سير ذاتية سينمائية حول الوحش عيدي امين و سيء الصيت كابوتي

سير ذاتية سينمائية حول الوحش عيدي امين و سيء الصيت كابوتي
شريطان نموذجيان لظاهرة شاعت في عروض مهرجان لندن:
زياد الخزاعي
المفارقة في آخر ملوك اسكتلندا الباكورة الروائية للمخرج البريطاني كيفن ماكدونالد (له احد ايام ايلول (سبتمبر) 1999 و لمس الفراغ 2003) التي افتتحت الدورة الخمسين لمهرجان لندن السينمائي، انها تفربك حيواتٍ واحداثا، ضُخمت انطلاقاً من جزيئة تاريخية: حاكم اوغندا الراحل عيدي امين وظف طبيباً اسكتلندياً ضمن طاقمه! بيد ان ما فعله ماكدونالد وكتبة السيناريو جيرمي بروك وبيتر مورغان انهم لووا الواقعة وحولوها الي ادانة بليدة التضخيم ومتأخرة التوقيت لنظام صُنع ـ في واقع الامرـ بيد ازلام المخابرات العسكرية البريطانية. لا شك ان موضوعة الطغاة مغرية وتتشكل من خيوط درامية مثيرة لفضول المشاهد. لكن السؤال الذي ظل عالقاً في بالي: لماذا اصبحت هذه الصفات (طاغية، ديكتاتور) التي تطلقها مخابرات الغرب علي رؤوس انظمة عالمثالثية تحديداً ساهمت في فرضها علي الناس، رخيصة الي هذا الحد؟ والاكثر اثارة للحنق انها تُطلق علي اشخاص جاؤوا من حضيض سفالة السلطة والمغامرة السياسية ممن سيتوجون بهذه السُبات الايديولوجية وليدخلوا التاريخ والذاكرة باعتبارهم الالعن والاشنع.
امين كان عبداً لدي الضباط البريطانيين الذين هالهم حالة التكالب الخدمي الذي نما في داخله تعطشاً لرضاهم وامتنانهم، بدءاً من صبغ احذيتهم العسكرية وانتهاء بالوشايات التي اودت بحياة ابرياء. فماذا ينتظر منهم سوي تأهيله كغول عسكري يستهدف اليسار المتنامي في القارة السوداء ومنها اوغندا. وحينما تضخمت قوته ـ كان يملك جسد مصارع (في الواقع كان ملاكماً فاشلاً) وعقل متآمر ـ عادته لندن وشنعت به كقاتل كان يطبخ ابدان ويأكل لحم مناوئيه السياسيين.
هذه حقائق لا يخاف منها تاريخ افريقيا. الوحش مات في قصره المنيف في الرياض بالمملكة العربية السعودية، مرملاً زوجات عديدات وميتماً لابناء كثر. فهل كان أبله الي هذا القدر الذي سلم فيه مقدراته العائلية واسرارها، قبل شؤون الحكم، الي وافد ابيض توسم فيه ـ حسب رواية ماكدونالد ـ طريقاً للوصول الي صفقة مع حكومة داوننغ ستريت؟ والاتعس ان نيكولاس كريغان (اداء جيمس ماكفوي) الطبيب الاسكتلندي الذي تخرج لتوه من كلية الطب (علي خطي جده ووالده!)، ويعاني من فراغ حياته ذات الدلع الاجتماعي لميسوري الحال، سيختار اوغندا بالصدفة، بعد ان وضع اصبعه بعد لعبة تخمين سفيهة علي ارض الدم والعسكراتية، لنشهد سرعة صعوده سلم التسلط عبر لكنته المحببة ورعونته كشاب يتعجل الهوي ومطارحات الغرام، إذ سنراه يضاجع اول شابة زنجية بعد تعارف سريع في الحافلة المكتظة وهو متوجه الي كامبالا، ومن ثم لن يتواني في تجريب حظه عن الايقاع بالزوجة البريطانية لمواطنه الطبيب المتطوع والمشرف علي مشفي ناء (ستصده بوجع قائلة: لا استطيع فعل هذا به. انه انسان صالح!) قبل ان تتحقق له اكبر مغامراته التي سينال فيها وطره من الزوجة الشابة الاخيرة للرئيس في نهاية الشريط، وقبل ان يفلت من العقاب مندساً بين الاسرائيليين الذين تمكنوا من اقناع ازلام امين بانهم سواح اوروبيون، خلال الساعات القليلة قبل هجمة ايهود باراك الشهيرة علي طائرة ركاب العال في عينتيبة!
يمثل كريغان في بداية مشروع تطوعه، حالة مزدوجة من المُغامر الحداثي (تي شيرت يحمل اسم اسكتلندا، حذاء رياضي، والكثير من الويسكي!!) والفهلوي الاوروبي الذي لن يضيع اية فرصة كي ينال مراده ومكافأته (كما هو امين). فحين يحضر احدي جولات الرئيس الريفية، سيصوره ماكدونالد كيسوع ابيض، نوراني يقف بهالته بين الهتافين الزنوج، ناظراً الي الجثة الهائلة الحجم وكأنه شمبانزي ضل طريقه الي استعراض قوة صُنع علي طريقة سيرك مجنون. بيد ان نظرات الطبيب الشاب تشي بإعجاب مغلف، وهذا الاخير ـ في الواقع الدرامي ـ تبرير للعلاقة المقبلة بين الحاكم المتجبر والغربي حيان الفرص.
يتواءم البطلان المتخيلان معاً نتيجة الحاجة، امين (اداء متقن من الامريكي فورست ويتكر) لانه في حالة دائمة من الشكوك والارتياب بالمحيطين به، ووجود اسكتلندي يعني الكثير من الافكار الحيوية التي لن يوفرها له زبانيته. الحاكم يعود هنا الي مركز تكوينه كتابع ازلي لمواطني الجزيرة البريطانية، وتصل الرعونة به الي ترتيب ترقية الوافد الشاب من طبيب الي مستشار يسرق مناصب وصلاحيات الاخرين، فيما لن يغفل كريغان حسدهم، ويفتح عينيه علي المؤامرات التي تحاك ضد الديكتاتور والتي تشترك فيها احزاب المعارضة والعشائر و... عملاء تاج سان جورج (المتخفون باللعبة الدبلوماسية) متحولاً من تابع لامين الي مخبر لعملاء السفارة البريطانية.
ولكي يضفي الشريط ـ في نهايته ـ شيئاً من الايجابية علي شخصيته، يفتعل انكساره الاخلاقي الذي سيقوده نحو الايمان بعدالة قضية تلك المعارضة، ويشي بمعلومات عن محيط امين. طبعاً ليس لاهل البلاد بل الي.... مخبري السفارة البريطانية!!
التحريض السياسي يتجلي في هدف هذا الشريط، ولكن بسلبية مثيرة للقلق، اذ ان ما يُسرب عبر الاختلاق الروائي هو اشاعة فكرة اساسية تقوم علي مبدأ انتهازي ان ديكتاتوريي العالم الثالث لا تقوم لهم قائمة لولا جهل شعوبهم وتخلفها والتي يجب ان تُقاد ـ بشكل او بآخر ـ من قبل بطل ابيض يتلبس قناع المنقذ العفيف، ويحمل عزم محارب لا يخشي اللوم او الخسران او دم الابرياء علي يده (هناك عشرات الافلام حول افريقيا يكون الابيض فيها شخصية اساسية تسعي اما الي انقاذ اهل القارة السوداء من غي الاعراق وتصفياتها علي شاكلة فيلم قتل الكلاب للمخرج البريطاني مايكل كاتون جونز عن راوندا، او محاكمة التفرقة العنصرية كما في فيلم اوزهان بالسي موسم ابيض جاف 1989عن جنوب افريقيا، او كوبرا فيردي 1987 للالماني فارنر هيرتزوغ عن مواسم العبودية الاولي). وكريغان لا يشط عن هذه الترسيمة العنصرية البحتة.
التحريض وانما برقي سياسي، متوافر في شريط الاسترالي فيليب نويس اشعال الحريق الذي سرد جزءاً متأخراً من سيرة المناضل الافريقي (اصله من موزمبيق) باتريك تشاموسو (اداء قوي من الممثل الأسود ديرك لوك الذي عُرف عالمياً بدوره المميز في انتوان فيشر ) الذي انضم الي الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية، بعد ان اتهمته ـ ومن ثم عذبته ـ السلطات الامنية في بريتوريا بالمشاركة في اول هجوم علي اكبرمحطة تكرير للنفط في سوكوندا.
الشاب تشاموسو لم يكن سوي مهاجر حَلِم بعيش افضل وعمل ثابت، صادفه في هذا المجمع الضخم. شغوف بكرة القدم والتصوير الفوتوغرافي (وهما عنصرا حسد الاخرين). عاشق لزوجته الحسناء بريشوس (الممثلة بوني مابلي) التي ستشي به في لحظة شك بخيانة جنسية، يمررتوثيقها المصوراليها القائد الامني نيك فوس (النجم الامريكي تيم روبنز)، فيما كان باتريك في الواقع يتدرب داخل قاعدة خلفية في البلد المجاور. هذا الاخير سيفلح في الوصول مرة ثانية الي قلب المجمع ويفجر قنبلة موقوتة قبل ان يتمكن فوس من تفكيك العبوة الثانية الماحقة. التعذيب اللاحق الذي سيتعرض اليه علي يد زمرة فوس لن يكسر من شكيمته في الاعتراف ضد قيادييه، لينتهي منفياً (مع مانديلا ورفاقه) في سجن جزيرة روبن حتي سقوط دولة الاقلية البيضاء.
صاحب موجة حر و القديس و الامريكي الهادئ نويس يركز همه في استعراض المرحلتين البارزتين في حياة بطله: سذاجته وهو شاب، وقراره الشجاع في الانضمام للجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني بعد اعتقاله وتعذيبه. ولكي تغطي الدقائق المائة والسبعة طول الفيلم رحلته الطويلة يجتزئ نويس الكثير من التفاصيل، ويجعل مثلثه الدرامي محصوراً بين البطل وزوجته ومعذبهما العنصري، من دون ان يغفل الاحداث الفارقة التي صاغت من شخصيته النضالية مثل تعرفه علي مناضلي الحركة المتنامية ايام الحبس الاولي، وشهادته علي الاعتقالات والتصفيات (اخرها العملية الدموية التي استهدفت القاعدة العسكرية للحزب في الموزمبيق) واخيراً لقاءه مع بريشوس التي ستقدم اسفها وهو يهبط من السفينة التي نقلته مع اقطاب الجناح العسكري تحت قيادة الابيض جو سولوفو (والد كاتب سيناريو هذا الفيلم شوان سولوفو). وايضاً ترصده اللاحق لفوس وقراره بعدم تصفيته (سنري باتريك الحقيقي يعترف بانه خطط اعواماً وهو داخل معتقله في قتل هذا الوحش اللاإنساني) كي يموت بحسده من قيام دولة الاكثرية السوداء التي حاربها من دون هوادة وان يتعفن في عزلته. ما يعاب علي اشعال النار رغم شهادته الباهرة عن بطل متحول، ان ثيمته ضعيفة العناصر نُفخت غصباً بمشهديات غير ذات طعم درامي مثل جلسة الغداء في بيت فوس ودافعها تلقين سجينه درساً: ان عمله الارهابي يسعي الي تدمير حاضرة بيضاء عريقة الاصول وقوية الاساس. فيما نحن ـ كمشاهدين ـ نعرف مسبقاً ان غسل الدماغ لن ينفع (لاحقاً سنتابع محاولة رفيق باتريك تصفية العائلة بعملية رعناء!)، فحكم التاريخ علي نهاية حكم عنصري ليس في يد تشاموسو وحده بل في صيرورة نضالية لم يتعمق الفيلم في مقاربتها.
العام الماضي، كانت الفورة الاعلامية تُطبل لشريط بينيت ميللر الذي حمل اسم الكاتب الامريكي ترومان كابوتي، وذهب اوسكار التمثيل الي مجسده فيليب سيمورهوفمان، مغطياً علي معلومات قليلة في شأن انتاج اخر كان يُصور ـ في الوقت نفسه ـ يقوم به المخرج والكاتب دوغلاس ماكغارث عن سيرة الاديب الاشكالي الذي صَعدَ في الوسط النخبوي النيويوركي، مستفيداً من شخصيته الديناميكية وشذوذه الجنسي وولعه بالنميمة والفضائحية التي كانتا تجدان آذاناً صاغية كثيرة.
الفرق شاسع بين المقاربتين السينمائيتين. وانتصاري النقدي سيذهب، من دون تردد، الي عمل ماكغارث الذي حمل عنواناً استفزازياً ذا تورية واضحة هو سيء الصيت . هنا اجتهاد سينمائي كتبه المخرج بنفسه، مقتبساً اياه عن افضل ما كتب حول حياة كابوتي انجزه المؤرخ جورج بليمبتن (الاول كان افلمة لكتاب جيرالد كلارك)، وفيه اعادة سرد مجيدة الصنعة لليوميات التي قادت كابوتي الي نصه المثير بدم بارد اثر تقربه الي احد القاتلين اللذين ابادا عائلة باكملها في ريف كنساس.
كابوتي (اداء ساطع من الممثل المسرحي البريطاني توبي جونزيبز كثيراً اشتغال هوفمان) سيصول في نوادي مانهاتن، ويعرفنا ماكغارث علي شلته من الكتاب وبالذات الروائية نيلي هاربر لي صاحبة قتل عصفور مغرد والشخصية الاكثر قرباً لكاتب فطور في مطعم تافني والتي سترافقه في الاشهر الاولي من مشاكساته للوصول الي المجرمين، وحين يتم له ذلك، سيتحقق المخرج ماكغارث من دونيته التي يتحايل عبرها في استمالة القاتل بري سميث (الممثل البريطاني دانيال كريغ الذي سيلبس قريباً رداء العميل جيمس بوند) للاعتراف بدوافع مجزرتهما. في شريط ميللر (وهو منذور باكمله لاداء هوفمان) يتم اسقاط اية اشارة للعلاقة الغامضة بينهما. فيما بانت شجاعة سيئ الصيت في فضح اللهفة الجنسية التي تولدت لدي كابوتي وقادت سميث الي ما يشبه معاقبته علي كذبه في الاعتداء جنسياً عليه. ماكغارث لا يصور العملية، بل يداورها كرقصة قصيرة بينهما داخل زنزانة الاخير، وتنتهي بدموع ندم كابوتي.
الي ذلك يكشف ماكغارث ان كابوتي حرف واضاف في كلام (اقرار) سميث، بل وسرق ذكريات عائلية شديدة الخصوصية ترتبط بوالدته، سعياً لاثارة ادبية افترضها في نصه الذي قوبل بكثير من الاطراء نتيجة التعاطف الشعبي مع العائلة المغدورة. يظهر كابوتي في عمل ماكغارث اقرب الي نموذج الاديب المجرم الذي اعدم ـ بارادة باردة ـ المذنبين علي ورق انانيته وتعجله لخبطة اعلامية، فيما سينهار حينما يشهد بنفسه اعدامهما شنقاً.
سيء الصيت شريط الاداءات المميزة بلا منازع، ساهمت فيها نخبة كثيرة العدد من النجوم الذين ادوا ادواراً قصيرة امثال ساندرا بولوك (الروائية هاربر لي) وسيغورني ويفر (بابي بالي) وغوينث بالترو (المطربة كيتي دين) والمخرج الكبير بيتر بوغدانوفيش (الناشربينيت سيرف) وايزابيلا روسيلليني (بدور ميريلا اجنيللي) والبريطانية جولي ستيفنسن (الكاتبة ديانا فيرلاند) وغيرهم.
سينمائي من العراق يقيم في لندن
شريطان نموذجيان لظاهرة شاعت في عروض مهرجان لندن:
زياد الخزاعي
المفارقة في آخر ملوك اسكتلندا الباكورة الروائية للمخرج البريطاني كيفن ماكدونالد (له احد ايام ايلول (سبتمبر) 1999 و لمس الفراغ 2003) التي افتتحت الدورة الخمسين لمهرجان لندن السينمائي، انها تفربك حيواتٍ واحداثا، ضُخمت انطلاقاً من جزيئة تاريخية: حاكم اوغندا الراحل عيدي امين وظف طبيباً اسكتلندياً ضمن طاقمه! بيد ان ما فعله ماكدونالد وكتبة السيناريو جيرمي بروك وبيتر مورغان انهم لووا الواقعة وحولوها الي ادانة بليدة التضخيم ومتأخرة التوقيت لنظام صُنع ـ في واقع الامرـ بيد ازلام المخابرات العسكرية البريطانية. لا شك ان موضوعة الطغاة مغرية وتتشكل من خيوط درامية مثيرة لفضول المشاهد. لكن السؤال الذي ظل عالقاً في بالي: لماذا اصبحت هذه الصفات (طاغية، ديكتاتور) التي تطلقها مخابرات الغرب علي رؤوس انظمة عالمثالثية تحديداً ساهمت في فرضها علي الناس، رخيصة الي هذا الحد؟ والاكثر اثارة للحنق انها تُطلق علي اشخاص جاؤوا من حضيض سفالة السلطة والمغامرة السياسية ممن سيتوجون بهذه السُبات الايديولوجية وليدخلوا التاريخ والذاكرة باعتبارهم الالعن والاشنع.
امين كان عبداً لدي الضباط البريطانيين الذين هالهم حالة التكالب الخدمي الذي نما في داخله تعطشاً لرضاهم وامتنانهم، بدءاً من صبغ احذيتهم العسكرية وانتهاء بالوشايات التي اودت بحياة ابرياء. فماذا ينتظر منهم سوي تأهيله كغول عسكري يستهدف اليسار المتنامي في القارة السوداء ومنها اوغندا. وحينما تضخمت قوته ـ كان يملك جسد مصارع (في الواقع كان ملاكماً فاشلاً) وعقل متآمر ـ عادته لندن وشنعت به كقاتل كان يطبخ ابدان ويأكل لحم مناوئيه السياسيين.
هذه حقائق لا يخاف منها تاريخ افريقيا. الوحش مات في قصره المنيف في الرياض بالمملكة العربية السعودية، مرملاً زوجات عديدات وميتماً لابناء كثر. فهل كان أبله الي هذا القدر الذي سلم فيه مقدراته العائلية واسرارها، قبل شؤون الحكم، الي وافد ابيض توسم فيه ـ حسب رواية ماكدونالد ـ طريقاً للوصول الي صفقة مع حكومة داوننغ ستريت؟ والاتعس ان نيكولاس كريغان (اداء جيمس ماكفوي) الطبيب الاسكتلندي الذي تخرج لتوه من كلية الطب (علي خطي جده ووالده!)، ويعاني من فراغ حياته ذات الدلع الاجتماعي لميسوري الحال، سيختار اوغندا بالصدفة، بعد ان وضع اصبعه بعد لعبة تخمين سفيهة علي ارض الدم والعسكراتية، لنشهد سرعة صعوده سلم التسلط عبر لكنته المحببة ورعونته كشاب يتعجل الهوي ومطارحات الغرام، إذ سنراه يضاجع اول شابة زنجية بعد تعارف سريع في الحافلة المكتظة وهو متوجه الي كامبالا، ومن ثم لن يتواني في تجريب حظه عن الايقاع بالزوجة البريطانية لمواطنه الطبيب المتطوع والمشرف علي مشفي ناء (ستصده بوجع قائلة: لا استطيع فعل هذا به. انه انسان صالح!) قبل ان تتحقق له اكبر مغامراته التي سينال فيها وطره من الزوجة الشابة الاخيرة للرئيس في نهاية الشريط، وقبل ان يفلت من العقاب مندساً بين الاسرائيليين الذين تمكنوا من اقناع ازلام امين بانهم سواح اوروبيون، خلال الساعات القليلة قبل هجمة ايهود باراك الشهيرة علي طائرة ركاب العال في عينتيبة!
يمثل كريغان في بداية مشروع تطوعه، حالة مزدوجة من المُغامر الحداثي (تي شيرت يحمل اسم اسكتلندا، حذاء رياضي، والكثير من الويسكي!!) والفهلوي الاوروبي الذي لن يضيع اية فرصة كي ينال مراده ومكافأته (كما هو امين). فحين يحضر احدي جولات الرئيس الريفية، سيصوره ماكدونالد كيسوع ابيض، نوراني يقف بهالته بين الهتافين الزنوج، ناظراً الي الجثة الهائلة الحجم وكأنه شمبانزي ضل طريقه الي استعراض قوة صُنع علي طريقة سيرك مجنون. بيد ان نظرات الطبيب الشاب تشي بإعجاب مغلف، وهذا الاخير ـ في الواقع الدرامي ـ تبرير للعلاقة المقبلة بين الحاكم المتجبر والغربي حيان الفرص.
يتواءم البطلان المتخيلان معاً نتيجة الحاجة، امين (اداء متقن من الامريكي فورست ويتكر) لانه في حالة دائمة من الشكوك والارتياب بالمحيطين به، ووجود اسكتلندي يعني الكثير من الافكار الحيوية التي لن يوفرها له زبانيته. الحاكم يعود هنا الي مركز تكوينه كتابع ازلي لمواطني الجزيرة البريطانية، وتصل الرعونة به الي ترتيب ترقية الوافد الشاب من طبيب الي مستشار يسرق مناصب وصلاحيات الاخرين، فيما لن يغفل كريغان حسدهم، ويفتح عينيه علي المؤامرات التي تحاك ضد الديكتاتور والتي تشترك فيها احزاب المعارضة والعشائر و... عملاء تاج سان جورج (المتخفون باللعبة الدبلوماسية) متحولاً من تابع لامين الي مخبر لعملاء السفارة البريطانية.
ولكي يضفي الشريط ـ في نهايته ـ شيئاً من الايجابية علي شخصيته، يفتعل انكساره الاخلاقي الذي سيقوده نحو الايمان بعدالة قضية تلك المعارضة، ويشي بمعلومات عن محيط امين. طبعاً ليس لاهل البلاد بل الي.... مخبري السفارة البريطانية!!
التحريض السياسي يتجلي في هدف هذا الشريط، ولكن بسلبية مثيرة للقلق، اذ ان ما يُسرب عبر الاختلاق الروائي هو اشاعة فكرة اساسية تقوم علي مبدأ انتهازي ان ديكتاتوريي العالم الثالث لا تقوم لهم قائمة لولا جهل شعوبهم وتخلفها والتي يجب ان تُقاد ـ بشكل او بآخر ـ من قبل بطل ابيض يتلبس قناع المنقذ العفيف، ويحمل عزم محارب لا يخشي اللوم او الخسران او دم الابرياء علي يده (هناك عشرات الافلام حول افريقيا يكون الابيض فيها شخصية اساسية تسعي اما الي انقاذ اهل القارة السوداء من غي الاعراق وتصفياتها علي شاكلة فيلم قتل الكلاب للمخرج البريطاني مايكل كاتون جونز عن راوندا، او محاكمة التفرقة العنصرية كما في فيلم اوزهان بالسي موسم ابيض جاف 1989عن جنوب افريقيا، او كوبرا فيردي 1987 للالماني فارنر هيرتزوغ عن مواسم العبودية الاولي). وكريغان لا يشط عن هذه الترسيمة العنصرية البحتة.
التحريض وانما برقي سياسي، متوافر في شريط الاسترالي فيليب نويس اشعال الحريق الذي سرد جزءاً متأخراً من سيرة المناضل الافريقي (اصله من موزمبيق) باتريك تشاموسو (اداء قوي من الممثل الأسود ديرك لوك الذي عُرف عالمياً بدوره المميز في انتوان فيشر ) الذي انضم الي الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية، بعد ان اتهمته ـ ومن ثم عذبته ـ السلطات الامنية في بريتوريا بالمشاركة في اول هجوم علي اكبرمحطة تكرير للنفط في سوكوندا.
الشاب تشاموسو لم يكن سوي مهاجر حَلِم بعيش افضل وعمل ثابت، صادفه في هذا المجمع الضخم. شغوف بكرة القدم والتصوير الفوتوغرافي (وهما عنصرا حسد الاخرين). عاشق لزوجته الحسناء بريشوس (الممثلة بوني مابلي) التي ستشي به في لحظة شك بخيانة جنسية، يمررتوثيقها المصوراليها القائد الامني نيك فوس (النجم الامريكي تيم روبنز)، فيما كان باتريك في الواقع يتدرب داخل قاعدة خلفية في البلد المجاور. هذا الاخير سيفلح في الوصول مرة ثانية الي قلب المجمع ويفجر قنبلة موقوتة قبل ان يتمكن فوس من تفكيك العبوة الثانية الماحقة. التعذيب اللاحق الذي سيتعرض اليه علي يد زمرة فوس لن يكسر من شكيمته في الاعتراف ضد قيادييه، لينتهي منفياً (مع مانديلا ورفاقه) في سجن جزيرة روبن حتي سقوط دولة الاقلية البيضاء.
صاحب موجة حر و القديس و الامريكي الهادئ نويس يركز همه في استعراض المرحلتين البارزتين في حياة بطله: سذاجته وهو شاب، وقراره الشجاع في الانضمام للجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني بعد اعتقاله وتعذيبه. ولكي تغطي الدقائق المائة والسبعة طول الفيلم رحلته الطويلة يجتزئ نويس الكثير من التفاصيل، ويجعل مثلثه الدرامي محصوراً بين البطل وزوجته ومعذبهما العنصري، من دون ان يغفل الاحداث الفارقة التي صاغت من شخصيته النضالية مثل تعرفه علي مناضلي الحركة المتنامية ايام الحبس الاولي، وشهادته علي الاعتقالات والتصفيات (اخرها العملية الدموية التي استهدفت القاعدة العسكرية للحزب في الموزمبيق) واخيراً لقاءه مع بريشوس التي ستقدم اسفها وهو يهبط من السفينة التي نقلته مع اقطاب الجناح العسكري تحت قيادة الابيض جو سولوفو (والد كاتب سيناريو هذا الفيلم شوان سولوفو). وايضاً ترصده اللاحق لفوس وقراره بعدم تصفيته (سنري باتريك الحقيقي يعترف بانه خطط اعواماً وهو داخل معتقله في قتل هذا الوحش اللاإنساني) كي يموت بحسده من قيام دولة الاكثرية السوداء التي حاربها من دون هوادة وان يتعفن في عزلته. ما يعاب علي اشعال النار رغم شهادته الباهرة عن بطل متحول، ان ثيمته ضعيفة العناصر نُفخت غصباً بمشهديات غير ذات طعم درامي مثل جلسة الغداء في بيت فوس ودافعها تلقين سجينه درساً: ان عمله الارهابي يسعي الي تدمير حاضرة بيضاء عريقة الاصول وقوية الاساس. فيما نحن ـ كمشاهدين ـ نعرف مسبقاً ان غسل الدماغ لن ينفع (لاحقاً سنتابع محاولة رفيق باتريك تصفية العائلة بعملية رعناء!)، فحكم التاريخ علي نهاية حكم عنصري ليس في يد تشاموسو وحده بل في صيرورة نضالية لم يتعمق الفيلم في مقاربتها.
العام الماضي، كانت الفورة الاعلامية تُطبل لشريط بينيت ميللر الذي حمل اسم الكاتب الامريكي ترومان كابوتي، وذهب اوسكار التمثيل الي مجسده فيليب سيمورهوفمان، مغطياً علي معلومات قليلة في شأن انتاج اخر كان يُصور ـ في الوقت نفسه ـ يقوم به المخرج والكاتب دوغلاس ماكغارث عن سيرة الاديب الاشكالي الذي صَعدَ في الوسط النخبوي النيويوركي، مستفيداً من شخصيته الديناميكية وشذوذه الجنسي وولعه بالنميمة والفضائحية التي كانتا تجدان آذاناً صاغية كثيرة.
الفرق شاسع بين المقاربتين السينمائيتين. وانتصاري النقدي سيذهب، من دون تردد، الي عمل ماكغارث الذي حمل عنواناً استفزازياً ذا تورية واضحة هو سيء الصيت . هنا اجتهاد سينمائي كتبه المخرج بنفسه، مقتبساً اياه عن افضل ما كتب حول حياة كابوتي انجزه المؤرخ جورج بليمبتن (الاول كان افلمة لكتاب جيرالد كلارك)، وفيه اعادة سرد مجيدة الصنعة لليوميات التي قادت كابوتي الي نصه المثير بدم بارد اثر تقربه الي احد القاتلين اللذين ابادا عائلة باكملها في ريف كنساس.
كابوتي (اداء ساطع من الممثل المسرحي البريطاني توبي جونزيبز كثيراً اشتغال هوفمان) سيصول في نوادي مانهاتن، ويعرفنا ماكغارث علي شلته من الكتاب وبالذات الروائية نيلي هاربر لي صاحبة قتل عصفور مغرد والشخصية الاكثر قرباً لكاتب فطور في مطعم تافني والتي سترافقه في الاشهر الاولي من مشاكساته للوصول الي المجرمين، وحين يتم له ذلك، سيتحقق المخرج ماكغارث من دونيته التي يتحايل عبرها في استمالة القاتل بري سميث (الممثل البريطاني دانيال كريغ الذي سيلبس قريباً رداء العميل جيمس بوند) للاعتراف بدوافع مجزرتهما. في شريط ميللر (وهو منذور باكمله لاداء هوفمان) يتم اسقاط اية اشارة للعلاقة الغامضة بينهما. فيما بانت شجاعة سيئ الصيت في فضح اللهفة الجنسية التي تولدت لدي كابوتي وقادت سميث الي ما يشبه معاقبته علي كذبه في الاعتداء جنسياً عليه. ماكغارث لا يصور العملية، بل يداورها كرقصة قصيرة بينهما داخل زنزانة الاخير، وتنتهي بدموع ندم كابوتي.
الي ذلك يكشف ماكغارث ان كابوتي حرف واضاف في كلام (اقرار) سميث، بل وسرق ذكريات عائلية شديدة الخصوصية ترتبط بوالدته، سعياً لاثارة ادبية افترضها في نصه الذي قوبل بكثير من الاطراء نتيجة التعاطف الشعبي مع العائلة المغدورة. يظهر كابوتي في عمل ماكغارث اقرب الي نموذج الاديب المجرم الذي اعدم ـ بارادة باردة ـ المذنبين علي ورق انانيته وتعجله لخبطة اعلامية، فيما سينهار حينما يشهد بنفسه اعدامهما شنقاً.
سيء الصيت شريط الاداءات المميزة بلا منازع، ساهمت فيها نخبة كثيرة العدد من النجوم الذين ادوا ادواراً قصيرة امثال ساندرا بولوك (الروائية هاربر لي) وسيغورني ويفر (بابي بالي) وغوينث بالترو (المطربة كيتي دين) والمخرج الكبير بيتر بوغدانوفيش (الناشربينيت سيرف) وايزابيلا روسيلليني (بدور ميريلا اجنيللي) والبريطانية جولي ستيفنسن (الكاتبة ديانا فيرلاند) وغيرهم.
سينمائي من العراق يقيم في لندن
التعليقات