المكتب الثاني حاكم في الظل.. الجزء الثالث:صحف بيروت هاجس دمشق وانزال الخشبة على الحدود رد سوري على انتقاداتها

غزة-دنيا الوطن
تتابع «الحياة» نشر أجزاء من كتاب الزميل نقولا ناصيف «المكتب الثاني، حاكم في الظل» (دار «مختارات») الذي يتناول سيرة جهاز الاستخبارات العسكرية اللبنانية بين عامي 1945 و1982 رجالاً وأحداثاً ووثائق ومحاضر. في اجزاء من فصل «الانكسار» عن حقبة جول البستاني في عهد الرئيس سليمان فرنجية، عرض لواقع العلاقات بين الاستخبارات اللبنانية والسورية في حمأة الصدام العسكري اللبناني – الفلسطيني عام 1973، ومحاولة دمشق الانتقال من دور الوسيط الى الباحث عن موطئ قدم في اللعبة السياسية اللبنانية.
بعد توقف الاشتباكات اللبنانية – الفلسطينية التي اندلعت في أيار (مايو) 1973، اجتمع رئيس الشعبة الثانية العقيد جول البستاني ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السورية العميد حكمت الشهابي تكراراً، وناقشا حلولاً لتطبيع علاقة السلطة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية من خلال وساطة دمشق التي كانت طرفًا في النزاع وشريكاً جدّياً للمنظمات الفلسطينية.
منذ اجتماعهما الأول، في 24 أيار 1971 في مقرّ الأركان العامة السورية، لفت البستاني إلى استمرار تدفّق مسلحين فلسطينيين على لبنان من الأراضي السورية، مذكراً تحديداً بلواء اليرموك الذي قدّر عديده بخمسة آلاف مسلح, من دون أن يجد تفهماً سورياً لوجهة النظر اللبنانية. قال البستاني للشهابي: «تسلّل إلى لبنان من هذا اللواء نحو 400 عنصر معظمهم انخرط في الحياة العامة طالبًا عملاً، وبدا منهار المعنويات ناقماً على الأوضاع الفدائية والعربية. ونحو نصف هؤلاء التحق بالمقاومة في قطاعاتها. ما يهمنا عدم تسلّل لواء اليرموك إلى لبنان لأنهم سيتعرّضون لقصف إسرائيلي أينما حلّوا، وسيعرّضون الأهالي للتشرّد بعدما بدأوا يعودون إلى قراهم. وبذلك فإنّهم يخسرون لأنّ الشعب يتأثر مادياً ومعنوياً ويصبح حاقداً أكثر فأكثر على المقاومة, مع ما يستتبع ذلك من ضغوط شعبية على النوّاب سيخلق تياراً نيابياً يطالب بنقض اتفاق القاهرة».
أجاب الشهابي: «الحق إلى جانبكم، ولكن لا بدّ أن أوضح صراحة موقفنا من المقاومة الفلسطينية. صحيح أنّنا نساندها، لكنّنا لسنا راضين عن مواقفها خصوصاً من الأردن. نصحنا الفلسطينيين بألاّ يتعرّضوا من داخل الأراضي السورية والأردنية للجيش الأردني وللأهلين. وعلى رغم نصحنا الضاغط لم يذعنوا وتابعوا عملهم، ما اضطرنا إلى إبعادهم مسافة 20 كيلومتراً من الحدود الأردنية. ونعدكم بأنّنا لن نألو جهدًا في نصحهم بألاّ يعبروا إلى لبنان، لكنّنا لن نتعدّى النصح مهما كان ضاغطًا إلى العنف معهم». فردّ البستاني: «يكفينا النصح. وإذا لم ينجح سنضطر إلى التصرّف وفقًا لرحابة الصدر اللبنانية الحكيمة ومقتضيات الحال».
في وقت لاحق من السنة نفسها، في 20 كانون الأول (ديسمبر)، توجه الرائد هاني عبّاس بتكليف من البستاني إلى دمشق واستفسر من الشهابي عن صحة معلومات لدى الشعبة الثانية حول دخول كتيبة جديدة من لواء اليرموك إلى دير العشائر وفي حوزتها أسلحة ثقيلة من نوع مدافع ميدان 130 ملليمتراً ومدافع ثقيلة مضادة للطائرات. فنفى علمه بالأمر، وأكد أنّ لواء اليرموك «الذي قوامه حوالى 8000 مقاتل يتحرّك عادة بين دمشق ودرعا ولم يتغيّر عدد الفدائيين في جنوب لبنان، ولا صحة للمعلومات عن وجود أسلحة ثقيلة في حوزتهم باستثناء الهواوين من عيار 120 ملليمتراً. وأنتم تعلمون أنّ هذا السلاح موجود مع الفدائيين في جنوب لبنان منذ مدة بعيدة».
ذريعة حماية المقاومة
بعد أحداث أيار 1973، اجتمع البستاني بالشهابي أكثر من مرة وناقشا المشكلات نفسها، ولكنّهما لم يتوصلا إلى تفاهم ملموس يتجاوز إبداء المواقف. اختلطت المشكلة اللبنانية - السورية بالمشكلة اللبنانية - الفلسطينية إلى حدّ أخرج رئيسي جهازي الاستخبارات العسكرية من اجتماع إلى آخر عبثًا. ظلت سورية أقرب إلى تفهّم المقاومة الفلسطينية منها إلى تأييد الدولة اللبنانية. وظلت الشعبة الثانية، غداة الاشتباكات، مسكونة بهاجس تجدّد المواجهة العسكرية على نحو حملها في 26 أيار، في تقرير «توارد الاستراتيجيات التخريبية», على توقّع العنف. إذ لفتت إلى أنّ «أيّ حلّ للمشكلة اللبنانية - الفلسطينية سيكون هشًّا ويوفر للمقاومة الفلسطينية مهلة لاستعادة الأنفاس، واعداد العدّة لتصعيد آخر. وإن لم تحصل المهادنة سيتابع الفلسطينيون القتال لأنّهم يرون مصلحتهم في استمراره مع جيش لا يستطيع الاتكال على دعم غير مشروط من جميع المواطنين الذين يساند قسم منهم المقاومة، ويتأثر قسم آخر منهم بالضغوط العربية. كما إنّ الجيش لا يمكن أن يحقّق بعديده اليوم ما حقّقه الملك حسين في الأردن بثمانين ألف مقاتل».
في اجتماع كان الأول بعد أحداث أيار التقى البستاني والشهابي في 16 حزيران في مركز الأمن العام السوري في جديدة يابوس. تكرّر المشهد نفسه تقريباً. وبدا تكريساً لفصل جديد في المشكلة اللبنانية - الفلسطينية دخول العامل السوري شريكاً في مواجهة توخّت التهديد السياسي قبل تعويلها على التدخّل العسكري المباشر بذريعة حماية المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية. مذذاك، أكثر من أيّ وقت مضى، فُتِح باب الأزمات المتفاقمة في العلاقات اللبنانية - السورية، والتي تجاوزت التهديد أحيانًا إلى ممارسة صغوط عسكرية. بعد الاشتباكات بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، بدأت العلاقات اللبنانية - السورية تتردّى مع تدفق دفعات كبيرة إضافية من المسلحين الفلسطينيين من مخيماتهم في سورية إلى الأراضي اللبنانية، وتعرّضها بعد عبورها النهر الكبير الجنوبي في الشمال طوال أيام ثلاثة لجنود لبنانيين أو لمخافر قوى الأمن بالقصف والاعتداء. وسرعان ما انسحب هؤلاء إلى الأراضي السورية في 18 أيار، اليوم التالي لتوقيع «بروتوكول ملكارت», كصيغة اتفاق مكمّلة لاتفاق القاهرة. بيد أنّ سورية أبقت على حدودها الرسمية مع لبنان مغلقة منذ 8 أيار. فكان قرارها الانحياز إلى المقاومة الفلسطينية ودفع لبنان إلى الانخراط في الصراع العربي - الإسرائيلي.
في 15 أيار و16 و17 منه اجتمعت في فندق ملكارت في بيروت لجنتان، لبنانية ضمّت العقداء أحمد الحاج ونزيه راشد وديب كمال وفلسطينية ضمّت المقدّم «أبو الزعيم» عن حركة فتح و»أبو عدنان» عن الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وصلاح صلاح عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، انتهتا إلى آلية جديدة لتنفيذ اتفاق القاهرة، وتأكيد استقلال لبنان وسيادته. وأقرتا وفق ما عُرِف بـ»بروتوكول ملكارت» تجميد الهجمات العسكرية إنطلاقًا من الأراضي اللبنانية، وحددتا مراكز وجود الفدائيين الفلسطينيين في المخيمات وأسلحتهم في بيروت والجنوب والبقاع, ومنعتا التجوّل بالسلاح وإقامة حواجز وارتداء البزات العسكرية خارج المخيمات وإخراج الأسلحة الثقيلة منها باستثناء المدافع المضادة للطائرات للتصدّي لغارات إسرائيلية, ونظمتا الوجود المدني الفلسطيني سياسياً وإعلامياً واجتماعياً. وعلى الأهمية التي انطوى عليها الاتفاق الجديد كملحق تطبيقي لاتفاق القاهرة حفظ للمقاومة الفلسطينية بقاءها في لبنان وكفل وجوداً عسكرياً لمنظماتها ومنحها فرصة إضافية لإعادة تنظيم ميليشياتها، الا انها لم تتردّد في انتهاك بنوده وسعت إلى تعزيز تسليحها وتدريب مقاتليها وتوزيع انتشارها في كلّ المناطق اللبنانية تفادياً لمحاصرتها مجدّداً، وتحوطاً من مجازفة مواجهة جديدة مع السلطة اللبنانية تقودها إلى ما يشبه «أيلول الأسود» في الأردن.
بعد إقرار «بروتوكول ملكارت» بدأ مسلحو لواء اليرموك، في 18 أيار، الانسحاب إلى سورية. لكنّ الحدود ظلت مغلقة بسبب نشوء مشكلة تخطت الأزمة مع المقاومة الفلسطينية إلى فتح دمشق ملفًا مزمناً أكثر تعقيدًا تمثل بإجرائها مراجعة شاملة للعلاقات بين البلدين، وإعادة بنائها تبعاً لمقتضيات الأمر الواقع الجديد. فباتت لسورية من لبنان مطالب مغايرة لتلك التي طلبتها سابقاً دفاعاً عن المنظمات الفلسطينية، رفعتها في وجهه مستخدمة سلاح إغلاق الحدود للتضييق على المتنفس التجاري البرّي الوحيد له إلى دول الخليج العربي. طلبت دمشق أمرين هما: وقف المعاملة السيئة للعمّال السوريين في لبنان، والحملات السياسية المحلية عليها والتعرّض لحزب البعث. ووضعت ثلاثة شروط لإعادة فتح الحدود الطويلة بين البلدين: أولها وضع حد لنشاط اللاجئين السياسيين السوريين في لبنان وإبعاد بعضهم وإخضاع بعضهم الآخر للمراقبة، وثانيها الحدّ من نشاطات حزب البعث بجناحه التابع للنظام العراقي في مقابل إطلاق حرّية تحرّك الجناح السوري في هذا الحزب, وثالثها الإفراج عن موقوفين بعثيين اعتقلتهم السلطات اللبنانية أثناء الأحداث الأخيرة. فضلاً عن وقف الانتقادات التي كانت توجّهها صحف ومجلات لبنانية إلى سورية وطبع مناشير وبيانات معادية لها في مطابع لبنانية كان بعضها يُهرّب إلى الأراضي السورية.
أذِنت سلسلة المطالب هذه بنية سورية تخطي دعمها المنظمات الفلسطينية وتنظيم العلاقات اللبنانية - السورية إلى ما هو أدهى: التدخّل المباشر والجدّي في الحياة السياسية اللبنانية، والتصرّف على أنّها شريك فعلي في القرار الوطني يملك أن يؤذي الاستقرار الداخلي لدى جارها الصغير.
وفي محضر اجتماع 16 حزيران بين البستاني والشهابي ذكّر الأخير بأنّ النظام في سورية هو نظام الحزب الواحد الحاكم، وإنّ رئيس الجمهورية هو الأمين العام للحزب، وإنّ كل تجريح بالحزب وبسياسته وأفراده هو تجريح بالنظام وبرئيس الجمهورية، وإنّ هناك صحفًا خاصة منها «الحياة» و»نداء الوطن» و»الراية» و»الحوادث» يكتب فيها سوريون ويتطاولون ويتعرّضون لأكبر مقامات السلطة والحزب في سورية، والسلطة اللبنانية تعرفهم ولا تتخذ أيّ إجراء في حقهم. وطالب بوضع حدّ نهائي للأمر. فأكد الجانب اللبناني حرص الرئيس فرنجية على تطبيق قانون المطبوعات بشدّة في حق الصحف المخالفة. على أنّ التحرّك ضدّ الصحف غير ممكن إلاّ وفق القانون بالنسبة إلى النظام الديموقراطي الحرّ القائم في لبنان، فيما لا مشكلة بالنسبة إلى هذه القضية بالذات وحتى كلّ القضايا في نظام كالنظام السوري أو نظام أيّ بلد عربي آخر. وطالب الجانب اللبناني فتح الحدود كتوطئة نفسية تؤثر في الرأي العام وتلقى رضى من السلطة, فرد الجانب السوري بأنّ القضايا مرتبطة ببعضها بعضاً.
في 18 حزيران، اجتمع البستاني بالشهابي مجدّدًا بعد مكالمة هاتفية بينهما وناقشا المواضيع نفسها، ثمّ اجتمعا في 23 حزيران. وقصد البستاني دمشق في 25 تموز (يوليو) للسبب نفسه. على أنّ الحدود لم تفتح إلاّ بعد انقضاء ثلاثة أشهر وتسعة أيام، في 17 آب (أغسطس) 1973 بموجب اتفاق وقّعه في شتورة وزير الخارجية اللبناني فؤاد نفّاع ونظيره السوري عبدالحليم خدام نصّ على إعادة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل عام 1970. كانت تلك المرة الثانية التي تُغلق الحدود منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سورية. الأولى في آب 1971 كجزء من تدابير إغلاق الحدود السورية - الأردنية أدّت إلى منع الشاحنات اللبنانية المحمّلة بضائع ترانزيت من اجتياز الحدود.
منذ دخول العامل الفلسطيني في المعادلة الداخلية اللبنانية عام 1968، بات ثمّة سبب جديد لإغلاق الحدود السورية - اللبنانية يضاف إلى عوامل سابقة تعود إلى مطلع الخمسينات اتصلت بتردّي العلاقات الاقتصادية والسياسية والنزاعات الحدودية بين البلدين. أغلقها صلاح جديد في 30 تموز 1968 لدوافع إقتصادية، ونور الدين الأتاسي السنة التالية لخلاف حدودي. وكان ثمن عدم إنزال «الخشبة» في منطقة المصنع عند الحدود، منح سورية مزيدًا من النفوذ في المعادلة المحلية والقرار الرسمي.
الرزمة الشائكة
ناقشت سلسلة الاجتماعات التي عقدها البستاني والشهابي رزمة من الملفات الشائكة وسط شكوك متبادلة، خصوصًا حيال ثلاثة ملفات كانت الأكثر تعقيدًا لارتباطها بخلافات مزمنة تعود إلى منتصف الستينات: علاقة الدولة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية، حرّية التحرّك الممنوحة للاجئين السياسيين السوريين، الإعلام اللبناني، إلى جانبية أخرى أقل أهمية، منها استعادة السوريين الفارين من خدمة العلم في بلدهم واسترداد مواطنين سوريين يهود نزحوا إلى لبنان. توجه الشهابي الى البستاني في 15 تموز 1971 في اجتماعهما في دمشق بالقول: «من المستغرب أنّه عندما كانت العلاقات على أسوأها مع لبنان في العهد الماضي، كان التعاون مجديًا مع الاستخبارات. أمّا اليوم، فيما التعاون والعلاقات بين البلدين على أفضل حال، فإنّ تعاون أجهزة الاستعلام والأمن في أضعف حال».
والواقع أنّ الاستخبارات العسكرية اللبنانية كانت تشترط لاستجابة أيّ مطالب سورية، استجابة دمشق مطالب مضادة انطوى بعضها على مبرّرات إنسانية وأخرى سياسية. ولم تحظَ دائمًا باقتناع سوري يؤدّي إلى دعم جهود الشعبة الثانية في مراقبة الرعايا السوريين المقيمين في لبنان المناهضين للنظام السوري. مع ذلك بذلت مساع للحصول على تفهّم دمشق وحؤولها دون تسهيل تسلّل مسلحين إلى داخل الأراضي اللبنانية، خصوصاً عبور متطوّعين عرب للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية في الجنوب.
كانت لعبة الخداع تُمارس في الاتجاهين. إذ كان في وسع كلّ منهما استخدام المناورة للضغط على الآخر لبناء توازن في علاقاتهما بإنكار دوره في تشجيع مناوئي الطرف الآخر، أو ببعث طمأنينة مراوغة إلى مساعدته على حفظ استقراره الداخلي.
أوفد البستاني الرائد هاني عبّاس إلى دمشق في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1791 للاجتماع بحكمت الشهابي وتسليمه تقريرًا عن نشاط الرعايا السوريين المعارضين في ضوء استقصاءات الشعبة الثانية عنهم، في إشارة إلى رغبتها في إظهار حسن نيّة وصدق في التعاون مع نظيرتها السورية. ردّ الشهابي بعد اطلاعه على التقرير بالقول: «لا أشكّك إطلاقًا في إخلاص العقيد الركن البستاني في مساعدته لنا، وكذلك جميع المسؤولين اللبنانيين. ونشكر هذه المعاملة التي لم يسبق أن كانت قائمة في الماضي على نحو صريح كهذا.
وأضيف بأنّ الحكم القائم في سورية لا يكنّ للبنان إلاّ كلّ ود وإخلاص، وآمل في أن يستمر التعاون بين الطرفين على هذا النحو المثمر. إنّ الحكم في سورية قوي ومستقر وثابت على قواعد شعبية متينة لم يسبق أن تأمنت لحكم سابق. والعلاقات مع لبنان على أعلى المستويات على أحسن ما يرام، والشعب السوري مرتاح ومؤيد لتصرّفات حكامه. وكلّ ما يشاع عكس ذلك تشويه للحقائق، وفي إمكان أيّ إنسان أن يلمس ذلك عمليًا أثناء وجوده في سورية. لكن هناك بعض المواضيع التي يجب ألاّ تعكّر الاستقرار تحصل في لبنان. فإذا استثنينا النشاطات الإعلامية ضدّ الحكم السوري في بعض الصحف، ثمّة سوريون في لبنان يعملون للتشويش على الحكم في سورية. واستمرارهم في تشويههم لا شك يسيء إلى العلاقات القائمة بين لبنان وسورية». وعندما سأله هاني عبّاس عمن يعني, سمّى: «أمين الحافظ وجماعته، ومحمد عمران وجماعته، وجماعة أكرم الحوراني». وأكد أنّ المعلومات المتوافرة لديه تشير إلى أنّ «هذه العناصر قطعت شوطًا بعيدًا في توحيد جهودها للعمل ضدّ سورية، وإنّ اجتماعات عقدت الشهر الماضي (تشرين الأول 1971) ولا تزال تعقد بين هذه الأطراف، ولولبا الحركة هما أمين الحافظ ومحمد عمران. الأول ازداد نشاطه كثيرًا وعقد اجتماعات في بيروت وطرابلس، بتشجيع من العراق ومساندته». وأضاف: «وضعت أشخاصًا لمراقبة هؤلاء، والمعلومات تصل إليّ عن نشاطاتهم بشكل مستمر. وأطلب أن يتم تعاون مباشر لرصد نشاطات هذه العناصر، وأن يكون ذلك مباشرة بيني وبين العقيد الركن البستاني لتبادل المعلومات حول هذا النشاط، لأنّ هذه الطريقة أجدى وتعطي نتائج مفيدة للطرفين في سبيل المصلحة العامة».
عرض عضلات
سبق الزيارة اجتماع بين البستاني والشهابي في 15 تموز 1971 في دمشق، أثار فيه الاول استمرار جهاز نظيره في ملاحقة معارضي النظام اغتيالاً وخطفًا إلى سورية. وهو أسلوب درجت عليه الاستخبارات السورية على تعاقب أنظمتها، إلاّ أنّه أضحى أكثر حدّة في ظلّ حزب البعث وتَضَاعَفَ تأثيره بعد إنشاء تنظيم الصاعقة، الفلسطيني الهوية والسوري الإمرة، عام 1968. كان البستاني حمل معه إلى دمشق مضاعفات حادث أمني وقع في بيروت قبل ثلاثة أيام. إذ أقدم سبعة مسلحين ملثمين على مهاجمة منزل عضو القيادة القومية لحزب البعث الطبيب العراقي فؤاد شاكر في وطى المصيطبة واشتبكوا معه ومع بعثيين آخرين هما اللبناني مالك الأمين والأردني حاكم فايز، والثلاثة كانوا من مؤيّدي صلاح جديد الذي أطاحه حافظ الأسد في تشرين الثاني 1970. وأدّت محاولة الخطف إلى مقتل أحد المسلحين وتبيّن أنّه سوري، فيما نجح رفاقه في اقتياد حاكم فايز إلى دمشق. وقال البستاني: «إنّ تدابير كهذه تتوخى عرض العضلات في صورة رخيصة، وقد يكون في تفكير البعض في أوساطكم لاعتبارات حزبية أنّ لها مسوغات وجيهة في نمط من الصراع الحزبي الضيّق، غير أنّ نشاطات تصفوية على أرض لبنانية صديقة شقيقة تسيء إليكم في الرأي العام اللبناني والعربي، وتسيء إلى العلاقات الطيّبة المفيدة لمصلحة البلدين».
ردّ الشهابي بأنّه مقتنع «بعدم جدوى أعمال كهذه، ولكن هناك التزاما حزبيا حيال الفوضى في مفهوم الحرّيات في الصحف اللبنانية التي تسيء إلى الحزب الحاكم والجيش والشعب السوري لتعرّضها لهم يوميًا». ولاحظ أنّ القانون اللبناني «لو طُبّق بحزم ضدّ هذه الجرائد عندما تتعرّض للحكام والجيش السوريين، فمن شأن ذلك الحدّ كثيرًا من تهجّمها».
وبمقدار ما بدا هاجس الاستخبارات السورية التعاون مع الشعبة الثانية اللبنانية للاستقصاء عن نشاطات السوريين المقيمين في لبنان أو الفارين إليه، اهتمت كذلك بمعرفة نشاطات قام بها سوريون لمصلحة العراق. كان الموضوع في صلب مهمّة الرائد هاني عبّاس في دمشق ولقائه الشهابي في 14 تشرين الثاني 1971. يومذاك سأله الشهابي عن التحقيقات التي كانت تجريها الشعبة الثانية اللبنانية مع موقوف فلسطيني اتهمته سورية بالتواطؤ ضدّها هو عيسى الشاويش.
كان الرجل نزح من يافا إلى عمّان وعمل لاحقًا مع الإستخبارات الأردنية بين عامي 1957 و1966 مكلّفًا مراقبة النشاط الفدائي. بعد سجنه لإقدامه على تزوير هرب إلى سورية وعمل لدى استخباراتها في مهمّة جمع معلومات عن الحدود السورية - الأردنية إلى أن اكتشفت أنّه عميل مزدوج لها وللأردن، فاعتقلته وأبعدته إلى لبنان. على أنّها عاودت التعاون معه وكلّفته مراقبة نشاطات الفدائيين الفلسطينيين والسوريين المقيمين في لبنان العاملين ضدّ النظام السوري. بيد أنّ وضعه تحت المراقبة أظهر للاستخبارات السورية تعامله في الوقت نفسه مع الاستخبارات العراقية. وما لبث أن كشف للاستخبارات العراقية أسماء الجهات والمخبرين الذين تعاملت معهم سورية، فقطعت علاقتها به عام 1970. كذلك أبرز استقصاء الاستخبارات السورية أنّه ظلّ يسلّم الاستخبارات العراقية معلومات عن سورية من بينها كشفه علاقة جمعته بعناصر في الاستخبارات السورية. اعتقلته الشعبة الثانية اللبنانية، وسرعان ما تلقّت من الشهابي طلبًا بالاطلاع على نتائج التحقيقات معه ومعرفة عناصر الاستخبارات السورية التي تعامل معها منذ منتصف عام 1970.
تبادل البستاني والشهابي الزيارات، وتحاورا بالواسطة عبر موفدين كلّما رغبا في تزوّد معلومات مِمّا ساهم في توطيد العلاقة بين الرجلين. فتشعّبت قنوات الاتصال بينهما تبعًا لشخصية الموفد وملامح المرحلة، كما وفقًا للموضوع المطروح للمناقشة الذي كان يثار أحيانًا مع أكثر من مسؤول أمني سوري.
في السنة الأولى من تسلّمه رئاسة الشعبة الثانية، حاور البستاني يعاونه مساعده الرائد عبّاس حمدان والرائد هاني عبّاس من الجانب السوري العميد حكمت الشهابي ومعاونه المقدّم علي دوبا ورئيس شعبة الاستخبارات في سلاح الجوّ الرائد محمد الخولي ومدير الأمن القومي العقيد عدنان الدبّاغ وقائد الشرطة العسكرية الرائد علي المدني. كذلك أرسى علاقات مماثلة مع رئيس الحكومة اللواء عبد الرحمن الخليفاوي ووزير الداخلية العقيد علي ظاظا واجتمع بهما كلّما كان يزور دمشق. وفي كلّ مهمّة للبستاني أو لمعاونيه إلى دمشق كان الشهابي يردّد كما معاونه علي دوبا على مسامعهم ما كان يرد في الجرائد اللبنانية وانتقاداتها لسورية، وكانا يحضانهم على وقف التعرّض للنظام السوري. وما أن يعود الضبّاط اللبنانيون إلى بيروت ينتهي الأمر بإجراء إتصالات بالصحف اللبنانية المعارضة والطلب إليها تخفيف غلواء مناوأتها وحملاتها على سورية.
رمت الاجتماعات الثلاثة التي جمعت البستاني والشهابي في 16 حزيران 1973 و18 منه في جديدة يابوس، ثمّ في 23 منه في المصنع، إلى تصويب علاقة السلطة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية من خلال دور تضطلع به سوريا. في اجتماع 18 حزيران اثر حوادث أمنية ناجمة عن اطلاق منظمات فلسطينية النار على مدنيين لبنانيين والتعرّض للجيش وقوى الأمن وتوقيف ضبّاط وعسكريين ليل 16 حزيران، شدّد الشهابي على «أن تعالج المخـــالفات من دون اللجوء إلى العنـــف. وأيًّا تكن الأحوال، لا بد من اعادة الثقة لدى المقاومة واقناعها بأنّه لم يعد من خوف عــلى وجودها في لبنان، وكذلك اقناع الدول العربـــية وسورية بأنّ الثقة عادت فعلاً إلى صـــفوف فصائل المقـــاومة. وحتى نتوصل إلى هـــذا الاقتـــناع، نرى من الضرورة عقد اجتماعات على أعلى مستوى لمناقشة المواضيع العالقة بـــين قادة المقاومة والسلطة اللبنانية ومعالجـــتها». ولم يفته تأكيد الموقف السوري الذي يجمع في رأيه بين سيادة لبنان والتضامن مع المقاومة الفلســطينية وتأيــيدها.
اتفاقات بلا تنفيذ
أمّا الشكوى الدائمة للبستاني فهي أنّ المقاومة الفلسطينية لا تلتزم تنفيذ الاتفاقات، وأحيانًا «لا تكون لديها القدرة على التنفيذ». فشدد الشهابي: «على ضرورة الاجتماعات على مستوى عال، وتمثيل فصائل المقاومة جميعها خصوصاً منظمتي فتح والصاعقة، لأنّ تمثيلها في الاجتماعات يُلزمها ما يُتخذ من قرارات، وليس من ضرر في التوقيع». رد البستاني: «إنّ المقاومة لا تحب التوقيع», فقال الشهابي: «سبق لها أن وقّعت إتفاق القاهرة». أجاب البستاني: «لكنّها رفضت في ما بعد توقيع أيّ محضر إجتماع. وفي الفترة الأخيرة حاولنا جاهدين التقيد الكلي بما نصّ عليه الاتفاق الذي ينفّذ بروحية مغايرة لتلك التي وُضِع فيها. نشعر بحرج موقف قيادة المقاومة، ونعمل على عدم تقييدها بتواريخ ملزمة لعلمنا بعدم قدرتها على التزام هذه التواريخ. وبرهانًا على ذلك، سبق أن وعدت بإخلاء بعض المواقع التي تعتبر وجودها فيها مخالفًا للاتفاقات والتعهدات كلهّا، وتقع حصرًا غرب طريق المصنع - الحاصباني وذلك حتى تاريخ 6 حزيران 1973 حدًا أقصى، بناء على طلبها. ونرى الآن أنّها لم تتمكن من الإخلاء. وعندما كنا نراجع لمعرفة الأسباب كان الجواب: يُرجى تفهّم أوضاعنا الداخلية اذ أنّنا ملزمون اتباع أسلوب معيّن مع المقاتلين لإقناعهم بضرورة القيام بعمل ما، فنضطر إلى التأخير في التنفيذ. وما سوى ذلك من أسباب واهية».
وأضاف: «إنّ الواقع ليس بالصورة التي يصوّرونها لأنّ المماطلة التي تُقابل بها فصائل المقاومة لبنان فريدة من نوعها. وأود أن أسأل: هل يُسمح لعناصر لا تحمل أيّ إثبات إحصائي بالدخول إلى الأراضي السورية؟ وهـــل يُقبل بعدم السماح لقوى الأمن بالتحقيق داخل المخيمات في الجرائم المرتكبة ضدّ مواطنين سوريين؟ وهل يُسمح بأن تقيم عناصر غريبة على الأراضي السورية من دون أن تُسجّل في دوائر الأمن العام السوري؟». أجاب الشهابي: «في سورية أجانب كثيرون ليس لديهم أيّ إثبات إحصائي قانوني. ثمّ إنّ الحدود السورية كالحدود اللبنانية مفتوحة لعـــبور المخالفين، لكنّ المخالفات الأخرى تُعالج بحزم أكبر عندنا».
على أنّ الشكوى السورية من الصحف اللبنانية ظلت تتقدّم قلق دمشق إلى حدّ التلويح بإجراءات ضدّ لبنان ما لم تسيطر السلطة على دور الصحف. كان جواب البستاني في اجتماع 23 حزيران 1973 في المصنع تأكيد استقلال الإعلام اللبناني وحرّيته، وكون الصحافة اللبنانية هيئة نقابية مستقلة عن السلطة وتخضع لقوانين نافذة في حماية حقوقها والتزام واجباتها. وكان قبل ذلك قد أكد له في اجتماعهما في 15 تموز 1971 في دمشق أنّ قيادة الجيش «تحيل على القضاء الصحف التي يطاولها القانون اللبناني في حال تهجمت على رئيس الدولة السورية والجيش، كما لو كان ذلك يمسّ الجيش اللبناني». ولفته إلى أنّ القانون اللبناني رفع «صلاحية المحكمة العسكرية في مثل هذه القضايا، وإنّ المحاكم المدنية هي التي تنظر فيها».
تتابع «الحياة» نشر أجزاء من كتاب الزميل نقولا ناصيف «المكتب الثاني، حاكم في الظل» (دار «مختارات») الذي يتناول سيرة جهاز الاستخبارات العسكرية اللبنانية بين عامي 1945 و1982 رجالاً وأحداثاً ووثائق ومحاضر. في اجزاء من فصل «الانكسار» عن حقبة جول البستاني في عهد الرئيس سليمان فرنجية، عرض لواقع العلاقات بين الاستخبارات اللبنانية والسورية في حمأة الصدام العسكري اللبناني – الفلسطيني عام 1973، ومحاولة دمشق الانتقال من دور الوسيط الى الباحث عن موطئ قدم في اللعبة السياسية اللبنانية.
بعد توقف الاشتباكات اللبنانية – الفلسطينية التي اندلعت في أيار (مايو) 1973، اجتمع رئيس الشعبة الثانية العقيد جول البستاني ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السورية العميد حكمت الشهابي تكراراً، وناقشا حلولاً لتطبيع علاقة السلطة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية من خلال وساطة دمشق التي كانت طرفًا في النزاع وشريكاً جدّياً للمنظمات الفلسطينية.
منذ اجتماعهما الأول، في 24 أيار 1971 في مقرّ الأركان العامة السورية، لفت البستاني إلى استمرار تدفّق مسلحين فلسطينيين على لبنان من الأراضي السورية، مذكراً تحديداً بلواء اليرموك الذي قدّر عديده بخمسة آلاف مسلح, من دون أن يجد تفهماً سورياً لوجهة النظر اللبنانية. قال البستاني للشهابي: «تسلّل إلى لبنان من هذا اللواء نحو 400 عنصر معظمهم انخرط في الحياة العامة طالبًا عملاً، وبدا منهار المعنويات ناقماً على الأوضاع الفدائية والعربية. ونحو نصف هؤلاء التحق بالمقاومة في قطاعاتها. ما يهمنا عدم تسلّل لواء اليرموك إلى لبنان لأنهم سيتعرّضون لقصف إسرائيلي أينما حلّوا، وسيعرّضون الأهالي للتشرّد بعدما بدأوا يعودون إلى قراهم. وبذلك فإنّهم يخسرون لأنّ الشعب يتأثر مادياً ومعنوياً ويصبح حاقداً أكثر فأكثر على المقاومة, مع ما يستتبع ذلك من ضغوط شعبية على النوّاب سيخلق تياراً نيابياً يطالب بنقض اتفاق القاهرة».
أجاب الشهابي: «الحق إلى جانبكم، ولكن لا بدّ أن أوضح صراحة موقفنا من المقاومة الفلسطينية. صحيح أنّنا نساندها، لكنّنا لسنا راضين عن مواقفها خصوصاً من الأردن. نصحنا الفلسطينيين بألاّ يتعرّضوا من داخل الأراضي السورية والأردنية للجيش الأردني وللأهلين. وعلى رغم نصحنا الضاغط لم يذعنوا وتابعوا عملهم، ما اضطرنا إلى إبعادهم مسافة 20 كيلومتراً من الحدود الأردنية. ونعدكم بأنّنا لن نألو جهدًا في نصحهم بألاّ يعبروا إلى لبنان، لكنّنا لن نتعدّى النصح مهما كان ضاغطًا إلى العنف معهم». فردّ البستاني: «يكفينا النصح. وإذا لم ينجح سنضطر إلى التصرّف وفقًا لرحابة الصدر اللبنانية الحكيمة ومقتضيات الحال».
في وقت لاحق من السنة نفسها، في 20 كانون الأول (ديسمبر)، توجه الرائد هاني عبّاس بتكليف من البستاني إلى دمشق واستفسر من الشهابي عن صحة معلومات لدى الشعبة الثانية حول دخول كتيبة جديدة من لواء اليرموك إلى دير العشائر وفي حوزتها أسلحة ثقيلة من نوع مدافع ميدان 130 ملليمتراً ومدافع ثقيلة مضادة للطائرات. فنفى علمه بالأمر، وأكد أنّ لواء اليرموك «الذي قوامه حوالى 8000 مقاتل يتحرّك عادة بين دمشق ودرعا ولم يتغيّر عدد الفدائيين في جنوب لبنان، ولا صحة للمعلومات عن وجود أسلحة ثقيلة في حوزتهم باستثناء الهواوين من عيار 120 ملليمتراً. وأنتم تعلمون أنّ هذا السلاح موجود مع الفدائيين في جنوب لبنان منذ مدة بعيدة».
ذريعة حماية المقاومة
بعد أحداث أيار 1973، اجتمع البستاني بالشهابي أكثر من مرة وناقشا المشكلات نفسها، ولكنّهما لم يتوصلا إلى تفاهم ملموس يتجاوز إبداء المواقف. اختلطت المشكلة اللبنانية - السورية بالمشكلة اللبنانية - الفلسطينية إلى حدّ أخرج رئيسي جهازي الاستخبارات العسكرية من اجتماع إلى آخر عبثًا. ظلت سورية أقرب إلى تفهّم المقاومة الفلسطينية منها إلى تأييد الدولة اللبنانية. وظلت الشعبة الثانية، غداة الاشتباكات، مسكونة بهاجس تجدّد المواجهة العسكرية على نحو حملها في 26 أيار، في تقرير «توارد الاستراتيجيات التخريبية», على توقّع العنف. إذ لفتت إلى أنّ «أيّ حلّ للمشكلة اللبنانية - الفلسطينية سيكون هشًّا ويوفر للمقاومة الفلسطينية مهلة لاستعادة الأنفاس، واعداد العدّة لتصعيد آخر. وإن لم تحصل المهادنة سيتابع الفلسطينيون القتال لأنّهم يرون مصلحتهم في استمراره مع جيش لا يستطيع الاتكال على دعم غير مشروط من جميع المواطنين الذين يساند قسم منهم المقاومة، ويتأثر قسم آخر منهم بالضغوط العربية. كما إنّ الجيش لا يمكن أن يحقّق بعديده اليوم ما حقّقه الملك حسين في الأردن بثمانين ألف مقاتل».
في اجتماع كان الأول بعد أحداث أيار التقى البستاني والشهابي في 16 حزيران في مركز الأمن العام السوري في جديدة يابوس. تكرّر المشهد نفسه تقريباً. وبدا تكريساً لفصل جديد في المشكلة اللبنانية - الفلسطينية دخول العامل السوري شريكاً في مواجهة توخّت التهديد السياسي قبل تعويلها على التدخّل العسكري المباشر بذريعة حماية المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية. مذذاك، أكثر من أيّ وقت مضى، فُتِح باب الأزمات المتفاقمة في العلاقات اللبنانية - السورية، والتي تجاوزت التهديد أحيانًا إلى ممارسة صغوط عسكرية. بعد الاشتباكات بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، بدأت العلاقات اللبنانية - السورية تتردّى مع تدفق دفعات كبيرة إضافية من المسلحين الفلسطينيين من مخيماتهم في سورية إلى الأراضي اللبنانية، وتعرّضها بعد عبورها النهر الكبير الجنوبي في الشمال طوال أيام ثلاثة لجنود لبنانيين أو لمخافر قوى الأمن بالقصف والاعتداء. وسرعان ما انسحب هؤلاء إلى الأراضي السورية في 18 أيار، اليوم التالي لتوقيع «بروتوكول ملكارت», كصيغة اتفاق مكمّلة لاتفاق القاهرة. بيد أنّ سورية أبقت على حدودها الرسمية مع لبنان مغلقة منذ 8 أيار. فكان قرارها الانحياز إلى المقاومة الفلسطينية ودفع لبنان إلى الانخراط في الصراع العربي - الإسرائيلي.
في 15 أيار و16 و17 منه اجتمعت في فندق ملكارت في بيروت لجنتان، لبنانية ضمّت العقداء أحمد الحاج ونزيه راشد وديب كمال وفلسطينية ضمّت المقدّم «أبو الزعيم» عن حركة فتح و»أبو عدنان» عن الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وصلاح صلاح عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، انتهتا إلى آلية جديدة لتنفيذ اتفاق القاهرة، وتأكيد استقلال لبنان وسيادته. وأقرتا وفق ما عُرِف بـ»بروتوكول ملكارت» تجميد الهجمات العسكرية إنطلاقًا من الأراضي اللبنانية، وحددتا مراكز وجود الفدائيين الفلسطينيين في المخيمات وأسلحتهم في بيروت والجنوب والبقاع, ومنعتا التجوّل بالسلاح وإقامة حواجز وارتداء البزات العسكرية خارج المخيمات وإخراج الأسلحة الثقيلة منها باستثناء المدافع المضادة للطائرات للتصدّي لغارات إسرائيلية, ونظمتا الوجود المدني الفلسطيني سياسياً وإعلامياً واجتماعياً. وعلى الأهمية التي انطوى عليها الاتفاق الجديد كملحق تطبيقي لاتفاق القاهرة حفظ للمقاومة الفلسطينية بقاءها في لبنان وكفل وجوداً عسكرياً لمنظماتها ومنحها فرصة إضافية لإعادة تنظيم ميليشياتها، الا انها لم تتردّد في انتهاك بنوده وسعت إلى تعزيز تسليحها وتدريب مقاتليها وتوزيع انتشارها في كلّ المناطق اللبنانية تفادياً لمحاصرتها مجدّداً، وتحوطاً من مجازفة مواجهة جديدة مع السلطة اللبنانية تقودها إلى ما يشبه «أيلول الأسود» في الأردن.
بعد إقرار «بروتوكول ملكارت» بدأ مسلحو لواء اليرموك، في 18 أيار، الانسحاب إلى سورية. لكنّ الحدود ظلت مغلقة بسبب نشوء مشكلة تخطت الأزمة مع المقاومة الفلسطينية إلى فتح دمشق ملفًا مزمناً أكثر تعقيدًا تمثل بإجرائها مراجعة شاملة للعلاقات بين البلدين، وإعادة بنائها تبعاً لمقتضيات الأمر الواقع الجديد. فباتت لسورية من لبنان مطالب مغايرة لتلك التي طلبتها سابقاً دفاعاً عن المنظمات الفلسطينية، رفعتها في وجهه مستخدمة سلاح إغلاق الحدود للتضييق على المتنفس التجاري البرّي الوحيد له إلى دول الخليج العربي. طلبت دمشق أمرين هما: وقف المعاملة السيئة للعمّال السوريين في لبنان، والحملات السياسية المحلية عليها والتعرّض لحزب البعث. ووضعت ثلاثة شروط لإعادة فتح الحدود الطويلة بين البلدين: أولها وضع حد لنشاط اللاجئين السياسيين السوريين في لبنان وإبعاد بعضهم وإخضاع بعضهم الآخر للمراقبة، وثانيها الحدّ من نشاطات حزب البعث بجناحه التابع للنظام العراقي في مقابل إطلاق حرّية تحرّك الجناح السوري في هذا الحزب, وثالثها الإفراج عن موقوفين بعثيين اعتقلتهم السلطات اللبنانية أثناء الأحداث الأخيرة. فضلاً عن وقف الانتقادات التي كانت توجّهها صحف ومجلات لبنانية إلى سورية وطبع مناشير وبيانات معادية لها في مطابع لبنانية كان بعضها يُهرّب إلى الأراضي السورية.
أذِنت سلسلة المطالب هذه بنية سورية تخطي دعمها المنظمات الفلسطينية وتنظيم العلاقات اللبنانية - السورية إلى ما هو أدهى: التدخّل المباشر والجدّي في الحياة السياسية اللبنانية، والتصرّف على أنّها شريك فعلي في القرار الوطني يملك أن يؤذي الاستقرار الداخلي لدى جارها الصغير.
وفي محضر اجتماع 16 حزيران بين البستاني والشهابي ذكّر الأخير بأنّ النظام في سورية هو نظام الحزب الواحد الحاكم، وإنّ رئيس الجمهورية هو الأمين العام للحزب، وإنّ كل تجريح بالحزب وبسياسته وأفراده هو تجريح بالنظام وبرئيس الجمهورية، وإنّ هناك صحفًا خاصة منها «الحياة» و»نداء الوطن» و»الراية» و»الحوادث» يكتب فيها سوريون ويتطاولون ويتعرّضون لأكبر مقامات السلطة والحزب في سورية، والسلطة اللبنانية تعرفهم ولا تتخذ أيّ إجراء في حقهم. وطالب بوضع حدّ نهائي للأمر. فأكد الجانب اللبناني حرص الرئيس فرنجية على تطبيق قانون المطبوعات بشدّة في حق الصحف المخالفة. على أنّ التحرّك ضدّ الصحف غير ممكن إلاّ وفق القانون بالنسبة إلى النظام الديموقراطي الحرّ القائم في لبنان، فيما لا مشكلة بالنسبة إلى هذه القضية بالذات وحتى كلّ القضايا في نظام كالنظام السوري أو نظام أيّ بلد عربي آخر. وطالب الجانب اللبناني فتح الحدود كتوطئة نفسية تؤثر في الرأي العام وتلقى رضى من السلطة, فرد الجانب السوري بأنّ القضايا مرتبطة ببعضها بعضاً.
في 18 حزيران، اجتمع البستاني بالشهابي مجدّدًا بعد مكالمة هاتفية بينهما وناقشا المواضيع نفسها، ثمّ اجتمعا في 23 حزيران. وقصد البستاني دمشق في 25 تموز (يوليو) للسبب نفسه. على أنّ الحدود لم تفتح إلاّ بعد انقضاء ثلاثة أشهر وتسعة أيام، في 17 آب (أغسطس) 1973 بموجب اتفاق وقّعه في شتورة وزير الخارجية اللبناني فؤاد نفّاع ونظيره السوري عبدالحليم خدام نصّ على إعادة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل عام 1970. كانت تلك المرة الثانية التي تُغلق الحدود منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سورية. الأولى في آب 1971 كجزء من تدابير إغلاق الحدود السورية - الأردنية أدّت إلى منع الشاحنات اللبنانية المحمّلة بضائع ترانزيت من اجتياز الحدود.
منذ دخول العامل الفلسطيني في المعادلة الداخلية اللبنانية عام 1968، بات ثمّة سبب جديد لإغلاق الحدود السورية - اللبنانية يضاف إلى عوامل سابقة تعود إلى مطلع الخمسينات اتصلت بتردّي العلاقات الاقتصادية والسياسية والنزاعات الحدودية بين البلدين. أغلقها صلاح جديد في 30 تموز 1968 لدوافع إقتصادية، ونور الدين الأتاسي السنة التالية لخلاف حدودي. وكان ثمن عدم إنزال «الخشبة» في منطقة المصنع عند الحدود، منح سورية مزيدًا من النفوذ في المعادلة المحلية والقرار الرسمي.
الرزمة الشائكة
ناقشت سلسلة الاجتماعات التي عقدها البستاني والشهابي رزمة من الملفات الشائكة وسط شكوك متبادلة، خصوصًا حيال ثلاثة ملفات كانت الأكثر تعقيدًا لارتباطها بخلافات مزمنة تعود إلى منتصف الستينات: علاقة الدولة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية، حرّية التحرّك الممنوحة للاجئين السياسيين السوريين، الإعلام اللبناني، إلى جانبية أخرى أقل أهمية، منها استعادة السوريين الفارين من خدمة العلم في بلدهم واسترداد مواطنين سوريين يهود نزحوا إلى لبنان. توجه الشهابي الى البستاني في 15 تموز 1971 في اجتماعهما في دمشق بالقول: «من المستغرب أنّه عندما كانت العلاقات على أسوأها مع لبنان في العهد الماضي، كان التعاون مجديًا مع الاستخبارات. أمّا اليوم، فيما التعاون والعلاقات بين البلدين على أفضل حال، فإنّ تعاون أجهزة الاستعلام والأمن في أضعف حال».
والواقع أنّ الاستخبارات العسكرية اللبنانية كانت تشترط لاستجابة أيّ مطالب سورية، استجابة دمشق مطالب مضادة انطوى بعضها على مبرّرات إنسانية وأخرى سياسية. ولم تحظَ دائمًا باقتناع سوري يؤدّي إلى دعم جهود الشعبة الثانية في مراقبة الرعايا السوريين المقيمين في لبنان المناهضين للنظام السوري. مع ذلك بذلت مساع للحصول على تفهّم دمشق وحؤولها دون تسهيل تسلّل مسلحين إلى داخل الأراضي اللبنانية، خصوصاً عبور متطوّعين عرب للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية في الجنوب.
كانت لعبة الخداع تُمارس في الاتجاهين. إذ كان في وسع كلّ منهما استخدام المناورة للضغط على الآخر لبناء توازن في علاقاتهما بإنكار دوره في تشجيع مناوئي الطرف الآخر، أو ببعث طمأنينة مراوغة إلى مساعدته على حفظ استقراره الداخلي.
أوفد البستاني الرائد هاني عبّاس إلى دمشق في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1791 للاجتماع بحكمت الشهابي وتسليمه تقريرًا عن نشاط الرعايا السوريين المعارضين في ضوء استقصاءات الشعبة الثانية عنهم، في إشارة إلى رغبتها في إظهار حسن نيّة وصدق في التعاون مع نظيرتها السورية. ردّ الشهابي بعد اطلاعه على التقرير بالقول: «لا أشكّك إطلاقًا في إخلاص العقيد الركن البستاني في مساعدته لنا، وكذلك جميع المسؤولين اللبنانيين. ونشكر هذه المعاملة التي لم يسبق أن كانت قائمة في الماضي على نحو صريح كهذا.
وأضيف بأنّ الحكم القائم في سورية لا يكنّ للبنان إلاّ كلّ ود وإخلاص، وآمل في أن يستمر التعاون بين الطرفين على هذا النحو المثمر. إنّ الحكم في سورية قوي ومستقر وثابت على قواعد شعبية متينة لم يسبق أن تأمنت لحكم سابق. والعلاقات مع لبنان على أعلى المستويات على أحسن ما يرام، والشعب السوري مرتاح ومؤيد لتصرّفات حكامه. وكلّ ما يشاع عكس ذلك تشويه للحقائق، وفي إمكان أيّ إنسان أن يلمس ذلك عمليًا أثناء وجوده في سورية. لكن هناك بعض المواضيع التي يجب ألاّ تعكّر الاستقرار تحصل في لبنان. فإذا استثنينا النشاطات الإعلامية ضدّ الحكم السوري في بعض الصحف، ثمّة سوريون في لبنان يعملون للتشويش على الحكم في سورية. واستمرارهم في تشويههم لا شك يسيء إلى العلاقات القائمة بين لبنان وسورية». وعندما سأله هاني عبّاس عمن يعني, سمّى: «أمين الحافظ وجماعته، ومحمد عمران وجماعته، وجماعة أكرم الحوراني». وأكد أنّ المعلومات المتوافرة لديه تشير إلى أنّ «هذه العناصر قطعت شوطًا بعيدًا في توحيد جهودها للعمل ضدّ سورية، وإنّ اجتماعات عقدت الشهر الماضي (تشرين الأول 1971) ولا تزال تعقد بين هذه الأطراف، ولولبا الحركة هما أمين الحافظ ومحمد عمران. الأول ازداد نشاطه كثيرًا وعقد اجتماعات في بيروت وطرابلس، بتشجيع من العراق ومساندته». وأضاف: «وضعت أشخاصًا لمراقبة هؤلاء، والمعلومات تصل إليّ عن نشاطاتهم بشكل مستمر. وأطلب أن يتم تعاون مباشر لرصد نشاطات هذه العناصر، وأن يكون ذلك مباشرة بيني وبين العقيد الركن البستاني لتبادل المعلومات حول هذا النشاط، لأنّ هذه الطريقة أجدى وتعطي نتائج مفيدة للطرفين في سبيل المصلحة العامة».
عرض عضلات
سبق الزيارة اجتماع بين البستاني والشهابي في 15 تموز 1971 في دمشق، أثار فيه الاول استمرار جهاز نظيره في ملاحقة معارضي النظام اغتيالاً وخطفًا إلى سورية. وهو أسلوب درجت عليه الاستخبارات السورية على تعاقب أنظمتها، إلاّ أنّه أضحى أكثر حدّة في ظلّ حزب البعث وتَضَاعَفَ تأثيره بعد إنشاء تنظيم الصاعقة، الفلسطيني الهوية والسوري الإمرة، عام 1968. كان البستاني حمل معه إلى دمشق مضاعفات حادث أمني وقع في بيروت قبل ثلاثة أيام. إذ أقدم سبعة مسلحين ملثمين على مهاجمة منزل عضو القيادة القومية لحزب البعث الطبيب العراقي فؤاد شاكر في وطى المصيطبة واشتبكوا معه ومع بعثيين آخرين هما اللبناني مالك الأمين والأردني حاكم فايز، والثلاثة كانوا من مؤيّدي صلاح جديد الذي أطاحه حافظ الأسد في تشرين الثاني 1970. وأدّت محاولة الخطف إلى مقتل أحد المسلحين وتبيّن أنّه سوري، فيما نجح رفاقه في اقتياد حاكم فايز إلى دمشق. وقال البستاني: «إنّ تدابير كهذه تتوخى عرض العضلات في صورة رخيصة، وقد يكون في تفكير البعض في أوساطكم لاعتبارات حزبية أنّ لها مسوغات وجيهة في نمط من الصراع الحزبي الضيّق، غير أنّ نشاطات تصفوية على أرض لبنانية صديقة شقيقة تسيء إليكم في الرأي العام اللبناني والعربي، وتسيء إلى العلاقات الطيّبة المفيدة لمصلحة البلدين».
ردّ الشهابي بأنّه مقتنع «بعدم جدوى أعمال كهذه، ولكن هناك التزاما حزبيا حيال الفوضى في مفهوم الحرّيات في الصحف اللبنانية التي تسيء إلى الحزب الحاكم والجيش والشعب السوري لتعرّضها لهم يوميًا». ولاحظ أنّ القانون اللبناني «لو طُبّق بحزم ضدّ هذه الجرائد عندما تتعرّض للحكام والجيش السوريين، فمن شأن ذلك الحدّ كثيرًا من تهجّمها».
وبمقدار ما بدا هاجس الاستخبارات السورية التعاون مع الشعبة الثانية اللبنانية للاستقصاء عن نشاطات السوريين المقيمين في لبنان أو الفارين إليه، اهتمت كذلك بمعرفة نشاطات قام بها سوريون لمصلحة العراق. كان الموضوع في صلب مهمّة الرائد هاني عبّاس في دمشق ولقائه الشهابي في 14 تشرين الثاني 1971. يومذاك سأله الشهابي عن التحقيقات التي كانت تجريها الشعبة الثانية اللبنانية مع موقوف فلسطيني اتهمته سورية بالتواطؤ ضدّها هو عيسى الشاويش.
كان الرجل نزح من يافا إلى عمّان وعمل لاحقًا مع الإستخبارات الأردنية بين عامي 1957 و1966 مكلّفًا مراقبة النشاط الفدائي. بعد سجنه لإقدامه على تزوير هرب إلى سورية وعمل لدى استخباراتها في مهمّة جمع معلومات عن الحدود السورية - الأردنية إلى أن اكتشفت أنّه عميل مزدوج لها وللأردن، فاعتقلته وأبعدته إلى لبنان. على أنّها عاودت التعاون معه وكلّفته مراقبة نشاطات الفدائيين الفلسطينيين والسوريين المقيمين في لبنان العاملين ضدّ النظام السوري. بيد أنّ وضعه تحت المراقبة أظهر للاستخبارات السورية تعامله في الوقت نفسه مع الاستخبارات العراقية. وما لبث أن كشف للاستخبارات العراقية أسماء الجهات والمخبرين الذين تعاملت معهم سورية، فقطعت علاقتها به عام 1970. كذلك أبرز استقصاء الاستخبارات السورية أنّه ظلّ يسلّم الاستخبارات العراقية معلومات عن سورية من بينها كشفه علاقة جمعته بعناصر في الاستخبارات السورية. اعتقلته الشعبة الثانية اللبنانية، وسرعان ما تلقّت من الشهابي طلبًا بالاطلاع على نتائج التحقيقات معه ومعرفة عناصر الاستخبارات السورية التي تعامل معها منذ منتصف عام 1970.
تبادل البستاني والشهابي الزيارات، وتحاورا بالواسطة عبر موفدين كلّما رغبا في تزوّد معلومات مِمّا ساهم في توطيد العلاقة بين الرجلين. فتشعّبت قنوات الاتصال بينهما تبعًا لشخصية الموفد وملامح المرحلة، كما وفقًا للموضوع المطروح للمناقشة الذي كان يثار أحيانًا مع أكثر من مسؤول أمني سوري.
في السنة الأولى من تسلّمه رئاسة الشعبة الثانية، حاور البستاني يعاونه مساعده الرائد عبّاس حمدان والرائد هاني عبّاس من الجانب السوري العميد حكمت الشهابي ومعاونه المقدّم علي دوبا ورئيس شعبة الاستخبارات في سلاح الجوّ الرائد محمد الخولي ومدير الأمن القومي العقيد عدنان الدبّاغ وقائد الشرطة العسكرية الرائد علي المدني. كذلك أرسى علاقات مماثلة مع رئيس الحكومة اللواء عبد الرحمن الخليفاوي ووزير الداخلية العقيد علي ظاظا واجتمع بهما كلّما كان يزور دمشق. وفي كلّ مهمّة للبستاني أو لمعاونيه إلى دمشق كان الشهابي يردّد كما معاونه علي دوبا على مسامعهم ما كان يرد في الجرائد اللبنانية وانتقاداتها لسورية، وكانا يحضانهم على وقف التعرّض للنظام السوري. وما أن يعود الضبّاط اللبنانيون إلى بيروت ينتهي الأمر بإجراء إتصالات بالصحف اللبنانية المعارضة والطلب إليها تخفيف غلواء مناوأتها وحملاتها على سورية.
رمت الاجتماعات الثلاثة التي جمعت البستاني والشهابي في 16 حزيران 1973 و18 منه في جديدة يابوس، ثمّ في 23 منه في المصنع، إلى تصويب علاقة السلطة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية من خلال دور تضطلع به سوريا. في اجتماع 18 حزيران اثر حوادث أمنية ناجمة عن اطلاق منظمات فلسطينية النار على مدنيين لبنانيين والتعرّض للجيش وقوى الأمن وتوقيف ضبّاط وعسكريين ليل 16 حزيران، شدّد الشهابي على «أن تعالج المخـــالفات من دون اللجوء إلى العنـــف. وأيًّا تكن الأحوال، لا بد من اعادة الثقة لدى المقاومة واقناعها بأنّه لم يعد من خوف عــلى وجودها في لبنان، وكذلك اقناع الدول العربـــية وسورية بأنّ الثقة عادت فعلاً إلى صـــفوف فصائل المقـــاومة. وحتى نتوصل إلى هـــذا الاقتـــناع، نرى من الضرورة عقد اجتماعات على أعلى مستوى لمناقشة المواضيع العالقة بـــين قادة المقاومة والسلطة اللبنانية ومعالجـــتها». ولم يفته تأكيد الموقف السوري الذي يجمع في رأيه بين سيادة لبنان والتضامن مع المقاومة الفلســطينية وتأيــيدها.
اتفاقات بلا تنفيذ
أمّا الشكوى الدائمة للبستاني فهي أنّ المقاومة الفلسطينية لا تلتزم تنفيذ الاتفاقات، وأحيانًا «لا تكون لديها القدرة على التنفيذ». فشدد الشهابي: «على ضرورة الاجتماعات على مستوى عال، وتمثيل فصائل المقاومة جميعها خصوصاً منظمتي فتح والصاعقة، لأنّ تمثيلها في الاجتماعات يُلزمها ما يُتخذ من قرارات، وليس من ضرر في التوقيع». رد البستاني: «إنّ المقاومة لا تحب التوقيع», فقال الشهابي: «سبق لها أن وقّعت إتفاق القاهرة». أجاب البستاني: «لكنّها رفضت في ما بعد توقيع أيّ محضر إجتماع. وفي الفترة الأخيرة حاولنا جاهدين التقيد الكلي بما نصّ عليه الاتفاق الذي ينفّذ بروحية مغايرة لتلك التي وُضِع فيها. نشعر بحرج موقف قيادة المقاومة، ونعمل على عدم تقييدها بتواريخ ملزمة لعلمنا بعدم قدرتها على التزام هذه التواريخ. وبرهانًا على ذلك، سبق أن وعدت بإخلاء بعض المواقع التي تعتبر وجودها فيها مخالفًا للاتفاقات والتعهدات كلهّا، وتقع حصرًا غرب طريق المصنع - الحاصباني وذلك حتى تاريخ 6 حزيران 1973 حدًا أقصى، بناء على طلبها. ونرى الآن أنّها لم تتمكن من الإخلاء. وعندما كنا نراجع لمعرفة الأسباب كان الجواب: يُرجى تفهّم أوضاعنا الداخلية اذ أنّنا ملزمون اتباع أسلوب معيّن مع المقاتلين لإقناعهم بضرورة القيام بعمل ما، فنضطر إلى التأخير في التنفيذ. وما سوى ذلك من أسباب واهية».
وأضاف: «إنّ الواقع ليس بالصورة التي يصوّرونها لأنّ المماطلة التي تُقابل بها فصائل المقاومة لبنان فريدة من نوعها. وأود أن أسأل: هل يُسمح لعناصر لا تحمل أيّ إثبات إحصائي بالدخول إلى الأراضي السورية؟ وهـــل يُقبل بعدم السماح لقوى الأمن بالتحقيق داخل المخيمات في الجرائم المرتكبة ضدّ مواطنين سوريين؟ وهل يُسمح بأن تقيم عناصر غريبة على الأراضي السورية من دون أن تُسجّل في دوائر الأمن العام السوري؟». أجاب الشهابي: «في سورية أجانب كثيرون ليس لديهم أيّ إثبات إحصائي قانوني. ثمّ إنّ الحدود السورية كالحدود اللبنانية مفتوحة لعـــبور المخالفين، لكنّ المخالفات الأخرى تُعالج بحزم أكبر عندنا».
على أنّ الشكوى السورية من الصحف اللبنانية ظلت تتقدّم قلق دمشق إلى حدّ التلويح بإجراءات ضدّ لبنان ما لم تسيطر السلطة على دور الصحف. كان جواب البستاني في اجتماع 23 حزيران 1973 في المصنع تأكيد استقلال الإعلام اللبناني وحرّيته، وكون الصحافة اللبنانية هيئة نقابية مستقلة عن السلطة وتخضع لقوانين نافذة في حماية حقوقها والتزام واجباتها. وكان قبل ذلك قد أكد له في اجتماعهما في 15 تموز 1971 في دمشق أنّ قيادة الجيش «تحيل على القضاء الصحف التي يطاولها القانون اللبناني في حال تهجمت على رئيس الدولة السورية والجيش، كما لو كان ذلك يمسّ الجيش اللبناني». ولفته إلى أنّ القانون اللبناني رفع «صلاحية المحكمة العسكرية في مثل هذه القضايا، وإنّ المحاكم المدنية هي التي تنظر فيها».
التعليقات