تفاصيل محاولة المخابرات البريطانية والأميركية تجنيد الدبلوماسيين العراقيين بقلم:دكتور سمير محمود قديح
تفاصيل محاولة المخابرات البريطانية والأميركية تجنيد الدبلوماسيين العراقيين .
دكتور سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
شهدت الفترة التي سبقت اندلاع الحرب في العراق مواجهة من نوع آخر دارت رحاها في عالم المخابرات المظلم، وكان طرفاها الرئيسيين هما المخابرات الأميركية والبريطانية من جهة، والمخابرات العراقية من الجهة الأخرى· ولأن واشنطن ولندن تعتقدان أن المخابرات العراقية تتواجد في أغلب عواصم العالم تحت غطاء سفارات بغداد في تلك العواصم، وخلف أقنعة دبلوماسية متعددة، فقد تحدد ميدان المواجهة منذ وقت مبكر بنطاق السلك الدبلوماسي العراقي خاصة في أوروبا وآسيا· وفيما يلي جولات الحرب·
كانت المخابرات البريطانية والأميركية تأملان من تركيز اهتمامها على السفارات العراقية في بلدان القارتين إلى تحقيق مسلسل من الأهداف التي تحددت بوضوح منذ لحظة البدء· إذ يتعين أولاً تجنيد بعض الدبلوماسيين العراقيين ليصبحوا عيوناً داخل المخابرات العراقية تنقل ما يحدث بداخلها إلى واشنطن ولندن أولاً بأول·
فإذا تعذر ذلك فإن الخيار التالي تحدد في حث من يبدون تبرماً من النظام في بغداد على الانشقاق عن ذلك النظام، وطلب اللجوء السياسي في أي دولة غربية يختارونها، ان كان من شأن ذلك أن يوجه لطمة معنوية لبغداد على الصعيد الإعلامي·
بعيدا·· في براغ
إلا أن أحداث 11 سبتمبر أضافت هدفاً جديداً إلى تلك القائمة· فقد كشفت عن احتمال بوجود صلة - لم تتأكد ابداً- بين بغداد ومحمد عطا قائد المجموعة التي ارتكبت تلك الأحداث· وكان من شأنه اثبات ذلك تعديل أمور كثيرة خلال مرحلة الاعداد للمواجهة العسكرية مع بغداد· ذلك ان واشنطن أكدت مراراً وجود صلة بين النظام العراقي والمنظمات الارهابية، وسعت إلى استخدام تلك الحجة للحصول على دعم دول أوروبية غربية، ودول مؤثرة أخرى، لشن الحرب ضد العراق· إلا أنها عجزت دائماً عن أن ترد على السؤال الذي وجهته لها تلك الدول بإصدار:
هل لديكم دليل قاطع على وجود هذه الصلة·
وقبل أيام نشرت جريدة نيويورك تايمز القصة الكاملة لوقائع ضياع الدليل الذي يثبت أن محمد عطا التقى بالدبلوماسي العراقي في سفارة بغداد بمدينة براغ أحمد خليل العاني، وهي قصة تكشف الكثير مما دار في حرب المخابرات التي سبقت حرب المدافع· وتعود بنا القصة إلى ما حدث عقب انهيار النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام ·1989
رؤيتان في تشيكوسلوفاكيا!
فقد ترددت الحكومة الجديدة حول ما ينبغي عمله بشأن مكتب مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات الذي ورثته عن النظام الشيوعي المنهار· فبينما قال بعض مسؤولي النظام الجديد إنه يتعين حل المكتب وإعادة تشكيله من عناصر جديدة وذلك ضمن عملية إعادة بناء المخابرات التشيكية، فإن آخرين اعترضوا على ذلك· وفسر المعترضون رأيهم بأن هناك عدداً من مكاتب المخابرات القديمة يتعين الإبقاء عليها بسبب طبيعتها الخاصة· فقد أشرف ضباط هذه المكاتب على تكوين علاقات بعملاء في مواقع مختلفة، ومن المحتم أن يؤدي فصل هؤلاء الضباط من الخدمة إلى ضياع اجزاء واسعة من شبكة العملاء التي تكونت عبر تراكم عمل مكثف خلال عقود من الزمن·
ووافقت القيادة التشيكية الجديدة على هذا الرأي الأخير، أي رأي المعارضين، وصدر قرار بالإبقاء على عدد من افرع جهاز المخابرات القديم مع تغيير توجهها، فبدلا من ان يكون الخط الناظم لهذه الافرع هو مواجهة الغرب، فإن عليها أن تتعاون بدلاً من ذلك مع خصوم الأمس·وما لبث ذلك القرار أن أثمر بصورة فورية ربما، فقد قدم مكتب مكافحة الارهاب القديم-الجديد في المخابرات التشيكية معلومات ثمينة الى المخابرات البريطانية حول تورط عملاء ليبيين في حادث تفجير طائرة بان-ام 103 فوق لوكيربي باسكتلندا، وبدأ المكتب ينسق مع الأجهزة الغربية نتائج عمل رجاله وعملائه في صفوف المنظمات الشرق أوسطية التي كانت في السابق تعتبر أن براغ محطة صديقة مهمة تدعم عملياتها·
وبدا ان المخابرات البريطانية ام اي6 مهتمة بصفة خاصة بالمخابرات التشيكية الجديدة· فقد قدمت لندن منحاً تدريبية لعدد واسع من الضباط الجدد في الجهاز التشيكي، وارسلت خبراء للإشراف على إعادة هيكلته· وافضى هذا إلى تحول ذلك الجهاز الى مؤسسة تشبه من حيث هيكلها وأساليب عملها المخابرات البريطانية وليست المخابرات الأميركية، رغم احتفاظها بعلاقات مفتوحة مع الـسي· آي·ايه·
قصة جابر سليم
إلا ان العلاقة بين الجهازين البريطاني والتشيكي تعرضت لانتكاسة مفاجئة في نهاية التسعينات بسبب واقعة محددة أدت الى استياء بريطاني بالغ من مكتب مكافحة الارهاب في براغ· ففي ذلك الوقت كان رئيس محطة المخابرات البريطانية في العاصمة التشيكية كريس هوران يعمل على تجنيد دبلوماسي عراقي يدعى جابر سليم يحتل الموقع الثاني في سفارة بغداد ببراغ·
كان لدى البريطانيين ما يفيد بأن جابر أبدى تبرمه من النظام العراقي خلال عدد من المناسبات· واجرت المخابرات البريطانية مجموعة اختبارات أولية لمعرفة ما إذا كان بالامكان تجنيد الدبلوماسي المتبرم، وما لبث تقييم العملية ان برهن على وجود احتمال كبير بنجاحها، وهكذا بدأ هوران ورجاله تنفيذها في براغ·
كان من المنطقي ان يحدث ذلك بالتنسيق مع المخابرات التشيكية، اذ يتعين مراقبة جابر خلال تحركاته في براغ، وقال هوران إن أهل المدينة ادرى بشعابها فضلاً عن انهم محل ثقة بحكم العلاقات الخاصة التي تربط الجهاز التشيكي بنظيره البريطاني، وهكذا فقد قام الضابط البريطاني بابلاغ التشيكيين بطلبه وضع مراقبة خاصة على الدبلوماسي العراقي·
وجاءت التقارير التشيكية لتؤكد ان استهداف جابر كان له ما يبرره، فقد تأكد انه لا يكفي عن انتقاد بغداد وسياساتها، وقررت لندن ان الموعد قد ازف بتجنيد الدبلوماسي العراقي، وابلاغه بأن يكف عن انتقاد السلطات العراقية حتى لا يلفت الانظار، وان يزود المخابرات البريطانية بما لديه من معلومات اولاً بأول باستثمار موقعه الدبلوماسي المؤثر·
جابر في ألمانيا
وحين بدأ رجا ل هوران في التحرك نحو جابر اختفى الدبلوماسي العراقي فجأة من براغ، بل ومن تشيكوسلوفاكيا كلها· كان الامر محيراً، اذ لماذا اختفى جابر في هذا التوقيت بالذات؟ ثم كيف افلت من مراقبة المخابرات التشيكية هو وزوجته واولاده الستة؟ انها أسرة كبيرة، والمفترض ان التشيكيين -استجابة لطلب بريطاني مسبق- يراقبون الرجل على مدار الـ 24 ساعة· كيف انهم يقولون لهران انهم لا يعرفون اين ذهب جابر سليم واولاده؟
وفيما كان البريطانيون يحكون رؤوسهم في محاولة لحل لغز اختفاء جابر واسرته، تحت اعين المخابرات التشيكية، صدر بيان مقتضب من وزارة الخارجية الالمانية يعلن ان دبلوماسياً عراقياً وصل الى العاصمة الالمانية مع اسرته وطلب اللجوء السياسي· وكان اسم ذلك الدبلوماسي جابر سليم·
كانت مفاجأة حقيقية للندن ذلك ان جابر قد يكشف اسراراً هامة تتعلق بما حدث، ولكنه فقد أي قيمة مستقبلية· فقد كانت خطة ام· آي· 6 هي تحويل جابر إلى مصدر دائم للمعلومات، خاصة وان عراقيين كثيرين كانوا يتوقعون له مواصلة الترقي حتى الوصول إلى موقع حساس في وزارة الخارجية العراقية· اما الآن، وبعد ان طلب الدبلوماسي اللجوء في المانيا، فقد تقلصت مكاسب العملية باكملها الى حد بعيد·
ضياع الثمار·· وتكتل الفلوس
وقابل ضباط بريطانيون جابر سليم في منزل بأحد ضواحي برلين لاستجوابه عما بجعبته من معلومات لقطف ما يمكن اقتطافه من ثمار بعد ان ضاعت الثمار الاكبر التي املوا في جنيها، ثم استداروا بعد ذلك نحو المخابرات التشيكية لتسوية الحسابات حول ذلك التخبط غير المفهوم·
بدأ ذلك بارسال مذكرة شديدة اللهجة الى التشيكيين حول مسلسل الاخطاء الذي لا يغتفر الذي ارتكبوه في عملية جابر سليم، ثم بارسال مذكرة ثانية تطالب باجراء تحقيق داخلي في الجهاز التشيكي لرصد ما إذا كانت هناك اختراقات لأسباب سياسية أو لأسباب ترجع إلى الفساد المالي، وبابلاغ لندن بنتائج التحقيق حيث انه يهدد أمن أجهزة مخابرات صديقة تتعامل مع براج، فضلاً عن ضرورة معاقبة المسؤولين·
وحين حاول البريطانيون فهم ما حدث بأنفسهم، ودون انتظار نتائج التحقيق الذي طالبوا باجرائه، اكتشفوا ان جهاز المخابرات التشيكي يعاني من انقسامات داخلية حادة بين تكتلات مختلفة· فهناك تكتل العناصر القديمة التي خدمت اثناء حكم الشيوعيين، وهناك تكتل البريطانيين، او الضباط الشباب الذين تلقوا تدريبهم في بريطانيا، وهناك تكتل الفلوس، ان ذلك الذي لا يحفل إلا بتحقيق أكبر مكاسب مالية ممكنة إما عن طريق المشاركة في عمليات الفساد الداخلي أو عن أي طريق آخر، ثم هناك تكتلات اضافية تتبع مسؤولين بارزين في الحكومة، كل له فريقه·
واستنتج البريطانيون ان احدى الفرق المعادية لمجموعتهم داخل المخابرات التشيكية ساعدت جابر على انتهاج الطريق الذي انتهجه، أي على الذهاب إلى المانيا قبل ان يطلب منه البريطانيون ان يعمل لحسابهم وان يبقى مع ذلك في سفارة العراق ببراغ، او يعود الى بغداد· فقد كان الخيار الأفضل للدبلوماسي العراقي -من زاوية مصلحته الشخصية ومصلحة اسرته- ان يتجه إلى برلين بسرعة·
انحراف أخلاقي
وحين ألح البريطانيون في طلب معاقبة المسؤولين عما حدث في قصة جابر، بداية من افلاته من المراقبة وصولاً إلى أسباب الانقسامات الداخلية في الجهاز، شعرت الجبهة المعادية لرجال ام·آي·6 في براغ بأن البريطانيين يحاولون مهاجمتها واجبارها على اتخاذ مواقف دفاعية، فردت هذه الجبهة بتسريب خبر إلى الصحف التشيكية بأن هوران منحرف أخلاقياً، وبأن هناك صوراً مشينة يمكن أن تثبت ذلك·وقررت لندن سحب هوران من براغ بعد أن تهدأ الضجة، إلا أن مثل هذه الجراح لا تندمل بسرعة، خاصة وان البريطانيين سيعرفون بعد ذلك ان خسارتهم لجابر سليم أدت إلى تخبط كبير في رصد دقائق اتصالات محمد عطا مع أحمد خليل العاني بعد ذلك بعام واحد، وإلى فقدان مصدر ثمين للغاية داخل السفارة العراقية في براغ·
ونقلت الحكومة البريطانية إلى أعلى المستويات السياسية في براغ تفاصيل ما حدث، وملامح صورة ما يدور في المخابرات التشيكية من صراعات، فتقرر نقل مدير تلك المخابرات كاريل فولترين من منصبه وتعيين جيري روزيك مدير جديد للمخابرات· إلا أن ذلك القرار أسفر بعد ذلك عن آثار عكسية تماماً·
ذلك ان روزيك كان ينتمي إلى كتلة الفلوس، أو هكذا يقول خصومه، فهو ثري بحكم استرداد عائلته- التي كانت ثرية قبل حكم الشيوعيين، لممتلكاتها ومنها مبان في قلب العاصمة التشيكية· فضلاً عن ذلك فإنه لم يكن يحب البريطانيين كثيراً، لا لشيء إلا لأنهم تمكنوا من تشكيل تكتل خاص بهم داخل الجهاز· ثم -بعد ذلك كله- فإن روزيك كان يكن كراهية شديدة لرئيس الوزراء ميلوس زيمان·
لقاء عطا بالعاني
وميلوس زيمان اسم محير بحق في براغ وخارجها· فهو شخص ناري المزاج، يفتقد أي قدر من التروي الدبلوماسي· ويذكر له في هذا المجال انه قال إن ياسر عرفات يذكره بأدولف هتلر· ثم أن لزيمان علاقات قوية بدوائر المحافظين المتشددين في الولايات المتحدة وبريطانيا· وهو متهم دائماً بأنه يمكن ان يحتد في أي نقاش فيقدم-كي يدعم وجهة نظره- معلومات يعلن أنها كاذبة·وهكذا احتدمت الخلافات مرة أخرى· روزيك ضد زيمن، وزيمن ضد المخابرات، خاصة وان الجميع يعرفون ان الرجل يُعد كي يصبح رئيساً للبلاد بعد وفاة الرئيس هافل، والمخابرات ضد بعضها البعض، ووزارة الداخلية ضد الجميع· وفي هذا المناخ المضطرب يقول البعض ان محمد عطا التقى العاني، على الخط الجانبي لمباراة ساخنة لا علاقة للاثنين بها، إذ يفترض أنهما كانا يعدان لمباراة أسخن·· في نيويورك وواشنطن، أي في 11 سبتمبر·
مجموعة لندن قالت إن هناك معلومات كافية تشير الى حدوث اللقاء· ففي صورة فوتوغرافية ملتقطة من بعيد للعاني بدا معه شخص يثبت التحليل الكمبيوتري انه محمد عطا· واندفع زيمن لإبلاغ واشنطن ولندن بالخبر، وحين طلبت المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية من المخابرات التشيكية تقريراً حول الموضوع، قرر روزيك ان يصفي حساباته مع زيمن، وان يجعله يتعرض لأكبر حرج ممكن أن يتعرض له رئيس للوزراء، فوضع تقريراً يقول إن التحليل الكمبيوتري لم يسفر عن أي نتائج قاطعة بأن من كان مع العاني هو محمد عطا، وان فحص سجلات تأشيرات الدخول الممنوحة برهن على ان السلطات التشيكية لم تمنح شخصاً باسم محمد عطا أي تأشيرة لدخول البلاد، ثم ان فحص سجلات اسماء المسافرين على شركات الطيران التي وصلت إلى براغ اثبت أنه ليس بينهم أي شخص بهذا الاسم·
زيمن·· ماذا حدث بالضبط؟!
ونظراً لأهمية المسألة سياسياً فقد عادت واشنطن ولندن إلى الاتصال برئيس الوزراء التشيكي زيمن لسؤاله عما يحدث حقاً· وطلب رئيس الوزراء امهاله بعض الوقت للتحقق من الأمر· وبعدها جاءت اللحظة التي انتظرها روزيك، فقد توجه إليه رئيس الوزراء - في مقابلة مباشرة- برجاء شخصي أن يعيد التحقيق في الأمر· ورد روزيك بهذه هل تريدني أن أفبرك معلومات؟ إذا كنت قد تسرعت بإبلاغ واشنطن ولندن بأخبار غير مؤكدة فعليك وحدك أن تتحمل مسؤولية ذلك·
وهكذا تدحرجت قصة لقاء العاني- عطا إلى بر الظلام كما يقولون· إذ هل التقيا بالفعل؟ هل لدى روزيك دليلاً لا يريد اظهاره بسبب سخونة المعارك الداخلية في براغ؟ أم تراهما لم يلتقيا من الأصل؟ وان روزيك متمسك فحسب بأمانة مسؤوليته، غير راغب في تحويل القضية الى سند يدعم طموحات زيمن السياسية ورغبة في ارضاء من يدعمونه في لندن؟ اغلب الظن ان هذه الاسئلة ستبقى معلقة لبعض الوقت حتى تنقشع سحب خلافات براغ·· ومن يدري؟ فلعل التغيير المأمول في بغداد يؤدي إلى اخراج أوراق المخابرات العراقية الى العلن ليجد فيها العالم محضر جلسات العاني - عطا، أو محاضر جلسات لمستويات أعلى من الجانبين معاً·
دكتور سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
شهدت الفترة التي سبقت اندلاع الحرب في العراق مواجهة من نوع آخر دارت رحاها في عالم المخابرات المظلم، وكان طرفاها الرئيسيين هما المخابرات الأميركية والبريطانية من جهة، والمخابرات العراقية من الجهة الأخرى· ولأن واشنطن ولندن تعتقدان أن المخابرات العراقية تتواجد في أغلب عواصم العالم تحت غطاء سفارات بغداد في تلك العواصم، وخلف أقنعة دبلوماسية متعددة، فقد تحدد ميدان المواجهة منذ وقت مبكر بنطاق السلك الدبلوماسي العراقي خاصة في أوروبا وآسيا· وفيما يلي جولات الحرب·
كانت المخابرات البريطانية والأميركية تأملان من تركيز اهتمامها على السفارات العراقية في بلدان القارتين إلى تحقيق مسلسل من الأهداف التي تحددت بوضوح منذ لحظة البدء· إذ يتعين أولاً تجنيد بعض الدبلوماسيين العراقيين ليصبحوا عيوناً داخل المخابرات العراقية تنقل ما يحدث بداخلها إلى واشنطن ولندن أولاً بأول·
فإذا تعذر ذلك فإن الخيار التالي تحدد في حث من يبدون تبرماً من النظام في بغداد على الانشقاق عن ذلك النظام، وطلب اللجوء السياسي في أي دولة غربية يختارونها، ان كان من شأن ذلك أن يوجه لطمة معنوية لبغداد على الصعيد الإعلامي·
بعيدا·· في براغ
إلا أن أحداث 11 سبتمبر أضافت هدفاً جديداً إلى تلك القائمة· فقد كشفت عن احتمال بوجود صلة - لم تتأكد ابداً- بين بغداد ومحمد عطا قائد المجموعة التي ارتكبت تلك الأحداث· وكان من شأنه اثبات ذلك تعديل أمور كثيرة خلال مرحلة الاعداد للمواجهة العسكرية مع بغداد· ذلك ان واشنطن أكدت مراراً وجود صلة بين النظام العراقي والمنظمات الارهابية، وسعت إلى استخدام تلك الحجة للحصول على دعم دول أوروبية غربية، ودول مؤثرة أخرى، لشن الحرب ضد العراق· إلا أنها عجزت دائماً عن أن ترد على السؤال الذي وجهته لها تلك الدول بإصدار:
هل لديكم دليل قاطع على وجود هذه الصلة·
وقبل أيام نشرت جريدة نيويورك تايمز القصة الكاملة لوقائع ضياع الدليل الذي يثبت أن محمد عطا التقى بالدبلوماسي العراقي في سفارة بغداد بمدينة براغ أحمد خليل العاني، وهي قصة تكشف الكثير مما دار في حرب المخابرات التي سبقت حرب المدافع· وتعود بنا القصة إلى ما حدث عقب انهيار النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام ·1989
رؤيتان في تشيكوسلوفاكيا!
فقد ترددت الحكومة الجديدة حول ما ينبغي عمله بشأن مكتب مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات الذي ورثته عن النظام الشيوعي المنهار· فبينما قال بعض مسؤولي النظام الجديد إنه يتعين حل المكتب وإعادة تشكيله من عناصر جديدة وذلك ضمن عملية إعادة بناء المخابرات التشيكية، فإن آخرين اعترضوا على ذلك· وفسر المعترضون رأيهم بأن هناك عدداً من مكاتب المخابرات القديمة يتعين الإبقاء عليها بسبب طبيعتها الخاصة· فقد أشرف ضباط هذه المكاتب على تكوين علاقات بعملاء في مواقع مختلفة، ومن المحتم أن يؤدي فصل هؤلاء الضباط من الخدمة إلى ضياع اجزاء واسعة من شبكة العملاء التي تكونت عبر تراكم عمل مكثف خلال عقود من الزمن·
ووافقت القيادة التشيكية الجديدة على هذا الرأي الأخير، أي رأي المعارضين، وصدر قرار بالإبقاء على عدد من افرع جهاز المخابرات القديم مع تغيير توجهها، فبدلا من ان يكون الخط الناظم لهذه الافرع هو مواجهة الغرب، فإن عليها أن تتعاون بدلاً من ذلك مع خصوم الأمس·وما لبث ذلك القرار أن أثمر بصورة فورية ربما، فقد قدم مكتب مكافحة الارهاب القديم-الجديد في المخابرات التشيكية معلومات ثمينة الى المخابرات البريطانية حول تورط عملاء ليبيين في حادث تفجير طائرة بان-ام 103 فوق لوكيربي باسكتلندا، وبدأ المكتب ينسق مع الأجهزة الغربية نتائج عمل رجاله وعملائه في صفوف المنظمات الشرق أوسطية التي كانت في السابق تعتبر أن براغ محطة صديقة مهمة تدعم عملياتها·
وبدا ان المخابرات البريطانية ام اي6 مهتمة بصفة خاصة بالمخابرات التشيكية الجديدة· فقد قدمت لندن منحاً تدريبية لعدد واسع من الضباط الجدد في الجهاز التشيكي، وارسلت خبراء للإشراف على إعادة هيكلته· وافضى هذا إلى تحول ذلك الجهاز الى مؤسسة تشبه من حيث هيكلها وأساليب عملها المخابرات البريطانية وليست المخابرات الأميركية، رغم احتفاظها بعلاقات مفتوحة مع الـسي· آي·ايه·
قصة جابر سليم
إلا ان العلاقة بين الجهازين البريطاني والتشيكي تعرضت لانتكاسة مفاجئة في نهاية التسعينات بسبب واقعة محددة أدت الى استياء بريطاني بالغ من مكتب مكافحة الارهاب في براغ· ففي ذلك الوقت كان رئيس محطة المخابرات البريطانية في العاصمة التشيكية كريس هوران يعمل على تجنيد دبلوماسي عراقي يدعى جابر سليم يحتل الموقع الثاني في سفارة بغداد ببراغ·
كان لدى البريطانيين ما يفيد بأن جابر أبدى تبرمه من النظام العراقي خلال عدد من المناسبات· واجرت المخابرات البريطانية مجموعة اختبارات أولية لمعرفة ما إذا كان بالامكان تجنيد الدبلوماسي المتبرم، وما لبث تقييم العملية ان برهن على وجود احتمال كبير بنجاحها، وهكذا بدأ هوران ورجاله تنفيذها في براغ·
كان من المنطقي ان يحدث ذلك بالتنسيق مع المخابرات التشيكية، اذ يتعين مراقبة جابر خلال تحركاته في براغ، وقال هوران إن أهل المدينة ادرى بشعابها فضلاً عن انهم محل ثقة بحكم العلاقات الخاصة التي تربط الجهاز التشيكي بنظيره البريطاني، وهكذا فقد قام الضابط البريطاني بابلاغ التشيكيين بطلبه وضع مراقبة خاصة على الدبلوماسي العراقي·
وجاءت التقارير التشيكية لتؤكد ان استهداف جابر كان له ما يبرره، فقد تأكد انه لا يكفي عن انتقاد بغداد وسياساتها، وقررت لندن ان الموعد قد ازف بتجنيد الدبلوماسي العراقي، وابلاغه بأن يكف عن انتقاد السلطات العراقية حتى لا يلفت الانظار، وان يزود المخابرات البريطانية بما لديه من معلومات اولاً بأول باستثمار موقعه الدبلوماسي المؤثر·
جابر في ألمانيا
وحين بدأ رجا ل هوران في التحرك نحو جابر اختفى الدبلوماسي العراقي فجأة من براغ، بل ومن تشيكوسلوفاكيا كلها· كان الامر محيراً، اذ لماذا اختفى جابر في هذا التوقيت بالذات؟ ثم كيف افلت من مراقبة المخابرات التشيكية هو وزوجته واولاده الستة؟ انها أسرة كبيرة، والمفترض ان التشيكيين -استجابة لطلب بريطاني مسبق- يراقبون الرجل على مدار الـ 24 ساعة· كيف انهم يقولون لهران انهم لا يعرفون اين ذهب جابر سليم واولاده؟
وفيما كان البريطانيون يحكون رؤوسهم في محاولة لحل لغز اختفاء جابر واسرته، تحت اعين المخابرات التشيكية، صدر بيان مقتضب من وزارة الخارجية الالمانية يعلن ان دبلوماسياً عراقياً وصل الى العاصمة الالمانية مع اسرته وطلب اللجوء السياسي· وكان اسم ذلك الدبلوماسي جابر سليم·
كانت مفاجأة حقيقية للندن ذلك ان جابر قد يكشف اسراراً هامة تتعلق بما حدث، ولكنه فقد أي قيمة مستقبلية· فقد كانت خطة ام· آي· 6 هي تحويل جابر إلى مصدر دائم للمعلومات، خاصة وان عراقيين كثيرين كانوا يتوقعون له مواصلة الترقي حتى الوصول إلى موقع حساس في وزارة الخارجية العراقية· اما الآن، وبعد ان طلب الدبلوماسي اللجوء في المانيا، فقد تقلصت مكاسب العملية باكملها الى حد بعيد·
ضياع الثمار·· وتكتل الفلوس
وقابل ضباط بريطانيون جابر سليم في منزل بأحد ضواحي برلين لاستجوابه عما بجعبته من معلومات لقطف ما يمكن اقتطافه من ثمار بعد ان ضاعت الثمار الاكبر التي املوا في جنيها، ثم استداروا بعد ذلك نحو المخابرات التشيكية لتسوية الحسابات حول ذلك التخبط غير المفهوم·
بدأ ذلك بارسال مذكرة شديدة اللهجة الى التشيكيين حول مسلسل الاخطاء الذي لا يغتفر الذي ارتكبوه في عملية جابر سليم، ثم بارسال مذكرة ثانية تطالب باجراء تحقيق داخلي في الجهاز التشيكي لرصد ما إذا كانت هناك اختراقات لأسباب سياسية أو لأسباب ترجع إلى الفساد المالي، وبابلاغ لندن بنتائج التحقيق حيث انه يهدد أمن أجهزة مخابرات صديقة تتعامل مع براج، فضلاً عن ضرورة معاقبة المسؤولين·
وحين حاول البريطانيون فهم ما حدث بأنفسهم، ودون انتظار نتائج التحقيق الذي طالبوا باجرائه، اكتشفوا ان جهاز المخابرات التشيكي يعاني من انقسامات داخلية حادة بين تكتلات مختلفة· فهناك تكتل العناصر القديمة التي خدمت اثناء حكم الشيوعيين، وهناك تكتل البريطانيين، او الضباط الشباب الذين تلقوا تدريبهم في بريطانيا، وهناك تكتل الفلوس، ان ذلك الذي لا يحفل إلا بتحقيق أكبر مكاسب مالية ممكنة إما عن طريق المشاركة في عمليات الفساد الداخلي أو عن أي طريق آخر، ثم هناك تكتلات اضافية تتبع مسؤولين بارزين في الحكومة، كل له فريقه·
واستنتج البريطانيون ان احدى الفرق المعادية لمجموعتهم داخل المخابرات التشيكية ساعدت جابر على انتهاج الطريق الذي انتهجه، أي على الذهاب إلى المانيا قبل ان يطلب منه البريطانيون ان يعمل لحسابهم وان يبقى مع ذلك في سفارة العراق ببراغ، او يعود الى بغداد· فقد كان الخيار الأفضل للدبلوماسي العراقي -من زاوية مصلحته الشخصية ومصلحة اسرته- ان يتجه إلى برلين بسرعة·
انحراف أخلاقي
وحين ألح البريطانيون في طلب معاقبة المسؤولين عما حدث في قصة جابر، بداية من افلاته من المراقبة وصولاً إلى أسباب الانقسامات الداخلية في الجهاز، شعرت الجبهة المعادية لرجال ام·آي·6 في براغ بأن البريطانيين يحاولون مهاجمتها واجبارها على اتخاذ مواقف دفاعية، فردت هذه الجبهة بتسريب خبر إلى الصحف التشيكية بأن هوران منحرف أخلاقياً، وبأن هناك صوراً مشينة يمكن أن تثبت ذلك·وقررت لندن سحب هوران من براغ بعد أن تهدأ الضجة، إلا أن مثل هذه الجراح لا تندمل بسرعة، خاصة وان البريطانيين سيعرفون بعد ذلك ان خسارتهم لجابر سليم أدت إلى تخبط كبير في رصد دقائق اتصالات محمد عطا مع أحمد خليل العاني بعد ذلك بعام واحد، وإلى فقدان مصدر ثمين للغاية داخل السفارة العراقية في براغ·
ونقلت الحكومة البريطانية إلى أعلى المستويات السياسية في براغ تفاصيل ما حدث، وملامح صورة ما يدور في المخابرات التشيكية من صراعات، فتقرر نقل مدير تلك المخابرات كاريل فولترين من منصبه وتعيين جيري روزيك مدير جديد للمخابرات· إلا أن ذلك القرار أسفر بعد ذلك عن آثار عكسية تماماً·
ذلك ان روزيك كان ينتمي إلى كتلة الفلوس، أو هكذا يقول خصومه، فهو ثري بحكم استرداد عائلته- التي كانت ثرية قبل حكم الشيوعيين، لممتلكاتها ومنها مبان في قلب العاصمة التشيكية· فضلاً عن ذلك فإنه لم يكن يحب البريطانيين كثيراً، لا لشيء إلا لأنهم تمكنوا من تشكيل تكتل خاص بهم داخل الجهاز· ثم -بعد ذلك كله- فإن روزيك كان يكن كراهية شديدة لرئيس الوزراء ميلوس زيمان·
لقاء عطا بالعاني
وميلوس زيمان اسم محير بحق في براغ وخارجها· فهو شخص ناري المزاج، يفتقد أي قدر من التروي الدبلوماسي· ويذكر له في هذا المجال انه قال إن ياسر عرفات يذكره بأدولف هتلر· ثم أن لزيمان علاقات قوية بدوائر المحافظين المتشددين في الولايات المتحدة وبريطانيا· وهو متهم دائماً بأنه يمكن ان يحتد في أي نقاش فيقدم-كي يدعم وجهة نظره- معلومات يعلن أنها كاذبة·وهكذا احتدمت الخلافات مرة أخرى· روزيك ضد زيمن، وزيمن ضد المخابرات، خاصة وان الجميع يعرفون ان الرجل يُعد كي يصبح رئيساً للبلاد بعد وفاة الرئيس هافل، والمخابرات ضد بعضها البعض، ووزارة الداخلية ضد الجميع· وفي هذا المناخ المضطرب يقول البعض ان محمد عطا التقى العاني، على الخط الجانبي لمباراة ساخنة لا علاقة للاثنين بها، إذ يفترض أنهما كانا يعدان لمباراة أسخن·· في نيويورك وواشنطن، أي في 11 سبتمبر·
مجموعة لندن قالت إن هناك معلومات كافية تشير الى حدوث اللقاء· ففي صورة فوتوغرافية ملتقطة من بعيد للعاني بدا معه شخص يثبت التحليل الكمبيوتري انه محمد عطا· واندفع زيمن لإبلاغ واشنطن ولندن بالخبر، وحين طلبت المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية من المخابرات التشيكية تقريراً حول الموضوع، قرر روزيك ان يصفي حساباته مع زيمن، وان يجعله يتعرض لأكبر حرج ممكن أن يتعرض له رئيس للوزراء، فوضع تقريراً يقول إن التحليل الكمبيوتري لم يسفر عن أي نتائج قاطعة بأن من كان مع العاني هو محمد عطا، وان فحص سجلات تأشيرات الدخول الممنوحة برهن على ان السلطات التشيكية لم تمنح شخصاً باسم محمد عطا أي تأشيرة لدخول البلاد، ثم ان فحص سجلات اسماء المسافرين على شركات الطيران التي وصلت إلى براغ اثبت أنه ليس بينهم أي شخص بهذا الاسم·
زيمن·· ماذا حدث بالضبط؟!
ونظراً لأهمية المسألة سياسياً فقد عادت واشنطن ولندن إلى الاتصال برئيس الوزراء التشيكي زيمن لسؤاله عما يحدث حقاً· وطلب رئيس الوزراء امهاله بعض الوقت للتحقق من الأمر· وبعدها جاءت اللحظة التي انتظرها روزيك، فقد توجه إليه رئيس الوزراء - في مقابلة مباشرة- برجاء شخصي أن يعيد التحقيق في الأمر· ورد روزيك بهذه هل تريدني أن أفبرك معلومات؟ إذا كنت قد تسرعت بإبلاغ واشنطن ولندن بأخبار غير مؤكدة فعليك وحدك أن تتحمل مسؤولية ذلك·
وهكذا تدحرجت قصة لقاء العاني- عطا إلى بر الظلام كما يقولون· إذ هل التقيا بالفعل؟ هل لدى روزيك دليلاً لا يريد اظهاره بسبب سخونة المعارك الداخلية في براغ؟ أم تراهما لم يلتقيا من الأصل؟ وان روزيك متمسك فحسب بأمانة مسؤوليته، غير راغب في تحويل القضية الى سند يدعم طموحات زيمن السياسية ورغبة في ارضاء من يدعمونه في لندن؟ اغلب الظن ان هذه الاسئلة ستبقى معلقة لبعض الوقت حتى تنقشع سحب خلافات براغ·· ومن يدري؟ فلعل التغيير المأمول في بغداد يؤدي إلى اخراج أوراق المخابرات العراقية الى العلن ليجد فيها العالم محضر جلسات العاني - عطا، أو محاضر جلسات لمستويات أعلى من الجانبين معاً·
التعليقات