تفاصيل وخفايا عمليات الاغتيال لقادة المقاومة بغزة:كان هنية يقدم الرز للشيخ ياسين ثم وقع الانفجار

غزة-دنيا الوطن
جلس اعلى قائد عسكري اسرائيلي على حافة سريره وهو يتحدث بالهاتف ويمسح جبهته. كان باب غرفة النوم مغلقا، ليبعد اصوات يوم السبت وقهقهات أطفاله وهم يتناولون الغداء. وكان رئيس اركانه على الجانب الآخر من الخط الرمادي الآمن، الذي كان يرن بصورة اعلى وأكثر حدة ويجعل قلبه يخفق بسرعة. جاء التقرير من غرفة الحرب: القنبلة سقطت.
كان الجنرال موشيه يعالون يحدق في أرضية الغرفة ويعمل على اعداد خطتين: الأولى في حالة قتل العناصر الفلسطينية المستهدفة، والثانية في حالة بقائهم على قيد الحياة. والقنبلة سقطت من طائرة اف 16 اسرائيلية كانت محلقة على ارتفاع 10 آلاف قدم، وسقطت على بيت فلسطيني في قطاع غزة، حيث كان ضيوف جالسين يتناولون الرز والدجاج. وكان يعالون يأمل في أن تكون تلك آخر وجبة لهم. كان ذلك يوم السادس من سبتمبر (ايلول) عام 2003، وهو، وقت حرب مفتوحة، يشبه الحال اليوم كثيرا، بين اسرائيل وحماس. فقد كان ثمانية من قادة حماس مجتمعين للتخطيط لهجوم وفقا لتقارير الاستخبارات الاسرائيلية.
وقال الجنرال دان حالوتس، الذي كان قائدا للقوة الجوية في حينه، وهو الآن رئيس اركان الجيش الاسرائيلي «كان اجتماعا شبيها باجتماعات بن لادن والزرقاوي والظواهري، وامتلاك القدرة على توجيه ضربة لهم».
وكان قادة حماس مجتمعين في بيت سري، في حي مزدحم بالسكان، عندما كان الأطفال خارج المدارس. وكانت الضربة الكبيرة تعني وقوع ضحايا مدنيين. وقال حالوتس، الذي اشار الى أنه اشرف على ما يتراوح بين 80 الى 100 عملية قتل مستهدفة باعتباره قائدا للقوة الجوية، انه «تعين علينا أن نقرر ما اذا كنا سنضربهم أم لا بمعدل نجاح بلغ 90 في المائة».
وفي اسرائيل بات القتل المستهدف سلاحا بالاختيار. ففي لبنان الشهر الماضي استهدفت اسرائيل ملجأ كان المسؤولون الاسرائيليون يعتقدون انه يضم قيادة حزب الله ودكوه بـ 23 طنا من المتفجرات. وقال حالوتس في مقابلة معه ان قائمة التصفيات الخاصة تضم 15 اسما.
كما ان هذه الطريقة هي الأكثر تعقيدا من الناحية الأخلاقية، فمنذ بداية 2006 استهدفت اسرائيل وقتلت 18 مقاتلا فلسطينيا وفقا لما ذكرته بيتيسلم، وهي منظمة اسرائيلية لحقوق الانسان، قالت ان 15 مدنيا قتلوا ايضا.
وقال الجنرال اموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية «نحن نواجه مأزقا مأساويا. ارهابي يروم الدخول الى مطعم ليفجر ما يصل الى 20 شخصا، ولكن اذا ما فجرنا سيارته فان ثلاثة أشخاص أبرياء في السيارة سيموتون، كيف نفسر الأمر لأنفسنا؟».
وروى يادلين انه في احد الصباحات في عام 2002 «استيقظ مرعوبا» ليعلم أن 15 مدنيا فلسطينيا كانوا قد قتلوا في عملية. وفي تلك الظهيرة اتصل يادلين بأستاذ الفلسفة أسا كاشير وبدأ العمل على ارشادات اخلاقية بشأن محاربة الارهاب، كما انهما طلبا من أحد المختصين بالرياضيات ان يكتب صيغة تحدد العدد المقبول للضحايا المدنيين مقابل كل ارهابي تجري تصفيته.
وفي اليوم السادس من سبتمبر بعد عام من ذلك عندما توفرت لاسرائيل فرصة تدمير قيادة حماس تصادم المسؤولون الأمنيون بشدة حول نتائج حساب الاغتيال. فقد اتخذ مسؤولان كبيران في مجال مكافحة الارهاب مواقف معارضة. ودفع أفي ديشتر، الذي كان مدير شين بيت، وهي وكالة الأمن الداخلي الاسرائيلي، باتجاه هجوم شامل ضد اجتماع حماس.
ولكن بالنسبة ليعالون، رئيس الأركان في الفترة من عام 2002 حتى عام 2005، فان وصية التلمود التي تقول «اذا جاء ليقتلك اقتله أولا» كانت تتعارض مع وصية التوراة التي تقول «يتعين عليك أن لا تقتل».
وبعد ثلاث سنوات كان الأشخاص منغمرين في الجدل. وقال ديشتر في ندوة عقدت في ديسمبر (كانون الاول) عام 2005 في معهد واشنطن للسياسة الخاصة بالشرق الأدنى، وهو يلقي نظرة حادة على يعالون «ما زالت المسألة مفتوحة بيننا، ولم تجر تسويتها». وبعد ذلك، وفي مقابلة معه كان يعالون يحدق من النافذة ويقول بحسرة «ليست هناك اجابات مرضية». وكرئيس للأركان كان يعالون يحمل «دفتر ملاحظات». وتؤخذ الأهداف من مجموعة من الأسماء في الدفتر، وهي مجموعة تحتوي على ما يتراوح بين 300 الى ألف رجل مطلوب، كما قال. وكل جماعة متطرفة تحمل لونا مشفرا، أحمر أو أسود أو أخضر. وعندما كان يضرب هدف يضع يعالون علامة شطب على الصفحة، وقال «عندما اوقع الأوامر ترتعش يدي». وقال ديشتر وهو يقرأ المعلومات الاستخباراتية ان «هذا مستحيل». كان الوقت صباح الجمعة يوم الخامس من سبتمبر عام 2003. وقد تسلم ديشتر باليد تقريرا سريا يشير الى أن كبار صانعي القنابل في حماس والمخططين والمطورين لصاروخ القسام سيجتمعون في اليوم التالي. وكانوا قد احاطوا انفسهم بأطفال ويعيشون في سراديب ولا يتحركون الا في الليل وتوقفوا عن استخدام السيارات أو الهواتف. وتذكر ديشتر مفكرا باجتماعهم «لماذا يغامرون بذلك ؟ نرتاب في أن يكون ذلك صحيحا».
ثم اتصل مصدر آخر مؤكدا الاجتماع. وأعد ديشتر فريق عمل من خبراء تنصت وتقنيي طائرات استطلاع ومخبرين فلسطينيين، وقال «افصلوا الاشارة عن الضوضاء». كما قام ديشتر بابلاغ يعالون، رئيس الأركان، الذي اتصل بشاؤول موفاز، الذي كان وزير الدفاع في حينه. وطلب يعالون من موفاز إذنا بالتخطيط لتوجيه ضربة. وقال موفاز متذكرا انه أبلغ يعالون «هذه فرصة لا تتكرر في الحياة، أصادق على ذلك». ولكن موفاز رأى الخرائط، وكان الحي عصيا على الاختراق، وقال «قلت له كيف ستفعل ذلك؟».
وفي مكتب رئيس الوزراء ابلغ الجنرال يوعاف غالانت، السكرتير العسكري، ارييل شارون رئيس الحكومة ساعتها. وقال غالانت ان رئيس الوزراء ضرب الطاولة براحة يده وقال آمرا «اقتلوهم، هذه هي العملية الأهم». وكانت بالنسبة ليعالون عملية نشأت عن اجتماع سابق مع رئيس وزراء سابق. ففي خريف عام 2000 عندما اندلع العنف الفلسطيني الاسرائيلي قدم يعالون فكرة لرئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك. وبدلا من فرض تقييدات على كل الفلسطينيين يتعين ان يبدأوا «عمليات جراحية» ضد الارهابيين. واقترح يعالون تشكيل موقع قيادة مشترك لشين بيت والجيش. وقال باراك في مقابلة معه «انه لم يكن شيئا جديدا، فقد كنا في هذا العمل». وفي عام 1973، وفي بيروت، وكان يرتدي الكعب العالي وباروكة نسائية ساعد باراك على قتل ثلاثة من الفلسطينيين الذين قتلوا 11 رياضيا اسرائيليا في أولمبياد ميونيخ. وقال باراك مبتسما «كنت مثل امرأة شقراء يتدلى شعرها خلفها».
وكرئيس للأركان في أوائل التسعينات نظم باراك وحدات سرية سميت «الكرز» و«شمشون»، وتضم جنودا يرتدون ملابس مثل العرب ويقتلون الفلسطينيين المشتبه في مشاركتهم بالعنف. وعندما نشط باراك القتل المستهدف عام 2000، كما قال «كانت العمليات الأولى ملحة، ولكنني بعد ذلك قلت اننا بحاجة الى قواعد». وكانت قواعد المشاركة للمنتقمين من مذبحة ميونيخ عام 1972. كما طلب باراك سرا من دانيل رايزنر، وهو مستشار قانوني لمحادثات السلام العربية الاسرائيلية، ان يحدد ما اذا كان القتل المستهدف قانونيا. وكان رايزنر يشعر بالأسى لفترة ستة اسابيع. وقال متذكرا «كان احساس من يتساءل: ما الذي يجري بحق السماء ؟ بدلا من دولتين تعيشان بوئام جنبا الى جنب يتعين على أن اصوغ أفكارا حول كيف ومتى نقتل بعضنا بعضا».
وتوصل رايزنر الى نتيجة انها قانونية، مع ستة شروط: ان يكون الاعتقال مستحيلا، وأن الهداف هم من المقاتلين، وان يصادق كبار المسؤولين في الحكومة على كل هجوم، وان تكون اصابات المدنيين في اقل نطاق، وان تكون العمليات محدودة في مناطق ليست تحت السيطرة الاسرائيلية، وأن يجري تشخيص الأهداف باعتبارها تشكل تهديدا مستقبليا. وعلى خلاف الأحكام بالسجن فان اعمال القتل المستهدف لا يمكن ان تعتبر عقوبة على سلوك سابق حسب قول رايزنر. وفي عام 2002 قالت هيئة عسكرية ان الاستهداف لا يمكن أن يكون للانتقام، وانما للردع فقط. وقال احد اعضاء الهيئة ان الأمر تطلب ستة أشهر و20 اجتماعا للتوصل الى تلك النتيجة.
وبحلول وقت الغداء يوم الخامس من سبتمبر (ايلول) 2003 ضيقت شبكة استخبارات ديشتر موقع قمة حماس. وكان هناك اثنان فقط من أعضاء حماس ممن يوثق بهم الى حد كاف من جانب القيادة لاستضافة الاجتماع، أحدهما يعيش في بيت خاص، والآخر في شقة بمبنى من 12 طابقا. وكان الوقت الثامنة مساء عندما اتصل ديشتر بنداء يخص المؤتمر. قال وزير الدفاع موفاز لزوجته واطفاله الأربعة مساء الجمعة، بينما توجه الى رفع الهاتف الرمادي المشفر «سأعود خلال دقائق». وقال يعالون، على نداء المؤتمر أيضا، ان القوة الجوية تعد خطة تحت اسم «عملية الترس الآلي». وقام موفاز بابلاغ ديشتر ويعالون «غدا قد يكون يوما تاريخيا» بحلول الساعة السادسة صباحا يوم السادس من سبتمبر كان ديشتر يقود سيارته الى مركز القيادة، وهو غرفة بدون نوافذ تلتمع بشاشات كومبيوترية.
وقال متذكرا «كانت المعلومات الاستخباراتية جيدة وكان المزاج طيبا». وقال ديشتر انه بملاحقة شاحنات التسليم والحرس المتابعين قرر الوكلاء الاسرائيليون ان اجتماع حماس سيكون في بيت العائلة المستقل، وليس في الشقة الواقعة في المبنى المؤلف من 12 طابقا. وشعر ديشتر بالارتياح. وكان المهندسون يتابعون التحليلات الكومبيوترية لاعداد البيت للتدمير، مقيمين الاسمنت والبناء وحجم الغرف.
واستيقظ يعالون ايضا مبكرا وقلقا. واذا كان ديشتر يميل الى الحدس فان يعالون كان يميل الى التحليل. وألقى بنفسه وسط أمواج البحر الأبيض المتوسط. وسبح الى مسافة نصف ميل، وكان يتأمل قرارات اليوم. وقال يعالون «ابقيت رأسي مشغولا عبر الأوكسجين النقي».
وفي كل يوم تقريبا كان على يعالون أن يقرر من سيحيا ومن سيموت. وقال يعالون «من هو القنبلة الموقوتة؟ هل يمكننا اعتقاله؟ من الذي يشكل أولوية، هذا الشخص اولا ام ذاك الشخص؟» ومرة واحدة في الأسبوع كانت الاستخبارات العسكرية وشين بيت تقترحان اسماء جديدة. وفي البداية كانت القائمة مقتصرة على المفجرين، ولكن بعد سنوات عدة توسعت لتضم أولئك الذين يصنعون القنابل والذين يخططون الهجمات.
وقال يعالون «كنت اسميهم الأعشاب المقطوعة. كنت أحفظ اسماءهم عن ظهر القلب. كم قتل ؟ المئات والمئات. كنت أعرفهم. كانت لدي كل التفاصيل مع صورهم والخرائط والمعلومات على الطاولة. أين يعيش؟ ما هو روتينه اليومي؟ هل هو متزوج؟ كم من الأطفال لديه؟ اذا كان لديه كثير من الأطفال فان ذلك يقلق ذهني».
وقال يعالون انه من الصعب سبر الأغوار «بات عملا يوميا متكررا ان تحدق في عيونهم في الصور. في بعض الحالات لا يمكنك ان تصدق. انه يبدو ساذجا جدا، وشابا يبدو طيبا، وله وجه طفولي، خصوصا الانتحاري الذي يبلغ عمره 16 عاما. انه شيء ابعد من حدود المخيلة».
حينما يوافق رئيس الوزراء على هدف ما ينقل الاسم من «دفتر الملاحظات» إلى بطاقة مطبوع عليها قائمة بالمعنيين. ويحمل آمرو الوحدات البطاقة في جيوبهم مع بطاقات تذاكر الحافلات والمفاتيح. وكل هدف يحتل ملفا مع تعليمات تتعلق متى وأين يمكن قتله. ويضع الخبراء إشارات توضيحية على الخرائط حيث تكون الخطوط الخضراء للطرق المفتوحة حيث يقلل القتل من الأضرار التي تلحق بالمدنيين والخطوط الحمراء هي للمناطق المكتظة والتي يجب تجنبها، حسبما قال يعالون. ويمكن استخدام 200 شخص لتنفيذ عملية اغتيال وآلاف الساعات وتكاليف تصل إلى مليون دولار حسبما قال حالوتس. في صبيحة يوم السبت، 6 سبتمبر، 2003 كانت ست طائرات اف ـ16 تنتظر بالقرب من ساحل غزة. وكان موفاز وزير الدفاع جالسا في مكتبه وبدل قناة التلفزيون من سي أن أن إلى تصوير حي لغزة من طائرة استطلاع بلا طيار. وعند الظهر وصل عدد من قادة حماس إلى بيت مروان أبو راس وهو استاذ متدين وناشط في حماس أيضا. امتدت الكاميرات الإسرائيلية لتلتقط التفاصيل. وقال موفاز متذكرا «البعض جاء على قدميه وآخرون بالسيارات، بعضهم أوقف سيارته بعيدا عن المكان ومشوا. كانوا يغطون وجوههم بالكوفيات ويرتدون ملابس خفيفة كي يصعب تعقبهم. اتصل عميل شين بيت في مركز القيادة مؤكدا هوية المجتمعين «إنهم الأشخاص الذين نطاردهم منذ سنوات»، قال غابي اشكنازي وكيل يعالون آنذاك. تذكر يعلون «انا توترت للأسماء هناك محمد ضيف وهنا عدنان الغول وهنا اسماعيل هنية». اتصل غالانت مستشار رئيس الوزراء بشارون في مزرعته وأخبره بأن هناك تجمعا فوق العادة يجرى آنذاك. سأل شارون الذي كان يحضر حفلة عيد ميلاد حفيده السادس «هل الطائرات جاهزة».
في غزة وصل آخر عضو من حماس في سيارة صالون بيضاء. كان ديشتر نفسه قد أوقفه مرتين. قال «بيدي هاتين» رفع أصابع متينة ومتصلبة إلى الأعلى. إنه الشيخ أحمد ياسين زعيم حماس الروحي. وحال اختفاء كرسيه المتحرك داخل البيت أطلق عميل على الشيخ اسمه المشفر لدى شين بيت «الجثة». قال يعالون للآمر الجوي «مستعدون؟»..لا إصابات بين المدنيين.
كان يعالون يوجه العملية هاتفيا من غرفة نومه حيث جلس مرتديا بذلة رياضية زرقاء ويسجل ملاحظات. كان آمر القوة الجوية على الخط، يقيّم مدى تأثير القنبلة وقال إن هناك مشكلة واحدة. القنبلة ذات النصف طن لن تكمل المهمة. أما القنبلة التي وزنها طن فستدمر مبنى الشقق المجاور المملوء بالعائلات.
بدأ ديشتر ويعلون مباشرة بالجدل. كان ديشتر يفضل قنبلة ثقيلة بينما كان يعلون يريد إلغاء العملية. وكلا الشخصين يعملان منذ عقود معا في مكافحة «الإرهاب» وعملا في وحدة كوماندو سرية واحدة وسافرا «معا بدون جوازات سفر إلى أعماق الأراضي العربية» كما يقول ديشتر.
استمر النقاش عدة ساعات وقال المراقبون إن الجدل أصبح أكثر صخبا. اصطف غالانت مستشار رئيس الوزراء مع ديشتر بينما اصطف وزير الدفاع مع يعلون، وقال ديشتر متذكرا «إذا لم يكن لديك قلب قوي فستصاب بسكتة قلبية».
حدث مرة واحدة حسبما قال يعلون حينما منح الإذن بإلقاء قنبلة وزنها طن لقتل صلاح شحادة على الرغم من أنه يعرف أن ذلك سيقتل زوجته أيضا. وكان شحادة قد ساعد على تأسيس الجناح العسكري لحماس. وتأكد من مسؤوليته في قتل 16 جنديا و220 مدنيا إسرائيليا. وفي عام 2002 ألقى السلاح الجوي قنبلة وزنها طن على بيته وأدى الانفجار إلى تحطيم البيت المجاور له وكانت المعلومات التي تسلمها يعلون تقول إن البيت المجاور فارغ. وقتل 15 مدنيا بمن فيهم تسعة أطفال. وقال يعالون إنه شعر «كأن شيئا ثقيلا سقط على قلبي». وقال إن الضحايا الذين قتلوا نتيجة لتفجير بيت شحادة يوم 6 سبتمبر 2003 أثروا على تفكيره لكن حياة امه كان لها دور أكبر. فأم يعلون هي من الناجين من المحرقة النازية «الهولوكوست» وكانت الوحيدة من اسرتها التي لم تُقتل على يد النازيين. ولم تتكلم قط حول ذلك، مع ذلك فإن يعلون تعلم الدرس كاملا منها.
وقال يعالون «انا تعلمت منها: تذكر ولا تنس. أنا شربته مثل شربي لحليبها. إنه يعني أن اليهود يجب ألا يُقتلوا لكن أيضا يعني أننا يجب ألا نقتل الآخرين. أنت بحاجة للقوة للدفاع عن إسرائيل، بينما من جانب آخر، عليك أن تكون انسانا، هذا هو التوتر، وثقل اتخاذ القرار».
في يوم 6 سبتمبر شعر يعالون بأنه غير سعيد حينما فضل رئيس الوزراء توصيته على توصية ديشتر: إلغاء المهمة. أوقف شارون الهجوم الهادف إلى قطع رأس حماس، لأن شارون طلب حسبما قال يعلون ألا تكون «هناك أية خسائر بين المدنيين». لكن ديشتر كان غاضبا، وقال «أنا لن أسمح بذلك. إنه قرار غير حرفي ومضر». اتصل ديشتر برئيس الوزراء قائلا له «إنه خطأ كبير جدا. علينا أن نرمي القنبلة على هذا البيت. فقادة الإرهابيين لن يجتمعوا مرة أخرى بهذا الشكل». قال شارون: «حاول أن تقنع موفاز». قال ديشتر متذكرا إنه قام بعدد من المكالمات «شعرت كأنني طفل مكبوح عليه أن يقاتل ضد كل الناس». وفي يوم 6 سبتمبر ومع اقتراب صلاة العصر شعر ديشتر إن فرصته راحت تفلت من يده وأضاف «كانت أجهزة تجسسنا تراقب البيت وفي أية دقيقة كان ممكنا للاجتماع ان ينتهي».
ثم قدم عميل في الاستخبارات معلومة مهمة. يتكون البيت من ثلاثة طوابق. وكانت الستائر مغلقة في الطابق الثالث. لعل قادة حماس كانوا يجتمعون هناك؟
اتصل غالانت مستشار رئيس الوزراء بشارون مع خطة معدلة من يعلون: القوة الجوية قادرة على رمي قنبلة بربع طن لتدمير الطابق الثالث وإبقاء المدنيين في البيت المجاور أحياء. قال غالانت متذكرا: «كنت أسمع ضحكات الأطفال في الخلفية» كان شارون وسط حفلة عيد ميلاد أحد أحفاده، «ما رأيك؟» سأله غالانت فجاء جواب شارون: «موافق».
وخلال دقيقتين أسقطت طائرة إف ـ16 قنبلة فوق بيت أبوعدس في غزة. كان البيت محاطا بمباني شقق. وفي الغرفة الحربية كان حالوتس قائد القوات الجوية يراقب فيلما صورته طائرة بلا طيارين عن الهجوم. كان الجنرال مايكل هيرزوغ سكرتير موفاز العسكري يتحدث إلى وزير الدفاع هاتفيا: «نحن قمنا بالعمل، ضربة مباشرة». قال هيرزوغ. وبعد دقيقة تابع «النتائج غير واضحة». ثم بعد دقيقة أخرى: «يبدو أن الأشخاص تمكنوا من الهرب أحياء». قال ديكتر: «نحن كنا نراقب أشخاصا يهربون من البيت أسرع من عدائي البطولات الاولمبية».
بالنسبة لأبوراس أحد قياديي حماس الذي ضرب بيته «كان أشبه بزلزال ترك وراءه دخانا أسود وكثيرا» حسبما قال في مقابلة جرت معه. كان ضيوفه جالسين حول المائدة يتناولون الغداء. وقال أبوراس «كنت فرحا باستضافتهم. ماذا كانت جريمتنا؟ أنا مواطن عادي لا إرهابي. وليس هناك ارهابيون في الشعب الفلسطيني».
كان هنية يقدم الرز للشيخ ياسين ثم وقع الانفجار الذي هز الغرفة ما دفعه إلى التساؤل وهو ينظر إلى السقف: «لماذا كل هذا الغبار؟ من أين يخرج؟». وجرح الشيخ ياسين جرحا بسيطا في يده إضافة إلى عضو في حماس واثني عشر جارا. ضحك هنية بمرارة «شيخ، نحن ضُربنا».
لكن الرجال اجتمعوا حول الطابق الأرضي للبيت، إذ دمرت قنبلة ربع الطن ثلث البيت. ونجت زوجة أبوراس واطفالها الأربعة الذين كانوا في الطابق الثاني وخرجت قيادة حماس سالمة.
قتل الإسرائيليون غول في اكتوبر 2004 والشيخ ياسين في مارس 2004. وقال جنرال إسرائيلي «رمينا صاروخا في حضنه». واشترى أبوراس بيتا جديدا. وفي يوليو نجا محمد ضيف صانع القنابل في حماس من هجوم آخر. وفي فبراير انتخب هنية رئيسا لوزراء السلطة الفلسطينية. قال حالوتس «حينما أشاهد هنية أسأل نفسي كيف نجا؟». وأضاف «بعد ثلاثة أعوام ما زلت أقول كان علينا استخدام أثقل قنبلة لضمان إبادة القيادة برمتها ولإنقاذ حياة الفلسطينيين والإسرائيليين». وقال ديكتر «ثلاثة نجاحات أخلاقية تساوي نجاحا ميدانيا واحدا، نحن فشلنا». ومنذ غادر ديشتر شين بيت صعد سياسيا وهو اليوم يحتل موقع وزير الأمن الداخلي. وضربت صواريخ حماس بيته في مدينة قريبة من غزة. أما يعالون رئيس الأركان في عام 2003 فهو يفكر بالانتماء إلى حزب الليكود باعتباره مرشحا عنه لمنصب وزير الدفاع. ويتردد في إسرائيل أن أحد أسباب إقصائه عن منصبه هو إعلانه الرسمي عن أن انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 سيؤول إلى حرب أخرى.
* «واشنطن بوست»
جلس اعلى قائد عسكري اسرائيلي على حافة سريره وهو يتحدث بالهاتف ويمسح جبهته. كان باب غرفة النوم مغلقا، ليبعد اصوات يوم السبت وقهقهات أطفاله وهم يتناولون الغداء. وكان رئيس اركانه على الجانب الآخر من الخط الرمادي الآمن، الذي كان يرن بصورة اعلى وأكثر حدة ويجعل قلبه يخفق بسرعة. جاء التقرير من غرفة الحرب: القنبلة سقطت.
كان الجنرال موشيه يعالون يحدق في أرضية الغرفة ويعمل على اعداد خطتين: الأولى في حالة قتل العناصر الفلسطينية المستهدفة، والثانية في حالة بقائهم على قيد الحياة. والقنبلة سقطت من طائرة اف 16 اسرائيلية كانت محلقة على ارتفاع 10 آلاف قدم، وسقطت على بيت فلسطيني في قطاع غزة، حيث كان ضيوف جالسين يتناولون الرز والدجاج. وكان يعالون يأمل في أن تكون تلك آخر وجبة لهم. كان ذلك يوم السادس من سبتمبر (ايلول) عام 2003، وهو، وقت حرب مفتوحة، يشبه الحال اليوم كثيرا، بين اسرائيل وحماس. فقد كان ثمانية من قادة حماس مجتمعين للتخطيط لهجوم وفقا لتقارير الاستخبارات الاسرائيلية.
وقال الجنرال دان حالوتس، الذي كان قائدا للقوة الجوية في حينه، وهو الآن رئيس اركان الجيش الاسرائيلي «كان اجتماعا شبيها باجتماعات بن لادن والزرقاوي والظواهري، وامتلاك القدرة على توجيه ضربة لهم».
وكان قادة حماس مجتمعين في بيت سري، في حي مزدحم بالسكان، عندما كان الأطفال خارج المدارس. وكانت الضربة الكبيرة تعني وقوع ضحايا مدنيين. وقال حالوتس، الذي اشار الى أنه اشرف على ما يتراوح بين 80 الى 100 عملية قتل مستهدفة باعتباره قائدا للقوة الجوية، انه «تعين علينا أن نقرر ما اذا كنا سنضربهم أم لا بمعدل نجاح بلغ 90 في المائة».
وفي اسرائيل بات القتل المستهدف سلاحا بالاختيار. ففي لبنان الشهر الماضي استهدفت اسرائيل ملجأ كان المسؤولون الاسرائيليون يعتقدون انه يضم قيادة حزب الله ودكوه بـ 23 طنا من المتفجرات. وقال حالوتس في مقابلة معه ان قائمة التصفيات الخاصة تضم 15 اسما.
كما ان هذه الطريقة هي الأكثر تعقيدا من الناحية الأخلاقية، فمنذ بداية 2006 استهدفت اسرائيل وقتلت 18 مقاتلا فلسطينيا وفقا لما ذكرته بيتيسلم، وهي منظمة اسرائيلية لحقوق الانسان، قالت ان 15 مدنيا قتلوا ايضا.
وقال الجنرال اموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية «نحن نواجه مأزقا مأساويا. ارهابي يروم الدخول الى مطعم ليفجر ما يصل الى 20 شخصا، ولكن اذا ما فجرنا سيارته فان ثلاثة أشخاص أبرياء في السيارة سيموتون، كيف نفسر الأمر لأنفسنا؟».
وروى يادلين انه في احد الصباحات في عام 2002 «استيقظ مرعوبا» ليعلم أن 15 مدنيا فلسطينيا كانوا قد قتلوا في عملية. وفي تلك الظهيرة اتصل يادلين بأستاذ الفلسفة أسا كاشير وبدأ العمل على ارشادات اخلاقية بشأن محاربة الارهاب، كما انهما طلبا من أحد المختصين بالرياضيات ان يكتب صيغة تحدد العدد المقبول للضحايا المدنيين مقابل كل ارهابي تجري تصفيته.
وفي اليوم السادس من سبتمبر بعد عام من ذلك عندما توفرت لاسرائيل فرصة تدمير قيادة حماس تصادم المسؤولون الأمنيون بشدة حول نتائج حساب الاغتيال. فقد اتخذ مسؤولان كبيران في مجال مكافحة الارهاب مواقف معارضة. ودفع أفي ديشتر، الذي كان مدير شين بيت، وهي وكالة الأمن الداخلي الاسرائيلي، باتجاه هجوم شامل ضد اجتماع حماس.
ولكن بالنسبة ليعالون، رئيس الأركان في الفترة من عام 2002 حتى عام 2005، فان وصية التلمود التي تقول «اذا جاء ليقتلك اقتله أولا» كانت تتعارض مع وصية التوراة التي تقول «يتعين عليك أن لا تقتل».
وبعد ثلاث سنوات كان الأشخاص منغمرين في الجدل. وقال ديشتر في ندوة عقدت في ديسمبر (كانون الاول) عام 2005 في معهد واشنطن للسياسة الخاصة بالشرق الأدنى، وهو يلقي نظرة حادة على يعالون «ما زالت المسألة مفتوحة بيننا، ولم تجر تسويتها». وبعد ذلك، وفي مقابلة معه كان يعالون يحدق من النافذة ويقول بحسرة «ليست هناك اجابات مرضية». وكرئيس للأركان كان يعالون يحمل «دفتر ملاحظات». وتؤخذ الأهداف من مجموعة من الأسماء في الدفتر، وهي مجموعة تحتوي على ما يتراوح بين 300 الى ألف رجل مطلوب، كما قال. وكل جماعة متطرفة تحمل لونا مشفرا، أحمر أو أسود أو أخضر. وعندما كان يضرب هدف يضع يعالون علامة شطب على الصفحة، وقال «عندما اوقع الأوامر ترتعش يدي». وقال ديشتر وهو يقرأ المعلومات الاستخباراتية ان «هذا مستحيل». كان الوقت صباح الجمعة يوم الخامس من سبتمبر عام 2003. وقد تسلم ديشتر باليد تقريرا سريا يشير الى أن كبار صانعي القنابل في حماس والمخططين والمطورين لصاروخ القسام سيجتمعون في اليوم التالي. وكانوا قد احاطوا انفسهم بأطفال ويعيشون في سراديب ولا يتحركون الا في الليل وتوقفوا عن استخدام السيارات أو الهواتف. وتذكر ديشتر مفكرا باجتماعهم «لماذا يغامرون بذلك ؟ نرتاب في أن يكون ذلك صحيحا».
ثم اتصل مصدر آخر مؤكدا الاجتماع. وأعد ديشتر فريق عمل من خبراء تنصت وتقنيي طائرات استطلاع ومخبرين فلسطينيين، وقال «افصلوا الاشارة عن الضوضاء». كما قام ديشتر بابلاغ يعالون، رئيس الأركان، الذي اتصل بشاؤول موفاز، الذي كان وزير الدفاع في حينه. وطلب يعالون من موفاز إذنا بالتخطيط لتوجيه ضربة. وقال موفاز متذكرا انه أبلغ يعالون «هذه فرصة لا تتكرر في الحياة، أصادق على ذلك». ولكن موفاز رأى الخرائط، وكان الحي عصيا على الاختراق، وقال «قلت له كيف ستفعل ذلك؟».
وفي مكتب رئيس الوزراء ابلغ الجنرال يوعاف غالانت، السكرتير العسكري، ارييل شارون رئيس الحكومة ساعتها. وقال غالانت ان رئيس الوزراء ضرب الطاولة براحة يده وقال آمرا «اقتلوهم، هذه هي العملية الأهم». وكانت بالنسبة ليعالون عملية نشأت عن اجتماع سابق مع رئيس وزراء سابق. ففي خريف عام 2000 عندما اندلع العنف الفلسطيني الاسرائيلي قدم يعالون فكرة لرئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك. وبدلا من فرض تقييدات على كل الفلسطينيين يتعين ان يبدأوا «عمليات جراحية» ضد الارهابيين. واقترح يعالون تشكيل موقع قيادة مشترك لشين بيت والجيش. وقال باراك في مقابلة معه «انه لم يكن شيئا جديدا، فقد كنا في هذا العمل». وفي عام 1973، وفي بيروت، وكان يرتدي الكعب العالي وباروكة نسائية ساعد باراك على قتل ثلاثة من الفلسطينيين الذين قتلوا 11 رياضيا اسرائيليا في أولمبياد ميونيخ. وقال باراك مبتسما «كنت مثل امرأة شقراء يتدلى شعرها خلفها».
وكرئيس للأركان في أوائل التسعينات نظم باراك وحدات سرية سميت «الكرز» و«شمشون»، وتضم جنودا يرتدون ملابس مثل العرب ويقتلون الفلسطينيين المشتبه في مشاركتهم بالعنف. وعندما نشط باراك القتل المستهدف عام 2000، كما قال «كانت العمليات الأولى ملحة، ولكنني بعد ذلك قلت اننا بحاجة الى قواعد». وكانت قواعد المشاركة للمنتقمين من مذبحة ميونيخ عام 1972. كما طلب باراك سرا من دانيل رايزنر، وهو مستشار قانوني لمحادثات السلام العربية الاسرائيلية، ان يحدد ما اذا كان القتل المستهدف قانونيا. وكان رايزنر يشعر بالأسى لفترة ستة اسابيع. وقال متذكرا «كان احساس من يتساءل: ما الذي يجري بحق السماء ؟ بدلا من دولتين تعيشان بوئام جنبا الى جنب يتعين على أن اصوغ أفكارا حول كيف ومتى نقتل بعضنا بعضا».
وتوصل رايزنر الى نتيجة انها قانونية، مع ستة شروط: ان يكون الاعتقال مستحيلا، وأن الهداف هم من المقاتلين، وان يصادق كبار المسؤولين في الحكومة على كل هجوم، وان تكون اصابات المدنيين في اقل نطاق، وان تكون العمليات محدودة في مناطق ليست تحت السيطرة الاسرائيلية، وأن يجري تشخيص الأهداف باعتبارها تشكل تهديدا مستقبليا. وعلى خلاف الأحكام بالسجن فان اعمال القتل المستهدف لا يمكن ان تعتبر عقوبة على سلوك سابق حسب قول رايزنر. وفي عام 2002 قالت هيئة عسكرية ان الاستهداف لا يمكن أن يكون للانتقام، وانما للردع فقط. وقال احد اعضاء الهيئة ان الأمر تطلب ستة أشهر و20 اجتماعا للتوصل الى تلك النتيجة.
وبحلول وقت الغداء يوم الخامس من سبتمبر (ايلول) 2003 ضيقت شبكة استخبارات ديشتر موقع قمة حماس. وكان هناك اثنان فقط من أعضاء حماس ممن يوثق بهم الى حد كاف من جانب القيادة لاستضافة الاجتماع، أحدهما يعيش في بيت خاص، والآخر في شقة بمبنى من 12 طابقا. وكان الوقت الثامنة مساء عندما اتصل ديشتر بنداء يخص المؤتمر. قال وزير الدفاع موفاز لزوجته واطفاله الأربعة مساء الجمعة، بينما توجه الى رفع الهاتف الرمادي المشفر «سأعود خلال دقائق». وقال يعالون، على نداء المؤتمر أيضا، ان القوة الجوية تعد خطة تحت اسم «عملية الترس الآلي». وقام موفاز بابلاغ ديشتر ويعالون «غدا قد يكون يوما تاريخيا» بحلول الساعة السادسة صباحا يوم السادس من سبتمبر كان ديشتر يقود سيارته الى مركز القيادة، وهو غرفة بدون نوافذ تلتمع بشاشات كومبيوترية.
وقال متذكرا «كانت المعلومات الاستخباراتية جيدة وكان المزاج طيبا». وقال ديشتر انه بملاحقة شاحنات التسليم والحرس المتابعين قرر الوكلاء الاسرائيليون ان اجتماع حماس سيكون في بيت العائلة المستقل، وليس في الشقة الواقعة في المبنى المؤلف من 12 طابقا. وشعر ديشتر بالارتياح. وكان المهندسون يتابعون التحليلات الكومبيوترية لاعداد البيت للتدمير، مقيمين الاسمنت والبناء وحجم الغرف.
واستيقظ يعالون ايضا مبكرا وقلقا. واذا كان ديشتر يميل الى الحدس فان يعالون كان يميل الى التحليل. وألقى بنفسه وسط أمواج البحر الأبيض المتوسط. وسبح الى مسافة نصف ميل، وكان يتأمل قرارات اليوم. وقال يعالون «ابقيت رأسي مشغولا عبر الأوكسجين النقي».
وفي كل يوم تقريبا كان على يعالون أن يقرر من سيحيا ومن سيموت. وقال يعالون «من هو القنبلة الموقوتة؟ هل يمكننا اعتقاله؟ من الذي يشكل أولوية، هذا الشخص اولا ام ذاك الشخص؟» ومرة واحدة في الأسبوع كانت الاستخبارات العسكرية وشين بيت تقترحان اسماء جديدة. وفي البداية كانت القائمة مقتصرة على المفجرين، ولكن بعد سنوات عدة توسعت لتضم أولئك الذين يصنعون القنابل والذين يخططون الهجمات.
وقال يعالون «كنت اسميهم الأعشاب المقطوعة. كنت أحفظ اسماءهم عن ظهر القلب. كم قتل ؟ المئات والمئات. كنت أعرفهم. كانت لدي كل التفاصيل مع صورهم والخرائط والمعلومات على الطاولة. أين يعيش؟ ما هو روتينه اليومي؟ هل هو متزوج؟ كم من الأطفال لديه؟ اذا كان لديه كثير من الأطفال فان ذلك يقلق ذهني».
وقال يعالون انه من الصعب سبر الأغوار «بات عملا يوميا متكررا ان تحدق في عيونهم في الصور. في بعض الحالات لا يمكنك ان تصدق. انه يبدو ساذجا جدا، وشابا يبدو طيبا، وله وجه طفولي، خصوصا الانتحاري الذي يبلغ عمره 16 عاما. انه شيء ابعد من حدود المخيلة».
حينما يوافق رئيس الوزراء على هدف ما ينقل الاسم من «دفتر الملاحظات» إلى بطاقة مطبوع عليها قائمة بالمعنيين. ويحمل آمرو الوحدات البطاقة في جيوبهم مع بطاقات تذاكر الحافلات والمفاتيح. وكل هدف يحتل ملفا مع تعليمات تتعلق متى وأين يمكن قتله. ويضع الخبراء إشارات توضيحية على الخرائط حيث تكون الخطوط الخضراء للطرق المفتوحة حيث يقلل القتل من الأضرار التي تلحق بالمدنيين والخطوط الحمراء هي للمناطق المكتظة والتي يجب تجنبها، حسبما قال يعالون. ويمكن استخدام 200 شخص لتنفيذ عملية اغتيال وآلاف الساعات وتكاليف تصل إلى مليون دولار حسبما قال حالوتس. في صبيحة يوم السبت، 6 سبتمبر، 2003 كانت ست طائرات اف ـ16 تنتظر بالقرب من ساحل غزة. وكان موفاز وزير الدفاع جالسا في مكتبه وبدل قناة التلفزيون من سي أن أن إلى تصوير حي لغزة من طائرة استطلاع بلا طيار. وعند الظهر وصل عدد من قادة حماس إلى بيت مروان أبو راس وهو استاذ متدين وناشط في حماس أيضا. امتدت الكاميرات الإسرائيلية لتلتقط التفاصيل. وقال موفاز متذكرا «البعض جاء على قدميه وآخرون بالسيارات، بعضهم أوقف سيارته بعيدا عن المكان ومشوا. كانوا يغطون وجوههم بالكوفيات ويرتدون ملابس خفيفة كي يصعب تعقبهم. اتصل عميل شين بيت في مركز القيادة مؤكدا هوية المجتمعين «إنهم الأشخاص الذين نطاردهم منذ سنوات»، قال غابي اشكنازي وكيل يعالون آنذاك. تذكر يعلون «انا توترت للأسماء هناك محمد ضيف وهنا عدنان الغول وهنا اسماعيل هنية». اتصل غالانت مستشار رئيس الوزراء بشارون في مزرعته وأخبره بأن هناك تجمعا فوق العادة يجرى آنذاك. سأل شارون الذي كان يحضر حفلة عيد ميلاد حفيده السادس «هل الطائرات جاهزة».
في غزة وصل آخر عضو من حماس في سيارة صالون بيضاء. كان ديشتر نفسه قد أوقفه مرتين. قال «بيدي هاتين» رفع أصابع متينة ومتصلبة إلى الأعلى. إنه الشيخ أحمد ياسين زعيم حماس الروحي. وحال اختفاء كرسيه المتحرك داخل البيت أطلق عميل على الشيخ اسمه المشفر لدى شين بيت «الجثة». قال يعالون للآمر الجوي «مستعدون؟»..لا إصابات بين المدنيين.
كان يعالون يوجه العملية هاتفيا من غرفة نومه حيث جلس مرتديا بذلة رياضية زرقاء ويسجل ملاحظات. كان آمر القوة الجوية على الخط، يقيّم مدى تأثير القنبلة وقال إن هناك مشكلة واحدة. القنبلة ذات النصف طن لن تكمل المهمة. أما القنبلة التي وزنها طن فستدمر مبنى الشقق المجاور المملوء بالعائلات.
بدأ ديشتر ويعلون مباشرة بالجدل. كان ديشتر يفضل قنبلة ثقيلة بينما كان يعلون يريد إلغاء العملية. وكلا الشخصين يعملان منذ عقود معا في مكافحة «الإرهاب» وعملا في وحدة كوماندو سرية واحدة وسافرا «معا بدون جوازات سفر إلى أعماق الأراضي العربية» كما يقول ديشتر.
استمر النقاش عدة ساعات وقال المراقبون إن الجدل أصبح أكثر صخبا. اصطف غالانت مستشار رئيس الوزراء مع ديشتر بينما اصطف وزير الدفاع مع يعلون، وقال ديشتر متذكرا «إذا لم يكن لديك قلب قوي فستصاب بسكتة قلبية».
حدث مرة واحدة حسبما قال يعلون حينما منح الإذن بإلقاء قنبلة وزنها طن لقتل صلاح شحادة على الرغم من أنه يعرف أن ذلك سيقتل زوجته أيضا. وكان شحادة قد ساعد على تأسيس الجناح العسكري لحماس. وتأكد من مسؤوليته في قتل 16 جنديا و220 مدنيا إسرائيليا. وفي عام 2002 ألقى السلاح الجوي قنبلة وزنها طن على بيته وأدى الانفجار إلى تحطيم البيت المجاور له وكانت المعلومات التي تسلمها يعلون تقول إن البيت المجاور فارغ. وقتل 15 مدنيا بمن فيهم تسعة أطفال. وقال يعالون إنه شعر «كأن شيئا ثقيلا سقط على قلبي». وقال إن الضحايا الذين قتلوا نتيجة لتفجير بيت شحادة يوم 6 سبتمبر 2003 أثروا على تفكيره لكن حياة امه كان لها دور أكبر. فأم يعلون هي من الناجين من المحرقة النازية «الهولوكوست» وكانت الوحيدة من اسرتها التي لم تُقتل على يد النازيين. ولم تتكلم قط حول ذلك، مع ذلك فإن يعلون تعلم الدرس كاملا منها.
وقال يعالون «انا تعلمت منها: تذكر ولا تنس. أنا شربته مثل شربي لحليبها. إنه يعني أن اليهود يجب ألا يُقتلوا لكن أيضا يعني أننا يجب ألا نقتل الآخرين. أنت بحاجة للقوة للدفاع عن إسرائيل، بينما من جانب آخر، عليك أن تكون انسانا، هذا هو التوتر، وثقل اتخاذ القرار».
في يوم 6 سبتمبر شعر يعالون بأنه غير سعيد حينما فضل رئيس الوزراء توصيته على توصية ديشتر: إلغاء المهمة. أوقف شارون الهجوم الهادف إلى قطع رأس حماس، لأن شارون طلب حسبما قال يعلون ألا تكون «هناك أية خسائر بين المدنيين». لكن ديشتر كان غاضبا، وقال «أنا لن أسمح بذلك. إنه قرار غير حرفي ومضر». اتصل ديشتر برئيس الوزراء قائلا له «إنه خطأ كبير جدا. علينا أن نرمي القنبلة على هذا البيت. فقادة الإرهابيين لن يجتمعوا مرة أخرى بهذا الشكل». قال شارون: «حاول أن تقنع موفاز». قال ديشتر متذكرا إنه قام بعدد من المكالمات «شعرت كأنني طفل مكبوح عليه أن يقاتل ضد كل الناس». وفي يوم 6 سبتمبر ومع اقتراب صلاة العصر شعر ديشتر إن فرصته راحت تفلت من يده وأضاف «كانت أجهزة تجسسنا تراقب البيت وفي أية دقيقة كان ممكنا للاجتماع ان ينتهي».
ثم قدم عميل في الاستخبارات معلومة مهمة. يتكون البيت من ثلاثة طوابق. وكانت الستائر مغلقة في الطابق الثالث. لعل قادة حماس كانوا يجتمعون هناك؟
اتصل غالانت مستشار رئيس الوزراء بشارون مع خطة معدلة من يعلون: القوة الجوية قادرة على رمي قنبلة بربع طن لتدمير الطابق الثالث وإبقاء المدنيين في البيت المجاور أحياء. قال غالانت متذكرا: «كنت أسمع ضحكات الأطفال في الخلفية» كان شارون وسط حفلة عيد ميلاد أحد أحفاده، «ما رأيك؟» سأله غالانت فجاء جواب شارون: «موافق».
وخلال دقيقتين أسقطت طائرة إف ـ16 قنبلة فوق بيت أبوعدس في غزة. كان البيت محاطا بمباني شقق. وفي الغرفة الحربية كان حالوتس قائد القوات الجوية يراقب فيلما صورته طائرة بلا طيارين عن الهجوم. كان الجنرال مايكل هيرزوغ سكرتير موفاز العسكري يتحدث إلى وزير الدفاع هاتفيا: «نحن قمنا بالعمل، ضربة مباشرة». قال هيرزوغ. وبعد دقيقة تابع «النتائج غير واضحة». ثم بعد دقيقة أخرى: «يبدو أن الأشخاص تمكنوا من الهرب أحياء». قال ديكتر: «نحن كنا نراقب أشخاصا يهربون من البيت أسرع من عدائي البطولات الاولمبية».
بالنسبة لأبوراس أحد قياديي حماس الذي ضرب بيته «كان أشبه بزلزال ترك وراءه دخانا أسود وكثيرا» حسبما قال في مقابلة جرت معه. كان ضيوفه جالسين حول المائدة يتناولون الغداء. وقال أبوراس «كنت فرحا باستضافتهم. ماذا كانت جريمتنا؟ أنا مواطن عادي لا إرهابي. وليس هناك ارهابيون في الشعب الفلسطيني».
كان هنية يقدم الرز للشيخ ياسين ثم وقع الانفجار الذي هز الغرفة ما دفعه إلى التساؤل وهو ينظر إلى السقف: «لماذا كل هذا الغبار؟ من أين يخرج؟». وجرح الشيخ ياسين جرحا بسيطا في يده إضافة إلى عضو في حماس واثني عشر جارا. ضحك هنية بمرارة «شيخ، نحن ضُربنا».
لكن الرجال اجتمعوا حول الطابق الأرضي للبيت، إذ دمرت قنبلة ربع الطن ثلث البيت. ونجت زوجة أبوراس واطفالها الأربعة الذين كانوا في الطابق الثاني وخرجت قيادة حماس سالمة.
قتل الإسرائيليون غول في اكتوبر 2004 والشيخ ياسين في مارس 2004. وقال جنرال إسرائيلي «رمينا صاروخا في حضنه». واشترى أبوراس بيتا جديدا. وفي يوليو نجا محمد ضيف صانع القنابل في حماس من هجوم آخر. وفي فبراير انتخب هنية رئيسا لوزراء السلطة الفلسطينية. قال حالوتس «حينما أشاهد هنية أسأل نفسي كيف نجا؟». وأضاف «بعد ثلاثة أعوام ما زلت أقول كان علينا استخدام أثقل قنبلة لضمان إبادة القيادة برمتها ولإنقاذ حياة الفلسطينيين والإسرائيليين». وقال ديكتر «ثلاثة نجاحات أخلاقية تساوي نجاحا ميدانيا واحدا، نحن فشلنا». ومنذ غادر ديشتر شين بيت صعد سياسيا وهو اليوم يحتل موقع وزير الأمن الداخلي. وضربت صواريخ حماس بيته في مدينة قريبة من غزة. أما يعالون رئيس الأركان في عام 2003 فهو يفكر بالانتماء إلى حزب الليكود باعتباره مرشحا عنه لمنصب وزير الدفاع. ويتردد في إسرائيل أن أحد أسباب إقصائه عن منصبه هو إعلانه الرسمي عن أن انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 سيؤول إلى حرب أخرى.
* «واشنطن بوست»
التعليقات