اشهر سلاح يستخدمه العملاء بقلم: د . سمير محمود قديح

اشهر سلاح يستخدمه العملاء

( الحرب النفسية ، الدعاية ، الاشاعات )



بقلم / د . سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية

عشرات الأسلحة ، فى كل حرب ، تحبس أنفاسنا ، وتعتصر قلوبنا ، وتفجر مزيجا من الخوف والأنبهار والذعر وربما الأرتياع ايضاً.

وما إن تنشب حرب من الحروب حتى نشاهد صور القصف الجوى والانفجارات ، وامطار القنابل والرصاصات والدم ..

وفى اعمق اعماقنا ،نتصور ان هذه هى الحروب..

دمار ووبال ودماء وانهيارات وقتلى وصرعى .. و .. و ..

ومن كثرة ما تحتشد الصور والمشاهد فى ذهننا ، وفرط ما يراق فى كياننا من ألم ومرارة ، ننسى دوما أن كل هذا مجرد صورة مادية للحرب

وليس كل الحرب

فخلف كل هذا ،و بين سطوره ،وقبله وبعده وفى الخلال ايضاً، تدور دوما حرب طاحنة ضروس ، قد لا تنطلق فيها رصاصة واحدة ، ولعى الرغم من هذا فالخبراء يعتبرونها جزء أساسياً من الحرب الشاملة

إنها الحرب المعنوية ..

أو الحرب النفسية ..

وعلى الرغم ان معظمنا يعرف المصطلح تماما، وربما يردده كثيراً ايضاً ، ألا ان القليلين .. والقليلين جداً من يدركون معناه ..

معناه الحقيقى ..

وندرة هى من تعرف تاريخه , وبدايته ,نشأته الأولى عبر التاريخ ..

فالحرب النفسية ، هى الحرب تلك التى تستهدف نفسية الخصم ومعنوياته ، دون جسده وقدراته الفيزيقية..

الحرب التى تسعى لتشكيل فكره ، وتوجيه عقله إلى هدف محدود ، يخالف حتماً كل ما يمكن أن يجعله فعالاً ، فى ميدان الحرب والقتال ..

لقد عرف العالم تلك الحروب النفسية منذ زمن بعيد .. بعيد للغاية

فالتاريخ يعود بنا ، فى هذا الشأن ، الى ما يقرب من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام ..

بالتحديد فى عهد (تحمتس الثالث ) (1490 - 1436 ق. م) وتحتمس الثالث هذا هو سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر ، وقد آل اليه العرش وهو فى الأربعين من عمره ، على عكس من سبقه من فراعنه الأسرة كلها ..

وعندما تقلد ( تحتمس الثالث ) عرشه ، كانت منطقة الشرق الأوسط كلها غارقة فى خضم من الأضطربات والعواصف السياسية ، التى لم ترق له أبداً ، مما جعله يتخذ قراراً خطيراً جداً ، بمقاييس ذلك العصر..

قرار أن يسيطر على المنطقة كلها ..

وفى سبيل هذا ، خاض ( تحتمس الثالث ) سبع عشر حمله حربية طافرة ..

والتاريخ يقول : أنه قد أذهل اهل عصره ..

فبمبادرة مذهلة ، ألغى (تحتمس الثالث ) كل النظم القتالية والعسكرية والتى كانت متبعة من قبله وقسم الجيش إلى قلب وجناحين بحيث ينقض القلب على الخصم ، فى حين يطوقه الجناحين فتضطرب صفوفه وترتبك قيادته من فرط المفاجاة وعنف الهجوم الجانبى ..

ولأول مرة عبر التاريخ أبتكر (تحتمس الثالث ) ما يعرف بأسم الحرب الخاطفة ، وهذا بشن هجمات سريعة وقصيرة ومفاجئة للعدو، ومن جهات مختلفة ، وفى أية ساعة من الليل والنهار ..

وأدرك خصوم (تحتمس الثالث ) أنهم امام قائد رهيب ، لا قبل لهم بمواجهته عسكرياً ، وخاصة مع توالى أنتصاراته ،لذا فكًرأحد قادتهم فى خدعة جديدة ومبتكرة - فى ذلك الحين - ويعتبرها العلماء أول لمحة للحرب النفسية عبر التاريخ

ففى معركة مجدو ،أشهر المعارك التى خاضتها جيوش (تحتمس الثالث) ، كانت كل الخيول ، التى تجر عرباته الحربية ، من الذكور ؛ نظرا لأن الذكر فى الخيل أكثر قوة ،وأكثر أحتمالا ، واقدر على مواجهة القتال وأضطربات الحروب ..

لذا أطلق قائد الاعداء فريسة أنثى وسط خيول العربات الحربية ؛حتى يشيع فيها الاضطراب فتتقاتل فيما بينها ، وتثير قلق الجنود وتوترهم ..

لكن قائد الجيوش (تحتمس الثالث) وهو ( امنحتب الثالث) فهم الخدعة على الفور وما أن أقتربت الفرسة من المعسكر ، حتى انقض عليها ، وبقر بطنها وأفسد خطة العدو كلها ...

وسجل التاريخ الواقعة ..

وبدأت الحروب النفسية ..

وعبر التاريخ نجد عشرات الأمثلة ، على تلك الحروب النفسية واثرها فى تغيير خط سير المعارك ..

ومن أشهر ما حدث فى الحروب وبالذات عندما ينقص الجيشان بعضهما على بعض ويختلط الحابل بالنابل ، هو ان يصرخ بعضهم ، مدعيا أن قائد الجيش الخصم قد لقى مصرعه..

تلك الصرخة كانت تشيع الفوضى والاضطراب بين الجنود ، وتربكهم على نحو يسمح لجيش الخصم بالأنقضاض على قلبهم وضربهم فى المقتل ..

أيضاً كان الجنود قديما يربطون أغصان الأشجار ، فى ذيول الخيول ؛لكى تثير خلفهم عاصفة من الغبار توحى بأن عددهم يفوق واقعهم بعدة مرات .

وفى فتح مكة عندما امر (خالد بن الوليد)جنوده بأن يشعل كل منهم ناراً ، كانت هذه عبقرية من عبقريات الحرب النفسية ..

فامعتاد عندما يهبط اليل ، أن تشعل كل مجموعة من الجنود ناراً ، وتلتف المجموعة كلها حولها ، وكان من المعتاد ان يحصى الطرف الأخر النار ويضرب عددها فى متوسط كل مجموعة تلتف حولها ، ليعرف تعداد جيش الخصم تقريبا ..

وعندما رأى أهل مكة تلك النيران ، تصوروا أنه هناك مجموعة من الجند تلتف حول كل نار ، مما أوحى إليهم بأن الجيش هائل الحجم على نحو لا قبل لهم به ..

المغول والتتار ايضاً كانت لهم سياستهم فى الحرب النفسية ففى كل مرة ، وقبل وصولهم إلى بلد ما ، كان جواسيسهم يسبقونهم إليها ، وهم يتحدثون لغة أهلها ويرتدون ثيابهم ،أو ثياب بلد اخر صديق ..

وفى الأسواق، كان الجواسيس يتحدثون عن جيوش قادمة..

عن أعدادها الهائلة ..

وقدراتها المخيفة ..

وضخامة جنودها ..

ومهارتهم ...

وقوتهم ..

والناس فى الأسواق تسمع ..

وتصدق ..

وترتجف..

و من ألسنة هؤلاء الناس تنتقل تلك الدعاية المغرضة إلى آذان وقلوب الجنود و الجيوش

وعندما تلتقى الجيوش ، يكون المغول او التتار فى أوج قوتهم ووحشيتهم ، وخصومهم خائفون إلى درجة توحى بأنهم قد أنهزموا فعلياً ، قبل حتى أن يبدأ القتال ..

هذه هى الحرب النفسية الحقيقية ...

الحرب التى تحطم معنوبات خصمك ونفسيته ، قبل أن ترفع سلاحك فى وجهة ..

بل وقبل حتى أن يرى هذا السلاح ، أو يدرك قوته ..

وهذا الجزء من الحرب النفسية وهو ما يطلق عليه اسم حرب الترهيب ..

او هى الحرب التى تثير الخوف فى أعماق الخصم وترهب كل ذرة فى كيانه ..

ولكن هناك حرب نفسية من نوع معكوس تماماً..

أو هى حرب الترغيب ..

وأشهر مثال يمكن ان نطرحه ، لذلك النوع الثانى من الحروب ، هو ما فعله القائد الفرنسى(نابليون بونابرت) عندما بدا حملته الفرنسية على مصر (1798 - 1801 م)،

فقد حاول أجتذاب المصريين إلى صفه بأن أعلن انه إنما جاء كمسلم ،لحماية المسلمين والإسلام ، وانقاذ المصريين من جبروت وتعنت المماليك ...

ومن المعتاد ألا يعتمد فريق ما على حرب الترغيب وحدها دون لمحة او لمحات تجاورها ، من حرب الترهيب..

وتذكروا ان (نابليون ) قد أرفق كلماته السابقة ، بأستعراض لقوة جيشه ومدافعه التى أرهبت المماليك ، وكانت بالنسبة للمصرين أشبه بالقنبلة الذرية فى عصورنا هذه ،كما رآها العالم عام 1945 م ..

وفى عالم الواقع يستحيل دائما أن يستخدم نوع واحد من الحربين ، خلال زمن الحروب ، أو حتى فترات السلم ، لكن الفترات الهادئة ترتبط دوما بسياسة الترغيب ، بأكثر مما تترتبط بسياسة الترهيب ، وما يحدث حولنا ، منذ عقدين من الزمن ، هو ذروة الحرب النفسية الترغيبية ، والتى أعتمدت على أبهار الشعوب العربية بنمط الحياه الاستهلاكية الأمريكية ، بيحيث تصور البعض ان أمريكا هى جنة الله فى الأرض،بل تجاوز البعض هذا ، إلى تعليق العلم الأمريكى على سيارته ، أو أبرازه على صدر ثيابه ، أو فى التشبه بالأمريكين ن فى الزى وفى اللهجة وفى اللغة والأسلوب والياة أيضاً..

وبدون أى تعنتات يعتبر خبراء الحرب النفسية ان أولئك المتامركين هم أضعف الكل ، أذا انعدم إحساسهم بالشخصية المستقلة لذواتهم ، وعدم ثقتهم بانفسهم ، أو احترامهم لنفسهم ، يدفعهم للتشبه بنمط أخر ، على نحو يمسخ كيانهم كله ،فينسلخون من عروبتهم دون ان يصبحوا بالفعل كمن تشبه بهم ..

بأختصار يرقصون على السلم ..

وعلى هامش الحياه أيضاً ..

أما فى زمن الحروب فالغلبة طبعا لأسلوب الترهيب الذى يبالغ بشدة فى قوة الأسلحة

ودقتها ..

وقدرتها المدهشة على أصابة الهدف ..

وعندما فجرت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتها الذرية الأولى ، فى مدينة هيروشيما اليابانية ، فى أغسطس 1945، لم تكن تضع نهاية للحرب العالمية الثانية (1939 -1945م) وأنما بداية لحرب إرهابية نفسية تهدف إلى إعلام العالم انه لديها سلاح لا قبل لأحد به ، وأنها أصبحت سيدة العالم بلا منازع ...

لكن الحكمة الألهية تقتض ألا تنفرد قوة ما بالسيطرة على العالم أبداً ..

فلقد أمتلكت روسيا القنبلة الذرية أيضاً ..

وأنعكست الحرب النفسية على الأمريكيين ، الذين أصابتهم عقدة الحرب النووية ، وحمى بناء المخابئ والكوابيس ، والانهيارات العصبية المستمرة ..

وأساليب عديدة ومتعددة، وتتطور دوما ، مع تطور وسائل الأعلام والأتصال ، فمن رويات وحكايات الجواسيس فى الأسواق ، إلى إلقاء المنشورات بالطائرات ،إلى ما وصلنا إليه الآن من قنوات فضائية مفتوحة ، وشبكات أنترنت ، وهواتف للأتصالات الدولية

وكل هذا يعتمد على الدعاية

وكلمة الدعاية هنا تشمل كل ما يتم ترديده ، عبر كل الوسائل سالفة الذكر ؛للتأثير على الخصم ، وتحطيم روحه المعنوية

وعلى الرغم من أختلاف الوسائل تنقسم الدعاية فى مضمونها وتأثيرها إلى نوعين كبيرين فحسب ،و إلى ثلاث فئات مختلفة وفقا لمصدر إطلاقها ، و ..

الدعاية ..

المتهمون بالحرب النفسية فى العالم كله ، يعتنقون عددأ من السياسات ، الخاصة بوسائل غرس تأثيرات بعينها ، فى المجتمعات والشعوب او فى الجيوش المقاتلة ، ويتأثرون دوماً بعدد من عباقرة الحروب النفسية ، أو عمالقةلعبة الدعاية وعلى راسهم جميعا ً ، ودون أدنى استثناء ،الألمانى النازى (جوزيف جوبلز) ..

و(جوبلز) هذا أول وأخطر من أستخدم فن الدعاية - كوسيلة للحرب النفسية و سبيل إلى غسيل المخ ، واعادة توجيه الفكر ، إلى وجهة بعينها ، يتم أختيارها وتحديدها مسبقاً ، وذلك منذ عام 1929م ، عندما بدأ نجم (اودلف هتلر ) يلمع ، فى سماء السياسة الألمانية ، مع صعود الحزب النازى وسياسته الجديدة التى جعلها (جوبلز) تبدو اشبه بالأمل الوحيد فى الخروج من فخ الاقتصاد المنهار، وروح هزيمة حرب العالمية الأولى ، ومعاهدة (فراساى) المجحفة ، إلى جنة التطور والسيطرة ، وحلم ألمانيا ، زعيمة أوربا والعالم أجمع ..

وبعبقرية (جوبلز ) ، وأساليبه المتطورة ، بزغ الحزب النازى ، وحصل على أكبر عدد من المقاعد (الرايشستاج) ، وأصبح (هتلر) رئيسا للوزراء ، عين (جوبلز ) وزيرا للدعاية ، فأطلق هذا الاخير مهارته وعبقريته أكثر وأكثر ليقفز (هتلر)إلى مقعد الرياسة ،ويبدأ فى تنفيذ حلم ألمانيا النازية الكبرى ..

وهنا ادرك الكل أهمية الدعاية ، وخطورتها ، وتأثيرتها الرهيبة فى الشعوب والأفكار والمعنويات ..

وبدأ الخبرا يدرسون فن الحرب النفسية ..

والدعاية ..

ويضعون الحقائق ..

والقواعد ..

والأساليب ..

والاتجاهات ..

والأن وبعدما يقرب من ستين عاماً ، على سقوط الرايخ الثالث ، وانهيار ألمانيا النازية ،وانتحار (هتلر) ، وأندحار (جوبلز) ، أصبحت الحرب النفسية علماً ضخماً ، له كتب ، وقواعد ، ومراجع ، ويتم أستخدامه فى كل الحروب ..

وكل أوقات السلم أيضاً ..

بل وفى كل ساعة وكل ثانية .. وتقول هذه المراجع إن الدعاية فى أساسها تنقسم إلى قسمين كبيرين ، فهى إما دعاية استراتيجية أو دعاية تكتيكية ..

والدعاية الأستراتيجية ، ومن واقع تسميتها ، هى دعاية شاملة ، واسعة الأنتشار،بطيئة المفعول ، قوية التأثير ، لاتستهدف أفراد بعينهم ،بل تستهدف أنماطاً كاملة ،ولاتسعى خلف تغيير أفراد ،أنما تحوير فكر او اتجاه ،او خلق نمط سلوكى او أجتماعى جديد ،يناسب فى أسلوبه وتطوره ، كل ما يحقق مصالح صاحب الدعاية ومستخدمها ..

واكبر مثال لهذا النوع من الدعاية هو حالة العولمة التى تسعى إليها الولايات المتحدة الأمريكية ، وتسعى من خلالها إلى فرض النمط والنموذج الامريكى على كل الشعوب الأخرى ، من خلال مغريات طويلة الأمد ، ومتغيرات بطيئة التأثير مثل تغيير النمط الغذائى

من مأكولات الوطنية المعتادة ،إلى انواع الوجبات الجافة السريعة ، وزرع النمط الأستهلاكى المتغير بسرعة ، بديلا عن روح الإنتاج والصبر على النتائج المستقبلية وغيرها من وسائل التأثير التى تنتشر وتتغلغل بين شباب أى مجتمع وتبدأ فى تغييرهم وتبديلهم رويداً رويداً ، دون ان يشعروا ،إلى أن يصبح ملبسهم ،وأسلوب تعاملهم ، وحتى تفكيرهم ، أمريكيا تماما ، مما يمحو طابعهم الوطنى ، ويفسد أنتمائهم وارتباطهم بأوطانهم ..

والدعاية الأستراتيجية قوية وفعالة للغاية إذا إنها فى النهاية تخلق مواطناً يميل إلى بلد اخر ، ولديه استعداد أكبر للخيانة والعمالة ويسهل أجتذابه وتحريكه ، ليتحول فى النهاية إلى قطعة من الشطرنج ، على لوحة مطلق الدعاية ..

وهنا تكمن خطورتها ..

وخطورة تاثيرها البطئ ..

والعميق ..

والفعال جداً ..

والدعاية الأستراتيجية تستخدم اوقات السلم ،أو فى الحروب المعنوية مثل الحرب الباردة الشهيرة الطويلة ، بين أمريكيا والإتحاد السوفيتى

باكثر مما تستخدم فى أثناء الحروب المباشرة ؛نظراًلأن تأثيراتها لا يمكن ان تظهر فى وقت قريب يتناسب مع فترات اشتعال وأنتهاء الحروب فى العصر الحديث ..

وهنا يأتى دور الدعاية التكتيكة ..

والدعاية التكتيكية هى دعاية مباشرة ، قوية ، سريعة التأثير ، وسريعة النتائج أيضاً، وهى تستهدف أموراً بذاتها ، أو أشخاص بعينهم ، فتهاجمهم بعنف سديد وضرواة تنشر فضائحهم ،وتجسم اخطائهم ،وتلقف لهم أتهامات ، وتوصمهم بالخيانة ،والعمالة وغيرها ..

وأقوى انواع الدعايات التكتيكية ، هى ما بنى على لمحة من الواقع ، كأن يكون هناك حاكم ديكتاتورى النزعة بالفعل ، فتصنع منه الدعاية وحشاً كاسراً ،وسفاحاً دموياً ، وشيطاناً بلا أخلاق أو ضمير ..

وعندما تستند الدعاية التكتيكة على لمحة حقيقة يسهل تصديقها ،ويسهل انتشارها ، وتتحول إلى قوة هائلة قادرة على تصديقها ،ويسهل انتشارها ، وتتحول إلى قوة هائلة قادرة على تحقيق الكثير ..

والكثير جداً ..

أما لو بنيت الدعاية التكتيكية على غير أساس من الصحة ، فهى تنهار فور أنطلاقها ، بل تتحول فوراً إلى دعاية مضادة ، بالغة القوة والتاثير ، لو أحسن الخصم أستغلالها وتوجيهها ..( مثال من عندى< أميرة السلام >: فى الحرب عندما يقدف أحدهم رمح يخترق الأخر أذا كان الاخر منتبه ومحترف يمكنه أن يبتعد عن طريق الرمح يمسك به ويرده لقاذفه ليقتله )

فالجيوش ، التى تتم تغذيتها على نحو منتظم ، وبوفرة واضحة فى الغذاء ، لا يمكن ان تنتشربداخلها شائعة عن نقص الغذاء ،او انعدامه ، او حتى سوئه ، إنما ستتحول الشائعة فوراص مثار للسخرية، ومدعاة للاقتناع بكذب الخصم ، وغفلته ، وسؤ تقديره للأمور..

الدعاية التكتيكية إذن تستخدم فى الحروب ،او خلال الأزمات لتحقيق نتائج سريعة ، مباشرة ، وقوية خلال فترة محدودة ..

هذا بالنسبة لتأثير الدعاية ..

اما بالنسبة لنوعيتها فهى تنقسم غلى ثلاثة أقسام رئيسية مهمة للغاية ..

الدعاية البيضاء ، والدعاية الرمادية ، والدعاية السوداء ..

والرابط اللونى ، هذا لا يرتبط بطبيعة المادة ، التى تقدم من خلال الدعاية ، سواء كانت مظلمة أو مضيئة ، لكنه يرتبط بالمصدر الذى يطلق الدعاية نفسها ..

فالدعاية البيضاء هى دعاية معروفة المصدر ، تطلقها دولة ، أو جهة معروفة و معلنة ؛للتأثير على شعب أو جيش دولة خصمة أو عدوة ..

والمثال الأكبر على هذا ، هو الإذاعات الموجهة التى تصدر عن دولة ما ، تعلن عن نفسها فى وضوح ، ولكنها تستخدم فيها لغة الدولة الخصم ، والأساليب التى تجذب شعبها ، وربما أغنياتها ومواضيعها المفضلة أيضاً ، بحيث تدس بين هذا وذاك بعض الأخبار التى ربما تكون صحيحة او لا ، لترك تأثير خاص فى الشعوب أو الجيوش ..

ولكى تنجح الدعاية البيضاء لابد أن تستند إلى شىء من الحقائق التى يدركها شعب أو خيش الخصم حتى لا يفقد الثقة بها ، خاصة وأنها تصدر من مصدر معروف بعدائه وخصومته ..

أما الدعاية الرمادية فهى دعاية غير واصحة المصدر تبدأ وتنتشر ، وربما تنتهى أيضا ، دون

أن يظهر بوضوح من الذى أطلقها بالضبط ، ومن المستفيد منها بالتحديد ..

والدعايات الرمادية تحتاج إلى أكبر قدر ممكن من الذكاء والحنكة ، نظراًلأنها لابد ألا تحمل بصمة واضحة ومحددة

لذا فمستخدمها يكون فى المعتاد خبيراً فى مجاله ، وأستاذاً فى فن التعامل من الجماهير ، وتوجيه فكرها ، وتحوير أتجاهاتها ، دون إشارات واضحة ، أو توجيهات مباشرة جلية ..

ومن الممكن ان تكون الدعايات الرمادية مقروءة ، أو مسموعة ، أو حتى مرئية ، وفقاً لمقتضيات الموقف ، ونوع الوسائل المتاحة والمنتشرة ، وفى منطقة الخصم ، والتى يمكن أن تكون ضعيفة ومحدودة ،أو شديدة التطور ، بحيث تغوص عبر شبكات الانتر نت ، ورسائل المحمولة ، وغيرها ..

أما الدعاية السوداء ، فهى أخطر وأشرس اونواع الدعايات ، لو أحسن التعامل معها ، على الوجه الصحيح ..

والدعاية السوداء هى دعاية مباشرة ولكنها تصدر حتما عن مصدر يخالف المصدر المعلن ، كأن تنشئ (إسرائيل )مثلا محطة إذاعية باللغة العربية ، يعمل فيها يهود من أصول عربية ، على نحو يوحى بأنها محطة للمعارضة فى الخارج ..

أو يمكن أن يكون هذا عبر مواقع الأنترنت ، التى تطلق عبر الشبكة ، بأعتبارها من مصدر قومى معارض مثلاً ،فى الحين انها فى الواقع تنطلق من موقع معاد تماماً ..

وتأثير الدعاية السوداء هو أقوى تأثير معروف ، من بين كل أنواع الدعاية الاخرى ؛لأنه يكسب ثقة المستمع ، او المشاهد ، أو المتابع ، الذى يتعامل ، معها بأعتبارها مصادر صديقة ، تسعى إلى صالحه ومستقبله ، فى الحي أنها فى واقعها مصادر عدوة تسعى لتدميره والقضاء عليه ..

والتاريخ يحمل لنا عشرات الأمثلة ، للدعايات الناجحة فى كل الحروب ، وكل المجالات ، والتى تبدأ من اطلاق الشائعات ،إلى إلقاء المنشورات ، التى تحوى إما الترهيب أو الترغيب ،إلى الإذاعات الموجهة ، والمستفزة والملتوية ، والمتخفية ، إلى أفلام السينما ، والأفلام التسجيلية ، والكتب والروايات ، وإلى ماتطور إليه العلم الآن ، من رسائل هاتفية قصيرة ، ومواقع شبكة الإنترنت ، والرسائل البريدية الإلكترونية ..

ومن بين كل هذه الوسائل ، تعتبر الشائعات هى الأقوى والأكثر تأثيرا و ....

الشائعات .....

من بين كل انواع الحرب النفسية ، التى استعرضها التاريخ ، فى عالم الجاسوسية ، تحتل الشائعات مكانة خاصة ..

خاصة للغاية فعلى عكس كل الوسائل الأخرى ، تنطلق الشائغات دوماً

من بؤرة مجهولة ، يصعب تحديدها ، أو تتبعها على نحو منطقى وسليم ،فالشائعة يمكن أن تبدأ من مصنع كبير ،أو مقهى صغير ، أو حتى من قلب أخطر جهاز ، فى أية دولة من دول العالم ..

وهذا يتوقف على طبيعة الشائعة ، وأهميتها ، وخطورتها وما يمكن أن يؤدى إليه ، بعد ان تتوغل فى المجتمع ، وتستقر فى وجدانه ، وتصبح لها قوة رهيبة ، ربما تنزاح أمامها الحقائق نفسها ..

والاستهانة بالشائعات خطأ فادح ، مهما بدت الشائعة تافهة أو غبية ا حتى تفتقر إلى المنطق و العقل السليمين ..

وقبل أن نناقش هذه النقطة ، دعنى اعيد ذهنك إلى شائعة مضحكة بدت كدعابة على الأرجح، ثم لم تلبث أ قويت ، مع ترديدها المستمر ، حتى تجاوزت كل الحدود المنطق الطبيعى ..

والحديث هنا عن تلك الشائعة ، التى أنتشرت فجأة لتقول :إن الفنان المبدع (محمد صبحى ) مسيحى الديانة !

شائعة كان ينبغى أن تثير الضحك والسخرية ، وتبدو واضحة السخافة واللا منطقية ،وعلى الرغم من هذا ، فقد فوجئنا بها تنتشر ..

وتنتشر ..

وتنتشر..

ومع انتشارها ، راح بعض الخبثاء ينسجون مبررات أكثر سخافة لإقناع الآخرين بأن (محمد محمود صبح) الشهير بالفنان (محمد صبحى ) ، رجل مسيحى الديانة..

والسخيف أن التبرير نفسه غير منطقى ..

لكن الأسخف أن الناس صدقت ..

ورددت ..

وأثبتت قوة الشائعات ..

وفى الوقت الذى كان فيه مطلق الشائعة ينقلب على ظهره ضحكاً وسخرية ، من ذلك الشعب الساذج ، الذى صدق شائعة سخيفة كهذه ، كان على الفنان (محمد صبحى) أن يتحدث الى الصحف ، وعن كذب الشائعة ، التى سخر منها شخصياً فى البداية ، بغض النظر عما ورد بها بأعتبار أن مؤلفها ومرددها شخص أساء إلى الاديان ، دون وعى او منطق .. او ربما هو شخص تعمد هذا!!

المهم أنه ، على الرغم من كل ماقيل ، ومن تكذيب (صبحى )نفسه للأمر ، ظل هناك من يصدق ..

ومن يردد ..

ومن يجادل ..

وهكذا الشائعات ..

من السهل أن تطلقها ، ومن الصعب ، وربما الصعب جداً أن توقفها ..

وأحد الأسباب الرئيسية للشائعات ، رغبة البعض فى الظهور بمظهر الشخص المتميز ، والمطلع ، والعارف ببواطن الأمور ..

وهذه أسوأ صفة فى الوجود ..

وتتضاعف نسبة السوء ، لو أن صاحب تلك هذه الصفة ينتمى بالفعل إلى جهة سيادية أو أمنية ، أو سياسية ، بحيث توحى كلماته بالثقة والمصداقية ، حتى لو لم يكن يعلم شيئا عما يتحدث عنه فى الواقع ..

فليس من الضرورة ، أن يكون أحد العاملين فى جهاز الشرطة مثلا ، على لم بكل ما يدور هناك ، بل من الطبيعى جداً أن يجهل الكثير مما يحدث ، والإ فسيصبح جهاز الشرطة كله أشبه بمقهى عام ، يردد الكل فيه الأسرار ، بل ويعلنها لكل العاملين بلا استثناء ،دون أية قواعد للسرية وأمن الجهاز والدولة ..

وهذا ينطبق أيضاً على العاملين فى أجهزة المخابرات ، ومجلس الوزراء، ومجلس الشعب ، وكل الجهات السيادية الأخرى ..

وفى معظم الأحيان ، يكون الشعور بقلة الشأن ، هو الدافع الرئيسى ، للعاملين الصغار ، أو صغار كبار الموظفين ، كما يطلق عليهم ، لكى يتظاهروا بالأهمية ، عن طريق إدعاء أنهم يعرفون أسرار المكان ..

بل وأسرار الدولة نفسها ..

وفى بعض الأحيان ، يتظاهر هؤلاء المرضى النفسيين بأنهم على علم حتى بما يطلق على اسم (قرارت المطبخ)..

والمقصود بالمصطلح هنا هو تلك القرارات ، ذات طابع السيادى للغاية ، بحيث لا يمكن أن يعلم بها سوى كبار القادة ، وعلى أرفع المستويات ، ورئيس الوزراء ، أو رئيس الجمهورية شخصياً

ومثل هذه القرارت تكون دوما على درجة عالية جداً من السرية حتى أن الرئيس والقادة لا يبلغون زوجاتهم بها ..

فما بالك بموظفيهم ، فى الدرجات العليا..

والدرجات الوظيفية الأدنى ..

ولكن العجيب أن الناس لا تفكر ..

أو تبحث ..

أو تناقش ..

فقط تصدق ..

وتنبهر ..

وتردد ..

وهنا تكمن الكارثة .

وهنا تكمن أيضاً قوة وحطورة الشائعات ، على كل المستويات ..

والشائعات ، من ناحية قوتها ، وقدرتها على التغلغل ، وما تتركه حلفها من تأثيرات ، تنقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسية ..

وأشهر أنواع الشائعات ، ما يعرف باسم الشائعة الزاحفة ..

والشائعة الزاحفة هذه هى أقوى الشائعات تأثيراً واكثرها قدرة على هزيمة الحقائق نفسها ،أذا إنها ، وكما يتضح من اسمها تبدأ هادئة ،بطيئة ، ولكنها تمتلك من القوة ما يسمح لها بالزحف فى المجتمعات ، وبالأنتقال بين الألسنة والآذان فى سرعة ، بحيث تصبح راسخة قوية ، مقنعة ، حتى و إن لم تستند إلى منطق سليم ..

والغرض الرئيسى للشائعة الزاحفة ، هو توجيه الفكر العام نحو أمر بعينه ، أو فكرة بذاتها ، بحيث تقر فى القلوب والنفوس ، وتصبح قادرة على تحطيم الروح المعنوية ، أو سلب الإرادة العامة ، عندما تحين لحظات المواجهات ..

وأشهر ما عروف من الشائعات الزاحفة ، هو فكرة قوة الجيش الإسرائيلى ، ومناعته ، وفكرة أنه غير قابل للهزيمة ..

وخلال الحرب العالمية الثانية ، استخدم (جوبلز) ، وزير الدعاية النازى ، شائعة السلاح السرى الألمانى ، ليحطم إرادة الإنجليز ، ويوهمهم بأن هزيمتهم حتمية ، حتى لو أوحت تطورات الموقف بعكس هذا ..

والشائعة الزاحفة قادرة على دفع شعب كامل إلى الاستسلام قبل حتى أن يواجه عدوه ، لتصوره أن هذا العدو يفوقه قوة بمئات المرات ، أو يمتلك سلاحاً رهيباً ، قادراً على إبادته بلا رحمة ..ألخ ..

أما النوع الثانى من الشائعات فهو الشائعة العنيفة ..

وهذا النوع من الشائعات يعتمد على نشر أكذوبة قوية ، مخيفة ، تدفع فئة ما ، أو حتى كل الفئات إلى الغضب والثورة والاندفاع إلى التدمير أو التخريب ، دون أن تتوقف للتفكير فى الموقف ، ودراسته ، وتبين صحته او كذبه ..

والمثال الواضح للشائعات القوية ، هو أحدث الأمن المركزى فى أواخر ثمانيات القرن العشرين(ابريل1986م) ، عندما سرت بين قوات الأمن المركزى شائعة تقول إن فترة تجنيدهم ستتضاعف فى ظروف معيشة سيئة للغاية ..

وبمنتهى العنف ، أنطلق جنود الأمن المركزى يعلنون رفضهم ..

وغضبهم..

وثورتهم..

وأشتعلت الدنيا كلها ..

وهذا بالضبط هدف الشائعات العنيفة ..

أن تطلق المشاعر والانفعالات من عقالها ، بمنتهى العنف والقوة ، دون تفكير أو تدبير ..

ومن هنا يبدوا واضحاً أن الشائعات العنيفة هى عكس الشائعة الزاحفة تماما ، فهى تبدأ بسرعة والغرض منها نتائج سريعة ومباشرة ، و..

وعنيفة ..

تبقى امامنا إذن النوع الثالث والأخير من الشائعات وهو ما يعرف باسم الشائعة الغائصة ..

والشائعة الغائصة تشبه كثيراً الشائعة الزاحفة ، من حيث بطئها ،وتوغلها ، وتغلغلها ، لكن تختلف عنها فى أنها لا تمس قطاعاً حيوياً دائماً أو مستمراً من المجتمع ، وإنما تمس أمراً يتعلق باوقات محدودة بعينها ، بحيث تغوص الشائعة فى المجتمع معظم الوقت ، ثم تعود إلى السطح ، عندما يأتى دورها أو موسمها ،أو تأتى مناسبتها ..

فلو انها شائعة تتعلق بنقص الموارد الغذائية مثلاً، فهى تختفى معظم أياما لسنة ، لأن المواد متوفرة بالفعل ، ثم تعود إلى الظهور مع مواسم الصيف مثلاً أو فى بدايات شهر رمضان ..

والشائعات المالية هى أشهر أنواع الشائعات الغائصة ، مثل شائعات إصدار الحكومة لقانون ،يبيح لها الأستيلاء على الزدائع البنكية للمواطنين ، او على العملات الحرة فى أرصدتهم ، وهى شائعة ترتبط دوماً بالأزمات الأقتصادية فهى غائصة دوماً فى المجتمع ، ثم تظهر فجأة ، إذا ما واجهالمجتمع ازمة مالية ، حتى ولو كانت مرحلية او مؤقته ..

ومن كل ما سبق يبدوا من الواضح أن الشائعات هى أحد أسلحة الحروب عبر العصور ..

بل هى أقوى أسلحة الحرب الخفية ..

التعليقات