المكتب الثاني حاكم في الظل الجزء الرابع:زار السادات القدس فتقربت دمشق الى الفلسطينيين

المكتب الثاني حاكم في الظل الجزء الرابع:زار السادات القدس فتقربت دمشق الى الفلسطينيين
غزة-دنيا الوطن

تنشر «الحياة» أجزاء أخيرة من كتاب الزميل نقولا ناصيف «المكتب الثاني، حاكم في الظل» (دار «مختارات») الذي يتناول سيرة جهاز الاستخبارات العسكرية اللبنانية بين عامي 1945 و1982 رجالاً وأحداثاً ووثائق ومحاضر. في اجزاء من فصل «الانكسار» عن حقبة جول البستاني في عهد الرئيس سليمان فرنجية، عرض لواقع العلاقات بين الاستخبارات اللبنانية والسورية في حمأة الصدام العسكري اللبناني – الفلسطيني عام 1973، ومحاولة دمشق الانتقال من دور الوسيط الى الباحث عن موطئ قدم في اللعبة السياسية اللبنانية.

مذ تصالح مدير الاستخبارات العسكرية اللبنانية جوني عبده وقائد «القوات اللبنانية» بشير الجميّل بدأ التطابق بين السلطة اللبنانية و»القوّات» اللتين أخذتا تتكاملان تدريجاً في فريق عمل واحد: دخل رئيس الجمهورية الياس سركيس في مشروع الجميّل. ولإنجاح مشروعه هذا، عوّل قائد «القوّات» على سلطة لم تعد خصماً. كان سركيس يفتش عن حلّ لوقف انهيار حكم بات عاجزاً، فيما عكف الجميّل على إضفاء شرعية على الميليشيات التي كان يقود. وترافق ذلك مع إعجاب شخصي متنام كنّه الأول للثاني مرده شعبية لم يكن قد اختبرها هو، فيما نجح الزعيم المسيحي الشاب في فرضها عليه، كما نجح في بناء نموذج أمني متماسك في المناطق المسيحية لم تخبره سائر المناطق. يوما بعد آخر شعر سركيس بحاجته إلى دور الجميّل كي يوازن به الوجود المسلح للمنظمات الفلسطينية وحلفائها من الأحزاب اللبنانية وضغوط سورية عليه. وجهة نظره آنذاك كانت أنّ عقبة بشير تحمل في ذاتها حلاً حيال كلّ ما لم يكن في وسعه القيام به، كسلطة، من وطأة التشدّد السوري حياله. وتجاهل الرئيس مواقف أفرقاء مسيحيين آخرين ومراعاتهم، خصوصاً الجبهة اللبنانية بزعامة كميل شمعون وبيار الجميّل. وسمع جوني عبده رئيس الجمهورية مرارًا يقول له في مرحلة ما قبل المصالحة: « كلّما ضعف بشير يجب أن تقوّيه وتدعمه من دون أن تشعره بأنّه يضعف، أو أنّك تساعده بالسلاح والتأييد السياسي. إذا ضعفت المقاومة في المناطق الشرقية انهرنا كلّنا».

عملاً بهذه النصيحة مرّر عبده أسلحة إلى الميليشيات المسيحية عبر أمين الجميّل وداني شمعون، ونقل إليها معلومات أمنية مهمّة من الاستخبارات العسكرية، حتى في عز المواجهة الحادة والموجعة بين الطرفين.

في اجتماعات دورية عقدها جوزف أبو خليل، الكتائبي المخضرم الوثيق الصلة ببيار الجميّل والمستشار الموثوق به لدى الأب والابن، مع المدير العام للأمن العام فاروق أبي اللمع، كان الحديث يتطرّق دائمًا إلى تدهور العلاقة بين الياس سركيس وبشير، في وقت كان حزب الكتائب ورئيسه يدعمان الرئيس، الأمر الذي بعث قلقاً مستمراً وحواراً مستفيضاً في أوساط الحزب حيال هذه الثغرة. واتخذت هذه الأحاديث منحى مختلفاً في غداء في منزل الأمير اللمعي في الأشرفية عندما اقترح على أبو خليل الاجتماع بالرئيس ومناقشته في أسباب تردّي علاقته ببشير، وضرورة العمل على فتح صفحة جديدة. زار أبو خليل وماديس أبو ناضر شقيقة بشير الجميّل قصر بعبدا، والتقيا لأكثر من ساعتين الرئيس الذي استفاض في مآخذه على الجميّل وعرقلته جهود السلطة. طلب أبو خليل إلى الرئيس استيعاب اندفاع قائد «القوّات» وطموحه، فكان جواب الرئيس الذي بدا أنّه ينطوي على فرصة ممكنة لمباشرة حوار: «أريد أن يفهم بشير أنّني لو كنت مكانه لفعلت الأمر نفسه. ولو كان هو مكاني لفعل الأمر نفسه». فردّ أبو خليل: «يعني ذلك إمكان القول بمعادلة تؤدّي إلى تفاهم مع بشير على توزع الأدوار». واقترح عليه المبادرة بدعوة الزعيم الشاب وفتح حوار مباشر ينهي الخلاف.

اقتصرت ملامح مسعى أبو خليل على طابع إجتماعي رمى إلى إيجاد صيغة موقتة في مرحلة أولى توقف الصدامات بين الطرفين، لا سيما منها الأمنية، من غير أن يتفقا بالضرورة على كلّ ما كانا يختلفان عليه تمهيداً لمناقشة المصالحة بينهما. حتى ذلك الوقت لم يُوفّق الرئيس كثيرًا في توسيط بيار الجميّل لكبح جماح ابنه. كذلك كانت حال جوني عبده معه كلّما زاره في مكتبه في مقرّ الحزب. ثابر بيار الجميّل، في حقبة المواجهة خصوصاً، على القول لعبده: «إذا كنتم تريدون أن أكون على علاقة جيدة معكم، كونوا على علاقة جيدة مع بشير».

كانت هذه العبارة باباً إلى مصالحة الابن وشرطاً لاستقرار التعاون مع الأب. في كلّ مرة كان عبده يصطدم ببشير، كان رئيس الجمهورية يلوذ بالجميّل الأب الذي كان يتسلح بدوره بباطنيته المشهودة، فيقول للرئيس إنّه يقف إلى جانبه باستمرار بصفته رمز الشرعية الدستورية. وكان ينتهي الأمر إلى هدنة موقتة، ولم يفلح الأب في جمع ابنه بمدير الاستخبارات. مع ذلك أفصح عبده عن بضعة انطباعات عن بشير الجميّل بدا فيها، على رغم الطابع الدموي لنزاعه معه، أنّه يفضله على شقيقه أمين بسبب صراحته وفجاجته واندفاعه غير الملتبس في كشف أهدافه.

بعد اجتماعه بسركيس قصد أبو خليل قائد «القوّات اللبنانية» وأطلعه على فحوى المداولات التي لم يكن الأخير على علم مسبق بحصولها. فوجئ بعدم وجود تحفّظ عن مباشرة حوار مع رئيس الجمهورية في حمأة المواجهة الدموية مع مدير الاستخبارات. اهتم اتصل أبو خليل بعبده وأعلمه بحصيلة اجتماعه برئيس الجمهورية والانطباعات التي استخلصها من بشير. في اليوم التالي تلقّى أبو خليل مكالمة من عبده مفادها أنّ رئيس الجمهورية كلّفه الاتصال بقائد «القوّات» ودعوته إلى الاجتماع به. بعد ساعات زار بشير سركيس في قصر بعبدا في 13 أيلول 1979. ولم تكن تلك زيارته الأولى للرئيس، وكان درج على الاجتماع به بتقطع منذ بداية عام 1977. بيد أنّ لقاءهما هذا حمل مغزى خاصاً إيذاناً بطيّ صفحة ماض دموي. ولم تكن تلك المكالمة الهاتفية الأولى التي كان أجراها به عبده.

قبل شهور كانت قد حدثت بضعة تطوّرات مهمّة ظلّت غير معلنة وعلم بها الرئيس وأبو خليل، وكانت تحتاج إلى بعض الوقت من أجل إنضاج اجتماع رئيس الجمهورية بقائد «القوّات»، وفي وقت أصبح الطرفان يريان أنّه بات ضروريًا لكليهما. فيما اعتبر مدير الاستخبارات أنّ تأخير الاجتماع بعض الوقت أيضاً ربما كان أكثر جدوى في انتظار إحراز مزيد من التقدّم في حوار كان يجريه سراً مع بشير.

من مكتبه في وزارة الدفاع، في آذار (مارس) 1979، اتصل عبده هاتفياً ببشير قائلاً: «سأرسل إليك رسالة، هناك عريف في الجيش موقوف لديك، وأريدك أن تطلقه». ردّ وقد فأجاته مكالمة مدير الاستخبارات: «طيّب». كانت رؤية رئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك أنّ استمرار الاقتتال بينهما يقود المناطق المسيحية إلى هلاك يستنزف قوّة الشرعية التي يمثلها سركيس والجيش، وقوّة المقاومة التي يجسّدها بشير، وانهيارهما معاً تالياً في معركة خاسرة تكسبها سورية والمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية بلا قتال، وتهاوي مشروع إعادة بناء الجيش. فاستنتج الحاجة إلى استيعاب هذه الأخطار بدءًا من وقف الصدام الدموي بين الطرفين وحؤولاً دون إلغاء أحدهما للآخر.

ذهب رسول من عبده إلى بشير حاملاً رسالة خطية يطلب منه مؤازرته لوقف حربهما قائلاً: «لا يمكن الاستمرار على نحو كهذا في مواجهة تدفع ثمنها الدولة والقوّات معًا لأنّ ثمّة مَن يحرّض في اتجاه المواجهة بيننا». واقترح عليه تسمية مفاوض يثق به لمباشرة اجتماعات تنسيق مشتركة تحلّ مشكلاتهما، مع الأخذ في الاعتبار أنّ مدير الاستخبارات سيحاور باسم الرئيس والجيش.

بعد نصف ساعة تلقى عبده مكالمة من بشير قائلاً له: «سأطلق العريف، وسيكون عندك خلال وقت قصير»، فيما عاد الرسول نفسه بجواب خطي من بشير سمّى زاهي البستاني، المفوّض العام الممتاز في الأمن العام وأقرب المستشارين الموثوق بهم إلى قائد «القوّات»، محاورًا له مع عبده.


الشاهد

عام 1974 تعرّف بشير الجميّل، المحامي المتدرج في مكتب ألبير لحّام، إلى زاهي البستاني الذي كان يشغل منصب رئيس شعبة في دائرة الاستقصاءات في الأمن العام أثناء مراجعته في مشكلة كانت تخص مكتب المحاماة. ومع انهيار الجيش اثر انقلاب العميد أول عزيز الأحدب في 11 آذار (مارس) 1976، توجّه رئيس الجمهورية سليمان فرنجية إلى الكفور وأقام فيها، فقرّر المدير العام للأمن العام العقيد أنطوان الدحداح ملازمته وعَهَدَ إلى البستاني إدارة المديرية، وكان الأخير أصبح رئيساً لدائرة الاستقصاءات. في 17 آذار شنّت المنظمات الفلسطينية وأحزاب الحركة الوطنية هجوماً على المتن الأعلى في محاولة لاقتحام المناطق المسيحية في المتن وكسروان ومن الوسط التجاري في بيروت. يومذاك، تحت وطأة ميزان قوى عسكري غير متكافئ هدّد الجبهات المسيحية بسقوط جدّي، استقبل البستاني صديقين كتائبيين هما جورج كرم وإيلي البستاني نقلا رغبة بشير في الاجتماع به في مكتبه في مقرّ حزب الكتائب في الأشرفية، والتقيا في الثانية بعد منتصف ليل اليوم نفسه. كان فحوى الحوار بينهما: ماذا يمكن أن يفعلا لمنع انهيار المناطق المسيحية؟ إذذاك قرّرا التعاون: بشير يملك السلاح والرجال، والبستاني المعلومات والخبرة. ووجد كلّ منهما في الآخر ما كان ينقصه في خوض «حرب السنتين».

وجد البستاني في بشير شريكًا فاعلاً على الأرض، في وقت بات الأمن العام من دون نفوذ على الأرض. بدا الرجلان قادرين على تعاون تتقاطع عنده مصلحتاهما وهدفهما المشترك: الدفاع عن المناطق المسيحية بوسيلة جديدة للمواجهة. في الشهور التالية اجتمعا مراراً وتبادلا الأفكار موطدين صداقة عميقة وحميمة وطويلة قادت البستاني إلى أن يصير المستشار الأول والأقرب لقائد «القوّات»، والعارف وحده من دون سائر فريق العمل بأسراره كلّها. آتيًا من خارج حزب الكتائب وبعيدًا من أيّ انتماء حزبي أو عقائدي، حمل اسماً مستعاراً في فريق العمل هو «أنور». وخلافًا لجوزف أبو خليل وأنطوان نجم وجان ناضر الذين شدّهم ولاء غير منازع إلى بيار الجميّل أو الحزب، ولكريم بقرادوني الموزع الولاء بين بيار الجميّل والياس سركيس، سلّم البستاني بولاء مطلق لبشير، فأضحيا لا يفترقان.

تدريجًا أخذ البستاني، منذ صيف 1976، يطلع بشير الجميّل على ما لديه من معلومات وتحليلات استقاها من جهازه، ويطلع منه على أحوال الجبهات والاتصالات التي كان يجريها مع كميل شمعون وبيار الجميّل. وبناء على رغبته طلب منه إبقاء معلوماته سرًّا. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، مع انتهاء «حرب السنتين»، عُيّن البستاني في منصب مستحدث في الأمن العام هو رئاسة الغرفة الخاصة التي كانت بمثابة مكتب أركان للمدير العام بصلاحيات متشعبة.



وبعد تعيين فاروق أبي اللمع مديراً عاماً للأمن العام في 11 نيسان (ابريل) 1977 خلفًا لأنطوان الدحداح، أبقى البستاني في رئاسة الغرفة الخاصة. وفي غضون ذلك تطوّرت علاقة البستاني ببشير بعيدًا من الأضواء، وكانا يلتقيان سرًّا في مرحلة شهدت نفورًا بين السلطة اللبنانية وقائد «القوّات». في آب (أغسطس) 1977 اكتشف عبده العلاقة الوطيدة بين الرجلين، ولكن بلا تفاصيل دقيقة. في أيلول (سبتمبر) 1977، حصل على معلومات إضافية فأعلم رئيس الجمهورية، واتصل بأبي اللمع وطلب منه ملاقاته في قصر بعبدا للاجتماع بالرئيس. قبيل دخولهما إلى مكتب سركيس طلب عبده من أبي اللمع إبعاد البستاني عن الأمن العام وإرساله في دورة تدريبية أمنية إلى الخارج لسنة. تحفّظ أبي اللمع، فعقّب عبده: «حسنًا سيطلب منك الرئيس ذلك الآن».

فاتح رئيس الجمهورية أبي اللمع في الموضوع نفسه بعدما تحدّث عن تعاون ضابط كبير في الأمن العام سرًّا مع قائد ميليشيا مناوئة للسلطة الشرعية، وطلب منه إبعاده عن لبنان بعض الوقت. اقترح أبي اللمع إصدار تشكيلات تنتدب البستاني في دورة أمنية إلى بريطانيا لسنة على نفقة الأمن العام، على أنّ اقتراحه لم يقترن بالتنفيذ.

في 22 تشرين الثاني 1977 التقط عبده عبر تنصّت أجرته مديرية الاستخبارات على هاتف منزل البستاني في الأشرفية مكالمات بينه وبين بشير الذي كان يزور واشنطن آنذاك. في إحدى المكالمات حض البستاني قائد «القوّات» على تعزيز اتصالاته بمسؤولين أميركيين وشخصيات نافذة لدى الإدارة الأميركية وتأكيد عدم ثقته بالسلطة اللبنانية وبمقدرتها على إعادة بناء الدولة وطلب دعم للجبهة اللبنانية. بعد ساعات نقل عبده تسجيل المكالمة الهاتفية إلى أبي اللمع الذي استعجل عندئذ سفر البستاني إلى بريطانيا. لم تكن ثمّة دورة أمنية في لندن بل إبعاد له إلى باريس بموافقة المدير العام، مع أنّه كان قد تقدّم إليه باستقالة من الأمن العام جمّدها أبي اللمع.

بعد 14 شهرًا فاجــأ عبــده أبي اللمع بالطلب إليـــه إنهاء إبــعاد البستاني واستــدعاءه إلى بيروت على عجل. ثمّ سمع الطلب نفسه من سركيس في قـصر بعبدا. ولمّا سألهما عن السبــب أجــابه عبــده: «ظروف شخصية... تغيّـرت الأيـام». لم يستفسر أبي اللمع أكثر، لكنّه استعـاد عبـارة قـالها له البستاني قبيل مغادرته إلى باريس: «السبب الذي دفــــعهم إلى مطالبتك بإبعادي سيجعلهم يطالبونك بعودتي».

في هذه الأثناء كانت الحرب الأمنية والسياسية بين عبده وبشير في ذروتها، وأضحت المناطق الشرقية مسرحاً لأعمال عنف وخطف واعتداء وتبادل جثث بين فرقة «المكافحة» بأوامر من عبده وميليشيا «القوّات اللبنانية». عندما عاد البستاني الى بيروت في شباط (فبراير) 1979 كان تعديل طرأ على توازن القوى بين السلطة اللبنانية وبشير الجميّل الصاعد بزعامته. عيّن أبي اللمع البستاني مستشاراً له في مكتب مجاور لمكتبه في إشارة ذات دلالة إلى الموقف المستجد للسلطة حيال إمكان الانفتاح على بشير، وقد صارت أقرب إلى الاعتراف بزعامته تلك وحاجتها إلى محاورته.

في شباط 1979، تلقّى البستاني مكالمة هاتفية من بشير لملاقاته في مكتبه في مقرّ «القوّات» في الكرنتينا. في لقائهما أخبره برسالة عبده إليه ورغبته في فتح حوار معه عبر شخصية موثوق بها، وطلب منه الاضطلاع بالمهمّة. وفي الساعات التالية التقى عبده والبستاني في وزارة الدفاع في اليرزة.

كسر العداء

في لقائهما الأول الذي خلا من جدول أعمال تبادلا المفاجأة: عرف البستاني من رئيس الاستخبارات العسكرية أنّه كان ينوي اغتياله، فيما وجد الأخير نفسه أمام ضابط كبير في الأمن العام يفاوض عن ميليشيا هي خصم للسلطة ومتمرّدة عليها وقاتلة لجنودها. قال عبده: «لا أطلب الحوار مع بشير خوفًا منه، ولم أفكر في أنّه يقبل بالحوار معي خوفًا مني. لكنّ استمرار العنف والأعمال الأمنية بيننا سيخربنا كشرعية، وسيخرب الجيش والمسيحيين معاً، فلنتحاشه على الأقل».

اقترح البستاني الاتفاق على آلية مناسبة لوقف الحرب الأمنية بين «المكافحة» و»القوّات»، وسحب فتائل مبرّرات الصدامات في الشارع بدءًا بإخلاء حواجز الجيش من الأحياء المسيحية تمهيدًا للانتقال إلى الحوار السياسي. كان بشير قد حمّله رغبة في طيّ صفحة الماضي و»التعامل بواقعية، فبيننا تاريخ من الصدامات قُتِلَ فيه ضبّاط وعسكريون ومقاتلون من عندنا. كذلك خُطِفَ كثيرون وحصلت إغتيالات. إلاّ أنّ علينا الآن بناء علاقة جديدة وردم هوّة عدم الثقة». وذكّره باسم بشير الجميّل بعلاقته السابقة به عندما تعاونا لوقت قصير في تنظيم استخبارات جهاز الأمن الكتائبي. وقال: «على رغم اختلاف المواقع والمواقف لا يزال بشير يعتبرك متعاونًا».

في اليوم التالي للاجتماع، زار عبده رئيس الجمهورية وأطلعه على مكالمته مع بشير وفحوى ما ناقشه مع البستاني الذي بدا منفتحاً على اقتراحات حلّ نزاعاتهما. كذلك أعلم قائد الجيش فيكتور خوري، ولكن من دون إخباره عن طريقة حصول المكالمة، سوى قوله له إنّ بشير هو الذي أبدى رغبة في الاتصال بمديرية المخابرات، فوافق. وبعد شهر تخللته عشرة اجتماعات التقى رئيس الاستخبارات العسكرية في منزله قائد «القوّات» في حضور البستاني. ثمّ تكرّرت لقاءات حضر بعضها أبو خليل. لكنّ الحوار اقتصر على عبده والبستاني. ومنذ الاجتماع الأول تصرّف أحدهما حيال الآخر بود متجاوزاً مشاعر الريبة والحذر، فأتى التفاهم تكريساً لجلسات عمل تمهيدية حدّدت اتجاهات التدرّج نحو الثقة.

رسم عبده لبشير سياسة الدولة اللبنانية كالآتي: «نحن نعرف ماذا نريد وماذا تريد. نحن مع المقاومة ولا نسمح إطلاقًا بسيطرة الفلسطينيين على بيروت الشرقية على غرار ما فعلوا في بيروت الغربية. هذه مسؤولية الدولة قبل أن تكون مسؤوليتكم. وبما أنّ للدولة اللبنانية تركيبة دقيقة للغاية ومعقدة ولا تستطيع اتخاذ قرارات كقراراتكم، فإنّنا مع أيّ مساعدة من شأنها منع الفلسطينيين وحلفائهم من السيطرة على المناطق المسيحية. نستطيع الاتفاق معك عند خطوط التماس بنشر الجيش هناك، وبطمأنتك إلى الضبّاط الذين تثق بوجودهم على رأس الجيش في الجانب المسيحي من خطوط التماس، ومستعدون للتنسيق معك شرط أن تخلي القوّات هذه الخطوط لئلا تكون المواجهة بينها وبين الفلسطينيين والسوريين وأحزاب اليسار. اتركوا الأمر للجيش واعطوا الشرعية دورها لتهدئة الوضع وحفظ الأمن والاستقرار. أمّا في موضوع سورية فإنّ علاقتنا بها هي غير علاقتك. لسنا أعداء لها، ولا هي عدوّتنا كما تعتبرها أنت عدوتك. من ضمن هذا الإطار من التفاهم أريد أن أعرف ماذا تريد وما هي طلباتك؟ وعلينا العمل معًا من أجل ألاّ يكون للشرعية في المستقبل فيتو سياسي على دورك».

منذ لقائهما الأول بدأ التنسيق غير المباشر بين عبده والجميّل بعيدًا من الأضواء، متنقلاً بين مكتبه في وزارة الدفاع ومنزله في اليرزة. فنشأت بينه وبين البستاني صداقة شخصية أدارها عقلان مرنان. عزما بداية على تخطي المواضيع الدقيقة التي اختلفا عليها وقادتهما إلى الاقتتال، فخاضا في ما لا يباعد بينهما: مقاربة حلول للمشكلات الصغيرة انطلاقًا من تبريد الأرض، وتطبيع وجود طرفي النزاع في جغرافيا صغيرة بلا استفزاز وتحد مفتعل. وتركا الملفات الشائكة إلى التوقيت المناسب. وبانفتاح تأثر بمرونة طبعت شخصيته ورغبته في الاتفاق مع ندّه، انتقل عبده بماضيه المتشنج مع بشير إلى مسار جديد. وأكد البستاني لقائد «القوّات» ان نجاح الحوار يعود إلى رغبة عبده في مغادرة موقع الخصم إلى الباحث عن حلول بلا إبطاء، فكان أن أخرج الحوار من طابعه الأمني إلى آخر سياسي لم يكن شاقًا ولا بلغ مأزقًا. وبدوره وجد رئيس الاستخبارات العسكرية في محاوره مفاوضًا متمكنًا من استيعاب المخاوف المتبادلة.

كانت التنازلات متبادلة، ولكنّ أيًّا من الطرفين لم يرَ فيها أنّه كان يخسر شيئًا ما أو شيئًا مهمًّا. في السنتين التاليتين أصبحت سلطة سركيس امتدادًا طبيعيًا لمشروع «القوّات» في بناء الدولة ولفكرها السياسي ومقاومتها. وأصبح بشير أكثر استعدادًا للقبول بسلطة وطنية قوية على حساب الأفرقاء اللبنانيين جميعاً بمَن فيهم هو ما دامت تحمل مشروعه السياسي. أوجب ذلك على البستاني الدفاع عن عبده لدى بعض فريق العمل المصغر لقائد «القوّات»، الحذر من رئيس الجمهورية ورجاله ومن فكرة الدولة نفسها، من أجل أن يتقبل مغزى قرارات السلطة بالانفتاح على سورية وسائر الأفرقاء اللبنانيين. كذلك دافع عبده عن بشير في حلقة المستشارين المحيطين برئيس الجمهورية في كلّ مرة اتخذ موقفًا متصلبًا إزاء تطوّر داخلي أربك السلطة اللبنانية. كان على رجلي الحوار اللذين عقدا اجتماعات عمل دورية، ثلاث مرات في الأسبوع أحيانًا، التواطؤ على مستشاري سركيس وبشير بكتم المعلومات تارة وبشرح بعض ما كانا يقدمان عليه طوراً.

جوني عبده في اجتماعه الأول ببشير أنّ محاوره تجنب أن يكتم عنه ما لا يريد قوله. ولكنّ كلا منهما دافع عن مصالح السلطة التي يمثل، من دون أن يظهر تناقضاً مباشراً بين فكرتي الشرعية والمقاومة.

بداية انقلاب

في المرحلة الأولى من الحوار بين عبده والبستاني الذي ظلّ يحتفظ بازدواجية الدور، ضابطًا في الأمن العام ومحاورًا عن قائد «القوّات»، بدا أنّ ثمّة منعطفًا جديدًا سار فيه رجال سركيس وأبرزهم مدير الاستخبارات، هو تخليهم عن رهان نادى به الرئيس في مطلع عهده. اذ كان يأمل في إنهاء الحرب اللبنانية بحلول مناسبة لبناء الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية، قبل أن تطرأ أحداث خطيرة تولدت تباعاً: رفضت الدول إرغام المقاومة الفلسطينية على تنفيذ اتفاق القاهرة. وبعد اجتماعات بين كانون الأول (ديسمبر) 1976 وأيار (مايو) 1977 خلصت اللجنة الرباعية العربية إلى تفويض لجنة عسكرية لبنانية - سورية - فلسطينية هذه المهمّة بوضع برنامج لتطبيق الاتفاق يبدأ بانتشار قوّة الردع العربية في المخيمات الفلسطينية وينتهي بتجريد هذه من سلاحها الثقيل. نُفّذ بعض الخطوات ثمّ جمد تنفيذ اتفاق القاهرة كلّياً ترجمة لعدم حماسة هذه الدول في المضي فيه إلى النهاية. في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 ذهب أنور السادات إلى القدس، فانقلبت التوازنات السياسية والعسكرية في لبنان رأساً على عقب. انضمت سورية إلى رافضي تنفيذ اتفاق القاهرة وانفتحت على المقاومة الفلسطينية والأحزاب اليسارية اللبنانية لتصويب معادلة أخلّت بها مفاجأة الرئيس المصري والتي أيدتها الجبهة اللبنانية. ومع «حرب المئة يوم» في المناطق المسيحية انهار تحالف كميل شمعون وبيار الجميّل مع دمشق، فبات الطرفان وجهاً لوجه في جولة جديدة من عنف مدمّر بعث الحرب اللبنانية مرة أخرى. وأضحت سورية بدورها على طريق التباعد عن سركيس.

بات الرئيس على مسافة بعيدة من أحلامه وطموحاته التي رسمها عام 1976، وأُرغِمَ منذ نهاية 1978 على أن يكون رئيس إدارة أزمة عاصية على الحلّ. تخلى عن اقتناعات صار يعتقد بأنها عقيمة بعدما انقلبت الأدوار والمواقع: اقترب بشير من حكم سركيس ما ان عادته دمشق باحثة عن حلفاء جدد في السلطة كسليم الحص، وفي الشارع كالحركة الوطنية. وما لبث سركيس أن اكتشف أنّ قائد «القوّات»، مع التحوّلات المفاجئة والخطرة في الشرق الأوسط، لم يكن هو المشكلة ولا كان وحده العقبة أمام الحلّ.

صحّ الحدس السياسي الذي قال به قائد الميليشيا المسيحية في السنتين الأوليين من العهد وناوأته السلطة اللبنانية، فانتهى عبده إلى ما كان بدأ منه بشير. جمعهما تقاطع القراءة السياسية المشتركة: لم تنته حرب لبنان وإنّما دخلت فصولاً جديدة مجهولة ومقلقة ومكلفة. لذلك اختارا الخوض في حوار دائم من أجل ألاّ يختلفا، وإمرار المرحلة بالتفاهم والتوافق الأكثر ملاءمة لهما معاً. باتا يريدان دولة بشروط مغايرة لتلك التي اقترحتها التسوية العربية للأزمة اللبنانية عام 1976، وليست بالتأكيد بشروط ما كان عليه لبنان قبل «حرب السنتين» في ظلّ اتفاق القاهرة و»بروتوكول ملكارت».

لم يعد في وسع رئيس الجمهورية إنجاز تسوية ما، واعتقد قائد «القوّات» قبل ذلك بوقت طويل أنّ الطريقة التي أدارت بها السلطة علاقاتها بسورية والمقاومة الفلسطينية لن تدفع بها إلاّ إلى العجز والمأزق. وبدا بشير في رأي جوني عبده على حقّ.

في خضم المعادلة السياسية الجديدة التي أوجبت المصالحة بين سركيس وبشير، راحت علاقة جوني عبده به تتنامى وتتخذ بعداً شخصياً وطيداً. في السنتين الأوليين (1979 - 1981) كانت اجتماعاتهما دورية، ثمّ أضحت في مرحلة الإجتياح الإسرائيلي (1982) يومية تقريباً. في بدايات حوارهما رمى مدير الاستخبارات إلى علاقة مستقرة تحول دون استدراج السلطة إلى مواجهة مع «القوّات» من جهة، ومحاولة الحصول على كمّ كبير من المعلومات عمّا يجري في مناطقها وداخل إدارة قائدها والتحقّق من مكامن قوّته وضعفه فيها.

التعليقات