراتيجيات الإسرائيلية إقليمية في توجهها فإن اهتمامها بالفلسطينيين ثانوي.. فالحقيقة أن قمع الفلسطينيين لا يهم, لأن هم الاستراتيجية الإسرائيلية في نهاية الأمر هو فرض سيطرتها على كامل الشرق الأوسط من خلال انفرادها بسياستها النووية). وقد استغلت إسرائيل للهيمنة وتطبيق سياستها التي ذكرها البروفسور اليهودي الحرب العراقية الإيرانية ونقاط ضعف خطيرة في حماية المفاعل العراقي واستثمرت المعلومات والصور التي تلقتها من وكالة الاستخبارات الأمريكية AIC , وهي الوكالة التي تختص بالعمل على تحقيق السياسة الأمريكية في اعتباراتها القائمة على أن إسرائيل هي الحليف الأوثق للولايات المتحدة, حيث ثبت قيامها بتزويد إسرائيل بصور المفاعل ومعلومات تحدد موقعه عن طريق رصده بالأقمار الصناعية وكان لهذه المعلومات الدور الكبير في نجاح الغارات الإسرائيلية.. ولم يتوانى العلماء الفرنسيون عن تزويد إمداد إسرائيل بالمعلومات وخاصة عالم فرنسي كان من ضمن قائمة العلماء الأجانب الذين شاركوا في بناء هذا المفاعل وأشرفوا عليه..

وكانت بداية ذات اليوم المشؤوم مباراة لكرة القدم بين فريقين من الجنود المكلفين بحماية المفاعل في أرض مجاورة لموقعه وفي نفس الوقت كانت الطائرات الإسرائيلية تعد العدة لمسافة طويلة من فلسطين إلى العراق محملة بقنابل ضخمة لها قدرة تفجيرية هائلة.. وعبر قصف سريع وبفضل, كما قلنا, المعلومات والصور الدقيقة لجهاز ال- سي آي إيه والعلماء الفرنسيين تم تفجير المفاعل النووي... وما أكثر ما قيل بعد تدمير مفاعل تموز..

فقد أكدت بعض المصادر أن المفاعل لم يتفجر بعد ضرب الطائرات الإسرائيلية لأنه موجود تحت الأرض ومحمي بسقوف وجدران خرسانية شديدة القوة ويقع في عمق دولة في حالة حرب وكل قطعاتها العسكرية في حالة قصوى من التأهب والاستنفار وهذه الرواية أسعدت الإسرائيليين والأمريكان على حد سواء لأنهما يعتبران ذلك مبررا قويا للعدوان على العراق في أي وقت يحددانه إذ نشرت جريدة التايمز الأمريكية في عددها الصادر 19/1/1991 خبرا يقول: (الخبراء الإسرائيليون يؤكدون استحالة ضرب المفاعل الذري العراقي لأن معظم المشروع تحت الأرض ولتدميره من قبل القوات الجوية يجب استخدام قنابل ذات نوع خاص, وحتى هذه لا يمكنها أن توقف المفاعل..).

وقالت بعض المصادر المستندة إلى ضابط مخابرات عراقي يدعى (الرائد ماجد عبد الكريم) والذي هرب إلى السويد بعد ضرب المفاعل أن (برزان إبراهيم الحسن التكريتي) قد اجتمع مع مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي واتفق معه على أن تقوم إسرائيل بتدمير المفاعل النووي العراقي مقابل استمرار الدعم وتأمين بقاء نظام صدام حسين في الحكم وقيل إن التكريتي وافق على ذلك..

وقد لاحقت المخابرات العراقية الرائد ماجد عبد الكريم على إثر هذا الكلام وبعد هروبه من بغداد ونصبت له كمينا , بواسطة امرأة, في أحد مطارات السويد واختطفته وقطعته إربا وألقت بأجزاء جسده في إحدى غابات السويد وعثرت السلطات السويدية على بقايا وأجزاء الجثة وتم التعرف عليه عن طريق أسنانه..

وذكرت جريدة (الوفد المصرية) منذ خمسة عشر عاما في مقال (لمحمد جلال كشك) (أن ضرب المفاعل النووي العراقي كان نتيجة اتفاق مسبق أو صفقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام العراقي كشرط لمعاونة العراق في حربه مع إيران.. ونسب التدمير لإسرائيل كجزء من الدعاية السوداء لرفع شعبية صدام حسين في العالم العربي والإسلامي وتشويه صورة إيران لكي تبدو كأنها شريك في المجهود الحربي مع إسرائيل ضد العراق) وسيق ضمن هذا الإطار التأكيد على عدم قيام القوات الجوية أو المدفعية المضادة للصواريخ بالتصدي للطائرات الإسرائيلية.

وقيل إن صدام حسين اتهم الضباط والجنود المكلفين بحماية المفاعل النووي بالخيانة وقام بإعدام مائة وخمسين جنديا وضابطا عراقيا لئلا تنكشف الحقيقة..

ولم تتم محاسبة وزير الدفاع ابن خال صدام عدنان خير الله طلفاح ولا رئيس الأركان ولا قائد القوة الجوية والدفاع الجوي.. ولكن المعلومات المؤكدة (للاتجاه الآخر) هي أن صدام حسين أعدم بالفعل (14) ضابطا وجنديا عراقيا لتقاعسهم في واجباتهم تجاه حماية المفاعل, وإن الطائرات الإسرائيلية حلقت فوق المفاعل النووي العراقي على ارتفاعات منخفضة مما يعني صعوبة رصدها من قبل الرادار العراقي..

وتقول الرواية العراقية أن هناك عالما عراقيا حاول الموساد تجنيده ولكنه لم ينجح في ذلك بل إن العالم العراقي أوهم الموساد بأنه قد تم تجنيده بالفعل ثم لجأ إلى السلطات العراقية وكان عونا في إعطاء معلومات خادعة للموساد وأخذ الكثير من المعلومات عن الموساد إلى العراق والتي كشفت لهم أهداف الموساد داخل العراق وهذا ما تم تقديمه في مسلسل (رجال الظل) الذي ع رض في التلفزيون العراقي عام .1997وقد أشرفت المخابرات العراقية على كل تفاصيل إنتاج المسلسل وتنفيذه بدءا من اختيار الممثلين والممثلات إلى المراحل الأخيرة في مونتاج هذا المسلسل المتميز..وفي كل الأحوال.. لقد اقترب العراق في بعض الأوقات بأمواله وكوادره من تكوين قوة استراتيجية لا يستهان بها وكان يمكنه إحداث ذلك التوازن النووي المنشود مع إسرائيل, ولولا أوهام العظمة والغرور للرئيس صدام حسين والاستهانة بالآخرين والانزلاق إلى مغامرات لا تحمد عقباها وجر العراق إلى حروب وهزائم مما أدى إلى فرض عقوبات صارمة عليه.. لكان العراق اليوم منضما إلى النادي النووي أسوة بباكستان والهند وإسرائيل ولكن وبكل أسف إن كل ما سبق من أحداث متراكمة أبعد العراق تماما عن امتلاك الخيار النووي الذي تبناه والذي توقعه له الكثيرون..