من ملفات المخابرات الفلسطينية..المصيدة بقلم:عبدالله عيسى
من ملفات المخابرات الفلسطينية
المصيدة
بقلم:عبدالله عيسى
مد " أبو مروان " يده متثاقلاً إلى سماعة الهاتف وهو يجول بعينيه الزائغتين في أرجاء مطعمه الصغير . رفع السماعة وقال بصوت متعب : ألو .. نعم كما تريد!
وأعاد السماعة إلى مكانها و ثم نادى ابنه " مروان " الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قائلاً : " تعال يا بنى . خذ هذه الصينية وضع عليها طبقاً من الفول وآخر من الحمص وبعض الفلافل . واذهب بها إلى الضابط " جان " .. لعنة الله عليه " .لم يناقش الفتى والده , فقد تعود أن يرسل الطلبات إلى المكاتب المجاورة ومن ضمنها مركز المخابرات الإسرائيلية الذي لا يبعد عن "مطعم السلام " في مدينة جنين سوى أمتار قليلة , وكان الفتى معروفاً لدى المركز , فكل الضباط يشترون طعامهم من مطعم والده , ويسمحون لد بالدخول إلى مكاتبهم دون التدقيق في هويته . ولم يحاول والده العجوز أن يدخل هذا المركز يوماً وكان يخفى كراهيته للعاملين فيه , لكنه كان يرسل إليهم ما يريدونه مكروهاً .
وفى أوائل 1972 كان ضابط المخابرات " جان " قد بدأ عمله في هذا المركز في جنين في الضفة الغربية المحتلة . وكانت عيناه تبحثان في كل مكان عن فريسة مثل الذئب الجائع .
وكضابط يتولى إدارة هذا المركز في وسط عربي معاد أراد أن يخترق الوجود الفلسطيني . لكن من أين يبدأ ؟ وكان لابد له من إيجاد المفتاح المناسب للدخول إلى الأوساط الوطنية الفلسطينية لاختراقها . وفى أحد الأيام وعلى غير عادته استقبل " مروان " بترحاب وتودد وطلب منه أن يجلس ليتحدث معه .
وبعد أن وضع الفتى طبق الفول على طاولة الضابط جلس ببراءة منتظراً أن يفهم ما يريده منه . ففوجئ به وهو يسأله عن صحته وأحواله ومعيشته وعائلته ووالده والمطعم . وبعد الانتهاء من الأسئلة التي لم يفهم " مروان " مغزاها , تناول
"جان " من درج مكتبه مبلغاً صغيراً من المال كان بالنسبة إلى فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره يعتبر كبيراً , وقال له : هذا المبلغ لك . فأبدى مروان دهشته وقال : لقد دفعت ثمن الطعام , فماذا أفعل بهذا المبلغ ؟ ابتسم الضابط بخبث وقال : هو لك وليس للمطعم , فاذهب به إلى السينما أو النزهة , كما تشاء : فطعامك اليوم لذيذ وأنت تتعب بالمجيء إلى هنا وتستحق كل خير . وتردد الفتى قليلاً , لكنه في النهاية تناول النقود ووضعها في جيبه وقال في نفسه : سأذهب في المساء إلى السينما . وقال للضابط : شكراً لك . وهم بالخروج فسمع صوت الضابط يقول ضاحكاً : على فكرة . أفضل لك أن لا تخبر والدك حتى يأخذ النقود منك , فهي مكافأة لك . وهز مروان رأسه موافقاً وقال : ولا يهمك .
كان مروان لا يزال منتظماً في دروسه في الصف الثالث الإعدادي . وفى الوقت نفسه يمقت العمل في مطعم والده لكنه كان يساعده مكرهاً . وتوالت الأيام وضابط المخابرات الإسرائيلية " جان " يعطى " مروان " مبالغ مالية , فتبدلت نفسيته وبات يرغب العمل في المطعم . وفى هذا الوقت كان الضابط يدرس شخصية " مروان " عن قرب من حيث حالته الاجتماعية والمادية وحالة عائلته ومدى حبه للظهور والتزامه وسريته وحب المال . كان يبحث بالتحديد عن نقاط الضعف التي تمكنه من السيطرة عليه .
الخلايا الفلسطينية
في تلك الفترة , أي بعد خمس سنوات من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة بدأت الخلايا الفلسطينية تعمل بشكل فاعل ومنظم , والعمليات الفدائية شكلت صدمة إلى إسرائيل بعد احتلالها الأراضي العربية في حرب يونيو (حزيران ) 1967 , وحولت " الجيش الذي لا يقهر " المزهو ب" النصر " في الأراضي العربية المحتلة إلى جيش حذر ومتخوف من جراء الضربات الفدائية الموجعة . ومنذ حرب الأيام الستة بدأت المخابرات الإسرائيلية بفروعها المختلفة , حملة منظمة ضد الرموز الوطنية في الداخل , ومنظمة التحرير الفلسطينية في الخارج . وحاولت " الموساد " تبرير فشلها في حرب أكتوبر ( تشرين الأول )1973 , فوجهت كل طاقاتها لإيقاف العمليات الفدائية التي أثرت بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي وعلى مرافقه العسكرية والاقتصادية . ورافقت هذه المحاولات تحركات أخرى استهدفت الشعب الفلسطيني ورموزه الوطنية في الداخل .وكانت المخابرات الإسرائيلية تحاول وضع يدها على الخلايا الفدائية , وكانت بالتالي تحاول اختراق الشباب الوطني عبر تجنيد عدد من العملاء سيستعملون الترغيب والترهيب والابتزاز .
ففي ربيع 1972 أثناء العطلة الدراسية , أرسل الضابط " جان " في طلب
" مروان " وكان الأخير ينتظر هذه الاستدعاء لأن كل زيارة إلى مكتب الضابط كانت تعود عليه بمبلغ من المال . ولم يكن " مروان " يحاول تفسير أسباب عطاء "جان" معتبراً أنه كرم حاتمي من الضابط . لكنه تساءل أكثر من مرة عن سبب كره أبناء بلده للإسرائيليين في حين كان " جان " يعامله بأدب ورقة ويعطى انطباعاً مختلفاً عما سمع .
ودخل " مروان " على الضابط "جان " فقابله الأخير بابتسامة عريضة سائلاً : كيف حالك يا مروان ؟ أجاب مروان : بخير . وكالعادة تناول مبلغاً صغيراً من المال , وقال : خذ هذا المال من المبلغ واحذر المشاغبين الذين يأتون إلى المطعم . فتساءل " مروان " مستغرباً : أيوجد مشاغبون في المطعم ؟
" جان " : نعم , كثيرون وسأقول لك عنهم فيما بعد .
" مروان " ولا يهمك , سوف أحذر منهم .
" جان " : على فكرة , ماذا تفعل بالفلوس التي أعطيك إياها ؟
" مروان " : اشترى بها أشياء واذهب إلى السينما .
ابتسم " جان " وقال : حسنا يا " مروان " الآن اذهب مع السلامة . وخرج
" مروان " من مكتب الضابط وهو يتحسس الفلوس في جيبه قائلاً في نفسه : اليوم فيلم جديد .. بلا دراسة وبلا بطيخ أصفر . وقرر " جان " الذي لم يمض على تعيينه في جنين سوى عدة شهور , بترشيح " مروان " ليكون واحداً من شبكة عملائه مستغلاً صغر سنه وسذاجته مستدرجاً إياه إلى المصيدة . وكانت خطة الضابط إفساد الفتى من خلال مده بالمبالغ المالية التي شكلت تحولاً خطيرا في حياته . من خلال هذا الأسلوب ساءت أخلاق "مروان " وبات يتردد على السينما ويهمل دروسه , وكانت هذه بداية مرحلة الانحراف والانسلاخ عن بيئته ومحيطه المحافظ ولاحظ والده هذا التحول وبدأت مرحلة القلق . وكانت الصعوبة التي واجهت الضابط إيجاد المفتاح الذي يدخل به إلي عالم الشباب الوطني في جنين , فوجده في سذاجة الفتى , الذي كان المدخل لتجنيد شبكة كبيرة من الشباب تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية .
ومع انتهاء الامتحانات المدرسية , جاءت نتيجة " مروان " سيئة للغاية مما أغضب والده الذي وبخه قائلاً :ماذا جرى يا ولدى ؟ فأنت طالب نشيط ومجتهد على حد معرفتي بك ! قال مروان محتجاً : أشغال المطعم لم تترك لي مجالاً للدراسة . فرد " أبو مروان " أعمال المطعم أم السينما والسهر في الليل ؟!
وقد نجح " جان " في إفساد أخلاق الفتى بطريقة تدريجية ومنتظمة , مما جعل والده يتهمه قائلاً : يبدو لي أنك تسرق المال من المطعم وتذهب به إلى السينما , كما اشتكى زملاؤك كثيراً من أنك تدخن ولا تهتم بدروسك . ورد مروان مدافعاً عن نفسه : وهل السينما ممنوعة بعد كل هذا التعب ؟ وأنا لست سارقاً لكنني أوفر من مصروفي اليومي . قال " أبو مروان " :أريدك مجتهداً في دراستك , ألا ترى حالتنا المادية ؟ من سيعيل الأسرة بعد وفاتي ؟
في تلك اللحظة وجد " مروان " الفرصة مناسبة ليطرح موضوعاً شكل مفترقاً خطيراً في حياته : بصراحة يا والدي أصبحت اكره الدراسة , وسوف اترك المدرسة لمساعدتك في المطعم وأنت استرح في البيت لأنك صرت عجوزاً مريضاً .
هنا أحس الوالد بأنه ابنه بدأ ينحرف , فغير أسلوبه معه أملاً في إصلاحه , وقال : لا يا ولدى , سأعمل رغم الداء والشيخوخة , وما عليك إلا متابعة دروسك وإذا كان المطعم يسبب لك المتاعب فاتركه لي ولوالدتك ندير شؤونه .
ولكن " مروان " كان قد اتخذ القرار الخطير , وراح يدافع عن هذا القرار قائلاً : لا أسمح بذلك فأنتما أصبحتما كبيرين في السن ومن واجبى أن أرعاكما و
أخدمكما .
" أبو مروان " : لكن مدرستك أهم من المطعم .
" مروان " ما عليك , فليس كل الناس أساتذة ومدرسين .
هنا تدخلت الأم متوسلة إقناع ابنها بالعدول عن رأيه قائلة : أرجوك يا ولدي أن تبقى في مدرستك . إلا أنه حسم الموقف قائلاً : انتهى كل شئ ولن أتراجع .
الاختبار الصعب
في اليوم ذاته توجه " مروان " إلى المطعم مزهواً بنفسه لأنه حقق ما أراد , ظاناً أن " جان " سيتركه على هذه الحال . ولم يكن ليعرف أنه بقراره ذاك وضع قدمه على سلم الهاوية , وفى ذلك الصباح مر ضابط المخابرات بسيارته أمام المطعم فرأى " مروان " منهمكاً في عمله , فأوقف سيارته ونادى عليه , فترك الفتى عمله وركض باتجاه السيارة . سأله "جان " : ماذا جرى ؟ لماذا لم تذهب إلى المدرسة ؟ أجاب " مروان " باستهتار : تركتها , ومن الآن فصاعداً سأعمل في المطعم ..بلا مدرسة بلا هم ! وابتسم " جان " ابتسامة صفراء وودعه مدركاً خطته تسير
بنجاح .
بعد أيام عدة أرسل الضابط في طلب الفتى , وبدا منزعجاً وهو يقول : يوجد مشاغبون في المطعم وقد رشقوا سيارتي بالحجارة أثناء مروري أمام المطعم وأنا لا أقبل أن يكون مطعمك مقراً لمثل هؤلاء . وكانت فرصة مناسبة كي يخطو الضابط خطوة جديدة فأضاف بلهجة آمرة : لقد قررت إغلاق المطعم , وبدا الارتباك واضحاً على الفتى وهو يقول : لكن لم أر أحداً قد رشق حجارة على سيارتك . وفى تلك اللحظة ضرب " جان " بقبضته على طاولة المكتب وصاح في وجهه : هل أنا كاذب ؟ إنني رأيتهم وقد انطلقوا من خلف المطعم ورشقوا الحجارة ثم ركضوا مسرعين إلى داخل الأزقة في المدينة .
حاول " مروان " أن يدافع عن نفسه قائلاً : وما شأني بهذا الموضوع ؟ فخفض " جان " حدة لهجته وقال : يا سلام ! لمن المطعم؟ أليس لك ؟! ورد " مروان " : وماذا تريدني أن أفعل ؟ تنهد " جان " وقد وصل إلى ما يريده , فقام من خلف مكتبه ووضع يده على كتف مروان , وهو يقول بصوت خافت : عليك أن تعرف أسماء جميع هؤلاء المشاغبين لأنهم يكرهونك ويودون إغلاق مطعمك ولا يريدون لك الخير .
قال " مروان " وهو ينظر بخوف إلى الضابط : حسناً .
عاد "جان" وجلس على كرسيه , وبدا منشرحاً لهذه النتيجة فقال : ماذا تريد ان تعمل ؟
أجاب الفتى ببساطة : سأوقفهم عند حدهم واطردهم من مطعمي . قهقه " جان " ضاحكاً وقال : لا . لا يا مروان عليك أن تعرفهم وتخبرني عن أسمائهم وأنا سأتصرف معهم . ثم أضاف : ولا تقلق نفسك ألا ترى انهم يدفعوننا لإغلاق مطعمك .
" مروان " : نعم . كما تقول .
" جان " حسناً . سأفعل ما تريد .
وكانت عملية التجنيد تتم بطريقة غير مباشرة , وبأسلوب التوريط . وحين أراد الضابط أن يفهم " مروان " أن عمله يتخذ طابع السرية قال له : على فكرة يا مروان لا تتردد كثيراً على مكتبي . فتساءل الفتى بدهشة : لماذا ؟ قال " جان " : ألا تعرف الناس هنا ؟ سيقولون عنك عميلاً ! رد " مروان " : أنا لست عميلاً . وانما أحضر لكم الطعام , وهذا ما يعرفه كل الناس .
المصيدة
بقلم:عبدالله عيسى
مد " أبو مروان " يده متثاقلاً إلى سماعة الهاتف وهو يجول بعينيه الزائغتين في أرجاء مطعمه الصغير . رفع السماعة وقال بصوت متعب : ألو .. نعم كما تريد!
وأعاد السماعة إلى مكانها و ثم نادى ابنه " مروان " الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قائلاً : " تعال يا بنى . خذ هذه الصينية وضع عليها طبقاً من الفول وآخر من الحمص وبعض الفلافل . واذهب بها إلى الضابط " جان " .. لعنة الله عليه " .لم يناقش الفتى والده , فقد تعود أن يرسل الطلبات إلى المكاتب المجاورة ومن ضمنها مركز المخابرات الإسرائيلية الذي لا يبعد عن "مطعم السلام " في مدينة جنين سوى أمتار قليلة , وكان الفتى معروفاً لدى المركز , فكل الضباط يشترون طعامهم من مطعم والده , ويسمحون لد بالدخول إلى مكاتبهم دون التدقيق في هويته . ولم يحاول والده العجوز أن يدخل هذا المركز يوماً وكان يخفى كراهيته للعاملين فيه , لكنه كان يرسل إليهم ما يريدونه مكروهاً .
وفى أوائل 1972 كان ضابط المخابرات " جان " قد بدأ عمله في هذا المركز في جنين في الضفة الغربية المحتلة . وكانت عيناه تبحثان في كل مكان عن فريسة مثل الذئب الجائع .
وكضابط يتولى إدارة هذا المركز في وسط عربي معاد أراد أن يخترق الوجود الفلسطيني . لكن من أين يبدأ ؟ وكان لابد له من إيجاد المفتاح المناسب للدخول إلى الأوساط الوطنية الفلسطينية لاختراقها . وفى أحد الأيام وعلى غير عادته استقبل " مروان " بترحاب وتودد وطلب منه أن يجلس ليتحدث معه .
وبعد أن وضع الفتى طبق الفول على طاولة الضابط جلس ببراءة منتظراً أن يفهم ما يريده منه . ففوجئ به وهو يسأله عن صحته وأحواله ومعيشته وعائلته ووالده والمطعم . وبعد الانتهاء من الأسئلة التي لم يفهم " مروان " مغزاها , تناول
"جان " من درج مكتبه مبلغاً صغيراً من المال كان بالنسبة إلى فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره يعتبر كبيراً , وقال له : هذا المبلغ لك . فأبدى مروان دهشته وقال : لقد دفعت ثمن الطعام , فماذا أفعل بهذا المبلغ ؟ ابتسم الضابط بخبث وقال : هو لك وليس للمطعم , فاذهب به إلى السينما أو النزهة , كما تشاء : فطعامك اليوم لذيذ وأنت تتعب بالمجيء إلى هنا وتستحق كل خير . وتردد الفتى قليلاً , لكنه في النهاية تناول النقود ووضعها في جيبه وقال في نفسه : سأذهب في المساء إلى السينما . وقال للضابط : شكراً لك . وهم بالخروج فسمع صوت الضابط يقول ضاحكاً : على فكرة . أفضل لك أن لا تخبر والدك حتى يأخذ النقود منك , فهي مكافأة لك . وهز مروان رأسه موافقاً وقال : ولا يهمك .
كان مروان لا يزال منتظماً في دروسه في الصف الثالث الإعدادي . وفى الوقت نفسه يمقت العمل في مطعم والده لكنه كان يساعده مكرهاً . وتوالت الأيام وضابط المخابرات الإسرائيلية " جان " يعطى " مروان " مبالغ مالية , فتبدلت نفسيته وبات يرغب العمل في المطعم . وفى هذا الوقت كان الضابط يدرس شخصية " مروان " عن قرب من حيث حالته الاجتماعية والمادية وحالة عائلته ومدى حبه للظهور والتزامه وسريته وحب المال . كان يبحث بالتحديد عن نقاط الضعف التي تمكنه من السيطرة عليه .
الخلايا الفلسطينية
في تلك الفترة , أي بعد خمس سنوات من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة بدأت الخلايا الفلسطينية تعمل بشكل فاعل ومنظم , والعمليات الفدائية شكلت صدمة إلى إسرائيل بعد احتلالها الأراضي العربية في حرب يونيو (حزيران ) 1967 , وحولت " الجيش الذي لا يقهر " المزهو ب" النصر " في الأراضي العربية المحتلة إلى جيش حذر ومتخوف من جراء الضربات الفدائية الموجعة . ومنذ حرب الأيام الستة بدأت المخابرات الإسرائيلية بفروعها المختلفة , حملة منظمة ضد الرموز الوطنية في الداخل , ومنظمة التحرير الفلسطينية في الخارج . وحاولت " الموساد " تبرير فشلها في حرب أكتوبر ( تشرين الأول )1973 , فوجهت كل طاقاتها لإيقاف العمليات الفدائية التي أثرت بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي وعلى مرافقه العسكرية والاقتصادية . ورافقت هذه المحاولات تحركات أخرى استهدفت الشعب الفلسطيني ورموزه الوطنية في الداخل .وكانت المخابرات الإسرائيلية تحاول وضع يدها على الخلايا الفدائية , وكانت بالتالي تحاول اختراق الشباب الوطني عبر تجنيد عدد من العملاء سيستعملون الترغيب والترهيب والابتزاز .
ففي ربيع 1972 أثناء العطلة الدراسية , أرسل الضابط " جان " في طلب
" مروان " وكان الأخير ينتظر هذه الاستدعاء لأن كل زيارة إلى مكتب الضابط كانت تعود عليه بمبلغ من المال . ولم يكن " مروان " يحاول تفسير أسباب عطاء "جان" معتبراً أنه كرم حاتمي من الضابط . لكنه تساءل أكثر من مرة عن سبب كره أبناء بلده للإسرائيليين في حين كان " جان " يعامله بأدب ورقة ويعطى انطباعاً مختلفاً عما سمع .
ودخل " مروان " على الضابط "جان " فقابله الأخير بابتسامة عريضة سائلاً : كيف حالك يا مروان ؟ أجاب مروان : بخير . وكالعادة تناول مبلغاً صغيراً من المال , وقال : خذ هذا المال من المبلغ واحذر المشاغبين الذين يأتون إلى المطعم . فتساءل " مروان " مستغرباً : أيوجد مشاغبون في المطعم ؟
" جان " : نعم , كثيرون وسأقول لك عنهم فيما بعد .
" مروان " ولا يهمك , سوف أحذر منهم .
" جان " : على فكرة , ماذا تفعل بالفلوس التي أعطيك إياها ؟
" مروان " : اشترى بها أشياء واذهب إلى السينما .
ابتسم " جان " وقال : حسنا يا " مروان " الآن اذهب مع السلامة . وخرج
" مروان " من مكتب الضابط وهو يتحسس الفلوس في جيبه قائلاً في نفسه : اليوم فيلم جديد .. بلا دراسة وبلا بطيخ أصفر . وقرر " جان " الذي لم يمض على تعيينه في جنين سوى عدة شهور , بترشيح " مروان " ليكون واحداً من شبكة عملائه مستغلاً صغر سنه وسذاجته مستدرجاً إياه إلى المصيدة . وكانت خطة الضابط إفساد الفتى من خلال مده بالمبالغ المالية التي شكلت تحولاً خطيرا في حياته . من خلال هذا الأسلوب ساءت أخلاق "مروان " وبات يتردد على السينما ويهمل دروسه , وكانت هذه بداية مرحلة الانحراف والانسلاخ عن بيئته ومحيطه المحافظ ولاحظ والده هذا التحول وبدأت مرحلة القلق . وكانت الصعوبة التي واجهت الضابط إيجاد المفتاح الذي يدخل به إلي عالم الشباب الوطني في جنين , فوجده في سذاجة الفتى , الذي كان المدخل لتجنيد شبكة كبيرة من الشباب تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية .
ومع انتهاء الامتحانات المدرسية , جاءت نتيجة " مروان " سيئة للغاية مما أغضب والده الذي وبخه قائلاً :ماذا جرى يا ولدى ؟ فأنت طالب نشيط ومجتهد على حد معرفتي بك ! قال مروان محتجاً : أشغال المطعم لم تترك لي مجالاً للدراسة . فرد " أبو مروان " أعمال المطعم أم السينما والسهر في الليل ؟!
وقد نجح " جان " في إفساد أخلاق الفتى بطريقة تدريجية ومنتظمة , مما جعل والده يتهمه قائلاً : يبدو لي أنك تسرق المال من المطعم وتذهب به إلى السينما , كما اشتكى زملاؤك كثيراً من أنك تدخن ولا تهتم بدروسك . ورد مروان مدافعاً عن نفسه : وهل السينما ممنوعة بعد كل هذا التعب ؟ وأنا لست سارقاً لكنني أوفر من مصروفي اليومي . قال " أبو مروان " :أريدك مجتهداً في دراستك , ألا ترى حالتنا المادية ؟ من سيعيل الأسرة بعد وفاتي ؟
في تلك اللحظة وجد " مروان " الفرصة مناسبة ليطرح موضوعاً شكل مفترقاً خطيراً في حياته : بصراحة يا والدي أصبحت اكره الدراسة , وسوف اترك المدرسة لمساعدتك في المطعم وأنت استرح في البيت لأنك صرت عجوزاً مريضاً .
هنا أحس الوالد بأنه ابنه بدأ ينحرف , فغير أسلوبه معه أملاً في إصلاحه , وقال : لا يا ولدى , سأعمل رغم الداء والشيخوخة , وما عليك إلا متابعة دروسك وإذا كان المطعم يسبب لك المتاعب فاتركه لي ولوالدتك ندير شؤونه .
ولكن " مروان " كان قد اتخذ القرار الخطير , وراح يدافع عن هذا القرار قائلاً : لا أسمح بذلك فأنتما أصبحتما كبيرين في السن ومن واجبى أن أرعاكما و
أخدمكما .
" أبو مروان " : لكن مدرستك أهم من المطعم .
" مروان " ما عليك , فليس كل الناس أساتذة ومدرسين .
هنا تدخلت الأم متوسلة إقناع ابنها بالعدول عن رأيه قائلة : أرجوك يا ولدي أن تبقى في مدرستك . إلا أنه حسم الموقف قائلاً : انتهى كل شئ ولن أتراجع .
الاختبار الصعب
في اليوم ذاته توجه " مروان " إلى المطعم مزهواً بنفسه لأنه حقق ما أراد , ظاناً أن " جان " سيتركه على هذه الحال . ولم يكن ليعرف أنه بقراره ذاك وضع قدمه على سلم الهاوية , وفى ذلك الصباح مر ضابط المخابرات بسيارته أمام المطعم فرأى " مروان " منهمكاً في عمله , فأوقف سيارته ونادى عليه , فترك الفتى عمله وركض باتجاه السيارة . سأله "جان " : ماذا جرى ؟ لماذا لم تذهب إلى المدرسة ؟ أجاب " مروان " باستهتار : تركتها , ومن الآن فصاعداً سأعمل في المطعم ..بلا مدرسة بلا هم ! وابتسم " جان " ابتسامة صفراء وودعه مدركاً خطته تسير
بنجاح .
بعد أيام عدة أرسل الضابط في طلب الفتى , وبدا منزعجاً وهو يقول : يوجد مشاغبون في المطعم وقد رشقوا سيارتي بالحجارة أثناء مروري أمام المطعم وأنا لا أقبل أن يكون مطعمك مقراً لمثل هؤلاء . وكانت فرصة مناسبة كي يخطو الضابط خطوة جديدة فأضاف بلهجة آمرة : لقد قررت إغلاق المطعم , وبدا الارتباك واضحاً على الفتى وهو يقول : لكن لم أر أحداً قد رشق حجارة على سيارتك . وفى تلك اللحظة ضرب " جان " بقبضته على طاولة المكتب وصاح في وجهه : هل أنا كاذب ؟ إنني رأيتهم وقد انطلقوا من خلف المطعم ورشقوا الحجارة ثم ركضوا مسرعين إلى داخل الأزقة في المدينة .
حاول " مروان " أن يدافع عن نفسه قائلاً : وما شأني بهذا الموضوع ؟ فخفض " جان " حدة لهجته وقال : يا سلام ! لمن المطعم؟ أليس لك ؟! ورد " مروان " : وماذا تريدني أن أفعل ؟ تنهد " جان " وقد وصل إلى ما يريده , فقام من خلف مكتبه ووضع يده على كتف مروان , وهو يقول بصوت خافت : عليك أن تعرف أسماء جميع هؤلاء المشاغبين لأنهم يكرهونك ويودون إغلاق مطعمك ولا يريدون لك الخير .
قال " مروان " وهو ينظر بخوف إلى الضابط : حسناً .
عاد "جان" وجلس على كرسيه , وبدا منشرحاً لهذه النتيجة فقال : ماذا تريد ان تعمل ؟
أجاب الفتى ببساطة : سأوقفهم عند حدهم واطردهم من مطعمي . قهقه " جان " ضاحكاً وقال : لا . لا يا مروان عليك أن تعرفهم وتخبرني عن أسمائهم وأنا سأتصرف معهم . ثم أضاف : ولا تقلق نفسك ألا ترى انهم يدفعوننا لإغلاق مطعمك .
" مروان " : نعم . كما تقول .
" جان " حسناً . سأفعل ما تريد .
وكانت عملية التجنيد تتم بطريقة غير مباشرة , وبأسلوب التوريط . وحين أراد الضابط أن يفهم " مروان " أن عمله يتخذ طابع السرية قال له : على فكرة يا مروان لا تتردد كثيراً على مكتبي . فتساءل الفتى بدهشة : لماذا ؟ قال " جان " : ألا تعرف الناس هنا ؟ سيقولون عنك عميلاً ! رد " مروان " : أنا لست عميلاً . وانما أحضر لكم الطعام , وهذا ما يعرفه كل الناس .
التعليقات