متفجرات في مكتب شامير بقلم:عبدالله عيسى

عمليات فدائية

عبد الله عيسى

متفجرات في مكتب شامير

مقدمة

في الرابع عشر من شباط 1988 قامت المخابرات الإسرائيلية بتفجير سيارة العقيد مروان الكيالي في قبرص والتي كان يستقلها معه " حمدي سلطان" و"أبو حسن قاسم " ، وسقط القادة العسكريون الثلاثة شهداء. وفي العالم التالي أي تشرين الثاني 1989سقط الشيخ عبد الله عزام شهيداً في " بيشاور" بنفس الأسلوب.

ولم يحاول أحد الربط بين الحادثين بسبب العلاقة المجهولة بين قادة حركة سرايا الجهاد الإسلامي والشيخ عبد الله عزام.

بالمقابل أخذت المخابرات الإسرائيلية تقوم بحملة تضليلية بعيدة عن الأسباب الحقيقة لاغتيال القادة الأربعة، فادعت أن اغتيال القادة العسكريين في قبرص كان بسبب تخطيطهم لعملية " حائط المبكى" وأنهم كانوا يريدون استئجار سفينة العودة والحقيقة ان بعض هذه الاتهامات بعيدة عن الواقع ، فباخرة العودة لم يكن لها أي علاقة بالموضوع.

وربما كان لعملية حائط المبكى علاقة ، ولكن السبب الرئيسي والذي اتخذ إسحاق شامير شخصياً قراراً بمطاردة القادة الأربعة واغتيالهم لجله ، هو محاولتهم لاغتياله في مكتبه بالقدس.وفي هذا الكتاب " متفجرات في مكتب شامير " نروي التفاصيل الكاملة لأخطر عملية فدائية شهدتها الأرض المحتلة ولم يكتب لها النجاح ونروي أيضا تفاصيل عملية فدائية نوعية استطاعت حصد سبعين جندياً إسرائيليا بين قتيل وجريح نفذتها حركة سرايا الجهاد الإسلامي.

وحركة سرايا الجهاد، استطاعت توظيف علاقاتها مع أطراف عديدة لصالح العمل الوطني ، فقامت بالتنسيق مع الشيخ عبد الله عزام منذ عام 1984من خلال " حمدي سلطان" لتدريب الشباب الفلسطيني في المعسكرات الأفغانية.

وهذه الحركة أيضا، نفذت عمليات فدائية جريئة مثل " الدبويا"و" الحافلة رقم 18" و" حائط المبكى" وعمليات أخرى عديدة.

ونلاحظ من خلال هذه المعلومات التي يكشف عنها لأول مرة، أن الرجال عملوا بصمت في زمن المدعين، ولم يتراجعوا أمام الموت المحدق وعندما استشهدوا كانوا أبطالا مجهولين.

المؤلف

متفجرات في مكتب شامير

تواصل الاجتماع حتى ساعة متأخرة من الليل ، ورغم علامات الإرهاق التي كانت بادية على وجوه القادة العسكريين لحركة " سرايا الجهاد والإسلامي " لم يحاول أي منهم إنهاء النقاش قبل التوصل إلى النتائج الأولية.

فقد اتخذ قرار بتصعيد الكفاح المسلح على مستوى جميع التنظيمات الفلسطينية ، بعد عامين فقط من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت واعادة ترتيب أوضاعها الداخلية في البلدان العربية التي استضافتها، وحتى لا يتحول الخروج الفلسطيني من لبنان إلى انتصار إسرائيلي ، أخذت جميع التنظيمات تعمل على تنفيذ عمليات كبرى داخل الأرض المحتلة ، رغم بعدها آلاف الكيلو مترات عن ساحة الصراع، فتحرك المقاتلون من القواعد البحرية الفلسطينية في الجزائر واليمن، وجرت تنقلات غير عادية على مستوى المعسكرات الفلسطينية كما اندفع الشباب الفلسطيني المقاتل إلى قبرص للعودة إلى لبنان.

وفي نيسان 1985 كانت الباخرة الفلسطينية تغادر الشواطئ الجزائرية وهي تحمل ثمانية وعشرين مقاتلا فلسطينيا باتجاه وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، بينما كان " حمدي سلطان " و" أبو حسن قاسم " ومعهما بعض قادة الحركة يضعون خطة عمل للأرض المحتلة بشكل لم تشهده إسرائيل وقد دبت فيهم قوة غريبة بدافع الثأر والانتقام لمعاناة الشعب الفلسطيني ، متجاوزين الخطوط الحمراء التي تضعها إسرائيل على هذا النوع من العمل الفدائي .

في ذلك الاجتماع كان الهدف قد تحدد بدقة وهو مقر رئاسة الوزراء الإسرائيلية في القدس ، وثار الجدل حول أسلوب الهجوم ونوع السلاح المستخدم في العملية ، فاستبعدت فكرة الهجوم بالقنابل اليدوية والأسلحة الرشاشة لأن سيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي مصفحة ولا يجدي معها هذا النمط ، وكانت الفكرة الثانية بمهاجمة السيارة بقاذف " آر- بي-جي" واستبعدت هذه الفكرة أيضا لأسباب عديدة رغم فاعليتها ، وذلك لصعوبة التنفيذ عملياً من ناحية ، ولأنها لن تحقق الأصداء المطلوبة ، وبقيت الفكرة الأخيرة بمهاجمة مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بسيارة مفخخة ، وبدت في لحظاتها الأولى خيالية بعيدة عن الواقع في ظروف الأرض المحتلة ، وبسبب ندرة المتفجرات اللازمة لتدمير مبنى كامل.

ودافع " حمدي" عن فكرته حتى وجد قبولا لدي زميلة " أبو حسن " وباقي أعضاء القيادة ، وبدأت عملية طرح أسماء المنفذين ضمن الخطة المتفق عليها.

وبعد استعراض عدة أسماء تم ترشيح منفذين هما " سليمان الزهيري " و" عطاف عليان".

سليمان الزهيري:

كان شابا بسيطا ً ، نحيف الجسم هادئ الطباع، لا يوحي منظره بالجرأة التي يتمتع بها، متدين دون تعصب، مارس السياسة بالفطرة منذ دراسته الثانوية في " المدرسة الفاضلية" في طولكرم، وكان يواجه الاحتلال ويساهم في توزيع المنشورات السياسية دون انتماء لتنظيم فلسطيني معين، فتعرض للاعتقال أثناء دراسته، حتى وجد ضالته في حركة " سرايا القدس الإسلامي " فانضم إليها ، وأبدى منذ تلك اللحظة نشاطا ملحوظا ومميزا ، واندفع بحماس عي كل المهمات التي أوكلت إليه وأنجزها بنجاح بأهداف الحركة.

وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة " البكالوريا" توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الهندسة في إحدى الكليات الأمريكية ثم عاد إلى الأرض المحتلة ، ولم ينقطع الاتصال بحركة سرايا الجهاد ،وأصبح أكثر تفرغا لهذا العمل الجهادي.

كان يعيش مع أسرته في مخيم " نور شمس" الذي يبعد عن مدينة طولكرم مسافة ثلث كيلو مترات ، والذي لم تمتد إليه المقاومة الفلسطينية بشكل فاعل في السنوات الأولى بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967،وبقي هادئا نسبيا مقارنة بباقي المخيمات الفلسطينية في الأرض المحتلة ، التي أنجبت كوادر وقيادات فلسطينية ، فاستطاعت تركيز نشاط المقاومة في تلك الأماكن ولا سيما مدينة " الخليل " و" قطاع غزة".

ولكن هذا المخيم الصغير كان يحس بالعمل الفدائي في القرى والمدن الأخرى ، ويتفاعل معها ببطء ، ولا سيما بعد أن شهدت أطراف المخيم والجبال المحيطة به ، بعض العمليات والاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي نفذها فدائيون لا ينتمون للمخيم ، وشاهد أبناؤه قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي والكلاب البوليسية تجوب الجبال المحيطة بالمخيم وتبحث عن آثار الفدائيين الذين تطاردهم السلطات الإسرائيلية.

الشعلة:

وفجأة تحول المخيم الصغير الهادئ ودون سابق إنذار إلى بؤرة توتر وقلق للإسرائيليين بشكل دائم وعنيف ، حتى لم تجد السلطات الإسرائيلية في مرحلة من المراحل حلا إلا بفرض حظر التجول عليه لعدة شهور حتى تأمن ثوراته الدائمة.

ففي الثلاثين من آذار 1976 كانت الأرض المحتلة تواجه موجة الاستيطان الإسرائيلية وانتزاع الأراضي بالقوة لإقامة المستوطنات ، فهب الشعب الفلسطيني لمواجهة هذه السياسة التي تهدف إلى زرع خنجر في خاصرة كل قرية ومدينة فلسطينية لفرض سياسة الأمر الواقع ، من خلال بناء المستوطنات وتطويق القرى الفلسطينية بها.

كانت الدعوة إلى الإضراب العام في ذلك اليوم والذي أطلق عليه اسم " يوم الأرض "، فشهدت الأرض المحتلة حدثا شعبيا يعتبر الأول من نوعه بهذا الحجم والتنظيم والإضراب الشامل منذ الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967.

أعلن الشعب الفلسطيني رفضه للاستيطان وسياسة قضم الأراضي وشارك " الجليل " في هذا اليوم النضالي وكانت مفاجأة للعدو، الذي روج كثيراً للتعايش بين اليهود والعرب في مناطق 1948.

في ذلك اليوم كان " رأفت الزهيري" أحد أقرباء " سليمان" يشارك أهل " الجليل" واجبهم، في معركة الدفاع عن الأرض بالحجر الذي استخدم لأول مرة كسلاح الأعزل وزرع بذور الانتفاضة منذ ذلك التاريخ.

استشهد سبعة من الشباب الفلسطيني وكان أحدهم " رأفت الزهيري" الذي لم يشارك في مخيمه وانما في مكان آخر من الأرض الفلسطينية ، ولا أحد يعرف لماذا توجه إلى قرية " الطيبة" في الجليل ولم يشارك في " نور شمس" ، ولكن نبأ استشهاده فجر الغضب في المخيم ولا سيما وهو يودع الشهيد ، ويبدأ صفحة جديدة من النضال ضد الاحتلال بشكل يومي ومتواصل إلى يومنا هذا.

كان استشهاد " رأفت الزهيري " عاملا أساسيا في إثارة شباب المخيم، وربما لفت هذا الحدث نظر المقاومة الفلسطينية إلى المخيم الهادئ ، لتحرك العناصر النشطة داخل الأرض المحتلة لإرساء قواعد التنظيمات في صفوف الشباب.

وفي شتاء عام 1984كان المخيم يشهد حدثا بارزا آخر ، عندما شاهد طفل فلسطيني ل يتجاوز السادسة من العمر سيارة عسكرية إسرائيلية من نوع " لاندروفر" تسير على الشارع الرئيسي في المخيم والذي يربط مدينتي " نابلس" و" طولكرم ويعتبر شريانا رئيسا لحركة السيارات المدنية والعسكرية وقوافل الدبابات والمصفحات بين المدينتين ، ولا سيما في حالات الحرب والاستنفار.

كانت السيارة العسكرية تسير ببطء ويجلس بجانب السائق في المقعد الأمامي للسيارة المكشوفة ، ضابط يشاهد المخيم بهدوء وتمعن، والطفل يلهو بالقرب من الشارع فلفت انتباهه تلك السيارة ، وكلمح البصر التقط حجراً كبيراً نسبياً رغم أنه لم يتجاوز السادسة من العمر ،وقذفه على رأس الضابط وأصابه إصابة مباشرة فشجه.

أسرع الطفل هارباً إلى منزله دون أن يراه أحد واختفى ، في حين توقفت السيارة بعد ارتبك السائق ثم انطلق بها مسرعة إلى طولكرم.

لم يكن الطفل ليعرف هوية الضابط كل ما عرفه أنها سيارة للعدو وبعد ساعات قليلة عرف رجال المخيم أن الحاكم العسكري لمنطقة " طولكرم " هو المصاب بجرح بالغ في رأسه ، الذين أجلسوا على الأرض المبللة بماء المطر طول الليل عقابا لهم.

كانت ليلة قاسية لهم جداً ، قضاها رجال وشباب المخيم ول سيما المسنين منهم، فالمطر ينهمر طوال الليل فوق رءوسهم وهم يجلسون على الماء والأرض التي تغوص أقدامهم بوحلها وطينها وبنادق جنود العدو ترقبهم وتمنعهم من الوقوف بل حتى من الحركة.

ولم تشفع لهم شيخوخة أحد الرجال المصاب بمرض " الروماتيزم " وبقي الرجل يتألم بصمت ، ولم يستطع الوقوف بعد تلك الليلة ، ولم تخفف عنه آلامه العمليات الجراحية في مرحلة لاحقة، فطاردته الآلام حتى وفاته.

بعد هذه الحادثة ، اتخذت السلطات الإسرائيلية قرارا بإقامة جدار عال من الأسلاك ليفصل الشارع عن مشاة الرصيف ولتفادي حجارة أطفال المخيم.

وبدأت رحلة بناء الجدار ، وكانت رحلة طويلة لم تنته ، ففي الصباح كان العمال يقيمون الجدار لمسافة ما وفي الليل يأتي الشبان ويهدم ما تم بناؤه ، ورغم كل العقوبات الجماعية لم ينجح الجدار ، وخرقه الشباب بالآلات الحادة وفتحوا فجوات كبيرة فيه.

في أعلى سفح المخيم كانت " سحر" تسكن مع أسرتها ، وعلى الجانب المقابل تطل حارة " المحجر " أو الشطر الثاني وتبدو مثل المعسكرات القديمة فقد استخدمها الاستعمار الإنكليزي أثناء الانتداب ، سجناً يعمل به المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة ، وبقي السجن وذكريات الانتداب قطعة كبيرة من الجبل تم انتزاعها بالكسارات وأقيم عليها جانب من المخيم على ارتفاع عال ، أسفله سكة القطار المحطمة والتي نقل العدو قضبانها الحديدية الضخمة إثر الاحتلال مباشرة لبناء التحصينات العسكرية في سيناء.

من خلال معرفة حركة سرايا الجهاد بهذا الشاب الجريء ، الذي لم يتردد أمام أي عمل جهادي، وقع الاختيار عليه، ولكن نقطة غامضة أثيرت حول موافقته الآن وهو مقبل على الزواج من خطيبته " سحر" ، غير أن معرفتهم به خففت من حدة التوقف عند هذه العملية بالذات.

وشكلت صفاته الشخصية وتخصصه العلمي في مجال الهندسة الإلكترونية ، عناصر أيدت اختياره للتنفيذ، وكذلك الفتاة التي وقع عليها الاختيار وهي " عطاف عليان" لا تقل حماساً وجرأة وذكاء عنه، وكانت تلك الفترة التي شهدت بداية التخطيط للعملية في إحدى الدول العربية.

التعليقات