كيف استطاعت المخابرات المصرية الوصول الى جاسوس للموساد انتحل هوية عالم آثار بريطاني‏ بقلم:دكتور سمير محمود قديح

كيف استطاعت المخابرات المصرية الوصول اليه ؟

جاسوس للموساد انتحل هوية عالم آثار بريطاني‏ في مصر .

دكتور / سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية

هناك جاسوس إسرائيلي بالغ الخطورة‏,‏ في قلب‏(‏ مصر‏)..‏

بهذه العبارة المثيرة‏,‏ بدأ واحد من أهم اجتماعات المخابرات العامة المصرية‏,‏ في تلك الفترة من أواخر خمسينيات القرن العشرين‏..‏

وعلي الرغم من خطورة ماتحمله العبارة من معان‏,‏ ظـل الرجال المجتمعون حول مائدة الاجتماعات الرئيسية‏,‏ محتفظين بهدوئهم وتماسكهم‏,‏ وعيونهم متعلقة بمديرهم‏,‏ الذي واصل حديثه‏,‏ قائلا في حزم‏:‏

أحد جواسيسنا المزدوجين‏,‏ الذين يعملون لحسابنا‏,‏ ويوهمون العدو بأنهم من رجاله‏,‏ تلقي ثلاث حوالات بريدية‏,‏ بما مجموعه مائة جنيه مصري‏,‏ علي صندوق بريده مباشرة‏,‏ في قلب‏(‏ القاهرة‏),‏ والمعني الوحيد لهذا‏,‏ هو أن الإسرائيليين قد أرسلوا أحد جواسيسهم إلي هنا‏;‏ لمتابعة عمل جاسوسنا المزدوج‏,‏ وتمويله‏,‏ والإشراف علي تطورات مزمعة قادمة‏.‏

ولأن جميع من حضروا الاجتماع‏,‏ كانوا من أفضل عناصر المخابرات المصرية‏,‏ ومن المتابعين لقضية ذلك الجاسوس المزدوج الشاب‏,‏ فقد انبري بعضهم علي الفور يطرح مجموعة من الأسئلة‏,‏ حول هوية ذلك الجاسوس‏,‏ والحجة التي دخل بها إلي البلاد‏,‏ والسمة التي يتخفي خلفها‏,‏ و‏...,‏ و‏..‏

وجاء الجواب حاسما حازما‏,‏ علي لسان المدير‏:‏

ـ كل هذا مجرد أسئلة‏..‏ مطلوب منكم الأجوبة لها‏..‏ وبأسرع وسيلة ممكنة‏...‏

كان تكليفا مباشرا بالقيام بمهمة‏,‏ قد تبدو للوهلة الأولي مستحيلة تماما‏,‏ لولا نقطة واحدة‏..‏

أن هؤلاء الرجال من طراز خاص جدا‏..‏

طراز لايعرف المستحيل‏!..‏

فقبل مرور ساعة واحدة‏,‏ علي إنتهاء الاجتماع‏,‏ كان الرجال قد انقسموا بالفعل إلي عدة فرق‏,‏ مهمتها‏,‏ وبكل اختصار‏,‏ أن تمشط‏(‏ مصر‏)‏ تمشيطا للعثور علي جاسوس‏,‏ لاتوجد عنه أية معلومات واضحة محددة‏..‏

وفي نشاط منقطع النظير‏,‏ وبأسلوب مدروس عبقري‏,‏ قدر الفريق الأول أن ذلك الجاسوس قد دخل البلاد خلال الأشهر الستة الأخيرة علي أقصي تقدير‏,‏ وأنها ليست المرة الأولي‏,‏ التي يصل فيها إلي‏(‏ مصر‏);‏ نظرا لما درسه خبراء المخابرات المصرية‏,‏ من أساليب وطرق المخابرات الإسرائيلية‏,‏ التي تتميز بالحذر الشديد‏,‏ وتعتمد علي توطين الجاسوس لفترات متقطعة‏;‏ لدراسة ردود الأفعال المصرية تجاهه‏,‏ وللتأكد من استيعابه لإمكانيات المغادرة‏,‏ أو الفرار بأقصي سرعة‏,‏ إذا مادعت الحاجة إلي هذا‏..‏

وبناء علي المعلومتين‏,‏ تمت مراجعة كشوف أسماء كل الأجانب‏,‏ الذين تنطبق عليهم تلك الشروط‏;‏ لتقليل أعداد المشتبه فيهم‏,‏ وحصر دائرة البحث في قائمة محدودة‏..‏

في الوقت ذاته‏,‏ كان الفريق الثاني يضع الحوالات البريدية تحت البحث‏,‏ ويجري كل التحريات الممكنة‏,‏ حول كيفية ووسيلة إرسالها‏,‏ وهوية مرسلها‏,‏ في سرية بالغة‏,‏ حتي لاينتبه الجاسوس لما يحدث‏,‏ فيبادر بالفرار‏,‏ قبيل الإيقاع به‏..‏

أما الفريق الثالث‏,‏ فقد استعان بالقائمة المصغرة‏,‏ التي وضعها الفريق الأول‏,‏ مع تقرير دقيق للخبراء‏,‏ حول أماكن السكن المثالية للجواسيس‏,‏ والتي تناسب إحتياجهم لتلقي التعليمات‏,‏ عبر وسائل الإتصال اللاسلكي‏,‏ كما تتيح لهم إمكانيات كشف المراقبة في الوقت ذاته‏,‏ ومزج كل هذا بقاعدة ذهبية‏,‏ تؤكد أن الجواسيس نادرا إن لم يكن من المستحيل أن يميلوا الي الإقامة في الفنادق العامة‏,‏ أو الأماكن التي تفرض نظما خاصة‏,‏ وأن طبيعة عملهم تدفعهم إلي اختيار الأماكن الخاصة‏,‏ التي يمكنهم السيطرة عليها تماما‏,‏ وإخفاء أدوات التجسس وأجهزته فيها‏,‏ دون أن يخشوا فضول أحد الخدم‏,‏ أو عمال النظافة‏,‏ أو أية احتمالات أخري غير متوقعة‏..‏

وهنا أصبحت دائرة البحث محدودة للغاية‏,‏ فالمطلوب شخص أجنبي الجنسية‏,‏ دخل البلاد أكثر من مرة‏,‏ ويقيم في إحدي الشقق المفروشة علي الأرجح‏..‏

ومن هذا المنطلق‏,‏ بدأت عملية البحث الدقيق عن الهدف‏..‏

واقتصرت الدائرة علي خمسة أفراد فحسب‏,‏ تنطبق عليهم الشروط الثلاثة‏,‏ علي نحو يجعلهم المشتبه فيهم الأكثر احتمالا‏..‏

وبدأت عملية مراقبة دقيقة للمشتبه فيهم الخمسة‏..‏

لدرجة أن التقارير الرسمية يمكن أن تحوي عدد خطواتهم‏,‏ وتردد أنفاسهم‏,‏ وكل لمحة حملتها خلجاتهم‏,‏ طوال فترة المراقبة‏..‏

ولأن الجاسوس المنشود هو محترف بكل المقاييس‏,‏ كان من العسير أن يقع في أي خطأ يكشف أمره‏,‏ حتي إنه من الممكن أن تشتعل الحيرة في نفوس الرجال طويلا‏..‏

لولا لمحة واحدة‏..‏

هوائي بسيط‏,‏ معلق في شرفة منزل مواجه للبحر‏,‏ في مدينة‏(‏ الأسكندرية‏)..‏

ذلك الهوائي‏,‏ الذي ورد ذكره في تقرير المراقبة‏,‏ الخاص بأحد المشتبه فيهم الخمسة‏,‏ توقف عنده رجال المخابرات‏,‏ وطلبوا التقاط بعض الصور الواضحة‏,‏ وعرضها علي خبراء الإتصال اللاسلكي بالجهاز‏..‏

وجاء تقرير الخبراء بسرعة مدهشة‏,‏ ليحسم الأمر تماما‏..‏

ذلك الهوائي‏,‏ الموجود في شرفة شقة الدور العلوي‏,‏ في المنزل رقم‏(8)‏ في شارع الإدريسي في‏(‏ جليم‏)(‏ الأسكندرية‏),‏ تنطبق عليه شروط الهوائيات المستعملة‏,‏ في إستقبال وإرسال البث اللاسلكي‏,‏ وأن موقع الشقة‏,‏ المطل علي البحر‏,‏ يرجح وجود جهاز اتصال لاسلكي داخلها‏..‏

وهنا‏,‏ تحولت الجهود كلها نحو ذلك الهولندي‏,‏ المقيم بتلك الشقة‏,‏ والذي يدعي‏(‏ مويس جودسوارد‏)..‏

وبسرعة ونشاط‏,‏ يعجز العقل العادي عن استيعابهما‏,‏ بدأت عملية تطويق الجاسوس‏,‏ وسبر أغواره في الوقت ذاته‏,‏ ففي نفس الفترة‏,‏ التي أستأجر فيها بعضهم ذلك المحل الصغير‏,‏ عند ناصية الشارع‏,‏ ووضع فوقه لافتة متهالكة‏,‏ تشير إلي أنه متخصص في إصلاح أجهزة الراديو القديمة‏,‏ ونقل إليه بعض الأدوات‏,‏ وأجهزة الراديو الضخمة‏,‏ التي تخفي أدوات الرصد والإعتراض اللاسلكي‏,‏ علي مسافة أمتار قليلة من منزل الجاسوس‏,‏ كان رجال المخابرات المصرية يجمعون كل مايمكن جمعه من معلومات‏,‏ عن‏(‏ مويس سوارد‏)‏ هذا‏,‏ في قلب وطنه نفسه‏..‏

والمدهش أنه خلال ثلاثة أيام فحسب‏,‏ وصل أحد عملاء المخابرات المصرية من‏(‏ أمستردام‏)‏ مع ملف كامل عن الجاسوس‏..‏

اسمه‏(‏ مويس جود سوارد‏)‏ المولود في‏(‏ أمستردام‏),‏ في يوليو‏1892‏ م‏,‏ والذي عمل بالتجارة في‏(‏ هولندا‏),‏ في عام‏1929,‏ وحتي عام‏1942‏ م‏.‏

وفي الفترة من‏1942‏ م‏,‏ وحتي نهاية الحرب العالمية الثانية‏,‏ ترك العمل بالتجارة‏;‏ ليتفرغ للعمل السري‏,‏ ضد الإحتلال النازي‏..‏

ومع إنتهاء الحرب‏,‏ عاد‏(‏ مويس‏)‏ إلي مزاولة نشاطه التجاري‏,‏ وسافر عام‏1952‏ م إلي جنوب أفريقيا‏,‏ إلا أنه لم يستطع تحقيق أي نجاح يذكر‏,‏ فعاد إلي‏(‏ هولندا‏)‏ في أوائل عام‏1955‏ م‏,‏ وقد ساءت أحواله المادية‏,‏ مما أدي الي مشكلات عنيفة‏,‏ بينه وبين زوجته‏,‏ ثم طلاقه منها فيما بعد‏,‏ مما ضاعف من سوء أحواله المادية‏,‏ وفي موقفه العام أيضا‏.‏

ولأنه صار لقمة سائغة مثالية‏,‏ فقد وجدت المخابرات الإسرائيلية سبيلها إليه‏,‏ فالتقي بأحد رجالها‏,‏ في منتصف عام‏1957‏ م‏,‏ داخل القنصلية الإسرائيلية نفسها‏,‏ وقبل القيام بأعمال جاسوسية في‏(‏ مصر‏),‏ لصالح‏(‏ إسرائيل‏),‏ مقابل ثلاثمائة جنيه شهريا‏,‏ بخلاف أجور السفر‏,‏ وكل المصاريف التي يتم إنفاقها‏,‏ أثناء المهمة‏..‏

وفي‏(‏ باريس‏),‏ بدأت عملية تدريب‏(‏ مويس سوارد‏),‏ علي إستخدام أجهزة الإتصال اللاسلكي‏,‏ للإرسال والإستقبال‏,‏ وترجمة الشفرة‏,‏ وكتابة وإظهار الحبر السري‏,‏ وتصوير المستندات‏,‏ والتصوير بصفة عامة‏,‏ وطرق إخفاء الأفلام في أماكن سرية بالطرود‏,‏ وتمييز الأسلحة والمعدات المريبة بصفة عامة‏,‏ والبحرية بصفة خاصة‏..‏

وفي نهاية نوفمبر‏1957,‏ جاء‏(‏ مويس‏)‏ إلي مصر‏,‏ مع أوامر بإجراء معاينة كاملة لمدينة‏(‏ القاهرة‏),‏ والحصول علي سكن مناسب للإتصالات اللاسلكية‏,‏ مع إدعاء تنفيذ بعض العقود التجارية الهولندية في‏(‏ مصر‏)..‏

وفي‏(‏ القاهرة‏)‏ إستغل‏(‏ مويس‏)‏ مالديه من توكيلات تجارية‏,‏ للإتصال ببعض الشركات المصرية‏,‏ وأجري بعض الإتصالات اللاسلكية‏,‏ ولكنه لم يتلق ردا عليها‏,‏ ووصلته بعض الخطابات بالحبر السري‏,‏ ولكنه فشل تماما في إظهارها‏,‏ فوصله أمر بالعودة‏,‏ في أواخر إبريل‏1958‏ م‏,‏ ليسافر مع كل معداته إلي‏(‏ أمستردام‏)‏ في‏1958/4/28‏ م‏..‏

ومرة أخري‏,‏ راح‏(‏ مويس‏)‏ يتلقي تدريبات مكثفة‏,‏ لفشله في الإتصالات‏,‏ في المرة الأولي‏,‏ واستمرت عملية تدريبه‏,‏ حتي‏1958/7/15‏ م‏,‏ بعد أن أطمأن مدربوه إلي أنه قد أجاد عمله بالفعل هذه المرة‏.‏

وفي هذه المرة‏,‏ عاد‏(‏ مويس‏)‏ إلي‏(‏ القاهرة‏),‏ مع كل معداته‏,‏ في نهاية يوليو‏,‏ في العام نفسه‏,‏ ولكنه لم يقض وقتا طويلا‏,‏ إذ وصلته إشارة لاسلكية‏,‏ جعلته يعود إلي‏(‏ أمستردام‏),‏ بكل معداته وأدواته السرية‏,‏ في نهاية مارس‏1959‏ م‏..‏

في تلك الفترة‏,‏ كان ذلك العميل المزدوج الشاب‏,‏ الذي يعمل لحساب المخابرات المصرية‏,‏ قد بدأ بإيعاز منها ـ يلح علي تلقي تمويله‏,‏ وعلي سرعة وصول راتبه‏,‏ وعلي ضرورة زيادة مكافآته‏,‏ وأبدي غضبا وتبرما‏,‏ خشيت معه المخابرات الإسرائيلية أن تفقده‏,‏ وأن تفقد معه سيل المعلومات الخطيرة‏,‏ التي يرسلها إليها بإنتظام‏,‏ فما كان منها إلا أن أعادت‏(‏ مويس‏)‏ إلي‏(‏ مصر‏)‏ عن طريق البحر‏,‏ ليصل مع كل أدواته ومعداته السرية إلي الأسكندرية‏,‏ في منتصف يوليو‏1959‏ م‏,‏ وكان ماكان‏..‏

وبعد كشف أمر الجاسوس‏,‏ بدأت عملية مراقبته بتركيز أكثر‏,‏ ودقة أشد‏,‏ مع حرص شديد علي ألايشعر بهذا قط‏,‏ ولو حتي عن طريق الشك أو الحذر‏..‏

ومن الواضح أن الرجال‏,‏ الذين قاموا بالمهمة‏,‏ كانوا خبراء بحق‏,‏ فالجاسوس المحترف لم يشعر بمراقبتهم له لحظة واحدة‏,‏ حتي وهو يسافر إلي‏(‏ القاهرة‏).‏

ويقيم في فندق‏(‏ سميراميس‏),‏ ثم يجري اتصالاته بالجاسوس المزدوج‏,‏ من فندق‏(‏ هيلتون‏)‏ للتمويه‏..‏

ومن خلال مراقبة‏(‏ مويس‏)‏ اعترضت المخابرات المصرية كل اتصالاته اللاسلكية‏,‏ وكل مايستقبله من بث‏,‏ وحلله خبراؤها‏,‏ وتوصلوا الي طبيعة الشفرة المستخدمة‏,‏ بل وقرأوا كل ماأرسله إلي رؤسائه في‏(‏ تل أبيب‏),‏ من الرسائل المكتوبة بالحبر السري‏,‏ وكل ماوصل منهم بالوسيلة نفسها أيضا‏..‏

وكان‏(‏ مويس‏)‏ قد انتحل هوية عالم آثار بريطاني‏,‏ ووضع بعض التحف في شقته للتمويه‏,‏ وكان شديد الحذر‏,‏ بحيث لايفتح باب الشقة‏,‏ إلا إذا تأكد من هوية القادم أولا‏,‏ وذلك حسب تعليمات المخابرات الإسرائيلية‏,‏ حتي يمكنه تدمير بعض الوثائق التي تدينه‏,‏ أو التخلص من جهاز الإتصال اللاسلكي‏,‏ لو حاصره رجال الأمن بوسيلة ما‏..‏

وعلي الرغم من هذا‏,‏ فقد تم إتخاذ قرار‏,‏ في التاسع من نوفمبر‏1959‏ م‏,‏ بإنهاء العملية‏,‏ وإلقاء القبض علي‏(‏ مويس جود سوارد‏)‏ نظرا لقرب إنتهاء تأشيرته السياحية‏,‏ وخشية أن يغادر البلاد فجأة‏,‏ فتفشل مع رحيله العملية كلها‏..‏

وفي الساعة الثانية إلا عشر دقائق ظهرا‏,‏ تم استخدام أحد معارف‏(‏ مويس‏)‏ لطرق الباب‏,‏ وما أن تأكد من هوية الطارق‏,‏ وفتح باب الشقة‏,‏ حتي انقض عليه رجال المخابرات المصرية كالأسود‏,‏ وسيطروا عليه في لحظات‏,‏ وكبلوا حركته‏,‏ حتي لايمكنه لمس أي أداة من أدواته‏..‏

وبدأت عملية تفتيش دقيقة للغاية‏,‏ أسفرت عن ضبط كل أدوات التجسس‏,‏ في شقة‏(‏ مويس‏)...‏ جهاز الإتصال اللاسلكي‏,‏ وزجاجات الحبر السري ومظهره‏,‏ وأدوات التصوير‏,‏ والأفلام البحرية التي إلتقطها‏,‏ وكذلك آخر رسالة وصلته بالحبر السري‏,‏ من قلب‏(‏ تل أبيب‏)..‏

وعلي الرغم من كل هذا‏,‏ فقد ثار‏(‏ مويس‏),‏ وهاج‏,‏ وماج‏,‏ وطالب بإبلاغ السفير الهولندي‏,‏ وأنكر كل صلاته بما عثر عليه رجال المخابرات‏,‏ في وجود النيابة العامة‏,‏ وأكد أنه يخص الساكن السابق للشقة‏,‏ وأنه لم يدرك ماهيته‏,‏ عندما استأجرها للسكن‏,‏ و‏..‏ و‏..‏

وفي هدوء‏,‏ ودون أن يلتفت إلي ثورته الزائفة‏,‏ إتجه ضابط المخابرات إلي منضده قريبة‏,‏ تراصت فوقها مجموعه من الكتب‏,‏ والتقط من بينها كتابا بعينه‏,‏ وهو رواية‏(‏ ذهب مع الريح‏),‏ والتفت الي‏(‏ مويس سوارد‏))‏ قائلا بإبتسامة ذات مغزي‏:‏

قل لي ياسيدي‏(‏ مويس‏)‏ هل تعتقد أننا يمكن أن نجد في هذه الرواية مايفيدناولم ينبس‏(‏ مويس جود سوارد‏)‏ بحرف واحد‏,‏ ولكن ملامحه حملت كل الإحباط واليأس والإنهيار‏,‏ فالرواية التي التقطها رجل المخابرات والتي انتقاها بالذات من بين كل الروايات الأخري‏,‏ كانت كتاب الشفرة‏,‏ المستخدم في بث واستقبال الإتصالات اللاسلكية‏..‏

وكان هذا يعني أن الرجال يعرفون‏,‏ ويدركون وليست لديهم ذرة من الشك‏,‏ يمكن إستغلالها لتمييع الموقف‏,‏ بأي حال من الأحوال‏..‏

وفي إستسلام تام‏,‏ طلب‏(‏ مويس‏)‏ بعض الأوراق وقلما‏,‏ وجلس يكتب اعترافا تفصيليا بكل ماحدث‏,‏ منذ لقائه الأول برجال المخابرات الإسرائيلية‏,‏ وحتي لحظة سقوطه‏..‏

بل واعترف بالمصطلحات والإصطلاحات الخاصة‏,‏ التي ينبغي أن يستخدمها في رسائله وإتصالاته‏,‏ في حال إلقاء القبض عليه وإضطراره للعمل تحت سيطرة الدولة التي ذهب ليتجسس عليها‏..‏

وهنا تم إتخاذ قرار حاسم‏,‏ بإستمرار العملية‏,‏ تحت سيطرة المخابرات المصرية‏,‏ وإجبار‏(‏ مويس‏)‏ علي مواصلة إتصالاته مع الإسرائيليين‏,‏ كوسيلة لكشف أي عملاء جدد‏,‏ قد يطلب من الجاسوس الإتصال بهم أو تمويلهم‏,‏ والتعرف علي إحتياجات وأهداف المخابرات الإسرائيلية‏,‏ في المرحلة التالية‏.‏ وبناء علي هذا‏,‏ تم نقل‏(‏ مويس‏),‏ من الأسكندرية الي القاهرة‏,‏ وهناك بدأ أول إتصالاته المحاصرة مع العدو‏,‏ ليبرر إنقطاعه عن التراسل‏,‏ خلال اليومين السابقين‏,‏ متعللا بإصابته في حادث سيارة خفيف‏,‏ وبخضوعه للعلاج في مستشفي‏(‏ المواساة‏)‏ لبعض الوقت‏..‏

ولقد ابتلع الإسرائيليون الطعم‏,‏ وأرسلوا يتمنون له الشفاء والصحة‏.‏

واستمرت إتصالات‏(‏ مويس‏)‏ مع المخابرات الإسرائيلية‏,‏ حتي يوم‏26‏ فبراير‏1960‏ م‏,‏ وكان يتلقي بعض الأوامر‏,‏ لجمع بعض المعلومات العسكرية‏,‏ حيث راح أحد ضباط المخابرات المصرية يتعامل معهم‏,‏ متظاهرا بتنفيذ أوامرهم‏,‏ ومنفذا بعض تعليماتهم‏,‏ بنفس الأسلوب والإمكانيات‏,‏ التي ساعدت علي خداع الإسرائيليين تماما‏,‏ فلم يكشفوا سيطرة المخابرات المصرية علي الموقف لحظة واحدة‏,‏ بدليل أنهم واصلوا كشف عملائهم في‏(‏ القاهرة‏),‏ من خلال تعليماتهم لجاسوسهم‏(‏ مويس‏)..‏

ورويدا رويدا‏,‏ حصلت المخابرات المصرية علي قائمة بأسماء مجموعة من أخطر جواسيس العدو الإسرائيلي في‏(‏ مصر‏)..‏

كان معظمهم من الأجانب المقيمين‏,‏ والعاملين في‏(‏ مصر‏)‏ مع قلة من المصريين‏,‏ الذين أغواهم الشيطان‏,‏ فنسوا ماأرضعتهم أمهاتهم من ماء نيل مصر‏,‏ وسعوا بكل الطمع والجشع والشر لخيانتها‏,‏ وبيع أمنها وأمانها للعدو‏,‏ مقابل حفنة من النقود‏..‏

وانطلق رجال المخابرات خلف أهدافهم‏....‏

وتساقط الجواسيس كالذباب‏...‏

شبكة هائلة من جواسيس العدو‏,‏ تساقطت في قبضة المخابرات المصرية‏,‏ في وقت واحد تقريبا‏,‏ وهو نفس الوقت الذي استقبل فيه رجال المخابرات الإسرائيلية رسالتهم الأخيرة‏,‏ من جاسوسهم الهولندي‏(‏ مويس جود سوارد‏)..‏

تعاونكم معنا‏,‏ خلال الفترة السابقة‏,‏ كان مثمرا بحق‏,‏ ومنحنا أكثر بكثير مما كنا نحلم به‏..‏ مع شكرنا وتحياتنا‏..‏ المخابرات المصرية‏...‏

وجن جنون الإسرائيليين‏,‏ وإنهار رئيس مخابراتهم‏,‏ وتم استدعاؤه للمساءلة‏,‏ أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي‏,‏ حيث إضطر لتقديم استقالته‏,‏ والخروج من الخدمة مكللا بالعار في نفس الوقت الذي كان رجال المخابرات المصرية يتلقون فيه خالص التهنئة‏,‏ علي نجاحهم المدهش‏,‏ في هذه العملية المتقنة‏,‏ التي ألقت الإسرائيليين وجواسيسهم في أعماق الهاوية‏.‏

هاوية الهزيمة

والعار‏..!‏

التعليقات