تقرير سري وخطير : سياسة اسرائيل نحو العراق

تقرير سري وخطير :
الدور الأسرائيلي في العراق ، بين الحقيقة والخيال ..
سليم مطر ـ جنيف
ـ نحن نقرأ التاريخ ، والعرب يتجاهلونه ..
ـ تدمير العراق ، هدف اسرائيل الأول..
ـ درسنا العراق وتاريخه اكثر من العراقيين انفسهم ..
ـ نرجسية صدام ساعدتنا على السيطرة عليه وعلى العراق ..
ـ حرب الكويت انتصارنا التاريخي الذي لم نحلم به..
ـ الدور الخفي للسلاح الروحي السري ((إرادة يهوا)) !
ـ فوجئنا بأن الاكراد اكثر عراقية ، وان الشيعة يمقتون
النظام ولكنهم لا يمقتون السنّة !
ـ تأثيرنا في معارضة الخارج ضعيف ، لأنها ثانوية ومشتتة ..
ـ التطورات الثقافية في العراق والعالم العربي اخطر على اسرائيل من التطورات السياسية والعسكرية !
المقدمة : الفرق بين اسرائيل والعرب
كما هو معلوم ان التاريخ لا يعتمد الصدفة والظروف القدرية ابدا كما يحلو للمهزومين ان يصوروا هذا لتبرير تخاذلهم . ان التاريخ بالحقيقة ماهو الا مزيج مما لايحصى من الارادات المجهولة والمعلومة ، الصغيرة والكبيرة . وان من اول شروط السيطرة على التاريخ والتحكم به ، دراسته ومعرفته . وهذا الذي قمنا نحن به . يمكن القول بكل فخر ان كل ما يمتلكه العراقيون ( والعرب عموما ) من كتب وترجمات عن تاريخهم القديم والحديث لايعادل حتى ربع الذي نمتلكه نحن. ان دراستنا لتاريخ العراق وناس العراق وطبيعتهم وخصوصيتهم ، منحتنا قدرة كبيرة للسيطرة عليه وعلى قادته وعلى تاريخه .
ان الفرق الجوهري بيننا وبين العرب ، اننا نقرأ التاريخ ، وهم يتجاهلونه تماما . لهذا فأن سياستنا لها بعد استراتيجي تاريخي متسلسل وثابت ، بينما سياستهم تكتيكية مترددة متناقضة قصيرة المدى وعرضة سهلة للمؤثرات الداخلية والخارجية . انظر مثلا سياستهم إزاءنا منذ نشوء دولتنا حتى الآن ، كيف انها مترددة متناقضة متقلبة . في البدء رفضوا التقسيم ورفضوا قيام اسرائيل ، وبنفس الوقت تركوا الضفة الغربية تابعة للأردن وغزة لمصر ولم يفكروا باقامة دولة فسطينية! بعد هزيمتهم عام 1967 وخسارتهم للضفة والقطاع والجولان وسيناء ، راحوا يتخبطون بالشعارات الثورية ودعم جماعات منظمة التحرير التي تم ذبحها فيما بعد ، على ايدي العرب انفسهم ، في الاردن ولبنان ! بعدها رفضوا اتفاقات كامب ديفد وإغتالوا السادات واعتبروه خائنا ، ثم هاهم الآن عادوا للمطالبة بأقل مما طالب به السادات ! انها سياسة طفولية بكل معنى الكلمة وتنم عن تخلخل كبير بالشخصية وقلق وعدم نضج نفسي وغموض الأحساس بالهوية . اما نحن ، فلأننا واثقون من انفسنا ومن تاريخنا ومن هويتنا ، فأننا ثابتون على هدفنا : تكوين اسرائيل وجعلها القوى الكبرى المسيطرة على المنطقة ..
سياسة اسرائيل إزاء العراق
كما تعلمون ان دولتنا منذ نهاية الخمسينات بدأت تشكيل مكاتب عديدة كل منها متخصص ببلد عربي من بلدان المواجهة المحيطة بأسرائيل . وفي تلك الفترة ايضا تم تشكيل ( مكتب شؤون العراق ) الذي يتكون طبعا من كوادر يهودية عراقية تم انتقائها بكثير من الصعوبة والحذر ، فكما تعلمون مما يؤسف له ان الكثير من ابناء جاليتنا اليهودية العراقية ظلوا متمسكين بشتتاهم العراقي بصورة عاطفية جدا منعت الكثيرين وحتى الآن من التعاون معنا للعمل ضد بلدهم السابق! لكننا مع كل هذه الصعوبات نجحنا دائمنا بالعثور على العناصر المخلصة والفعالة. طبعا اننا بهذه المناسبة نتذكر باجلال مسؤولنا الراحل ( ك.ن) الذي كرس كل حياته ووقته من اجل تكوين مكتبنا وتطويره ، معتبرا الأمر واجبا وطنيا وهما شخصيا ، بحيث يصح القولبأنه لولاهلما حقق مكتبنا ماحققه من انتصارات ومنجزات لدولتنا ليس لها مثيل لدى باقي المكاتب جمعاء . بل يصح القول من دون اية مبالغة ، وباعتراف جميع مسؤولي دولتنا ، بأن (مكتب شؤون العراق) حقق لأسرائيل اعظم واكبر مفاخرها ، عبر تهيأته وإدارته لحرب الكويت : تدمير العراق ، وتشتيت العرب وتبديد ثرواتهم ، وتركيع الفلسطينيين ..
كما تعلمون بأن مكتبنا رغم تنسيقه مع جهاز مخابراتنا الرئيسي (الموساد) الا انه يظل مكتبا مستقلا ومرتبطا مباشرة بمكتب رئيس الوزراء . انه يتمتع بامكانيات مالية وتقنية هائلة من اجل تنفيذ سياستنا نحو العراق . لقد قسمنا نشاط مكتبنا الى محورين متداخلين : محور الدولة العراقية ، ومحور القوى السياسية العراقية .
يمكن اختصار سياستنا نحو العراق بالكلمات التالية : إضعافه ثم إضعافه ثم اضعافه .. بل يمكن القول ان الكثير من مسؤولينا يرغبون بأزالته تماما عن الخارطة لو تمكنوا ، لكي نتخلص من خطر دائم يهدد اسرائيل منذ نشأتها. قبل ان نشرح كيف نقوم بأضعاف العراق ، يتوجب الحديث عن ، لماذا نرغب بأضعافه:
بالأعتماد على قرائتنا للتاريخ ، نعرف جيدا بأن العراقيين هم المسؤولين عن دمار اسرائيل منذ ايام آشور وبابل . . ان العراق يتمتع بموقع جغرافي رئيسي في منطقة الشرق الاوسطإذ يشكل جسرا بين آسيا والخليج والبحر المتوسط ، وله تداخل تاريخي وجغرافي وحضاري مع الشام مما حتم عليه الحاجة المستمرة لبسط نفوذه على شواطىء سوريا ولبنان وفلسطين . بالاضافة الى انه من البلدان النادرة في العالم التي تمتلك اكبر ثروتين في هذا العصر : (( الماء والبترول )) . الاهم من كل هذا إدراكنا لطبيعة الشعب العراقي الذي يمتلك عمقا نفسيا ناريا وخزيناحضاريا يجعله قادرا على صنع قوة حضارية وعسكرية بصورة سريعة جدا بمجرد توفر شرطين : الدولة الجادة العاقلة ، وفترة وجيزة من الاستقرار . ان إدراكنا لهذه الحقائق جعلنا نخطط سياستنا إزاء العراق على اساس منع توفر هذين الشرطين المذكورين :
اولا ، منع العراق من انشاء اية حكومة وطنية جادة ، من خلال دعمنا لأستمرار السياسة الطائفية الموروثة من العثمانيين والقائمة على اساس احتكار الدولة من قبل (الاقلية العربية السنية) التي تمثل اقل من (18%) من السكان ، وعزل الدولة عن الاغلبية (العربية الشيعية ـ الكردية السنية ـ التركمانية ـ المسيحية) . ان هذا التخلخل بتمثيل الدولة للشعب العراقي يضمن ديمومة إعتمادها على الجيش والمخابرات للتعويض عن ضعف قاعدتها التمثيلية ، وبالتالي إستمرار حالة الضعف وعدم الاستقرار الداخلي.
ثانيا ، منع العراق من تحقيق أي استقرار داخلي او خارجي . ان انعدام الاستقرار الداخلي سبب اساسي لأنعدام الاستقرار الخارجي . ان الدولة العراقية المنعزلة عن اغلبية الشعب ، منذ تكوينها في 1921 ، تعودت البحث عن شرعية خارجية قومية تتمثل بمفهوم (الأمة العربية) للتعويض عن فقدان الشرعية الداخلية المتمثلة بـ(الأمة العراقية).بالحقيقة اننا ساهمنا بكل امكانياتنا التأثيرية الى دفع القيادات العراقية الى التطرف بسياستها العروبية الثورية مما ادى الى تعميق عزلتها عن شعبها وديمومة التناحر مع القوى القومية الكردية والتركمانية والشيوعية وغيرها . ثم ان هذه العروبة الثورية عمقت ايضا الخلافات الخارجية مع الدول المحيطة عربية وغير عربية . حيث تفاقم العداء القومي الطائفي ضد ايران حتى قيام الحرب التي دمرت البلدين ، واستمر كذالك العداء القومي ضد تركيا مما ضمن بذلك استمرار تحالفها معنا . ان هذه السياسة الثورية العروبية خلقت ايضا القطيعة واجواء الحرب حتى مع (الشقيقة !) سورية ، بالاضافة الى تفاقم العداء وقيام الحرب ضد(الاشقاء!) الكويتيين والسعوديين !
تغلغل إسرائيل في الدولة العراقية
يجب الاعتراف بأن تأثيرنا على الوضع العراقي بقي محدودا حتى اواخر الستينات. في تلك الفترة استثمرنا زيادة حدة الصراعات الدولية في الشرق الاوسط وتنامي الارهاب العربي . نجحنا باقناع حلفائنا البريطانيين والامريكيين أن يتركوا لنا حرية التصرف بـ ( الملف العراقي ) بعد اداركهم لأهمية دورنا في الحد من النفوذ السوفيتي خاصة وكذلك الفرنسي في المنطقة وفي العراق بالذات . بالحقيقة ان الامريكيين ابقوا اشرافهم على الملف العراقي ولكنهم تركوا لنا حرية التصرف الكاملة ، بشرط ان نطلعهم على تطورات نشاطاتنا وان نمنحهم حق الفيتوا على كل القرارات . اما نحن من طرفنا ، فاننا نعرف جيدا بان الذي يهم امريكا اولا وقبل كل شيء هو نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية ، وهي تثق بنا وتعتمد علينا مادمنا نخدمها لتحقيق هيمنتها ، وهي لا تتوانى عن التخلي عنا وحتى تحطيمنا إذا اقتنعت يوما بأن سياستنا تتعارض ومصالحها . لهذا فأننا حرصنا في كل نشاطتنا بخصوص العراق وعموم بلدان المنطقة ان نبرهن دائما لأمريكا بأننا مفيدين لها .
بالنسبة للدولة العراقية ، فاننا منذ سنوات الستينات حاولنا ان نستغل كل إمكانياتنا من اجل التغلغل في اجهزة الأدارة والجيش من خلال شراء ذمم بعض العناصر الفعالة مدنية وعسكرية . بالحقيقة اننا اعتمدنا كثيرا على شبكات اصدقائنا البريطانيين ثم الامريكيين ، وبالاستفادة ايضا من علاقاتنا الخاصة مع تركيا وايران الشاه ، وبعض الدول العربية المناهضة للنفوذ العراقي. يجب التذكير بأننا كنا نتجنب تماما الكشف عن انفسنا كجهاز اسرائيلي ، بل كنا نوهم العناصر المكسوبة ، كل حسب نوعيته وميوله ، على اننا مخابرات غربية او تركية او ايرانية واحيانا كثيرة على اننا مخابرات عربية ، سورية سعودية مصرية .
كما هو معروف بأنه من المبادئ الأولية للمخابرات بأن تكون مثل الباحث عن الذهب ، تحفر في كل مكان حتى تعثر على المنجم ، أي ان تبذل الجهود على الكمية مهما كانت ثانوية على امل العثور بينها على النوعية المطلوبة ، وهذا الذي حصل معنا . منذ الستينات بدأنا نتصل بصورة غير مباشرة بالعناصر الحزبية العراقية ، وخصوصا من المقيمين في الخارج . يجب التذكير بأننا حتى سنوات قريبة ، كنا نمتلك قاعدة مخابراتية مهمة في بيروت كمركز رئيسي للتغلغل في القوى العربية في الشرق الاوسط .وبواسطتها تمكنا من الايقاع ببعض العناصر الدبملوماسية والكوادر المقيمة في الخارج .
لقد استثمرنا كثيرا النزاعات والخلافات القائمة بين البعثيين انفسهم وبين البعثيين والتيارات السياسية الاخرى من شيوعيين وناصريين وقوميين سوريين . لقد وافق بعض البعثيين على التعامل غير المباشر معنا على امل التغلب على خصومهم ( معظم هؤلاء البعثيين لم يعرفوا بأننا اسرائيليين ، كما اوضحنا سابقا). طبعا نحن لم نقصر بمساعدتهم من خلال المال والمعلومات التي تمدنا بها مخابراتنا وأجهزة المخابرات الغربية، حتى تمكن البعث من استلام السلطة في العراق عام 1968 .
بالحقيقة ان هذا الانقلاب لم يكن من تخطيطنا ، ولكننا ساعدنا كثيرا على نجاحه ، من خلال بعض العناصر العسكرية القومية في نظام (عبد الرحمن عارف) السابق والتي كانت تابعة للمخابرات البريطانية . رغم تغلغلنا في حزب البعث العراقي الا اننا لم نكن مطمأنين تماما له ، بسبب وجود قيادات كثيرة ومؤثرة خارج سيطرتنا . لهذا فأننا في البداية كنا نفضل بقاء السلطة الجديدة بيد تلك العناصر القومية المرتبطة مباشرة بالمخابرات البريطانية . لكننا فوجئنا بأنقلاب البعثيين على حلفائهم القوميين في (30 ) تموز من نفس العام ( 1968)واستحواذ جماعة (البكرـ السامرائي ـ صدام ) على السلطة . حينها قررنا تغيير تكتيكنا وبذل جهودنا للامساك بهذه القيادة الجديدة . لقد بذلنا كل ما بوسعنا من مال ومغريات (ومؤثرات خاصة بواسطة سلاحنا السري ((ارادة يهوا )) الذي سوف نتحدث عنه بعد قليل) لدعم عناصرنا الموجودة مسبقا في البعث.
تأثير اسرائيل على صدام حسين
بالنسبة لـ( صدام حسين ) فأن المرة الأولى الذي جلب فيها انتباهنا كانت اثناء إقامته كلاجئ في مصر في اوائل الستينات ، وخصوصا بعد إن علمنا بأنه شاب جريء وطموح وشارك بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . اننا بالحقيقة لم نتصل به مباشرة ، لكننا عرفنا من خلال اصدقائنا البريطانيين في بيروت بأنه كان على اتصال بهم لعدة اعوام في بغداد عن طريق خاله (طلفاح) ، واخبرونا فيما بعد انه قطع العلاقة بهم في اواسط الستينات ، لكننا نشك بصحة إدعائهم هذا . رغم ان البريطانيين حلفاءنا فأن هذا لم يمنعهم من اللعب معنا احيانا كثيرة . المهم اننا في اواخر الستينات تمكنا ، وبدعم من اصدقائنا الامريكيين ، من اقناع البريطانيين على اعطائنا الملف كامل عن حياة صدام وعلاقاته وشخصيته يحتوي على اكثر من سبعين ورقة . لم يكن واضحا لدينا ما نبتغيه من صدام ، لكن مسؤول مكتبنا السابق ، الراحل (ك . ن ) الذي كان يهوديا عراقيا من نفس مدينة صدام (تكريت )وله معرفة عائلية مع عائلة السيد طلفاح ( خال صدام) ، قد اصر لسبب غير واضح على الاهتمام بملف صدام ، وكان يردد دائما : (( سوف ترون من سيكون صدام هذا ، ليس مستقبل العراق وحده يتعلق به ، بل حتى مستقبل دولتنا )). وقد اثبتت الايام صحة حدسه ومدى الفوائد العظيمة التي جنتها دولتنا منه .
إذن منذ البدايةجعلنا صدام محل اهتمامنا ورحنا ندرس شخصيته ، بل اننا كلفنا احد المتعاونين العراقيين على الاتصال بمعارف صدام الشخصيين واقاربه وسكان قريته (العوجة) واصدقاء شبابه من اجل إنجاز بحث اجتماعي ونفسي متكامل عن شخصيته . رحنا نتابع تحركاته من خلال مجموعة من عناصرنا . حتى تجاوز ملفنا عن صدام ، اوائل السبعينات ، اكثر من الف ورقة ووثيقة وصورة ، يحتوي على كل تفاصيل حياته النفسية والاجتماعية والسياسية، بل هنالك في ملفنا بضعة احلام سردها لأحدى معارفه من النساء!
لقد وجدنافي صدام الصفات المطلوبة التي تساعدنا على السيطرة عليه ومن خلاله نتمكن من السيطرة على الوضع العراقي كله . ان شخصيته تمثل بصورة سلبية ومكبرة الشخصية العراقية بكل تناقضاتها وإزدواجيتها الحادة . انه بأختصار يمتلك شخصيتين لايجمع بينهما غير خيط واه : شخصية الرجل الماكر ذي العقل الآلي الجهنمي ، وشخصية الطفل الساذج السهل الخداع والانقياد. انه من ناحية ، براغماتي طموح وجريء جدا وقاس باعصاب حديدية لا تعتبر لأي ضمير او مبدأ ، بل همه الاول والاخير السلطة والهيمنة وسحق الخصم مهما كان حتى اخيه او ولده . لهذ نحن شبه متأكدون بأنه هو وراء العملية المسلحة الاخيرة ضد ولده (عدي) والتي حولته الى معاق بسبب خروجه عن طاعة والده . اما الناحية الاخرى ، فأن صدام يمتلك نفسية طفولية غير ناضجة بسبب حرمانه من الأب المتوفي منذ الولادة وانشغال الأم بحياة عائلية منفصلة ، ومعيشته في بيت خاله شبه منبوذ ومحروم حتى من حق الدراسة ، مما اعاق اكتمال نضجه النفسي وبقائه عند مرحلة الطفولة المحرومة من الابوة والأمومة . لكن حرمان الطفولة هذا وقسوة المجتمع وعزلته منحته ايضا روح التحدي والحقد على العالم كله الذي تسبب بحرمانه وإذلاله . تراه مثلا ، منذ سن مبكرة حمل مسدسه وقام بأغتيال احد اقاربه ، وفي بداية سن شبابه ساهم بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . ان صدام حقا من الشخصيات النادرة في التاريخ ، ليس بجبروته فقط بل بأنحطاطه ايضا ، انه نموذج متكامل ومطلق للشخصية الجبارة الاستبدادية، بذكائه واصراره ووحشيته ، وكذلك بسذاجته وطفوليته . الذي يميز شخصية صدام عن النموذج الاستبدادي المعروف ، انه قادر في اشد حالات الهزيمة ، ان يغرف من حقده الدفين ضد البشرية باعتبارها المسؤولة عن نكسته، وبالتالي فأنه بدل ان يتراجع او يقتل نفسه كما يفعل الكثير من المستبدين بعد هزيمتهم ، فأن صدام على العكس يقرر قتل المزيد المزيد من البشر الذين قد يشعروه بهزيمته . انه لا ينزعج من شماتة اعدائه المنتصرين بقدر إنزعاجه من نحيب اتباعه المهزومين!!
إذن بالاعتماد على هاتين الشخصيتين المتناقضتين ، رسمنا سياستنا بالسيطرة على صدام. كلما توغلنا بمعرفة شخصيته زادت قناعتنا بضروة عدم الاتصال به مباشرة ، لأنه متكبر وعنيد وصعب المراس . يتوجب التأثير عليه واستخدامه من دون علمه ، لأن هذا الاسلوب غير المباشر يضمن لنا التأثيرعليه اكثر بكثير من الأتصال المباشر. لهذا فأننا ركزنا العمل بين العناصر القريبة من صدام ، ومحاولة دفع عناصرنا الى التقرب منه ودعمه بكل السبل ، حتى تمكنا اخيرا من احاطته بصورة شبه كاملة تقوده ( كالثور من قرونه ) من دون ان يعلم.
لقد كان دور هذه المجموعة يتركز على ناحيتين : مساعدة شخصيته (الماكرة المستبدة) على بسط هيمنتها على الحزب وعلى الدولة وتصفية كل المعارضين والعناصر القيادية البعثية المزعجة . وبنفس الوقت مراعاة شخصيته (النرجسية الطفولية ) وذلك بعدم اشعاره بأنه مقاد من قبلنا ، بل هو الاقوى والافضل والاحسن وهو المالك المطلق لزمام الأمور في الدولة والحزب .
لقد نجحنا بأقناع حليفتنا امريكا بتبني خطتنا بالسيطرة التدريجية على صدام . من خلال صديقنا شاه ايران تم توريط القائد الكردي (البرزاني) عام1974 باعلان الثورة على النظام ، وبنفس الوقت ساهمنا من خلال حلفائنا الغربيين والاتراك الى تقديم العون المادي والمعلوماتي الى النظام من اجل القضاء على هذه الثورة خلال عام واحد. بهذه العملية تمكنت جماعتنا من إثباة حسن نواياها لصدام ، وبنفس الوقت مساعدته على بسط نفوذه على الحزب والدولة .
صدام ينفذ مشاريع اسرائيل
ان قمة نجاحاتنا بالتأثير على صدام ، تمثلت بمساعدته على التخلص تماما من جماعة (البكر ـ السامرائي) التي لم نستطع الحد من جموحها . ان اشد ما ازعجنا بهذه المجموعة هو قرارها عام 1979 بالتحالف مع سوريا . ان اقدامها على هذه الخطوة الخطيرة المتهورة اعتبرناه تجاوزا لكل خطوطنا الحمراء التي من اهمها منع أي تقارب جاد بين العراق وسوريا . ثم ان الذي زاد من مخاوفنا وغضبنا ان خطوة التحالف هذه اتت في ظل صعود الخميني الى السلطة الايرانية ، واحتمالات قيام محور (عراقي ـ سوري ـ ايراني ـ فلسطيني ـ سوفياتي ) كفيل بأحداث تغيرات هائلة في المنطقة تهدد امن اسرائيل في الصميم . لهذا فأننا من خلال عناصرنا وبدفع من بعض الدوائر العربية والغربية الصديقة ، اوحينا لجماعة السامرائي القيام بعملية شبه انقلابية لأزاحة صدام ، وبنفس الوقت ساهمت عناصرنا بالكشف عن هذه العملية ومن ثم مساعدة صدام على القضاء التام عليهم واستحواذه بصورة مطلقة على السلطة . بهذه الخطوة الحاسمة ضربنا عصفورين بحجر :
اولا، افشلنا تماما مشروع المحور (العربي ـ الدولي) الخطير المعادي لنا وإبعاد كل احتمالات التقارب بين العراق وسوريا . ثانيا ، اصبح صدام (العوبة) بيدنا بعد إزاحة جماعة ( البكرـ السامرائي) الخارجة عن سيطرتنا.
بعد نجاحنا غير المتوقع بعملية صعود صدام واستحواذه المطلق على الدولة والحزب ، قامت عناصرنا بتركيز سيطرتها على دائرة القرار المحيطة بصدام ، من خلال اقناعه بأنه لا يمكن ان يستمر بسلطته الا من خلالهم ، وبنفس الوقت اشعاره بالثقة التامة بهم من خلال الأدلة الساطعة . طبعا صدام لم يشك حتى الآن بتأثيرنا المباشر في الاحداث ، لأن عناصرنا كانت توحي له بأن معلوماتها متأتية من علاقاتها الخاصة مع بعض الجهات الغربية، حيث استخدمنا مختلفالواجهات الغربية للتغطية على دورنا: اجهزة مخابراتية صديقة ، مؤسسات اعلامية وتجارية خاصة ، احزاب ومنظمات شعبية .. الخ . اننا من خلال كل هذه الواجهات قدمنا لصدام خدمات معلوماتية ومخابراتية وتقنية لم يحلم بها ابدا .. كل هذا من اجل كسب ثقته بجماعتنا وفرض سياستنا عليه .
بعد ذلك قررنا ان نضرب ضربتنا الكبرى الهادفة الى تدمير العراق فعليا والقضاء على كل مكوناته الاقتصادية والصناعية والمالية. فكرنا بعدة امكانيات ، اولها، تغذية ودعم الحرب الكردية ، لكن تبين لنا انها ليست كافية فهي محدودة بمنطقة جغرافية وسكانية غير قادرة على الأمتداد وتدمير بنية العراق ، ثم اننا تأكدنا جيدا من خلال تجاربنا مع الاكراد انهم مهما ادعوا من نزعات انفصالية معادية للعراق الا انهمعند المحك يكشفون عن نزعة وطنية عراقية غريبة تتجاوز احيانا حتى وطنية العرب ! . فكرنا ايضا بثورة شيعية ، لكن باحثونا اعترضوا على المشروع منذ بدايته ، لأنهم يعتقدون بأن شيعة العراق ، مهما اختلفوا مع النظام واتهموه بالطائفية ، فأنهم بجميع تياراتهم اليسارية والدينية يعتبرون انفسهم هم العراق ولايحملون الضغينة ضد اخوانهم السنة بل ضد الدولة الطائفية ، ومن الصعب جدا توريطهم في حرب اهلية . الأكثر من هذا ان خبراءنا كلهم اتفقوا على ان وصول الشيعة الى قيادة الدولةيمكن ان يؤدي الى عكس ما نبتغيه. ان طبيعة الشيعة كأغلبية عددية تؤهلهم لأن يجمعوا حولهم باقي الجماعات العراقية من سنة واكراد وتركمان ومسيحيين وغيرهم ، وتكوين دولة عراقية قوية خارجة تماما عن سيطرتنا . فكرنا بعدها بقيام حرب ( بعثية ـ بعثية ) داخل العراق وتوريط سوريا من خلال استغلال من تبقى من جماعة (السامرائي ـ البكر) لكننا خبرائنا اقتنعوا بصعوبة توريط سوريا وصعوبة ضمان تأثير مثل هذه الحركة على الوضع.
اثناء ذلك اتانا الحل من دون ان نتوقع : اعدام صدام للقائد الديني الشيعي (محمد باقر الصدر) عام 1980 واعلان الخميني تكفير صدام ونظامه !
بسرعة فائقة قمنا بتحشيد كل طاقاتنا الدولية وكذلك عناصرنا المحيطة بصدام من اجل خلق كل الاسباب الممكنة لأندلاع الحرب بين البلدين . من خلال المخابرات الغربية والقيادات العسكرية الايرانية من بقايا نظام الشاه ، اوحينا لصدام بأنه قادر على اجتياح ايران واسقاط نظام الخميني والحصول على منطقة الأحواز التي يطالب بها العراق . لقد سلمنا الى صدام خارطة حقيقية كاملة بكل المعسكرات والمطارات الايرانية ، ورسمنا له خطة كاملة مشابهة لتماما لخطتنا التي نجحنا بها بالقضاء على القوة المصرية في حزيران 1967 ، أي تكتيك (الضربة الخاطفة ) . لكننا بنفس الوقت اوصلنا نص الخطة الى الايرانيين مع سبل افشال الهجوم العراقي المباغت. بهذا ضمنا ديمومة الحرب بين البلدين . بل داومنا على تغذية العداء بين الطرفين وامدادهما بالسلاح حتى نجحنا بأن تستمر الحرب اكثر من ثمانية اعوام وتدمير طاقة البلدين وما جنياه من محصول البترول خلال كل الستين عاما السابقة !!
حرب الكويت انتصار تاريخي لم نحلم به
ان الحلقة الاهم والاكبر في مشروعنا التاريخي بتدمير العراق ، بلغناها بسرعة غير متوقعة وبنجاح منقطع النظير . ويكمن سر نجاحنا هذا في توفر طرفين مثاليين لتحقيق مثل هذا السيناريو الجهنمي : (( صدام وامريكا ))، وهما طرفان متكاملان وليس متناقضين كما يتوهم الجميع . صدام الساذج المتهور يتكامل تماما مع امريكا الجبارة الشرهة ، حيث استخدمنا بنجاح مؤهلات الطرفين ، كالتالي:
اولا ، التأثير على صدام ودفعه الى القيام بالممارسات الرعناء الكفيلة باثارة غضب امريكا والعالم واعطاء الحجج لتدمير العراق.
ثانيا ، التأثير على امريكا من خلال الأيحاء لها بأن عملية شل قدرات العراق وعزله تحقق لها من الأرباح ما لم تحلم به .
بالنسبة لأمريكا ، فأننا لم نبذل كثير من العناء من اجل اقناعها بمثل هذا المشروع . انها عموما تثق بنا بالاضافة الى التأثير المعروف لجاليتنا اليهودية على مركز القرار الامريكي . من دون تأثيرنا فأن للولايات المتحدة خططها القديمة من اجل ازاحة النفوذ السوفيتي بالاضافة الى الفرنسي من منطقة الشرق الاوسط التي تعتبر اهم منطقة اقتصادية واستراتيجية في العالم . منذ زمن طويل تعمل امريكا من اجل تطبيق مخططها القاضي بالاستيلاء على منابع البترول والاستحواذ على اسواق الخليج . وبمجرد إن بدأت علامات الضعف والانهيار في المعسكر الشيوعي في اواسط الثمانينات حتى قام الامريكان بالتنسيق معنا من اجل الاستعداد لتطبيق مخطط الأستيلاء على المنطقة . بالحقيقة ان الولايات المتحدة كانت قد هيأت سيناريوهات عديدة من اجل خلق المبررات لتنفيذ مخططها . والطريف ان العراق لم يكن يوجد في أي من هذه المخططات ، بل السعودية كانت هي المطلوبة ، لأنها تعتبر الحلقة الأضعف في تلك الفترة. من ابرز هذه السيناريوهات واخطرها هو الدفع غير المباشر لأشعال ثورة اسلامية في السعودية ، بالتنسيق مع الاسلاميين الافغان المتحالفين مع امريكا ، ثم قيام حرب اهلية سعودية طاحنة ، تتورط فيها احدى جارات السعودية ، اما اليمن الشمالية ، او ايران . هذا الوضع الخطير سيمنح التبريرات لتدخل الامريكيين بطلب من الحكومة السعودية ودول الخليج .
ولكن في عام 1989عند نهاية الحرب العراقية الايرانية وظهور توترات داخلية عراقية ، حاول صدام كعادته افتعال ازمات وهمية تبعد الانظار عن الأزمة الحقيقية . داخليا افتعل ازمة بين العراقيين والعمال المصريين من خلال قيامه بحملة سرية لأغتيال مئات العمال المصريين وترحيل مئات الآلاف ، بحجة ان العراقيين يرفضون المصريين . اما خارجيا فانه افتعل توترا مع اسرائيل وراح يهددها بالابادة باسلحته الفتاكة ومدفعه العملاق. حينها خطر هذا السؤالبذهنمسؤولنا الراحل(ك،ن) : كيف يمكننا ان نزج العراق في السيناريو الامريكي بدل السعودية ، ولكن بنفس الوقت نحقق لأمريكا هدفها بايجاد مبرر للسيطرة على المنطقة ؟!
في اثناء ذلك علمنا بوجود توتر وغضب من قبل صدام ضد الكويت ودول الخليج بسبب تقصيرهم بدعم العراق بعد حربه الطويلة ضد ايران . حينها اتانا الجواب العبقري الذي لم نحلم به : ان يقوم صدام بغزو الكويت والسعودية ، لتندلع حروب اهلية ودولية تمنح كل المبررات لتدخل حلفائنا الامريكان وبنفس الوقت نحقق هدفنا الاكبر : تدمير العراق ، ومعه المنطقة كلها ...
بالحقيقة ، رغم تحالفنا مع الامريكان فأنهم ايضا لهم مصالحهم ووجهات نظرهم التي لا تتفق بالضرورة معنا . لهذا فأننا في بعض الاحيان نضطرالى خداع حلفائنا والتأثير عليهم من اجل جرهم الى مشاريعنا . وكانت حرب الخليج اكثر القضايا الشائكة التي نجحنا بتوريط الامريكان والعالم كله في حرب غايتها المعلنة تدمير صدام اما غايتها غير المعلنة ولكن المعروفة للجميع ، هي تدمير العراق .
ومن اجل تحقيق غايتنا هذه ، قمنا لأول في التاريخ بتجربة احدث واخطر سلاح سري والاول من نوعه في الحروب الحديثة .
السلاح الايحائي السري ( ارادة يهوا)
بالحقيقة ان هذه المرة الاولى التي نتجرأ بها على الحديث عن سلاحنا السريفي وثيقة مكتوبة ، وإن كان تقريرا سريا خاصا . كما تعرفون ان هذا السلاح السري تتكتم عليه دولتنا بصورة كبيرة جدا ، والسبب يعود الى ان فعالية هذا السلاح ستهبط الى الصفر في حالة الكشف عنه فقط . إذ يكفي للضحية ان يعلم بتأثير سلاحنا الممارس عليه حتى يتمكن من التخلص منه بسهولة كبيرة جدا . لهذا فأننا نفعل المستحيل للتعتيم عليه رغم اعتقادنا بأن هنالك بعض التسريبات التي بدأت تظهر في بعض الصحف الغربية بصورة غير مباشرة ، أي الحديث العام عن امكانية استخدام مثل هذه الطاقات الخفية في النشاط التجسسي ، من دون اية اشارة لأسرائيل . ولحسن الحظ ان هذه التسريبات ، حتى الآن ، لم تثر اهتمام العرب ، ولا زال مفعول سلاحنا ساريا بصورة مريحة ومقبولة .
ان هذا السلاح كما تعلمون اطلقنا عليه تسمية ( ارادة يهوا ) ويعتمد اساسا على استخدام ( طاقة الايحاء الروحي ) في التأثير على اهداف معينة وفعالة . بالحقيقة ان هذا السلاح ، او قل الجهاز ظل منذ الخمسينات مشروعا متداولا لدينا ولدى السوفيت وبدرجة اقل لدى الامريكان . وتتلخص الفكرة كالتالي : استخدام طاقة الايحاء التي يمتلكها البشر بالتأثير على انسان آخر ودفعه الى القيام باعمال من دون ارادته .
حتى الثمانيات ظلت هذه التجارب سرية ومحدودة التأثير ولم نتمكن ان نستخدمها فعليا في نشاطنا التجسسي ، وكدنا في مرات عديدة ان نغلق ملف هذا المشروع بسبب التكاليف الباهضة وغير المثمرة . لكن في اواخر الثمانينات حدث ما لم نتوقعه . مع التغيرات الكبرى التي بدأت تجري في الاتحاد السوفيتي وبدأ هجرة اليهود السوفيت ، جائتنا خبرات سوفيتية جبارة في مجال التجارب الروحية. تبين لنا ان السوفيت قد توصولوا الى نتائج سرية باهرة في هذا المجال ، ومن حسن الحظ فأن الكثير من الكوادر المشاركة بتلك التجارب كانت من اليهود ، بل حتى غير اليهود تمكنا من الاتصال بهم وجلبهم الى اسرائيل . لقد اكتشفنا بأن السوفيت قد اضافوا خطوة مهمة وحاسمة الى هذا الحقل ، لم تخطر من قبل على بال احد : استخدام التقنيات العلمية من اجل تفعيل وتكثيفالنشاطات الروحية ! اية بصورة اوضح ، استخدام تقنيات الاتصالات السمعية البصرية بما فيها الاقمار الصناعية في عملية تنشيط الاتصالات الروحية والتأثير الايحائي على على بعض الاشخاص المطلوبين . لقد جرت العادة ان يجلس الشخص الفعال في مكان معين وينظر في صورة الشخص المفعول ويحاول ان يوحي له عن بعد ، القيام بفعل ما. والمشكلة ان تأثير الموجات الايحائية يقل مفعوله مع المسافات والمؤثرات المناخية والكهرومغناطيسية وغيرها . وكانت عبقرية السوفيات انهم بدأوا باستخدام تقنيات الاتصالات لنقل الايحاءات كما يتم نقل الصورة والصوت الى مكان بعيد . ومن حسن الحظ انهم لم يتوصلوا الى نتائج حاسمة حينما توقفت التجارب مع بدأ انهيار النظام السوفياتي وانحلال جهاز المخابرات (الكي جي بي)المسؤول عنها .
بعد جهود جبارة مكثفة وبرنامج بحث وتجارب لا يتوقف ليلا ولا نهارا ، تمكنا خلال اقل من عامين من تحقيق نتائج باهرة ومؤكدة . حينها قررنا الشروع الفعلي بتجربة سلاحنا السري هذا على صدام . والحقيقة ان هذه الفكرة كانت من مقترحات مسؤولنا الراحل المرحوم( ك ، ن ) الذي رغم مرضه وابتعاده عن وظيفته ، الاانه اصر على ابقاء مسؤوليته المباشرة على برنامج التأثير على صدام . وكانت عملية التأثير كالتالي :
يجتمع نخبة من عشرات الاشخاص المتميزين بقدارتهم الطبيعية في التأثير الايحائي ، يجلسون في قاعة مظلمة وامام جميعهم شاشة كبيرة تعرض صورة ملونة لصدام . كلهم متفقون على ترديد عبارة واحدة معينة تتضمن امرا معينا موجه الى صدام ، مثلا : (( يجب ان تقتحم الكويت .. كل شيء سهل وممكن .. لتقتحم الكويت .. الامريكان لن يفعلوا شيئا ...)) . وهنالك اجهزةحساسة وعالية الجودة تقوم بالتقاط هذه الايحاءات ونقلها عبر القمر الصناعي الى نقاط محددة يتواجد فيها صدام .
وحسبما ذكرنا فأن نقطة الضعف الخطيرة في هذا السلاح ، انه من السهل جدا التخلص من تأثيره بمجرد معرفة وجوده . يكفي للضحية ان يبادر بحماية نفسه بايحاءات ايجابية مضادة واجراء تمارين رياضية وروحية تحيطه بهالة ايجابية تمنع عنه كل المؤثرات السلبية الخارجية .
الاستخدام الجديد لسلاح الاعلام
لا ندعي بأن سلاحنا ( ارادة يهوا ) هو وحده الذي اثر في قرارات صدام ، بل هنالك مؤثرات عديدة دعمت هذه الايحائات ، اهمها هي طبيعة صدام نفسه ونظامه المهيء تماما لتقبل مثل هذه القرارات المتهورة .فليس من الممكن مثلا ان نؤثر على صدام لو ان قراراته كانت تمر قبل تنفيذها بمداولات الحكومة والبرلمان والصحافة ودوائر الحزب والدولة . ثم اننا حققنا النجاح الفائق بالتأثير التام على صدام من خلال لعبنا على جانبه النرجسي الطفوليبواسطة سلاح تقليدي جدا ، الا وهو الاعلام ، لكننا استخدمناه بصورة جديدة ومناقضة تماما لتأثيره النفسي التقليدي : بدلا من العمل على الحط من قيمة العدو وإفقاده ثقته بنفسه ، قمنا نحن بالعكس تماما ، أي باعلاء شأن صدام وتضخيم قدراته آلاف المرات . رحنا ننفخ به ليلا ونهار ، وهو المسكين بكل نرجسيته الطفولية دخل تماما في لعبتنا، وراح ينتفخ وينتفخ وينتفخ حتى انفجر مثل البالون الفارغ عند اول (بعـ...ـة)امريكية. لم يخطر على بال احد بأن اسرائيل ، كانت ومازلت ، وراء الحملة الاعلامية العالمية الجبارة التي اطلقت للتهويل من خطر صدام وجعله يحتل واجهات جميع وسائل الاعلام في العالم . ان هذا الاسلوب التفخيمي كان له تأثيرا حاسما في بث الرعب في العالم وتهيئة الرأي العام لتقبل أي رد فعل لأيقاف صدام عند حده .اما الهدف الاهم فهو خداع صدام نفسه وجعله يتصور حقيقة بأنه قادر على مواجهة جيوش امريكا والعالم كله . لم يكن يخطر على باله ابدا من قبل ، ولم يكن يتجرأ حتى ان يحلم بأنه سوف يصبح ذات يوم الشخصية الاولى في العالم ويحتل واجهات جميع وسائل الاعلام ، وتنطلق المظاهرات المرددة لأسمه في جميع ارجاء الارض. لقد نجحنا بتصعيد الحالة النرجسية الساذجة فيه الى حد الجنون والفقدان التام لكل ارتباط بالواقع والحسابات العقلانية . كل هذا سهل كثيرا لجماعتنا المحيطة به بأن تفرض عليه ايحاءاتنا بصورة سهلة جدا ، مع ايهامه بأنه هو المالك الجبار والقادر الأوحد على اتخاذ القرارات!
اسرائيل والمعارضة العراقية
كما هو معلوم ، ان هدفنا المرحلي الاول هو الحفاظ قدر الامكان على نظام صدام لأن ديمومة هذا النظام تضمن ديمومة مشروعنا لتدمير العراق . لهذا فأننا نبذل كل ما في وسعناوبكل حماس وصدق لمنع أي طرف مهما كان من تغيير النظام .ولكننا نعرف جيدا بأن صدام ونظامه ليس ازليا ، ولابد ان يأتي اليوم القريب او البعيد لأن ينتهي ، سواء بالقوة او موتا طبيعيا . لهذا فأننا نحاول ان نخطط لوجود قوى قيادية يمكن ان تلعب دورا فعالا في عراق المستقبل. وعلى هذا الاساس يتحدد موقفنا إزاء المعارضة العراقية.
يتوجب التوضيح ان هنالك في العراق نوعان من المعارضة :
اولا، المعارضة المقيمة في الخارج ، وهي المعارضة المعروفة والمتداولة في الاعلام . ان تأثيرنا في هذه المعارضة محدود جدا ، لسببين ، اولهما ، لأنها بكل بساطة هي نفسها معارضة محدودة التأثير ومشتتة ( هنالك استثناء القوى الكردية وبعض الأطراف الاسلامية واليسارية التي تمتلك وجودا داخليا مهما ) . في كل الاحوال ان معارضة الخارج عدديا لا تمثل حتى عشرة بالمئة من مجموع العراقيين في الخارج ، حيث القسم الاعظم من هؤلاء العراقيين يعارضون النظام بطريقة صامتة او من خلال نشاطات ثقافية واجتماعية متنوعة خارج التنظيمات الحزبية. ثم السبب الثاني والمكمل ، ان هذه المعارضة مع ضعفها وتشتتها هي ايضا مفتوحة جدا وتشبه السوق الشرقي الذي تتداخل فيها الدروب والأزقة والدكاكين والبسطات ، ويمكن بسهولة التيه فيه . أي ان هنالك في هذه المعارضة منافسون كثيرون لنا ، فحتى الذي يوافق على التعامل معنا يمكن ان يكون بنفس الوقت يتعاون مع جهات اخرى متنوعة ، تبدأ بالحكومة العراقية ، وتنتهي بالدول العربية والغربية المعنية بالشأن العراقي ، بالاضافة الى تركيا وايران وروسيا ، بل اكتشفنا انه حتى باكستان لها عيونها في هذه المعارضة !
ثانيا ، المعارضة الداخلية ، وهي الأخطر والاهم لأنها تتشكل من قوى وتيارات بمعظمها غير معلنة وغير واضحة حتى لأجهزة المخابرات الحكومية . يمكن الاستعانة بأمثلة الانظمة الأشتراكية لتوضيح هذه الاشكالية . فمن المعروف ان معظم التيارات والقيادات التي برزت بعد سقوط الانظمة الشيوعية ، كانت جزءا من النظام السابق ، لكنها كانت قادرة على ان تخفي مواقفها بانتظار الفرصة المناسبة. لهذا نحن على يقين بأن النظام القادم في العراق سينبثق من رحم النظام الحالي . رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها عناصرنا المتغلغلة في نظام صدام من اجل معرفة العناصر والتيارات المستقبلية ، فأننا فشلنا حتى الآن بتحديدها والأمساك الكافي بها ، لأن خطورة الوضع لا تسمح لها ان تعبر عن نفسها حتى بصورة عابرة ، لكننا على يقين من وجودها .
امام هذا الوضع الملتبس ، فأننا تمكنا بصورة غير مباشرة من توريط حلفائنا الامريكان والبريطانيين بالقبول بأستراتجية جهنمية تتلخص بالتالي :
بما اننا لا نستطيع الامساك بالمعارضة العراقية الحقيقية ( الداخلية المستقبلية) فأن علينا الاستفادة قدر الامكان من وجود المعارضة الخارجية من اجل التأثير على المعارضة الداخلية . وهذه الاستراتيجية تستند على محورين :
1ـ استعمال معارضة الخارج كمصيدة لمعارضة الداخل . اننا مع حلفائنا نجحنا بتضخيم اهمية بعض الاطراف المتواطئة معنا من معارضة الخارج وجعلها هي المعارضة الرسمية المعترف بها دوليا وامريكيا . من خلال هذه تمكنا من جذب الكثير من العناصر الداخليةللاتصال بمعارضة الخارج املا بضمان الدعم الدولي لمشاريعهم السرية . اننا من خلال مصادرنا المتنوعة نجحنا بالكشف عن الكثير من هذه العناصر . وبما اننا غير قادرين بسهولة على الامساك بهذه العناصر الداخلية وخصوصا العسكريين منهم ، فأننا فضلنا دائما فضحهم لنظام صدام والقضاء التام عليهم . طبعا لا نخفي عليكم بأن غالبية المنتمين لمعارضة الخارج لا يدركون حتى الآن انهم بتقديمهم المعلومات الى الاجهزة الامريكية والبريطانية ، انما يقدمون هذه المعلومات لنا نحن ، حيث نستخدمها من اجل استراتيجيتنا الخاصة بعيدا حتى عن حلفائنا .
2 ـ تدمير سمعة أي معارضة عراقية واخماد روح المعارضة لدى كل العراقيين ، من خلال التعتيم التام على معارضة الداخل ، واعتبار معارضة الخارج هي المعارضة العراقية الوحيدة . وبنفس الوقت نقوم بكل ما نستطيع بتشويه سمعة معارضة الخارج واسقاطها في الحضيض من خلال توريطها في فضائح مخابراتية وعلاقات تبعية لأمريكا بصورة اعلامية كاريكاتورية مكشوفة للجميع . اننا نشكر السماء لأن معظم قادة المعارضة العراقية في الخارج قد ورثوا ما يكفي من السذاجة والنرجسية (من سيدهم اللدود صدام) لكي يدخلوا في هذه اللعب الاعلامية والمؤتمراتية التي تحط من سمعتهم وتجعلهم في نظر الجميع ، بما فيهم الغربيين ، عبارة عن عملاء تافهين واطفال حمقى في حضرة امهم الطيبة والجبارة امريكا !!
اننا يمكن ان نقول بكل ثقة وفخر مرتاحون جدا لما حققناه وما نحققه حتى الآن من تحطيم مستمر للعراق ، دولة وشعبا ومعارضة .
ولكن يمكن ان نضيف بكل صراحة وواقعية بأن ثقتنا هذه غير مضمونة ابدا بخصوص المستقبل ، بسبب عدم ضماننا السيطرة على اخطر سلاح تمتلكه الشعوب (والعراقيون على الاخص) يتجاوز في اهميته كل الاسلحة السياسية والعسكرية : سلاح الثقافة !!!
التطورات الثقافية وخطورتها على اسرائيل
يتوجب ان نعترف بكل صراحة ، اننا لا نمتلك مشروعا مستقبليا واضحا بالنسبة للعراق (كذلك بالنسبة للدول العربية المحيطة) ، لأننا غير مطمأنون لطبيعة الفورة الثقافية السياسية التي بدت معالمها تتضح لدى النخب العربية ، وخصوصا النخبة العراقية التي عانت اكثر من غيرها من الاحباطات والكوارث، وآخرها حرب الكويت والدمار الشامل . أي بصريح العبارة اننا مهما خططنا سياسيا وعسكريا لأستيعاب التطورات ، الا ان الجانب الفكري الثقافي يبقى هو الأهم ومن الصعب السيطرة عليه ، وخصوصا إزاء (صحوة الهوية) الكبيرة المطالبة بالعودة الى الذات وبناء الهوية الوطنية ونبذ الافكار القومية والحداثية القادمة من الغرب ، وتبني تيارا فكريا جديدا وجامعا اطلقوا عليه (تيار الوسطية)! اننا نشد انتباه الجميع الى الخطورة المستقبلية لمثل هذا التيار الثقافي الجديد ، من الناحيتين التاليتين :
اولا ، كما تعلمون اننا منذ مطلع القرن الحالي ، وعبر (الحركة الصهيونية) والمؤسسات الاكاديمية والتبشرية الغربية القريبة ، ساهمنا بصورة غير مباشرة بدعم انتشار الافكار الحداثية من ليبرالية وقومية وماركسية ، لأننا نعرف انها بالنتيجة تخدمنا وتبرر وجود دولتنا . رغم المواجهات العديدة التي خضناها ضد هذه التيارات ، الا اننا كنا ندرك جيدا انها من دون قصد تقدم لنا الخدمة المطلوبة ، من خلال مساهمتها بتدمير الاسس الروحية والميراثية والدينية لهذه المجتمعات وزرع الشقاق بين الاطراف والاجيال والفئات المختلفة . ونشكر الله ان هؤلاء الحداثيون بمختلف اتجاهاتهم مع حكوماتهم العلمانية لم ينتبهوا الى الميزة الأساسية التي ظلت تمنح القوة الكبرى لنظامنا السياسي الاجتماعي ، والمتمثلة بالتوازن القائم بين التيار العلماني والتيار الديني ، بصورة تسمح للجميع ممارسة حياتهم من دون اعتداء على حياة الاخرين . بينما الحداثيون العرب ، بكل سذاجة ورعونة ، قرروا القطيعة التامة مع المجال الديني واحتقاره وعزله باعتبار رجعيا متخلفا ، ولم يدركوا انهم بسلوكهم هذا قطعوا الرجل الثانية التي يسير بها جسم الدولة والمجتمع.
منذ اعوام السبعينات بدأ خبرائنا يلاحظون بروز معالم (صحوة الهوية) المطالبة بالعودة الى الذات ورد الاعتبار الى الميراثات الوطنية الاصلية . لهذا فأننا اسرعنا بالتنسيق مع حلفائنا الانكليز والامريكيين الى وضع استراتيجية غايتها تحطيم هذه الصحوة وتشويهها وحرفها عن مسارها . نجح الامريكيون بالتغلغل في داخل الحركات الاسلامية المعادية للشيوعية وللسوفييت ، خصوصا من انصار مجهادي افغانستان ، ودفعها لكي تقوم بممارسة العنف ضد الاطراف المدنية . بهذا تمكنا من تحويل (صحوة الهوية) هذه الى (صحوة دينية) ونوع من الردة السلفية العنفية الممقوتة من قبل المثقفين وعموم الناس وكذلك من قبل الغرب والعالم اجمع . وهذا الأمر ابقى على حدة الصراع بين التيارين الحداثي والسلفي ومنع الاستقرار السياسي والاجتماعي ، وبنفس الوقت منح الشرعية لصورة اسرائيل الحضارية المسالمة المعادية للأرهاب .
لكننا الآن في الاعوام الأخيرة ، بدأنا نواجه تيارا جديدا اكثر حنكة واكثر خطورة ، استطاع ان يتبنى (صحوة الهوية) بصورة ديناميكية وذكية قادرة على كسب التيارات المختلفة الرئيسية وتجميعها حول قواسم وطنية مشتركة وثابتة! وهذا التيار الثقافي الجديد يسمى (تيار الوسطية) ، والذي نجح بتكوين اساس فكري ونظري من اجلالتخفيف من حدة الصراعات بين مختلف الاطراف المتناقضة ، وخصوصا بين الحداثيين العلمانيين وبين التقليديين المتدينين ، عبر تكوين (قاسم وسطي مشترك) يجمع ما بين الحداثة والاصالة ، بين الديني والعلماني ، بين المادي والروحاني . ان خطورة مثل هذا التيار الوسطي تكمن بقدرته على التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية وبث نوعا من الوئام بين تلك الاطراف التي نجحنا بجعلها متصارعة متناحرة منذ سنوات طويلة.
ثانيا، ان الاكثر خطورة في هذا (التيار الوسطي) انه لم يكتف ببناء الجسور بين مفهومي الحداثة والاصالة ، بين العلماني والديني ، بل ايضا بناء الجسور بين مفهومية لقومية والوطنية ) ، وهما من اشد المفاهيم التي نجحنا بجعلها متناقضة ولعبت دورا حاسما طيلة القرن العشرين ، ببث الشقاق والصراع في داخل الشعوب العربية وخصوصا في بلدان ما يسمى بالمشرق ( الهلال الخصيب) !!
اننا كما هو معروف لديكم ، تمكنا منذ بدايات القرن ، ومن خلال مساهمتنا بنشر الأفكار الحداثية ، نجحنا ايضا بنشر اهم واخطر مفاهيمنا التي لولاها لما قامت دولتنا ابدا : (مفهوم القومية العرقية) وهو نفس مفهوم الصهيونية . اننا من خلال هذا المفهوم اقنعنا العرب بأنهم (عرب عرقيا وسلاليا ) وكلهم قادمون من الجزيرة العربية . وبهذا المفهوم القومي نجحنا بضرب عصفورين بحجر :
ـ اقناع الفلسطينيين ( ومعهم العرب والعالم اجمع) بأنهم عرب اقحاح قدموا فلسطين مع الفتح ، وبالتالي فأننا نحن يهود الشتات نمثل تاريخ فلسطين وشعب اسرائيل الاصيل . وما على الفسطينيين الا ترك بلادنا والعودة الى ديار اسلافهم العرب .
ـ اننا منذ مطلع القرن نجحنا بتقسيم شعوب الشرق الأوسط ، ليس على اساس الوطن والارض والتاريخ المشترك ، بل على اساس القوميات العرقية الدينية الطائفية . وساهمنا بكل امكانياتنا وخبرائنا ، ومعنا كل المؤسسات التبشيرية والاستشراقية الغربية ان نصوغ لكل جماعة تاريخا قوميا دينيا طائفيا متميزا مع اصول عرقية وسلالية مختلفة، واقناع كل منها على انها (امة) متميزة بشعارات سياسية واحلام وطنية توسعية . بهذا الأمر ضمنا انعدام الوحدة الوطنية وديمومة الصراعات القومية بين هذه الجماعات: عرباكراد تركمان شركس سريان ، مسلمون مسيحيون ، شيعة سنة ..الخ .. بحيث ان كل منهم يمكن ان يحلم بتكوين دولة قومية كبرى على غرار دولتنا !
لكن المشكلة الآن ، ان هذا (التيار الوسطي ) المذكور ، بدأ يطرح مفهوما (وسطيا) جديدا وخطيرا قائم على اساس الرفض التام لكل المفاهيم التاريخية العرقية القومية السائدة ، سواء منها العروبية او الصهيونية . ان الخطير في هذا التيار الجديد انه يعيد الاعتبار الى ما اطلق عليه تسمية( تاريخ الارض والوطن) بالتعارض مع (تاريخ العرق والقومية). معنى هذا انه يفند من الاساس كل اطروحاتنا الصهيونية التي قامت عليها دولتنا ، وظل يتبناها ، بصورة غير واعية ، العرب انفسهم من خلال تبنيهم للمفهوم القومي للتاريخ . الأشد خطورة في هذا التيار انه بدأ يتغلغل بين مثقفينا انفسهم ، مستفيدا من طروحات بعض مؤرخينا التي تعتبر ان تاريخ التورات اسطوري وغير حقيقي ، وبالتالي فأن ميراث اسرائيل وارض الميعاد ليس له أي اساس اركيولجي تاريخي. وهذا يعني ايضا بأن الفلسطينيين الحاليين هم انفسهم احفاد اليهود والكنعانيين ، وهم ورثة كل تاريخ فلسطين بما فيه الحقبة الاسرائيلية !!
ان هذا كما تتفقون هو عين التطرف والانحراف الذي يقرب الى مستوى الخيانة الوطنية. مع احترامنا لحرية الرأي في دولتنا ، فأننا نبدي قلقنا من بعض التيارات المعتقدية التي راحت تنتشر بين الكثير من مثقفينا ومتعلمينا ، والتي تدعوا الى التنصل عن اساسيات دولتنا اليهودية وايماننا الصهيوني ، ودفع اسرائيل الى الاتحاد مع السلطة الفلسطينية وتكوين دولة (فلسطينية ـ عبرية) متعددة الاديان واللغات !! والمشكلة ان هذه الميول اللاوطنية(المسالمة) سوف تستفيد من حالة السلام التي ستحل بيننا وبين العرب ، من اجل الحصول على دعم من التيارات (الوسطية) والمسالمة العربية واقناع شعبنا بمشروع تغيير الطابع اليهودي القومي لدولتنا . وهذا خطر جدي يستحق منا كل الانتباه والحذر .
هذه الحقيقة المرة تجعلنا نعيد تأكيدنا على ضرورة استعدادنا لمواجهة مرحلة السلام المقبلة مع العرب ، وان نتذكر ابدا الفكرة القائلة : رغم السلام ، فأن حربنا مع العرب سوف لن تنتهي ، بل ان شكلها سوف يتغير . ستكون حربا قائمة على محورين ( التكنلوجيا والثقافة) . من ناحية التكنلوجيا فأننا معركتنا مضمونة الانتصار لأن البلدان العربية متأخرة كثيرا كثيرا عنا . ولكن الخطر يكمن في معركة (الثقافة) ، لأنهم يمكن ان يعوضوا عن ضعفهم السياسي والتكنلوجي بنهضة ثقافية روحية يمكن ان تؤثر في نخبنا الفعالة وتجتاح مجتمعنا وكياننا من الداخل .
المحصلة النهائية من اسهابنا بهذا التحليل ، بأن العراق ومستقبل العراق هو المستفيد الاول من مثل هذه التطورات الثقافية الخطيرة ، لأنها كما توضح لكم تؤدي الى خلق هوية عراقية موحدة تكون الأساس لقيام دولة عراقية وطنية وممثلة لتنوعات الشعب العراقي ، قادرة على خلق الاستقرار والتطور وصنع قوة حضارية قد تتقارب مع سوريا وتجمع شمل ما يسمى بـ (الهلال الخصيب) ، وتتحالف مع ايران وتركيا ...!!
اننا في الخاتمة نود التذكير بالدور التاريخي الكبير لمسؤولنا ومؤسس مكتبنا ، الراحل ( ك،ن) ، ولا يسعنا الا ان نعاهده على الاستمرار بالطريق الذي كرس عمره وحياته من اجله ، ويبقى هدفنا الأول والاساسي : اضعاف العراق ثم اضعافه ثم اضعافه..
الهيئة الاسرائيلة الأمنية العليا ـ مكتب شؤون العراق
تقرير شامل عن تاريخ سياسة اسرائيل نحوالعراق (سري وخاص
الدور الأسرائيلي في العراق ، بين الحقيقة والخيال ..
سليم مطر ـ جنيف
ـ نحن نقرأ التاريخ ، والعرب يتجاهلونه ..
ـ تدمير العراق ، هدف اسرائيل الأول..
ـ درسنا العراق وتاريخه اكثر من العراقيين انفسهم ..
ـ نرجسية صدام ساعدتنا على السيطرة عليه وعلى العراق ..
ـ حرب الكويت انتصارنا التاريخي الذي لم نحلم به..
ـ الدور الخفي للسلاح الروحي السري ((إرادة يهوا)) !
ـ فوجئنا بأن الاكراد اكثر عراقية ، وان الشيعة يمقتون
النظام ولكنهم لا يمقتون السنّة !
ـ تأثيرنا في معارضة الخارج ضعيف ، لأنها ثانوية ومشتتة ..
ـ التطورات الثقافية في العراق والعالم العربي اخطر على اسرائيل من التطورات السياسية والعسكرية !
المقدمة : الفرق بين اسرائيل والعرب
كما هو معلوم ان التاريخ لا يعتمد الصدفة والظروف القدرية ابدا كما يحلو للمهزومين ان يصوروا هذا لتبرير تخاذلهم . ان التاريخ بالحقيقة ماهو الا مزيج مما لايحصى من الارادات المجهولة والمعلومة ، الصغيرة والكبيرة . وان من اول شروط السيطرة على التاريخ والتحكم به ، دراسته ومعرفته . وهذا الذي قمنا نحن به . يمكن القول بكل فخر ان كل ما يمتلكه العراقيون ( والعرب عموما ) من كتب وترجمات عن تاريخهم القديم والحديث لايعادل حتى ربع الذي نمتلكه نحن. ان دراستنا لتاريخ العراق وناس العراق وطبيعتهم وخصوصيتهم ، منحتنا قدرة كبيرة للسيطرة عليه وعلى قادته وعلى تاريخه .
ان الفرق الجوهري بيننا وبين العرب ، اننا نقرأ التاريخ ، وهم يتجاهلونه تماما . لهذا فأن سياستنا لها بعد استراتيجي تاريخي متسلسل وثابت ، بينما سياستهم تكتيكية مترددة متناقضة قصيرة المدى وعرضة سهلة للمؤثرات الداخلية والخارجية . انظر مثلا سياستهم إزاءنا منذ نشوء دولتنا حتى الآن ، كيف انها مترددة متناقضة متقلبة . في البدء رفضوا التقسيم ورفضوا قيام اسرائيل ، وبنفس الوقت تركوا الضفة الغربية تابعة للأردن وغزة لمصر ولم يفكروا باقامة دولة فسطينية! بعد هزيمتهم عام 1967 وخسارتهم للضفة والقطاع والجولان وسيناء ، راحوا يتخبطون بالشعارات الثورية ودعم جماعات منظمة التحرير التي تم ذبحها فيما بعد ، على ايدي العرب انفسهم ، في الاردن ولبنان ! بعدها رفضوا اتفاقات كامب ديفد وإغتالوا السادات واعتبروه خائنا ، ثم هاهم الآن عادوا للمطالبة بأقل مما طالب به السادات ! انها سياسة طفولية بكل معنى الكلمة وتنم عن تخلخل كبير بالشخصية وقلق وعدم نضج نفسي وغموض الأحساس بالهوية . اما نحن ، فلأننا واثقون من انفسنا ومن تاريخنا ومن هويتنا ، فأننا ثابتون على هدفنا : تكوين اسرائيل وجعلها القوى الكبرى المسيطرة على المنطقة ..
سياسة اسرائيل إزاء العراق
كما تعلمون ان دولتنا منذ نهاية الخمسينات بدأت تشكيل مكاتب عديدة كل منها متخصص ببلد عربي من بلدان المواجهة المحيطة بأسرائيل . وفي تلك الفترة ايضا تم تشكيل ( مكتب شؤون العراق ) الذي يتكون طبعا من كوادر يهودية عراقية تم انتقائها بكثير من الصعوبة والحذر ، فكما تعلمون مما يؤسف له ان الكثير من ابناء جاليتنا اليهودية العراقية ظلوا متمسكين بشتتاهم العراقي بصورة عاطفية جدا منعت الكثيرين وحتى الآن من التعاون معنا للعمل ضد بلدهم السابق! لكننا مع كل هذه الصعوبات نجحنا دائمنا بالعثور على العناصر المخلصة والفعالة. طبعا اننا بهذه المناسبة نتذكر باجلال مسؤولنا الراحل ( ك.ن) الذي كرس كل حياته ووقته من اجل تكوين مكتبنا وتطويره ، معتبرا الأمر واجبا وطنيا وهما شخصيا ، بحيث يصح القولبأنه لولاهلما حقق مكتبنا ماحققه من انتصارات ومنجزات لدولتنا ليس لها مثيل لدى باقي المكاتب جمعاء . بل يصح القول من دون اية مبالغة ، وباعتراف جميع مسؤولي دولتنا ، بأن (مكتب شؤون العراق) حقق لأسرائيل اعظم واكبر مفاخرها ، عبر تهيأته وإدارته لحرب الكويت : تدمير العراق ، وتشتيت العرب وتبديد ثرواتهم ، وتركيع الفلسطينيين ..
كما تعلمون بأن مكتبنا رغم تنسيقه مع جهاز مخابراتنا الرئيسي (الموساد) الا انه يظل مكتبا مستقلا ومرتبطا مباشرة بمكتب رئيس الوزراء . انه يتمتع بامكانيات مالية وتقنية هائلة من اجل تنفيذ سياستنا نحو العراق . لقد قسمنا نشاط مكتبنا الى محورين متداخلين : محور الدولة العراقية ، ومحور القوى السياسية العراقية .
يمكن اختصار سياستنا نحو العراق بالكلمات التالية : إضعافه ثم إضعافه ثم اضعافه .. بل يمكن القول ان الكثير من مسؤولينا يرغبون بأزالته تماما عن الخارطة لو تمكنوا ، لكي نتخلص من خطر دائم يهدد اسرائيل منذ نشأتها. قبل ان نشرح كيف نقوم بأضعاف العراق ، يتوجب الحديث عن ، لماذا نرغب بأضعافه:
بالأعتماد على قرائتنا للتاريخ ، نعرف جيدا بأن العراقيين هم المسؤولين عن دمار اسرائيل منذ ايام آشور وبابل . . ان العراق يتمتع بموقع جغرافي رئيسي في منطقة الشرق الاوسطإذ يشكل جسرا بين آسيا والخليج والبحر المتوسط ، وله تداخل تاريخي وجغرافي وحضاري مع الشام مما حتم عليه الحاجة المستمرة لبسط نفوذه على شواطىء سوريا ولبنان وفلسطين . بالاضافة الى انه من البلدان النادرة في العالم التي تمتلك اكبر ثروتين في هذا العصر : (( الماء والبترول )) . الاهم من كل هذا إدراكنا لطبيعة الشعب العراقي الذي يمتلك عمقا نفسيا ناريا وخزيناحضاريا يجعله قادرا على صنع قوة حضارية وعسكرية بصورة سريعة جدا بمجرد توفر شرطين : الدولة الجادة العاقلة ، وفترة وجيزة من الاستقرار . ان إدراكنا لهذه الحقائق جعلنا نخطط سياستنا إزاء العراق على اساس منع توفر هذين الشرطين المذكورين :
اولا ، منع العراق من انشاء اية حكومة وطنية جادة ، من خلال دعمنا لأستمرار السياسة الطائفية الموروثة من العثمانيين والقائمة على اساس احتكار الدولة من قبل (الاقلية العربية السنية) التي تمثل اقل من (18%) من السكان ، وعزل الدولة عن الاغلبية (العربية الشيعية ـ الكردية السنية ـ التركمانية ـ المسيحية) . ان هذا التخلخل بتمثيل الدولة للشعب العراقي يضمن ديمومة إعتمادها على الجيش والمخابرات للتعويض عن ضعف قاعدتها التمثيلية ، وبالتالي إستمرار حالة الضعف وعدم الاستقرار الداخلي.
ثانيا ، منع العراق من تحقيق أي استقرار داخلي او خارجي . ان انعدام الاستقرار الداخلي سبب اساسي لأنعدام الاستقرار الخارجي . ان الدولة العراقية المنعزلة عن اغلبية الشعب ، منذ تكوينها في 1921 ، تعودت البحث عن شرعية خارجية قومية تتمثل بمفهوم (الأمة العربية) للتعويض عن فقدان الشرعية الداخلية المتمثلة بـ(الأمة العراقية).بالحقيقة اننا ساهمنا بكل امكانياتنا التأثيرية الى دفع القيادات العراقية الى التطرف بسياستها العروبية الثورية مما ادى الى تعميق عزلتها عن شعبها وديمومة التناحر مع القوى القومية الكردية والتركمانية والشيوعية وغيرها . ثم ان هذه العروبة الثورية عمقت ايضا الخلافات الخارجية مع الدول المحيطة عربية وغير عربية . حيث تفاقم العداء القومي الطائفي ضد ايران حتى قيام الحرب التي دمرت البلدين ، واستمر كذالك العداء القومي ضد تركيا مما ضمن بذلك استمرار تحالفها معنا . ان هذه السياسة الثورية العروبية خلقت ايضا القطيعة واجواء الحرب حتى مع (الشقيقة !) سورية ، بالاضافة الى تفاقم العداء وقيام الحرب ضد(الاشقاء!) الكويتيين والسعوديين !
تغلغل إسرائيل في الدولة العراقية
يجب الاعتراف بأن تأثيرنا على الوضع العراقي بقي محدودا حتى اواخر الستينات. في تلك الفترة استثمرنا زيادة حدة الصراعات الدولية في الشرق الاوسط وتنامي الارهاب العربي . نجحنا باقناع حلفائنا البريطانيين والامريكيين أن يتركوا لنا حرية التصرف بـ ( الملف العراقي ) بعد اداركهم لأهمية دورنا في الحد من النفوذ السوفيتي خاصة وكذلك الفرنسي في المنطقة وفي العراق بالذات . بالحقيقة ان الامريكيين ابقوا اشرافهم على الملف العراقي ولكنهم تركوا لنا حرية التصرف الكاملة ، بشرط ان نطلعهم على تطورات نشاطاتنا وان نمنحهم حق الفيتوا على كل القرارات . اما نحن من طرفنا ، فاننا نعرف جيدا بان الذي يهم امريكا اولا وقبل كل شيء هو نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية ، وهي تثق بنا وتعتمد علينا مادمنا نخدمها لتحقيق هيمنتها ، وهي لا تتوانى عن التخلي عنا وحتى تحطيمنا إذا اقتنعت يوما بأن سياستنا تتعارض ومصالحها . لهذا فأننا حرصنا في كل نشاطتنا بخصوص العراق وعموم بلدان المنطقة ان نبرهن دائما لأمريكا بأننا مفيدين لها .
بالنسبة للدولة العراقية ، فاننا منذ سنوات الستينات حاولنا ان نستغل كل إمكانياتنا من اجل التغلغل في اجهزة الأدارة والجيش من خلال شراء ذمم بعض العناصر الفعالة مدنية وعسكرية . بالحقيقة اننا اعتمدنا كثيرا على شبكات اصدقائنا البريطانيين ثم الامريكيين ، وبالاستفادة ايضا من علاقاتنا الخاصة مع تركيا وايران الشاه ، وبعض الدول العربية المناهضة للنفوذ العراقي. يجب التذكير بأننا كنا نتجنب تماما الكشف عن انفسنا كجهاز اسرائيلي ، بل كنا نوهم العناصر المكسوبة ، كل حسب نوعيته وميوله ، على اننا مخابرات غربية او تركية او ايرانية واحيانا كثيرة على اننا مخابرات عربية ، سورية سعودية مصرية .
كما هو معروف بأنه من المبادئ الأولية للمخابرات بأن تكون مثل الباحث عن الذهب ، تحفر في كل مكان حتى تعثر على المنجم ، أي ان تبذل الجهود على الكمية مهما كانت ثانوية على امل العثور بينها على النوعية المطلوبة ، وهذا الذي حصل معنا . منذ الستينات بدأنا نتصل بصورة غير مباشرة بالعناصر الحزبية العراقية ، وخصوصا من المقيمين في الخارج . يجب التذكير بأننا حتى سنوات قريبة ، كنا نمتلك قاعدة مخابراتية مهمة في بيروت كمركز رئيسي للتغلغل في القوى العربية في الشرق الاوسط .وبواسطتها تمكنا من الايقاع ببعض العناصر الدبملوماسية والكوادر المقيمة في الخارج .
لقد استثمرنا كثيرا النزاعات والخلافات القائمة بين البعثيين انفسهم وبين البعثيين والتيارات السياسية الاخرى من شيوعيين وناصريين وقوميين سوريين . لقد وافق بعض البعثيين على التعامل غير المباشر معنا على امل التغلب على خصومهم ( معظم هؤلاء البعثيين لم يعرفوا بأننا اسرائيليين ، كما اوضحنا سابقا). طبعا نحن لم نقصر بمساعدتهم من خلال المال والمعلومات التي تمدنا بها مخابراتنا وأجهزة المخابرات الغربية، حتى تمكن البعث من استلام السلطة في العراق عام 1968 .
بالحقيقة ان هذا الانقلاب لم يكن من تخطيطنا ، ولكننا ساعدنا كثيرا على نجاحه ، من خلال بعض العناصر العسكرية القومية في نظام (عبد الرحمن عارف) السابق والتي كانت تابعة للمخابرات البريطانية . رغم تغلغلنا في حزب البعث العراقي الا اننا لم نكن مطمأنين تماما له ، بسبب وجود قيادات كثيرة ومؤثرة خارج سيطرتنا . لهذا فأننا في البداية كنا نفضل بقاء السلطة الجديدة بيد تلك العناصر القومية المرتبطة مباشرة بالمخابرات البريطانية . لكننا فوجئنا بأنقلاب البعثيين على حلفائهم القوميين في (30 ) تموز من نفس العام ( 1968)واستحواذ جماعة (البكرـ السامرائي ـ صدام ) على السلطة . حينها قررنا تغيير تكتيكنا وبذل جهودنا للامساك بهذه القيادة الجديدة . لقد بذلنا كل ما بوسعنا من مال ومغريات (ومؤثرات خاصة بواسطة سلاحنا السري ((ارادة يهوا )) الذي سوف نتحدث عنه بعد قليل) لدعم عناصرنا الموجودة مسبقا في البعث.
تأثير اسرائيل على صدام حسين
بالنسبة لـ( صدام حسين ) فأن المرة الأولى الذي جلب فيها انتباهنا كانت اثناء إقامته كلاجئ في مصر في اوائل الستينات ، وخصوصا بعد إن علمنا بأنه شاب جريء وطموح وشارك بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . اننا بالحقيقة لم نتصل به مباشرة ، لكننا عرفنا من خلال اصدقائنا البريطانيين في بيروت بأنه كان على اتصال بهم لعدة اعوام في بغداد عن طريق خاله (طلفاح) ، واخبرونا فيما بعد انه قطع العلاقة بهم في اواسط الستينات ، لكننا نشك بصحة إدعائهم هذا . رغم ان البريطانيين حلفاءنا فأن هذا لم يمنعهم من اللعب معنا احيانا كثيرة . المهم اننا في اواخر الستينات تمكنا ، وبدعم من اصدقائنا الامريكيين ، من اقناع البريطانيين على اعطائنا الملف كامل عن حياة صدام وعلاقاته وشخصيته يحتوي على اكثر من سبعين ورقة . لم يكن واضحا لدينا ما نبتغيه من صدام ، لكن مسؤول مكتبنا السابق ، الراحل (ك . ن ) الذي كان يهوديا عراقيا من نفس مدينة صدام (تكريت )وله معرفة عائلية مع عائلة السيد طلفاح ( خال صدام) ، قد اصر لسبب غير واضح على الاهتمام بملف صدام ، وكان يردد دائما : (( سوف ترون من سيكون صدام هذا ، ليس مستقبل العراق وحده يتعلق به ، بل حتى مستقبل دولتنا )). وقد اثبتت الايام صحة حدسه ومدى الفوائد العظيمة التي جنتها دولتنا منه .
إذن منذ البدايةجعلنا صدام محل اهتمامنا ورحنا ندرس شخصيته ، بل اننا كلفنا احد المتعاونين العراقيين على الاتصال بمعارف صدام الشخصيين واقاربه وسكان قريته (العوجة) واصدقاء شبابه من اجل إنجاز بحث اجتماعي ونفسي متكامل عن شخصيته . رحنا نتابع تحركاته من خلال مجموعة من عناصرنا . حتى تجاوز ملفنا عن صدام ، اوائل السبعينات ، اكثر من الف ورقة ووثيقة وصورة ، يحتوي على كل تفاصيل حياته النفسية والاجتماعية والسياسية، بل هنالك في ملفنا بضعة احلام سردها لأحدى معارفه من النساء!
لقد وجدنافي صدام الصفات المطلوبة التي تساعدنا على السيطرة عليه ومن خلاله نتمكن من السيطرة على الوضع العراقي كله . ان شخصيته تمثل بصورة سلبية ومكبرة الشخصية العراقية بكل تناقضاتها وإزدواجيتها الحادة . انه بأختصار يمتلك شخصيتين لايجمع بينهما غير خيط واه : شخصية الرجل الماكر ذي العقل الآلي الجهنمي ، وشخصية الطفل الساذج السهل الخداع والانقياد. انه من ناحية ، براغماتي طموح وجريء جدا وقاس باعصاب حديدية لا تعتبر لأي ضمير او مبدأ ، بل همه الاول والاخير السلطة والهيمنة وسحق الخصم مهما كان حتى اخيه او ولده . لهذ نحن شبه متأكدون بأنه هو وراء العملية المسلحة الاخيرة ضد ولده (عدي) والتي حولته الى معاق بسبب خروجه عن طاعة والده . اما الناحية الاخرى ، فأن صدام يمتلك نفسية طفولية غير ناضجة بسبب حرمانه من الأب المتوفي منذ الولادة وانشغال الأم بحياة عائلية منفصلة ، ومعيشته في بيت خاله شبه منبوذ ومحروم حتى من حق الدراسة ، مما اعاق اكتمال نضجه النفسي وبقائه عند مرحلة الطفولة المحرومة من الابوة والأمومة . لكن حرمان الطفولة هذا وقسوة المجتمع وعزلته منحته ايضا روح التحدي والحقد على العالم كله الذي تسبب بحرمانه وإذلاله . تراه مثلا ، منذ سن مبكرة حمل مسدسه وقام بأغتيال احد اقاربه ، وفي بداية سن شبابه ساهم بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . ان صدام حقا من الشخصيات النادرة في التاريخ ، ليس بجبروته فقط بل بأنحطاطه ايضا ، انه نموذج متكامل ومطلق للشخصية الجبارة الاستبدادية، بذكائه واصراره ووحشيته ، وكذلك بسذاجته وطفوليته . الذي يميز شخصية صدام عن النموذج الاستبدادي المعروف ، انه قادر في اشد حالات الهزيمة ، ان يغرف من حقده الدفين ضد البشرية باعتبارها المسؤولة عن نكسته، وبالتالي فأنه بدل ان يتراجع او يقتل نفسه كما يفعل الكثير من المستبدين بعد هزيمتهم ، فأن صدام على العكس يقرر قتل المزيد المزيد من البشر الذين قد يشعروه بهزيمته . انه لا ينزعج من شماتة اعدائه المنتصرين بقدر إنزعاجه من نحيب اتباعه المهزومين!!
إذن بالاعتماد على هاتين الشخصيتين المتناقضتين ، رسمنا سياستنا بالسيطرة على صدام. كلما توغلنا بمعرفة شخصيته زادت قناعتنا بضروة عدم الاتصال به مباشرة ، لأنه متكبر وعنيد وصعب المراس . يتوجب التأثير عليه واستخدامه من دون علمه ، لأن هذا الاسلوب غير المباشر يضمن لنا التأثيرعليه اكثر بكثير من الأتصال المباشر. لهذا فأننا ركزنا العمل بين العناصر القريبة من صدام ، ومحاولة دفع عناصرنا الى التقرب منه ودعمه بكل السبل ، حتى تمكنا اخيرا من احاطته بصورة شبه كاملة تقوده ( كالثور من قرونه ) من دون ان يعلم.
لقد كان دور هذه المجموعة يتركز على ناحيتين : مساعدة شخصيته (الماكرة المستبدة) على بسط هيمنتها على الحزب وعلى الدولة وتصفية كل المعارضين والعناصر القيادية البعثية المزعجة . وبنفس الوقت مراعاة شخصيته (النرجسية الطفولية ) وذلك بعدم اشعاره بأنه مقاد من قبلنا ، بل هو الاقوى والافضل والاحسن وهو المالك المطلق لزمام الأمور في الدولة والحزب .
لقد نجحنا بأقناع حليفتنا امريكا بتبني خطتنا بالسيطرة التدريجية على صدام . من خلال صديقنا شاه ايران تم توريط القائد الكردي (البرزاني) عام1974 باعلان الثورة على النظام ، وبنفس الوقت ساهمنا من خلال حلفائنا الغربيين والاتراك الى تقديم العون المادي والمعلوماتي الى النظام من اجل القضاء على هذه الثورة خلال عام واحد. بهذه العملية تمكنت جماعتنا من إثباة حسن نواياها لصدام ، وبنفس الوقت مساعدته على بسط نفوذه على الحزب والدولة .
صدام ينفذ مشاريع اسرائيل
ان قمة نجاحاتنا بالتأثير على صدام ، تمثلت بمساعدته على التخلص تماما من جماعة (البكر ـ السامرائي) التي لم نستطع الحد من جموحها . ان اشد ما ازعجنا بهذه المجموعة هو قرارها عام 1979 بالتحالف مع سوريا . ان اقدامها على هذه الخطوة الخطيرة المتهورة اعتبرناه تجاوزا لكل خطوطنا الحمراء التي من اهمها منع أي تقارب جاد بين العراق وسوريا . ثم ان الذي زاد من مخاوفنا وغضبنا ان خطوة التحالف هذه اتت في ظل صعود الخميني الى السلطة الايرانية ، واحتمالات قيام محور (عراقي ـ سوري ـ ايراني ـ فلسطيني ـ سوفياتي ) كفيل بأحداث تغيرات هائلة في المنطقة تهدد امن اسرائيل في الصميم . لهذا فأننا من خلال عناصرنا وبدفع من بعض الدوائر العربية والغربية الصديقة ، اوحينا لجماعة السامرائي القيام بعملية شبه انقلابية لأزاحة صدام ، وبنفس الوقت ساهمت عناصرنا بالكشف عن هذه العملية ومن ثم مساعدة صدام على القضاء التام عليهم واستحواذه بصورة مطلقة على السلطة . بهذه الخطوة الحاسمة ضربنا عصفورين بحجر :
اولا، افشلنا تماما مشروع المحور (العربي ـ الدولي) الخطير المعادي لنا وإبعاد كل احتمالات التقارب بين العراق وسوريا . ثانيا ، اصبح صدام (العوبة) بيدنا بعد إزاحة جماعة ( البكرـ السامرائي) الخارجة عن سيطرتنا.
بعد نجاحنا غير المتوقع بعملية صعود صدام واستحواذه المطلق على الدولة والحزب ، قامت عناصرنا بتركيز سيطرتها على دائرة القرار المحيطة بصدام ، من خلال اقناعه بأنه لا يمكن ان يستمر بسلطته الا من خلالهم ، وبنفس الوقت اشعاره بالثقة التامة بهم من خلال الأدلة الساطعة . طبعا صدام لم يشك حتى الآن بتأثيرنا المباشر في الاحداث ، لأن عناصرنا كانت توحي له بأن معلوماتها متأتية من علاقاتها الخاصة مع بعض الجهات الغربية، حيث استخدمنا مختلفالواجهات الغربية للتغطية على دورنا: اجهزة مخابراتية صديقة ، مؤسسات اعلامية وتجارية خاصة ، احزاب ومنظمات شعبية .. الخ . اننا من خلال كل هذه الواجهات قدمنا لصدام خدمات معلوماتية ومخابراتية وتقنية لم يحلم بها ابدا .. كل هذا من اجل كسب ثقته بجماعتنا وفرض سياستنا عليه .
بعد ذلك قررنا ان نضرب ضربتنا الكبرى الهادفة الى تدمير العراق فعليا والقضاء على كل مكوناته الاقتصادية والصناعية والمالية. فكرنا بعدة امكانيات ، اولها، تغذية ودعم الحرب الكردية ، لكن تبين لنا انها ليست كافية فهي محدودة بمنطقة جغرافية وسكانية غير قادرة على الأمتداد وتدمير بنية العراق ، ثم اننا تأكدنا جيدا من خلال تجاربنا مع الاكراد انهم مهما ادعوا من نزعات انفصالية معادية للعراق الا انهمعند المحك يكشفون عن نزعة وطنية عراقية غريبة تتجاوز احيانا حتى وطنية العرب ! . فكرنا ايضا بثورة شيعية ، لكن باحثونا اعترضوا على المشروع منذ بدايته ، لأنهم يعتقدون بأن شيعة العراق ، مهما اختلفوا مع النظام واتهموه بالطائفية ، فأنهم بجميع تياراتهم اليسارية والدينية يعتبرون انفسهم هم العراق ولايحملون الضغينة ضد اخوانهم السنة بل ضد الدولة الطائفية ، ومن الصعب جدا توريطهم في حرب اهلية . الأكثر من هذا ان خبراءنا كلهم اتفقوا على ان وصول الشيعة الى قيادة الدولةيمكن ان يؤدي الى عكس ما نبتغيه. ان طبيعة الشيعة كأغلبية عددية تؤهلهم لأن يجمعوا حولهم باقي الجماعات العراقية من سنة واكراد وتركمان ومسيحيين وغيرهم ، وتكوين دولة عراقية قوية خارجة تماما عن سيطرتنا . فكرنا بعدها بقيام حرب ( بعثية ـ بعثية ) داخل العراق وتوريط سوريا من خلال استغلال من تبقى من جماعة (السامرائي ـ البكر) لكننا خبرائنا اقتنعوا بصعوبة توريط سوريا وصعوبة ضمان تأثير مثل هذه الحركة على الوضع.
اثناء ذلك اتانا الحل من دون ان نتوقع : اعدام صدام للقائد الديني الشيعي (محمد باقر الصدر) عام 1980 واعلان الخميني تكفير صدام ونظامه !
بسرعة فائقة قمنا بتحشيد كل طاقاتنا الدولية وكذلك عناصرنا المحيطة بصدام من اجل خلق كل الاسباب الممكنة لأندلاع الحرب بين البلدين . من خلال المخابرات الغربية والقيادات العسكرية الايرانية من بقايا نظام الشاه ، اوحينا لصدام بأنه قادر على اجتياح ايران واسقاط نظام الخميني والحصول على منطقة الأحواز التي يطالب بها العراق . لقد سلمنا الى صدام خارطة حقيقية كاملة بكل المعسكرات والمطارات الايرانية ، ورسمنا له خطة كاملة مشابهة لتماما لخطتنا التي نجحنا بها بالقضاء على القوة المصرية في حزيران 1967 ، أي تكتيك (الضربة الخاطفة ) . لكننا بنفس الوقت اوصلنا نص الخطة الى الايرانيين مع سبل افشال الهجوم العراقي المباغت. بهذا ضمنا ديمومة الحرب بين البلدين . بل داومنا على تغذية العداء بين الطرفين وامدادهما بالسلاح حتى نجحنا بأن تستمر الحرب اكثر من ثمانية اعوام وتدمير طاقة البلدين وما جنياه من محصول البترول خلال كل الستين عاما السابقة !!
حرب الكويت انتصار تاريخي لم نحلم به
ان الحلقة الاهم والاكبر في مشروعنا التاريخي بتدمير العراق ، بلغناها بسرعة غير متوقعة وبنجاح منقطع النظير . ويكمن سر نجاحنا هذا في توفر طرفين مثاليين لتحقيق مثل هذا السيناريو الجهنمي : (( صدام وامريكا ))، وهما طرفان متكاملان وليس متناقضين كما يتوهم الجميع . صدام الساذج المتهور يتكامل تماما مع امريكا الجبارة الشرهة ، حيث استخدمنا بنجاح مؤهلات الطرفين ، كالتالي:
اولا ، التأثير على صدام ودفعه الى القيام بالممارسات الرعناء الكفيلة باثارة غضب امريكا والعالم واعطاء الحجج لتدمير العراق.
ثانيا ، التأثير على امريكا من خلال الأيحاء لها بأن عملية شل قدرات العراق وعزله تحقق لها من الأرباح ما لم تحلم به .
بالنسبة لأمريكا ، فأننا لم نبذل كثير من العناء من اجل اقناعها بمثل هذا المشروع . انها عموما تثق بنا بالاضافة الى التأثير المعروف لجاليتنا اليهودية على مركز القرار الامريكي . من دون تأثيرنا فأن للولايات المتحدة خططها القديمة من اجل ازاحة النفوذ السوفيتي بالاضافة الى الفرنسي من منطقة الشرق الاوسط التي تعتبر اهم منطقة اقتصادية واستراتيجية في العالم . منذ زمن طويل تعمل امريكا من اجل تطبيق مخططها القاضي بالاستيلاء على منابع البترول والاستحواذ على اسواق الخليج . وبمجرد إن بدأت علامات الضعف والانهيار في المعسكر الشيوعي في اواسط الثمانينات حتى قام الامريكان بالتنسيق معنا من اجل الاستعداد لتطبيق مخطط الأستيلاء على المنطقة . بالحقيقة ان الولايات المتحدة كانت قد هيأت سيناريوهات عديدة من اجل خلق المبررات لتنفيذ مخططها . والطريف ان العراق لم يكن يوجد في أي من هذه المخططات ، بل السعودية كانت هي المطلوبة ، لأنها تعتبر الحلقة الأضعف في تلك الفترة. من ابرز هذه السيناريوهات واخطرها هو الدفع غير المباشر لأشعال ثورة اسلامية في السعودية ، بالتنسيق مع الاسلاميين الافغان المتحالفين مع امريكا ، ثم قيام حرب اهلية سعودية طاحنة ، تتورط فيها احدى جارات السعودية ، اما اليمن الشمالية ، او ايران . هذا الوضع الخطير سيمنح التبريرات لتدخل الامريكيين بطلب من الحكومة السعودية ودول الخليج .
ولكن في عام 1989عند نهاية الحرب العراقية الايرانية وظهور توترات داخلية عراقية ، حاول صدام كعادته افتعال ازمات وهمية تبعد الانظار عن الأزمة الحقيقية . داخليا افتعل ازمة بين العراقيين والعمال المصريين من خلال قيامه بحملة سرية لأغتيال مئات العمال المصريين وترحيل مئات الآلاف ، بحجة ان العراقيين يرفضون المصريين . اما خارجيا فانه افتعل توترا مع اسرائيل وراح يهددها بالابادة باسلحته الفتاكة ومدفعه العملاق. حينها خطر هذا السؤالبذهنمسؤولنا الراحل(ك،ن) : كيف يمكننا ان نزج العراق في السيناريو الامريكي بدل السعودية ، ولكن بنفس الوقت نحقق لأمريكا هدفها بايجاد مبرر للسيطرة على المنطقة ؟!
في اثناء ذلك علمنا بوجود توتر وغضب من قبل صدام ضد الكويت ودول الخليج بسبب تقصيرهم بدعم العراق بعد حربه الطويلة ضد ايران . حينها اتانا الجواب العبقري الذي لم نحلم به : ان يقوم صدام بغزو الكويت والسعودية ، لتندلع حروب اهلية ودولية تمنح كل المبررات لتدخل حلفائنا الامريكان وبنفس الوقت نحقق هدفنا الاكبر : تدمير العراق ، ومعه المنطقة كلها ...
بالحقيقة ، رغم تحالفنا مع الامريكان فأنهم ايضا لهم مصالحهم ووجهات نظرهم التي لا تتفق بالضرورة معنا . لهذا فأننا في بعض الاحيان نضطرالى خداع حلفائنا والتأثير عليهم من اجل جرهم الى مشاريعنا . وكانت حرب الخليج اكثر القضايا الشائكة التي نجحنا بتوريط الامريكان والعالم كله في حرب غايتها المعلنة تدمير صدام اما غايتها غير المعلنة ولكن المعروفة للجميع ، هي تدمير العراق .
ومن اجل تحقيق غايتنا هذه ، قمنا لأول في التاريخ بتجربة احدث واخطر سلاح سري والاول من نوعه في الحروب الحديثة .
السلاح الايحائي السري ( ارادة يهوا)
بالحقيقة ان هذه المرة الاولى التي نتجرأ بها على الحديث عن سلاحنا السريفي وثيقة مكتوبة ، وإن كان تقريرا سريا خاصا . كما تعرفون ان هذا السلاح السري تتكتم عليه دولتنا بصورة كبيرة جدا ، والسبب يعود الى ان فعالية هذا السلاح ستهبط الى الصفر في حالة الكشف عنه فقط . إذ يكفي للضحية ان يعلم بتأثير سلاحنا الممارس عليه حتى يتمكن من التخلص منه بسهولة كبيرة جدا . لهذا فأننا نفعل المستحيل للتعتيم عليه رغم اعتقادنا بأن هنالك بعض التسريبات التي بدأت تظهر في بعض الصحف الغربية بصورة غير مباشرة ، أي الحديث العام عن امكانية استخدام مثل هذه الطاقات الخفية في النشاط التجسسي ، من دون اية اشارة لأسرائيل . ولحسن الحظ ان هذه التسريبات ، حتى الآن ، لم تثر اهتمام العرب ، ولا زال مفعول سلاحنا ساريا بصورة مريحة ومقبولة .
ان هذا السلاح كما تعلمون اطلقنا عليه تسمية ( ارادة يهوا ) ويعتمد اساسا على استخدام ( طاقة الايحاء الروحي ) في التأثير على اهداف معينة وفعالة . بالحقيقة ان هذا السلاح ، او قل الجهاز ظل منذ الخمسينات مشروعا متداولا لدينا ولدى السوفيت وبدرجة اقل لدى الامريكان . وتتلخص الفكرة كالتالي : استخدام طاقة الايحاء التي يمتلكها البشر بالتأثير على انسان آخر ودفعه الى القيام باعمال من دون ارادته .
حتى الثمانيات ظلت هذه التجارب سرية ومحدودة التأثير ولم نتمكن ان نستخدمها فعليا في نشاطنا التجسسي ، وكدنا في مرات عديدة ان نغلق ملف هذا المشروع بسبب التكاليف الباهضة وغير المثمرة . لكن في اواخر الثمانينات حدث ما لم نتوقعه . مع التغيرات الكبرى التي بدأت تجري في الاتحاد السوفيتي وبدأ هجرة اليهود السوفيت ، جائتنا خبرات سوفيتية جبارة في مجال التجارب الروحية. تبين لنا ان السوفيت قد توصولوا الى نتائج سرية باهرة في هذا المجال ، ومن حسن الحظ فأن الكثير من الكوادر المشاركة بتلك التجارب كانت من اليهود ، بل حتى غير اليهود تمكنا من الاتصال بهم وجلبهم الى اسرائيل . لقد اكتشفنا بأن السوفيت قد اضافوا خطوة مهمة وحاسمة الى هذا الحقل ، لم تخطر من قبل على بال احد : استخدام التقنيات العلمية من اجل تفعيل وتكثيفالنشاطات الروحية ! اية بصورة اوضح ، استخدام تقنيات الاتصالات السمعية البصرية بما فيها الاقمار الصناعية في عملية تنشيط الاتصالات الروحية والتأثير الايحائي على على بعض الاشخاص المطلوبين . لقد جرت العادة ان يجلس الشخص الفعال في مكان معين وينظر في صورة الشخص المفعول ويحاول ان يوحي له عن بعد ، القيام بفعل ما. والمشكلة ان تأثير الموجات الايحائية يقل مفعوله مع المسافات والمؤثرات المناخية والكهرومغناطيسية وغيرها . وكانت عبقرية السوفيات انهم بدأوا باستخدام تقنيات الاتصالات لنقل الايحاءات كما يتم نقل الصورة والصوت الى مكان بعيد . ومن حسن الحظ انهم لم يتوصلوا الى نتائج حاسمة حينما توقفت التجارب مع بدأ انهيار النظام السوفياتي وانحلال جهاز المخابرات (الكي جي بي)المسؤول عنها .
بعد جهود جبارة مكثفة وبرنامج بحث وتجارب لا يتوقف ليلا ولا نهارا ، تمكنا خلال اقل من عامين من تحقيق نتائج باهرة ومؤكدة . حينها قررنا الشروع الفعلي بتجربة سلاحنا السري هذا على صدام . والحقيقة ان هذه الفكرة كانت من مقترحات مسؤولنا الراحل المرحوم( ك ، ن ) الذي رغم مرضه وابتعاده عن وظيفته ، الاانه اصر على ابقاء مسؤوليته المباشرة على برنامج التأثير على صدام . وكانت عملية التأثير كالتالي :
يجتمع نخبة من عشرات الاشخاص المتميزين بقدارتهم الطبيعية في التأثير الايحائي ، يجلسون في قاعة مظلمة وامام جميعهم شاشة كبيرة تعرض صورة ملونة لصدام . كلهم متفقون على ترديد عبارة واحدة معينة تتضمن امرا معينا موجه الى صدام ، مثلا : (( يجب ان تقتحم الكويت .. كل شيء سهل وممكن .. لتقتحم الكويت .. الامريكان لن يفعلوا شيئا ...)) . وهنالك اجهزةحساسة وعالية الجودة تقوم بالتقاط هذه الايحاءات ونقلها عبر القمر الصناعي الى نقاط محددة يتواجد فيها صدام .
وحسبما ذكرنا فأن نقطة الضعف الخطيرة في هذا السلاح ، انه من السهل جدا التخلص من تأثيره بمجرد معرفة وجوده . يكفي للضحية ان يبادر بحماية نفسه بايحاءات ايجابية مضادة واجراء تمارين رياضية وروحية تحيطه بهالة ايجابية تمنع عنه كل المؤثرات السلبية الخارجية .
الاستخدام الجديد لسلاح الاعلام
لا ندعي بأن سلاحنا ( ارادة يهوا ) هو وحده الذي اثر في قرارات صدام ، بل هنالك مؤثرات عديدة دعمت هذه الايحائات ، اهمها هي طبيعة صدام نفسه ونظامه المهيء تماما لتقبل مثل هذه القرارات المتهورة .فليس من الممكن مثلا ان نؤثر على صدام لو ان قراراته كانت تمر قبل تنفيذها بمداولات الحكومة والبرلمان والصحافة ودوائر الحزب والدولة . ثم اننا حققنا النجاح الفائق بالتأثير التام على صدام من خلال لعبنا على جانبه النرجسي الطفوليبواسطة سلاح تقليدي جدا ، الا وهو الاعلام ، لكننا استخدمناه بصورة جديدة ومناقضة تماما لتأثيره النفسي التقليدي : بدلا من العمل على الحط من قيمة العدو وإفقاده ثقته بنفسه ، قمنا نحن بالعكس تماما ، أي باعلاء شأن صدام وتضخيم قدراته آلاف المرات . رحنا ننفخ به ليلا ونهار ، وهو المسكين بكل نرجسيته الطفولية دخل تماما في لعبتنا، وراح ينتفخ وينتفخ وينتفخ حتى انفجر مثل البالون الفارغ عند اول (بعـ...ـة)امريكية. لم يخطر على بال احد بأن اسرائيل ، كانت ومازلت ، وراء الحملة الاعلامية العالمية الجبارة التي اطلقت للتهويل من خطر صدام وجعله يحتل واجهات جميع وسائل الاعلام في العالم . ان هذا الاسلوب التفخيمي كان له تأثيرا حاسما في بث الرعب في العالم وتهيئة الرأي العام لتقبل أي رد فعل لأيقاف صدام عند حده .اما الهدف الاهم فهو خداع صدام نفسه وجعله يتصور حقيقة بأنه قادر على مواجهة جيوش امريكا والعالم كله . لم يكن يخطر على باله ابدا من قبل ، ولم يكن يتجرأ حتى ان يحلم بأنه سوف يصبح ذات يوم الشخصية الاولى في العالم ويحتل واجهات جميع وسائل الاعلام ، وتنطلق المظاهرات المرددة لأسمه في جميع ارجاء الارض. لقد نجحنا بتصعيد الحالة النرجسية الساذجة فيه الى حد الجنون والفقدان التام لكل ارتباط بالواقع والحسابات العقلانية . كل هذا سهل كثيرا لجماعتنا المحيطة به بأن تفرض عليه ايحاءاتنا بصورة سهلة جدا ، مع ايهامه بأنه هو المالك الجبار والقادر الأوحد على اتخاذ القرارات!
اسرائيل والمعارضة العراقية
كما هو معلوم ، ان هدفنا المرحلي الاول هو الحفاظ قدر الامكان على نظام صدام لأن ديمومة هذا النظام تضمن ديمومة مشروعنا لتدمير العراق . لهذا فأننا نبذل كل ما في وسعناوبكل حماس وصدق لمنع أي طرف مهما كان من تغيير النظام .ولكننا نعرف جيدا بأن صدام ونظامه ليس ازليا ، ولابد ان يأتي اليوم القريب او البعيد لأن ينتهي ، سواء بالقوة او موتا طبيعيا . لهذا فأننا نحاول ان نخطط لوجود قوى قيادية يمكن ان تلعب دورا فعالا في عراق المستقبل. وعلى هذا الاساس يتحدد موقفنا إزاء المعارضة العراقية.
يتوجب التوضيح ان هنالك في العراق نوعان من المعارضة :
اولا، المعارضة المقيمة في الخارج ، وهي المعارضة المعروفة والمتداولة في الاعلام . ان تأثيرنا في هذه المعارضة محدود جدا ، لسببين ، اولهما ، لأنها بكل بساطة هي نفسها معارضة محدودة التأثير ومشتتة ( هنالك استثناء القوى الكردية وبعض الأطراف الاسلامية واليسارية التي تمتلك وجودا داخليا مهما ) . في كل الاحوال ان معارضة الخارج عدديا لا تمثل حتى عشرة بالمئة من مجموع العراقيين في الخارج ، حيث القسم الاعظم من هؤلاء العراقيين يعارضون النظام بطريقة صامتة او من خلال نشاطات ثقافية واجتماعية متنوعة خارج التنظيمات الحزبية. ثم السبب الثاني والمكمل ، ان هذه المعارضة مع ضعفها وتشتتها هي ايضا مفتوحة جدا وتشبه السوق الشرقي الذي تتداخل فيها الدروب والأزقة والدكاكين والبسطات ، ويمكن بسهولة التيه فيه . أي ان هنالك في هذه المعارضة منافسون كثيرون لنا ، فحتى الذي يوافق على التعامل معنا يمكن ان يكون بنفس الوقت يتعاون مع جهات اخرى متنوعة ، تبدأ بالحكومة العراقية ، وتنتهي بالدول العربية والغربية المعنية بالشأن العراقي ، بالاضافة الى تركيا وايران وروسيا ، بل اكتشفنا انه حتى باكستان لها عيونها في هذه المعارضة !
ثانيا ، المعارضة الداخلية ، وهي الأخطر والاهم لأنها تتشكل من قوى وتيارات بمعظمها غير معلنة وغير واضحة حتى لأجهزة المخابرات الحكومية . يمكن الاستعانة بأمثلة الانظمة الأشتراكية لتوضيح هذه الاشكالية . فمن المعروف ان معظم التيارات والقيادات التي برزت بعد سقوط الانظمة الشيوعية ، كانت جزءا من النظام السابق ، لكنها كانت قادرة على ان تخفي مواقفها بانتظار الفرصة المناسبة. لهذا نحن على يقين بأن النظام القادم في العراق سينبثق من رحم النظام الحالي . رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها عناصرنا المتغلغلة في نظام صدام من اجل معرفة العناصر والتيارات المستقبلية ، فأننا فشلنا حتى الآن بتحديدها والأمساك الكافي بها ، لأن خطورة الوضع لا تسمح لها ان تعبر عن نفسها حتى بصورة عابرة ، لكننا على يقين من وجودها .
امام هذا الوضع الملتبس ، فأننا تمكنا بصورة غير مباشرة من توريط حلفائنا الامريكان والبريطانيين بالقبول بأستراتجية جهنمية تتلخص بالتالي :
بما اننا لا نستطيع الامساك بالمعارضة العراقية الحقيقية ( الداخلية المستقبلية) فأن علينا الاستفادة قدر الامكان من وجود المعارضة الخارجية من اجل التأثير على المعارضة الداخلية . وهذه الاستراتيجية تستند على محورين :
1ـ استعمال معارضة الخارج كمصيدة لمعارضة الداخل . اننا مع حلفائنا نجحنا بتضخيم اهمية بعض الاطراف المتواطئة معنا من معارضة الخارج وجعلها هي المعارضة الرسمية المعترف بها دوليا وامريكيا . من خلال هذه تمكنا من جذب الكثير من العناصر الداخليةللاتصال بمعارضة الخارج املا بضمان الدعم الدولي لمشاريعهم السرية . اننا من خلال مصادرنا المتنوعة نجحنا بالكشف عن الكثير من هذه العناصر . وبما اننا غير قادرين بسهولة على الامساك بهذه العناصر الداخلية وخصوصا العسكريين منهم ، فأننا فضلنا دائما فضحهم لنظام صدام والقضاء التام عليهم . طبعا لا نخفي عليكم بأن غالبية المنتمين لمعارضة الخارج لا يدركون حتى الآن انهم بتقديمهم المعلومات الى الاجهزة الامريكية والبريطانية ، انما يقدمون هذه المعلومات لنا نحن ، حيث نستخدمها من اجل استراتيجيتنا الخاصة بعيدا حتى عن حلفائنا .
2 ـ تدمير سمعة أي معارضة عراقية واخماد روح المعارضة لدى كل العراقيين ، من خلال التعتيم التام على معارضة الداخل ، واعتبار معارضة الخارج هي المعارضة العراقية الوحيدة . وبنفس الوقت نقوم بكل ما نستطيع بتشويه سمعة معارضة الخارج واسقاطها في الحضيض من خلال توريطها في فضائح مخابراتية وعلاقات تبعية لأمريكا بصورة اعلامية كاريكاتورية مكشوفة للجميع . اننا نشكر السماء لأن معظم قادة المعارضة العراقية في الخارج قد ورثوا ما يكفي من السذاجة والنرجسية (من سيدهم اللدود صدام) لكي يدخلوا في هذه اللعب الاعلامية والمؤتمراتية التي تحط من سمعتهم وتجعلهم في نظر الجميع ، بما فيهم الغربيين ، عبارة عن عملاء تافهين واطفال حمقى في حضرة امهم الطيبة والجبارة امريكا !!
اننا يمكن ان نقول بكل ثقة وفخر مرتاحون جدا لما حققناه وما نحققه حتى الآن من تحطيم مستمر للعراق ، دولة وشعبا ومعارضة .
ولكن يمكن ان نضيف بكل صراحة وواقعية بأن ثقتنا هذه غير مضمونة ابدا بخصوص المستقبل ، بسبب عدم ضماننا السيطرة على اخطر سلاح تمتلكه الشعوب (والعراقيون على الاخص) يتجاوز في اهميته كل الاسلحة السياسية والعسكرية : سلاح الثقافة !!!
التطورات الثقافية وخطورتها على اسرائيل
يتوجب ان نعترف بكل صراحة ، اننا لا نمتلك مشروعا مستقبليا واضحا بالنسبة للعراق (كذلك بالنسبة للدول العربية المحيطة) ، لأننا غير مطمأنون لطبيعة الفورة الثقافية السياسية التي بدت معالمها تتضح لدى النخب العربية ، وخصوصا النخبة العراقية التي عانت اكثر من غيرها من الاحباطات والكوارث، وآخرها حرب الكويت والدمار الشامل . أي بصريح العبارة اننا مهما خططنا سياسيا وعسكريا لأستيعاب التطورات ، الا ان الجانب الفكري الثقافي يبقى هو الأهم ومن الصعب السيطرة عليه ، وخصوصا إزاء (صحوة الهوية) الكبيرة المطالبة بالعودة الى الذات وبناء الهوية الوطنية ونبذ الافكار القومية والحداثية القادمة من الغرب ، وتبني تيارا فكريا جديدا وجامعا اطلقوا عليه (تيار الوسطية)! اننا نشد انتباه الجميع الى الخطورة المستقبلية لمثل هذا التيار الثقافي الجديد ، من الناحيتين التاليتين :
اولا ، كما تعلمون اننا منذ مطلع القرن الحالي ، وعبر (الحركة الصهيونية) والمؤسسات الاكاديمية والتبشرية الغربية القريبة ، ساهمنا بصورة غير مباشرة بدعم انتشار الافكار الحداثية من ليبرالية وقومية وماركسية ، لأننا نعرف انها بالنتيجة تخدمنا وتبرر وجود دولتنا . رغم المواجهات العديدة التي خضناها ضد هذه التيارات ، الا اننا كنا ندرك جيدا انها من دون قصد تقدم لنا الخدمة المطلوبة ، من خلال مساهمتها بتدمير الاسس الروحية والميراثية والدينية لهذه المجتمعات وزرع الشقاق بين الاطراف والاجيال والفئات المختلفة . ونشكر الله ان هؤلاء الحداثيون بمختلف اتجاهاتهم مع حكوماتهم العلمانية لم ينتبهوا الى الميزة الأساسية التي ظلت تمنح القوة الكبرى لنظامنا السياسي الاجتماعي ، والمتمثلة بالتوازن القائم بين التيار العلماني والتيار الديني ، بصورة تسمح للجميع ممارسة حياتهم من دون اعتداء على حياة الاخرين . بينما الحداثيون العرب ، بكل سذاجة ورعونة ، قرروا القطيعة التامة مع المجال الديني واحتقاره وعزله باعتبار رجعيا متخلفا ، ولم يدركوا انهم بسلوكهم هذا قطعوا الرجل الثانية التي يسير بها جسم الدولة والمجتمع.
منذ اعوام السبعينات بدأ خبرائنا يلاحظون بروز معالم (صحوة الهوية) المطالبة بالعودة الى الذات ورد الاعتبار الى الميراثات الوطنية الاصلية . لهذا فأننا اسرعنا بالتنسيق مع حلفائنا الانكليز والامريكيين الى وضع استراتيجية غايتها تحطيم هذه الصحوة وتشويهها وحرفها عن مسارها . نجح الامريكيون بالتغلغل في داخل الحركات الاسلامية المعادية للشيوعية وللسوفييت ، خصوصا من انصار مجهادي افغانستان ، ودفعها لكي تقوم بممارسة العنف ضد الاطراف المدنية . بهذا تمكنا من تحويل (صحوة الهوية) هذه الى (صحوة دينية) ونوع من الردة السلفية العنفية الممقوتة من قبل المثقفين وعموم الناس وكذلك من قبل الغرب والعالم اجمع . وهذا الأمر ابقى على حدة الصراع بين التيارين الحداثي والسلفي ومنع الاستقرار السياسي والاجتماعي ، وبنفس الوقت منح الشرعية لصورة اسرائيل الحضارية المسالمة المعادية للأرهاب .
لكننا الآن في الاعوام الأخيرة ، بدأنا نواجه تيارا جديدا اكثر حنكة واكثر خطورة ، استطاع ان يتبنى (صحوة الهوية) بصورة ديناميكية وذكية قادرة على كسب التيارات المختلفة الرئيسية وتجميعها حول قواسم وطنية مشتركة وثابتة! وهذا التيار الثقافي الجديد يسمى (تيار الوسطية) ، والذي نجح بتكوين اساس فكري ونظري من اجلالتخفيف من حدة الصراعات بين مختلف الاطراف المتناقضة ، وخصوصا بين الحداثيين العلمانيين وبين التقليديين المتدينين ، عبر تكوين (قاسم وسطي مشترك) يجمع ما بين الحداثة والاصالة ، بين الديني والعلماني ، بين المادي والروحاني . ان خطورة مثل هذا التيار الوسطي تكمن بقدرته على التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية وبث نوعا من الوئام بين تلك الاطراف التي نجحنا بجعلها متصارعة متناحرة منذ سنوات طويلة.
ثانيا، ان الاكثر خطورة في هذا (التيار الوسطي) انه لم يكتف ببناء الجسور بين مفهومي الحداثة والاصالة ، بين العلماني والديني ، بل ايضا بناء الجسور بين مفهومية لقومية والوطنية ) ، وهما من اشد المفاهيم التي نجحنا بجعلها متناقضة ولعبت دورا حاسما طيلة القرن العشرين ، ببث الشقاق والصراع في داخل الشعوب العربية وخصوصا في بلدان ما يسمى بالمشرق ( الهلال الخصيب) !!
اننا كما هو معروف لديكم ، تمكنا منذ بدايات القرن ، ومن خلال مساهمتنا بنشر الأفكار الحداثية ، نجحنا ايضا بنشر اهم واخطر مفاهيمنا التي لولاها لما قامت دولتنا ابدا : (مفهوم القومية العرقية) وهو نفس مفهوم الصهيونية . اننا من خلال هذا المفهوم اقنعنا العرب بأنهم (عرب عرقيا وسلاليا ) وكلهم قادمون من الجزيرة العربية . وبهذا المفهوم القومي نجحنا بضرب عصفورين بحجر :
ـ اقناع الفلسطينيين ( ومعهم العرب والعالم اجمع) بأنهم عرب اقحاح قدموا فلسطين مع الفتح ، وبالتالي فأننا نحن يهود الشتات نمثل تاريخ فلسطين وشعب اسرائيل الاصيل . وما على الفسطينيين الا ترك بلادنا والعودة الى ديار اسلافهم العرب .
ـ اننا منذ مطلع القرن نجحنا بتقسيم شعوب الشرق الأوسط ، ليس على اساس الوطن والارض والتاريخ المشترك ، بل على اساس القوميات العرقية الدينية الطائفية . وساهمنا بكل امكانياتنا وخبرائنا ، ومعنا كل المؤسسات التبشيرية والاستشراقية الغربية ان نصوغ لكل جماعة تاريخا قوميا دينيا طائفيا متميزا مع اصول عرقية وسلالية مختلفة، واقناع كل منها على انها (امة) متميزة بشعارات سياسية واحلام وطنية توسعية . بهذا الأمر ضمنا انعدام الوحدة الوطنية وديمومة الصراعات القومية بين هذه الجماعات: عرباكراد تركمان شركس سريان ، مسلمون مسيحيون ، شيعة سنة ..الخ .. بحيث ان كل منهم يمكن ان يحلم بتكوين دولة قومية كبرى على غرار دولتنا !
لكن المشكلة الآن ، ان هذا (التيار الوسطي ) المذكور ، بدأ يطرح مفهوما (وسطيا) جديدا وخطيرا قائم على اساس الرفض التام لكل المفاهيم التاريخية العرقية القومية السائدة ، سواء منها العروبية او الصهيونية . ان الخطير في هذا التيار الجديد انه يعيد الاعتبار الى ما اطلق عليه تسمية( تاريخ الارض والوطن) بالتعارض مع (تاريخ العرق والقومية). معنى هذا انه يفند من الاساس كل اطروحاتنا الصهيونية التي قامت عليها دولتنا ، وظل يتبناها ، بصورة غير واعية ، العرب انفسهم من خلال تبنيهم للمفهوم القومي للتاريخ . الأشد خطورة في هذا التيار انه بدأ يتغلغل بين مثقفينا انفسهم ، مستفيدا من طروحات بعض مؤرخينا التي تعتبر ان تاريخ التورات اسطوري وغير حقيقي ، وبالتالي فأن ميراث اسرائيل وارض الميعاد ليس له أي اساس اركيولجي تاريخي. وهذا يعني ايضا بأن الفلسطينيين الحاليين هم انفسهم احفاد اليهود والكنعانيين ، وهم ورثة كل تاريخ فلسطين بما فيه الحقبة الاسرائيلية !!
ان هذا كما تتفقون هو عين التطرف والانحراف الذي يقرب الى مستوى الخيانة الوطنية. مع احترامنا لحرية الرأي في دولتنا ، فأننا نبدي قلقنا من بعض التيارات المعتقدية التي راحت تنتشر بين الكثير من مثقفينا ومتعلمينا ، والتي تدعوا الى التنصل عن اساسيات دولتنا اليهودية وايماننا الصهيوني ، ودفع اسرائيل الى الاتحاد مع السلطة الفلسطينية وتكوين دولة (فلسطينية ـ عبرية) متعددة الاديان واللغات !! والمشكلة ان هذه الميول اللاوطنية(المسالمة) سوف تستفيد من حالة السلام التي ستحل بيننا وبين العرب ، من اجل الحصول على دعم من التيارات (الوسطية) والمسالمة العربية واقناع شعبنا بمشروع تغيير الطابع اليهودي القومي لدولتنا . وهذا خطر جدي يستحق منا كل الانتباه والحذر .
هذه الحقيقة المرة تجعلنا نعيد تأكيدنا على ضرورة استعدادنا لمواجهة مرحلة السلام المقبلة مع العرب ، وان نتذكر ابدا الفكرة القائلة : رغم السلام ، فأن حربنا مع العرب سوف لن تنتهي ، بل ان شكلها سوف يتغير . ستكون حربا قائمة على محورين ( التكنلوجيا والثقافة) . من ناحية التكنلوجيا فأننا معركتنا مضمونة الانتصار لأن البلدان العربية متأخرة كثيرا كثيرا عنا . ولكن الخطر يكمن في معركة (الثقافة) ، لأنهم يمكن ان يعوضوا عن ضعفهم السياسي والتكنلوجي بنهضة ثقافية روحية يمكن ان تؤثر في نخبنا الفعالة وتجتاح مجتمعنا وكياننا من الداخل .
المحصلة النهائية من اسهابنا بهذا التحليل ، بأن العراق ومستقبل العراق هو المستفيد الاول من مثل هذه التطورات الثقافية الخطيرة ، لأنها كما توضح لكم تؤدي الى خلق هوية عراقية موحدة تكون الأساس لقيام دولة عراقية وطنية وممثلة لتنوعات الشعب العراقي ، قادرة على خلق الاستقرار والتطور وصنع قوة حضارية قد تتقارب مع سوريا وتجمع شمل ما يسمى بـ (الهلال الخصيب) ، وتتحالف مع ايران وتركيا ...!!
اننا في الخاتمة نود التذكير بالدور التاريخي الكبير لمسؤولنا ومؤسس مكتبنا ، الراحل ( ك،ن) ، ولا يسعنا الا ان نعاهده على الاستمرار بالطريق الذي كرس عمره وحياته من اجله ، ويبقى هدفنا الأول والاساسي : اضعاف العراق ثم اضعافه ثم اضعافه..
الهيئة الاسرائيلة الأمنية العليا ـ مكتب شؤون العراق
تقرير شامل عن تاريخ سياسة اسرائيل نحوالعراق (سري وخاص
التعليقات