كيف تتجسس اسرائيل على واشنطن بقلم: دكتور سمير محمود قديح
كيف تتجسس اسرائيل على واشنطن
بقلم / دكتور سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
إذا كانت محاولات إسرائيل لاستقطاب المسئولين الأمريكيين للتجسس لصالحها قد باءت بالفشل أحيانًا، فإنها نجحت في الكثير منها في تجنيد جواسيس لها داخل بعض المواقع الأمريكية الحساسة، من أجل إمدادها وتزويدها بالمعلومات بالغة الأهمية
. ومن هؤلاء جوناثان بولارد.. وهو يهودي أمريكي كان يعمل محللاً لدى البحرية الأمريكية، قام بتزويد إسرائيل بآلاف الوثائق المصنفة سرية حول نشاطات التجسس الأمريكية في الدول العربية، وذلك في الفترة من مايو 1984م وحتى توقيفه في نوفمبر 1985م، بالقرب من السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ليدان بالسجن المؤبد في 1987م .
وقد أدت هذه القضية إلى توتير العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية لبعض الوقت، ورفضت واشنطن أكثر من التماس، لإطلاق سراحه، تقدم به رؤساء الحكومات الإسرائيلية اليمينية واليسارية على السواء للإدارات الأمريكية المتعاقبة بالإفراج عنه
ورغم العلاقة الوطيدة التي تربط إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، والحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة آرييل شارون، فإنها ما فتئت ترفض الإفراج عن الجاسوس بولارد، وفي مقدمة هؤلاء الرافضين وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد، الذي سبق أن حث الرئيس السابق بيل كلينتون على رفض طلب إسرائيل إطلاق سراح بولارد
كما قام ريتشارد شيلبي رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، بإرسال برقية موقع عليها من 58 عضوًا من أعضاء الكونجرس إلى كلينتون في يناير 1999م، يطالبون فيه عدم الرضوخ للضغوط الإسرائيلية بالإفراج عن الجاسوس اليهودي
في الوقت الذي رفض القضاء الأمريكي مرارًا وتكرارًا، تخفيف الحكم عن الجاسوس اليهودي لإعادة فتح ملفه وتخفيف عقوبته، وكان آخرها التماس تقدَّم به في عام 2000م، لإعادة النظر في الحكم الصادر ضد بولارد، بزعم أنه تلقى استشارة قانونية ضعيفة, وأنه بسبب ذلك لم يقدم طعنًا في الحكم الصادر في حقه, ولخرق الحكومة الأمريكية اتفاقًَا يقضي بخفض حكم المؤبد مقابل اعترافه، حسبما تقول هيئة الدفاع عنه
.لكن المحكمة الفيدرالية في واشنطن، رفضت أخيرًا طلب الاستئناف؛ لأنه جاء متأخرًا جدًّا، فضلاً عن رفضها النظر في وثائق سرية تتضمن تقديرًا لوزير الدفاع الأسبق كاسبار واينبيرجر حول الضرر الذي ألحقه بولارد بالأمن الأمريكي، بعدما اعتبر القاضي ديفد سنتيل أن المحكمة غير مخولة بالإطلاع على وثائق سرية وأن "منح بولارد ودفاعه حق الوصول إلى هذه الوثائق سيفتح بوابة من الطلبات المماثلة".
فيما يعارض المسئولون الأمريكيون عن الأجهزة الأمنية، الإفراج عنه "لأن أنشطته أساءت كثيرًا للمصالح الأمريكية"، ووصل الأمر إلى حد تهديد رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق جورج تينيت، بتقديم استقالته إذا ما أُفرج عن بولارد
تعويض عن الظلم !!
منذ اعتقاله في سنة 1985م، يسعى بولارد هو وزوجته، ومعه الكثير من المؤيدين في اليمين الإسرائيلي، إلى الحصول على اعتراف رسمي من الحكومة الإسرائيلية به، كعميل إسرائيلي.
إلا أن كل الحكومات المتعاقبة امتنعت عن ذلك، ولو أن رؤساءها جميعًا طلبوا شفهيًّا من رؤساء الولايات المتحدة في تلك الفترة، إصدار عفو عنه وإطلاق سراحه
كما عرضت عليه إسرائيل في سبتمبر 2001م، مبلغ مليون دولار، تعويضًا عن "الظلم الذي لحق به"، لكن بولارد رفض مبلغ التعويض، واقترح كبديل لهذا التعويض أن تحترم إسرائيل التزامها بالسعي حثيثًا من أجل الإفراج عنه هو وزوجته. وهو ما عده البعض بأنه أول اعتراف من قبل الحكومة الإسرائيلية بأن بولارد تجسس لصالحها، داخل الولايات المتحدة
بولارد الذي تحول إلى بطل لدى مجموعات الضغط اليهودية بالولايات المتحدة، التي تقول إنه لم يكن يفعل أكثر من نقل المعلومات التي كان على واشنطن أن تمررها إلى إسرائيل، قام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بنيامين نتانياهو، بزيارته في سجنه الانفرادي في مطلع العام 2002م، بولاية كارولينا الشمالية، في زيارة كانت هي الأولى من نوعها لمسئول إسرائيلي رفيع المستوى
وكان نتانياهو، قد بذل جهودًا لإطلاق سراح بولارد ضمن صفقة كان من المفترض أن يبرمها مع الرئيس كلينتون، أثناء محادثات "واي بلانتيشن"، الخاصة بحلّ النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني
وفي السنوات الأخيرة، تبنى قضية بولارد، داني نافيه، الذي كان يشغل منصب سكرتير حكومة نتنياهو، ثم انتخب بالكنيست عن حزب الليكود، وعينه رئيس الحكومة الحالي آرييل شارون وزيرًا لشئون العلاقة ما بين الحكومة والكنيست
وقد أدرج اسم هذه الجاسوس ضمن صفقة، سعت إسرائيل لإبرامها مع واشنطن في عام 2003م، يتم بمقتضاها الإفراج عن المزيد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، في حال إفراج الولايات المتحدة عن بولارد
ليست الأخيرة
قضية بولارد، ربما كانت هي الأولى من نوعها التي يتم الكشف عنها، في تاريخ العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، لكنها لم تكن الأخيرة بالتأكيد. والدليل على ذلك، ما كشفته وسائل الإعلام الأمريكية في عام 2004م، حول تورط خبير الشئون الإيرانية في وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" لورانس فرانكلين، حول قيامه بتسريب وثائق سرية إلى الدولة العبرية بينها وثائق تتعلق بمداولات جرت في البيت الأبيض حول إيران، وأمر رئاسي موقع باسم الرئيس بوش يتعلق بإيران، وذلك عبر اللوبي الصهيوني المعروف باسم لجنة العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية (ايباك).
وفرانكلين الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع اثنين من كبار مسئولي "البنتاجون"، ممن لعبوا دورًا رئيسًا في الحرب على العراق، وهما: نائب وزير الدفاع السابق بول وولفويتز ووكيل الوزارة دوجلاس فيث، كان يعمل تحت إمرة نائب مساعد وزير الدفاع لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وليام لوتي، الذي يشرف بدوره على "مكتب العمليات الخاصة" الذي نشط عشية شن الحرب على العراق في مارس 2003م
وبحسب مسئولين أمريكيين، فإن فرانكلين، الذي تعلم الفارسية، وتخصص خلال العقد الأخير فقط في الشئون الإيرانية، يعد هو "الرأس المفكر حول إيران"، وتربطه علاقات مثيرة للشبهات مع المعارضة الإيرانية في الخارج
فقد سبق له أن شارك -إلى جانب مسئولين آخرين من "البنتاجون"- في اجتماعات سرية جرت في روما وباريس مع المنشقّ الإيراني وتاجر السلاح مانوشير جوربانيفار، الذي كان ضالعًا في فضيحة "إيران-كونترا" أواسط الثمانينيات
وعقد هذا اللقاء في العاصمة الإيطالية روما، في ديسمبر 2001م، في بداية ولاية الرئيس بوش، لبحث كيفية إقامة علاقات بين واشنطن والمعارضة الإيرانية في الخارج، من أجل تزويد الولايات المتحدة بمعلومات حول إيران، بما يخدم الحرب الأمريكية على ما يسمى "الإرهاب". وعقد هذا اللقاء بعد وساطة مايكل ليدن الخبير في معهد "انتربرايز" وهو أحد المراكز اليمينية التي تلعب دورًا كبيرًا في صياغة السياسات الأمريكية
كما سبق لفرانكلين أن كتب مقالا في جريدة "وول ستريت جورنال"، في فبراير 2000م، انتقد فيه بشدة الرئيس الإيراني المنتهية ولايته محمد خاتمي، واتهمه باستخدام شعبيته الكبيرة في إيران والاحترام الذي يتمتع به في العالم، للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان في إيران
إلى جانب ذلك، تكشف المعلومات عن فرانكلين أنه حليف قوي لإسرائيل، وقام بزيارة إلى تل أبيب أثناء خدمته بسلاح الجو الأمريكي؛ حيث ترقى إلى رتبة عقيد
ووفقًا لما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" نقلاً عن زملاء فرانكلين، فإنه ربما أقام في تلك الأثناء في السفارة الأمريكية بتل أبيب؛ حيث كان يعمل محللاً متخصصًا في الشئون السياسية والعسكرية لحساب وكالة استخبارات الدفاع التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، لكن تكليفه لم يكن هناك بصفة دائمة
وتشير المعلومات إلى أنه -وقبل انكشاف أمر فضيحة التجسس- التقى فرانكلين مع ممثل لشعبة الاستخبارات الإسرائيلية عدة مرات، وزوده بتقارير حساسة حول مقدرة إيران النووية والعسكرية، قام على إثرها رجل المخابرات الإسرائيلي بإرسال تقارير عن هذه الاجتماعات إلى القيادة في تل أبيب، التي بدورها منحته الضوء الأخضر لمواصلة الاجتماعات والحصول علي أكبر قدر من المعلومات
وكان رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال اهارون زئيفي فركش، على علم ودراية بما يحدث في واشنطن، ووافق على استمرار اللقاءات الثنائية مع فرانكلين، بحسب صحيفة "معاريف" الإسرائيلية
كما أن مصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى، اعترفت بأن الضابط الإسرائيلي التقى فعلاً بالموظف الأمريكي عدة مرات، لكنها شددت على أن هذه اللقاءات كانت لقاءات عمل ليس إلا، نافية نفيًا قاطعًا حصول الدولة العبرية على معلومات حساسة من فرانكلين
وقبل استقالته من منصبه في 2004م، ألمح جورج تينت الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية "سي آى إيه"، في عدة مناسبات، التقى خلالها قادة جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" إلى وجود هذا الجاسوس، بينما كان قادة "الموساد" يرفضون معلومات تينيت وتحدوه أن يلقى القبض على الجاسوس ويعرضه على الملأ، وفقًا لما ذكرته صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية.
لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي " إف بي آي"، يمتلك العديد من الأدلة المؤكدة على تورط محلل الشئون الإيرانية في "البنتاجون" في التجسس لصالح إسرائيل، وإمدادها بمعلومات سرية حول سياسات الإدارة الأمريكية إزاء إيران، ومن بينها صور وبرقيات
لكن لم يُعرف إلى أي نتيجة توصلت التحقيقات التي يجريها مكتب التحقيقات الفيدرالي " إف بي آي"، حول المتورطين في إيصال هذه المعلومات إلى إسرائيل، والتي اتسعت دائرتها لتشمل العديد من كبار المسئولين في وزارة الدفاع الأمريكية، لمعرفة ما إذا كان هناك دور محتمل لقادة "البنتاجون" في إرسال مثل هذه المعلومات السرية إلى إسرائيل
وللبحث كذلك في دور "ايباك" الوسيط المفترض لنقل المعلومات السرية من موظف البنتاجون إلى إسرائيل، بعد إجراء التحقيق مع اثنين من أبرز المسئولين فيها، وتفتيش مكتب أحدهما قبل الحصول على نسخة من المعلومات الموجودة بحوزته
ورأى مراقبون أن تسريب التحقيق في 27 أغسطس 2004م، أعطى كل من يستهدفهم التحقيق تحذيرًا صريحًا بأنهم الآن مشتبه بهم، ومنحهم وقتًا كافيًا لإتلاف أي أدلة على التورط في أعمال إجرامية، ولاختلاق وتنسيق "روايات تغطية" لما كانوا يقومون به
.وبعد، فليست قضيتا بولارد وفرانكلين، سوى مثالين لقضايا التجسس الإسرائيلي في أمريكا، والتي تعدّ أهم أسباب تفجر الخلافات المكتومة بين الحليفين، وذلك رغم حرصهما الشديد على إخفاء أي مظاهر خلافية، وإظهار العلاقة بين الجانبين، في صورة "نموذجية".
مثل هذه القضايا، التي تظهر الدور الخفي الذي تلعبه إسرائيل عبر مجموعة كبيرة ونشطة من عملائها لجمع المعلومات داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وذلك من خلال محاولاتها المستمرة لتجنيد المسئولين الأمريكيين للتجسس لصالحها، والحصول علي مستندات سرية .
بقلم / دكتور سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
إذا كانت محاولات إسرائيل لاستقطاب المسئولين الأمريكيين للتجسس لصالحها قد باءت بالفشل أحيانًا، فإنها نجحت في الكثير منها في تجنيد جواسيس لها داخل بعض المواقع الأمريكية الحساسة، من أجل إمدادها وتزويدها بالمعلومات بالغة الأهمية
. ومن هؤلاء جوناثان بولارد.. وهو يهودي أمريكي كان يعمل محللاً لدى البحرية الأمريكية، قام بتزويد إسرائيل بآلاف الوثائق المصنفة سرية حول نشاطات التجسس الأمريكية في الدول العربية، وذلك في الفترة من مايو 1984م وحتى توقيفه في نوفمبر 1985م، بالقرب من السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ليدان بالسجن المؤبد في 1987م .
وقد أدت هذه القضية إلى توتير العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية لبعض الوقت، ورفضت واشنطن أكثر من التماس، لإطلاق سراحه، تقدم به رؤساء الحكومات الإسرائيلية اليمينية واليسارية على السواء للإدارات الأمريكية المتعاقبة بالإفراج عنه
ورغم العلاقة الوطيدة التي تربط إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، والحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة آرييل شارون، فإنها ما فتئت ترفض الإفراج عن الجاسوس بولارد، وفي مقدمة هؤلاء الرافضين وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد، الذي سبق أن حث الرئيس السابق بيل كلينتون على رفض طلب إسرائيل إطلاق سراح بولارد
كما قام ريتشارد شيلبي رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، بإرسال برقية موقع عليها من 58 عضوًا من أعضاء الكونجرس إلى كلينتون في يناير 1999م، يطالبون فيه عدم الرضوخ للضغوط الإسرائيلية بالإفراج عن الجاسوس اليهودي
في الوقت الذي رفض القضاء الأمريكي مرارًا وتكرارًا، تخفيف الحكم عن الجاسوس اليهودي لإعادة فتح ملفه وتخفيف عقوبته، وكان آخرها التماس تقدَّم به في عام 2000م، لإعادة النظر في الحكم الصادر ضد بولارد، بزعم أنه تلقى استشارة قانونية ضعيفة, وأنه بسبب ذلك لم يقدم طعنًا في الحكم الصادر في حقه, ولخرق الحكومة الأمريكية اتفاقًَا يقضي بخفض حكم المؤبد مقابل اعترافه، حسبما تقول هيئة الدفاع عنه
.لكن المحكمة الفيدرالية في واشنطن، رفضت أخيرًا طلب الاستئناف؛ لأنه جاء متأخرًا جدًّا، فضلاً عن رفضها النظر في وثائق سرية تتضمن تقديرًا لوزير الدفاع الأسبق كاسبار واينبيرجر حول الضرر الذي ألحقه بولارد بالأمن الأمريكي، بعدما اعتبر القاضي ديفد سنتيل أن المحكمة غير مخولة بالإطلاع على وثائق سرية وأن "منح بولارد ودفاعه حق الوصول إلى هذه الوثائق سيفتح بوابة من الطلبات المماثلة".
فيما يعارض المسئولون الأمريكيون عن الأجهزة الأمنية، الإفراج عنه "لأن أنشطته أساءت كثيرًا للمصالح الأمريكية"، ووصل الأمر إلى حد تهديد رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق جورج تينيت، بتقديم استقالته إذا ما أُفرج عن بولارد
تعويض عن الظلم !!
منذ اعتقاله في سنة 1985م، يسعى بولارد هو وزوجته، ومعه الكثير من المؤيدين في اليمين الإسرائيلي، إلى الحصول على اعتراف رسمي من الحكومة الإسرائيلية به، كعميل إسرائيلي.
إلا أن كل الحكومات المتعاقبة امتنعت عن ذلك، ولو أن رؤساءها جميعًا طلبوا شفهيًّا من رؤساء الولايات المتحدة في تلك الفترة، إصدار عفو عنه وإطلاق سراحه
كما عرضت عليه إسرائيل في سبتمبر 2001م، مبلغ مليون دولار، تعويضًا عن "الظلم الذي لحق به"، لكن بولارد رفض مبلغ التعويض، واقترح كبديل لهذا التعويض أن تحترم إسرائيل التزامها بالسعي حثيثًا من أجل الإفراج عنه هو وزوجته. وهو ما عده البعض بأنه أول اعتراف من قبل الحكومة الإسرائيلية بأن بولارد تجسس لصالحها، داخل الولايات المتحدة
بولارد الذي تحول إلى بطل لدى مجموعات الضغط اليهودية بالولايات المتحدة، التي تقول إنه لم يكن يفعل أكثر من نقل المعلومات التي كان على واشنطن أن تمررها إلى إسرائيل، قام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بنيامين نتانياهو، بزيارته في سجنه الانفرادي في مطلع العام 2002م، بولاية كارولينا الشمالية، في زيارة كانت هي الأولى من نوعها لمسئول إسرائيلي رفيع المستوى
وكان نتانياهو، قد بذل جهودًا لإطلاق سراح بولارد ضمن صفقة كان من المفترض أن يبرمها مع الرئيس كلينتون، أثناء محادثات "واي بلانتيشن"، الخاصة بحلّ النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني
وفي السنوات الأخيرة، تبنى قضية بولارد، داني نافيه، الذي كان يشغل منصب سكرتير حكومة نتنياهو، ثم انتخب بالكنيست عن حزب الليكود، وعينه رئيس الحكومة الحالي آرييل شارون وزيرًا لشئون العلاقة ما بين الحكومة والكنيست
وقد أدرج اسم هذه الجاسوس ضمن صفقة، سعت إسرائيل لإبرامها مع واشنطن في عام 2003م، يتم بمقتضاها الإفراج عن المزيد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، في حال إفراج الولايات المتحدة عن بولارد
ليست الأخيرة
قضية بولارد، ربما كانت هي الأولى من نوعها التي يتم الكشف عنها، في تاريخ العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، لكنها لم تكن الأخيرة بالتأكيد. والدليل على ذلك، ما كشفته وسائل الإعلام الأمريكية في عام 2004م، حول تورط خبير الشئون الإيرانية في وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" لورانس فرانكلين، حول قيامه بتسريب وثائق سرية إلى الدولة العبرية بينها وثائق تتعلق بمداولات جرت في البيت الأبيض حول إيران، وأمر رئاسي موقع باسم الرئيس بوش يتعلق بإيران، وذلك عبر اللوبي الصهيوني المعروف باسم لجنة العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية (ايباك).
وفرانكلين الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع اثنين من كبار مسئولي "البنتاجون"، ممن لعبوا دورًا رئيسًا في الحرب على العراق، وهما: نائب وزير الدفاع السابق بول وولفويتز ووكيل الوزارة دوجلاس فيث، كان يعمل تحت إمرة نائب مساعد وزير الدفاع لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وليام لوتي، الذي يشرف بدوره على "مكتب العمليات الخاصة" الذي نشط عشية شن الحرب على العراق في مارس 2003م
وبحسب مسئولين أمريكيين، فإن فرانكلين، الذي تعلم الفارسية، وتخصص خلال العقد الأخير فقط في الشئون الإيرانية، يعد هو "الرأس المفكر حول إيران"، وتربطه علاقات مثيرة للشبهات مع المعارضة الإيرانية في الخارج
فقد سبق له أن شارك -إلى جانب مسئولين آخرين من "البنتاجون"- في اجتماعات سرية جرت في روما وباريس مع المنشقّ الإيراني وتاجر السلاح مانوشير جوربانيفار، الذي كان ضالعًا في فضيحة "إيران-كونترا" أواسط الثمانينيات
وعقد هذا اللقاء في العاصمة الإيطالية روما، في ديسمبر 2001م، في بداية ولاية الرئيس بوش، لبحث كيفية إقامة علاقات بين واشنطن والمعارضة الإيرانية في الخارج، من أجل تزويد الولايات المتحدة بمعلومات حول إيران، بما يخدم الحرب الأمريكية على ما يسمى "الإرهاب". وعقد هذا اللقاء بعد وساطة مايكل ليدن الخبير في معهد "انتربرايز" وهو أحد المراكز اليمينية التي تلعب دورًا كبيرًا في صياغة السياسات الأمريكية
كما سبق لفرانكلين أن كتب مقالا في جريدة "وول ستريت جورنال"، في فبراير 2000م، انتقد فيه بشدة الرئيس الإيراني المنتهية ولايته محمد خاتمي، واتهمه باستخدام شعبيته الكبيرة في إيران والاحترام الذي يتمتع به في العالم، للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان في إيران
إلى جانب ذلك، تكشف المعلومات عن فرانكلين أنه حليف قوي لإسرائيل، وقام بزيارة إلى تل أبيب أثناء خدمته بسلاح الجو الأمريكي؛ حيث ترقى إلى رتبة عقيد
ووفقًا لما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" نقلاً عن زملاء فرانكلين، فإنه ربما أقام في تلك الأثناء في السفارة الأمريكية بتل أبيب؛ حيث كان يعمل محللاً متخصصًا في الشئون السياسية والعسكرية لحساب وكالة استخبارات الدفاع التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، لكن تكليفه لم يكن هناك بصفة دائمة
وتشير المعلومات إلى أنه -وقبل انكشاف أمر فضيحة التجسس- التقى فرانكلين مع ممثل لشعبة الاستخبارات الإسرائيلية عدة مرات، وزوده بتقارير حساسة حول مقدرة إيران النووية والعسكرية، قام على إثرها رجل المخابرات الإسرائيلي بإرسال تقارير عن هذه الاجتماعات إلى القيادة في تل أبيب، التي بدورها منحته الضوء الأخضر لمواصلة الاجتماعات والحصول علي أكبر قدر من المعلومات
وكان رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال اهارون زئيفي فركش، على علم ودراية بما يحدث في واشنطن، ووافق على استمرار اللقاءات الثنائية مع فرانكلين، بحسب صحيفة "معاريف" الإسرائيلية
كما أن مصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى، اعترفت بأن الضابط الإسرائيلي التقى فعلاً بالموظف الأمريكي عدة مرات، لكنها شددت على أن هذه اللقاءات كانت لقاءات عمل ليس إلا، نافية نفيًا قاطعًا حصول الدولة العبرية على معلومات حساسة من فرانكلين
وقبل استقالته من منصبه في 2004م، ألمح جورج تينت الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية "سي آى إيه"، في عدة مناسبات، التقى خلالها قادة جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" إلى وجود هذا الجاسوس، بينما كان قادة "الموساد" يرفضون معلومات تينيت وتحدوه أن يلقى القبض على الجاسوس ويعرضه على الملأ، وفقًا لما ذكرته صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية.
لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي " إف بي آي"، يمتلك العديد من الأدلة المؤكدة على تورط محلل الشئون الإيرانية في "البنتاجون" في التجسس لصالح إسرائيل، وإمدادها بمعلومات سرية حول سياسات الإدارة الأمريكية إزاء إيران، ومن بينها صور وبرقيات
لكن لم يُعرف إلى أي نتيجة توصلت التحقيقات التي يجريها مكتب التحقيقات الفيدرالي " إف بي آي"، حول المتورطين في إيصال هذه المعلومات إلى إسرائيل، والتي اتسعت دائرتها لتشمل العديد من كبار المسئولين في وزارة الدفاع الأمريكية، لمعرفة ما إذا كان هناك دور محتمل لقادة "البنتاجون" في إرسال مثل هذه المعلومات السرية إلى إسرائيل
وللبحث كذلك في دور "ايباك" الوسيط المفترض لنقل المعلومات السرية من موظف البنتاجون إلى إسرائيل، بعد إجراء التحقيق مع اثنين من أبرز المسئولين فيها، وتفتيش مكتب أحدهما قبل الحصول على نسخة من المعلومات الموجودة بحوزته
ورأى مراقبون أن تسريب التحقيق في 27 أغسطس 2004م، أعطى كل من يستهدفهم التحقيق تحذيرًا صريحًا بأنهم الآن مشتبه بهم، ومنحهم وقتًا كافيًا لإتلاف أي أدلة على التورط في أعمال إجرامية، ولاختلاق وتنسيق "روايات تغطية" لما كانوا يقومون به
.وبعد، فليست قضيتا بولارد وفرانكلين، سوى مثالين لقضايا التجسس الإسرائيلي في أمريكا، والتي تعدّ أهم أسباب تفجر الخلافات المكتومة بين الحليفين، وذلك رغم حرصهما الشديد على إخفاء أي مظاهر خلافية، وإظهار العلاقة بين الجانبين، في صورة "نموذجية".
مثل هذه القضايا، التي تظهر الدور الخفي الذي تلعبه إسرائيل عبر مجموعة كبيرة ونشطة من عملائها لجمع المعلومات داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وذلك من خلال محاولاتها المستمرة لتجنيد المسئولين الأمريكيين للتجسس لصالحها، والحصول علي مستندات سرية .
التعليقات