اشهر جاسوسة للموساد الاسرائيلي بقلم : د . سمير محمود قديح

اشهر جاسوسة للموساد الاسرائيلي

بقلم / د . سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية

الآنسة آن ـ ماري مورفي ملفها مثل الكثيرات من الفتيات القادمات من دبلن في إيرلندا إلى لندن بحثاً عن تحسين وضع أو تحقيق الثراء بضربة حظ، عبرت البحر الإيرلندي يداعبها حلم أشبه ما يكون بذلك الذي روته الأساطير عن فتاة اسمها (سندريللا)، غير أنها لم تجد في عاصمة الضباب سوى وظيفة متواضعة راتبها ضئيل، وساعات العمل فيها طويلة ومنهكة، ولم تكن لتلفت نظر رجال الأمن الإسرائيلي (الموساد) لولا أنها ارتبطت بعلاقة مع شاب عربي كانت عين الموساد عليه منذ وصوله إلى لندن.

كانت آن ـ ماري تقضي وقت فراغها في إحدى الحانات في منطقة شبيرد ـ بوش، وهي منطقة تكتظ وتزدحم بالإيرلنديين المهاجرين، وكانت تشارك رواد الحانة الأغاني الشعبية الإيرلندية التي تبدأ عندما تدور الرؤوس بعد تجرع بعض الكؤوس، وكانت تعود بعد أن ينفض السامر إلى غرفتها وحيدة تجتر ذكريات ماض قريب تركته خلفها، وتحلق في أحلام سندريللا لا تزال في بطن الغيب، وتستلقي وهي تستجدي الكرى على أمل أن تصحو مبكراً لتعود إلى ترتيب ملاءات الأسرة وتنظيف دورات المياه، وترك كل غرفة تتلآلآ بحيث ترضي مسؤول الخدم في فندق هيلتون، وكانت تؤدي عملها بإتقان رغم إحساسها بأن هذا لن يقودها إلى مستقبل كانت تتطلع إليه ما لم يظهر فارس أحلامها أياً كان.. حتى ولو كان جنياً يركب على جواد (جنجويد).

في ذات يوم من أعوام الثمانينيات والدموع تترقرق في عينيها إثر تفكيرها في قضاء عيد الميلاد بعيداً عن ذويها في دبلن إذا بشاب عربي أسمر اللون وسيم الطلعة في سترة حريرية، ويفوح منه عطر عجيب، يقترب منها، وفي الفم ابتسامة، والمظهر ينم عن الثراء.. بادلته الابتسامة ورأت فيه من النظرة الأولى فارس أحلامها، وكان اسم الشاب (هنداوي) ويمت بصلة قرابة بعيدة إلى آخر يدعى (أبو)، وكان هذا الأخير أحد عملاء الموساد وكان يجمع للمخابرات الإسرائيلية معلومات تسهل عليهم اغتيال شخصيات عربية في الخارج، وكان هنداوي في الخامسة والثلاثين من العمر إلا أنه حين علم بأن آن ـ ماري تبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً حذف باختياره ثلاة سنوات من عمره ليبدو أنهما في سن واحدة، وكانت تلك الكذبة الصغيرة بداية لما هو أكبر وأخطر في مقبل أيامهما، وكانت كل خطوة تقربهما لبعضهما تتم تحت مراقبة دقيقة من الموساد، تمهيداً لعملية جريئة كان يعد لها شخصياً مكتب (أمان) (Aman) الأمني تحت رئاسة إيهود باراك (رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد).

جاء اللقاء الثاني بين آن ـ ماري وهنداوي في إحدى الحانات بالقرب من مسرح (بي بي سي) في منطقة شبيرد ـ بوش جرين ولم تكن آن ـ ماري قد زارت هذه الحانة من قبل، ولهذا فوجئت حين وجدت هنداوي وقد تربع في مقعد وسط مجموعة من العمال الإيرلنديين المهاجرين الذين يعملون في مهنة البناء، وقد كشفت لهجة كل واحد منهم عن المنطقة التي جاء منها مهاجراً إلى لندن، وكان هنداوي يعرف معظمهم ويشارك في مزاحهم الخشن ويقف أحياناً ليحتسي على شرفهم، ولم تكن آن ـ ماري تعرف أن العميل الإسرائيلي (أبو) قد كلف هنداوي بمصاحبة هؤلاء ومحاولة معرفة من ينتمي منهم للحركات الإيرلندية المعارضة.

ازدادت وتوطدت العلاقة بين آن ـ ماري وهنداوي وبدأ رجال الموساد يقتربون من الآنسة آن ـ ماري تمهيداً لتجنيدها، كما كان (أبو) قد انتقل إلى مرحلة متقدمة في تجنيد هنداوي لمخابرات إسرائيل على ألا يكشف أي من الطرفين أه مجند من قبل الموساد للطرف الآخر، وأخذت آن ـ ماري بسحر هنداوي، وكانت تضحك وهي تنصت لقصصه التي يرويها عن الشرق الأوسط وكأنها من أساطير ألف ليلة وليلة، وأحست بأنها توشك أن تقع في غرام هذا العربي وسلمت نفسها له بكل جوارحها، ولكنها لم تفصح عن السر الذي ائتمنها عليه الموساد، وإن أفصحت له بعد أشهر عن إحساس بالأمومة بدأ ينتابها، وأعراض أخرى تعرفها النساء، وأراد هنداوي الهروب من المسؤولية، لكنه خشي إن هي قدمت شكوى للسلطات البريطانية أن يُبعد عن البلاد بحجة أنه شخصية غير مرغوب فيها، وأخيراً لجأ هنداوي إلى (أبو) ليستشير المخابرات الإسرائيلية، وهنا وجدت المخابرات الفرصة سانحة لتطبيق وتنفيذ العملية التي كانت تعد لها، وكانت الخطة تستدعي أن يذهبا معاً إلى بلد عربي حددته وأن يعملا من هناك في التجسس لصالح إسرائيل، وبميلاد طفل ستكون الحبكة أقوى وسيكون قبولهما كزوج وزوجة أكثر إقناعاً وسيسهل لهما معاً الاختلاط في المجتمع، وكان هنداوي يفكر في أن يبعث الآنسة آن ـ ماري إلى دبلةن للتخلص من (المشكلة) هناك بعد أن يمدها بالمبلغ اللازم، وحين التقى بالعميل (أبو) طالباً مبلغاً من المال فوجىء بالأخير يخطره بأن هناك خطة إسرائيلية واجبة التنفيذ بسفره وآن ـ ماري لمنطقة الشرق الأوسط، وفوجئت آن ـ ماري بإلغاء فكرة العودة إلى إيرلندا والإعداد للسفر إلى مكان آخر، وتقول آن ـ ماري (حين أخطرت هنداوي لأول مرة بالأمر قال إنه يريد الخلاص من (المشكلة) في دبلن، ثم جاء إلي بعد أيام متحمساً للزواج ومعبراً عن حبه لي، ودعاني إلى تناول الطعام في مطعم فاخر ثم أخطرني بأنه يخطط لقضاء شهر العسل في بلد عربي مع احتمال الإقامة هناك، ودهشت آن ـ ماري أكثر عندما علمت من الموساد بعد أن اكتمل تجنيدها بأن الخطة ليست أصلاً من وضع هنداوي.. وعرفت آن ـ ماري أن إسرائيل تحرص على ألا يترك عملاء الموساد أية أدلة خلفهم، وأنهم يراقبونهم عن كثب بأسلوب عميل يراقب عميل، مع الاعتماد على الأسر لاعتقادهم أن الأسرة يصعب النفاذ إليها، وحين تسعى لعملية اغتيال تدخل الأسلحة عن طريق (الحقيبة الدبلوماسية) لسفاراتها أو سفارات صديقة، ويصل العميل من دون سلاح أو أوراق قد تثير الشك حوله ثم تمهد له للقاء بعملاء آخرين يحددون له الهدف ويعينونه على تنفيذ العمليات، وتحمست آن ـ ماري للسفر إذ أنها لم تسافر من قبل إلى خارج الجزر البريطانية كما أن فكرة عملها كجاسوسة كانت ترضي غرورها.

بعد أشهر من الإ‘داد للسفر جاءت أوامر جديدة بأن السفر سيكون في البداية إلى إسرائيل لتلقي التدريب على الجاسوسة واستخدام الأسلحة والمتفجرات في معسكر خاص، واقتنع هنداوي و آن ـ ماري بالفكرة وإن راودت هنداوي بعض الشكوك حين أخطروه بأنهما لن يسافرا معاً إذ تقوم آن ـ ماري بالخطوة الأولى ثم يلحق هو بها في طائرة أخرى، ولكن ما لم يخطر على بال هنداوي أن الموساد قد فكر في استغلالهما بطريقة مختلفة وأسلوب مغاير، وقد أخفى عنه الخطة كما وُضعت منقبل باراك في تل أبيب بمعاونة ناهوم أدومي رئيس الموساد قد آنذاك (1982 ـ 1990) وكانت العملية الجديدة ترمي إلى إساءة العلاقات بين دولة أوروبية ودولة عربية بدأت تكتسب ثقة هذه الدولة الأوروبية وظهرت آثار هذه الثقة في اتفاقيات للتعاون في أكثر من مجال مما اعتبرته إسرائيل دعماً لدولة تكن لها العداء، وشرح رجال الأمن الإسرائيليين للجاسوسة (آن ـ ماري مورفي) الخطة الجديدة بكل تفاصيلها، وحذروها من إخطار هنداوي، وتتلخص العملية في أن تودع هنداوي وداعاً مؤثراً لإزالة أي شك قد يثور في ذهنه، وتستغل موهبة المرأة في البكاء وتذرف دموع التماسيح زيادة في الإقناع ثم تتجه في اليوم الذي حُدد لها إلى مطار هيثروا على أن يصحبها هنداوي بحيث يُشاهد من قبل ضباط المطار ورجال الأمن وهو يودعها وهو ينصرف، وعرفت آن ـ ماري أن الموساد سيضع في حقيبتها قنبلة حقيقية، ولكنها ستكون مؤمنة بحيث لا تنفجر، وعليها قبل أن تصعد إلى الطائرة أن تبدو متوترة أو أن تفعل ما تشاء شريطة أن تلفت انتباه رجال الأمن الإسرائيليين ويكون ذلك مبرراً كافياً لاستجوابها دون بقية المسافرين، ومن ثم اكتشاف القنبلة مع الاعتراف فيما بعد أنها لا تعرف شيئاً عن الموضوع، وأن عربياً من مواليد بلد معين هو الذي رتب لها الحقيبة قبل سفرها وبهذا يوجه الاتهام إلى بلد عربي بعينه باعتبار أنه حاول تفجير طائرة العال الإسرائيلية في مطار دولة صديقة، وتسوء بهذا العلاقات بين البلدين الصديقين وتوسم الدولة العربية بالإرهاب معأً يعزلها عن بقية الدول الأوروبية، واكتفى الموساد بإخطار هنداوي بيوم السفر وضرورة حضوره ومرافقته لها، كما أخبروه بأنهم اشتروا هدية باسمه من السوق الحرة ستسلم إليها عند الطائرة كمفاجأة سارة لها من قبله.

في يوم سفر آن ـ ماري إلى إسرائيل على طائرة العال الإسرائيلية أخطرها هنداوي بالهدية، وراح ينصحها وهما بعد في سيارة الأجرة بألا تنسى تمارين التنفس داخل الطائرة وأن تحتسي كثيراً من الماء، وحين كثرت وصاياه قالت ضاحكة: (هل تعتقد أني أسافر للقطر)، وودعها في المطار وراح يراقبها حتى اختفت عن ناظريه، وأتبع الإرشادات التي جاءته من الموساد واستقل حافلة لإحدى شركات الطيران العربية عائداً إلى لندن، وكانت آن ـ ماري قد تجاوزت نقطة مراجعة جاوز سفرها والأمن البريطاني، ثم اتجهت إلى المنطقة المحددة للمسافرين على الطائرة الإسرائيلية، وهنا التقى بها أحد العاملين في المطار وسلمها حقيبة فيها الهدية التي وعدها هنداوي، واتجهت لقاعة المسافرين الأخيرة التي كانت تضم بقية المسافرين وعددهم 355 مسافراً، والتفتت لتشكر الرجل، ولكنه بملابسه الزرقاء التي توحي بأنه من عمال النظافة بالمطار كان قد اختفى تماماً، وبعد لحظات وجدت نفسها في مواجهة أحد رجال أمن طيران العال (EL-AL) عند المدخل رقم B-23، وراح يسألها: ما الغرض من الزيارة؟ إجازة سنوية.. سياحة.. كم تحملين من نقود؟ 70 دولاراً! وأين ستقيمين؟ في الهيلتون؟ وهنا سألها: ألا تعلمين أن الليلة الواحدة في هذا الفندق تكلف 100 دولار؟ نعم أعرف ومعي بطاقة..

وبدأ عليها التوتر فوجد رجال الأمن المبرر لتفتيشها شخصياً، وتفتيش الحقيبة التي كانت تحملها، وتمتماً كما كان متوقعاً وجد رجال الأمن قنبلة على هيئة متفجرات بلاستيكية في جيب سري في الحقيبة، وتم استدعاء رجال الأمن البريطانيين ليكتشفوا أن في الحقيبة حوالي 3 أرطال من مادة Semtex)( شديدة الانفجار، وراحت آن ـ ماري تطبق وصية الموساد بحذافيرها فبدأت تجهش بالبكاء أمام رجال الأمن الإسرائيليين والبريطانيين (MIS) وروت كيف أنها خدعت في الحب، وأوقعت في هذه الجريمة للتخلص منها ومما تحمله في أحشائها، واقتنع الجميع ببراءتها، وبدأ البحث عن هنداوي..

لم يمض كثيراً من الوقت حتى أعلنت الإذاعة البريطانية خبراً عاجلاً مفاده أن رجال الأمن قد تمكنوا من إفشال خطة بمطار هيثرو، وجاء في التفاصيل أن قنبلة من صنع تشيكي قد خُبئت في جيب سري في حقيبة بهدف تفجير طائرة إسرائيلية على علو 39 ألف قدم، وقد قررت الحكومة قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق سفارة بلد عربي، وقد تم القبض على المتهم، ويدعى هنداوي، وكان هذا الأخير قد فشل في البحث عن (أبو) بعد أن عرف بما حدث وايقن أنها عملية دبرتها المخابرات الإسرائيلية منذ البداية، ولجأ أخيراً إلى فندق الزوار في منطقة توتنج هيل، ولكن ظهور صورته كشف عن هويته لأحد نزلاء الفندق فأبلغ الشرطة.

تمت محاكمة هنداوي ولم تقتنع المحكمة بروايته عن الموساد، وحكمت عليه بالسجن 45 عاماً ولا يزال في السجن رغم رواية أحداث العملية كاملة من قبل الكاتب غاردون توماس في كتابه : عملاء جيديون (جواسيس الموساد Gideon Spies) أما الجاسوسة آن ـ ماري مورفي فقد سافرت بحرية إلى إيرلندا حيث وضعت بنتاً، ولم تمس بسوء، وفي سؤال عن المؤامرة أجاب رئيس وزراء إسرائيل آنذاك شيمون بيريز: (ما حدث معروف لمن عرفوه أما من يجهلون فدعهم في جهلهم).

التعليقات