الجنة الآن بقلم:د. سهير ابو عقصة داود
الجنة الآن
د. سهير ابو عقصة داود-كاتبة ومحاضرة فلسطينية - كاليفورنيا
يشكل الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" (تمويله اوروبياُ ابداً لا يعني انه اصبح فيلم اوروبي كما حاول الكثيرون تصويره) منعطفاً هاماً في المسيرة الابداعية الفلسطينية لقوة الطرح والاداء، الاخراج والتمثيل وقد تسنى لي رؤيته على هامش مؤتمر الشرق الاوسط الذي انعقد هذا العام في واشنطن العاصمة الامريكية حيث تم عرض الفيلم الفلسطيني في اربع صالات عرض عدة مرات في اليوم ذاته. ومن المثير ان القاعة الصغيرة قد غصت في عرض المساء. معظم الوجوه بلاحات اجنبية وفي اعتقادي الكثير منهم من اليهود مع حضور آسيوي في حين غابت اللاحات العربية والشرق اوسطية. في اقل من اسبوع كان الفيلم يحتل الشاشات الامريكية بصورة لم يسبق لها لأي فيلم فلسطيني آخر. وقد تحول الفيلم الى احاديث الجامعيين والعاديين على السواء واثار نقاشات عديدة بين من رآه ومن لم يره بعد. واتوقع للفيلم اصداءاً باهرة في امريكا لموضوع لطالما رأوه على شاشات التلفاز والاعلام الامريكي المشوه حول منفذي العمليات وتصويرهم ك"برابرة" و"ارهابيين". ويأتي هذا الفيلم ليقد مناخاً آخر لم يعتد عليه الامريكي ولم يتوقعه ايضاً.
الجنة الآن فيلم سياسي اجتماعي مركب ومتميز بجميع المقاييس ومع انه يطرح موضوعاً مطروحاً على جدول البحث والنقاش اليومي، السياسي، الثقافي والفني الا ان تميزه يكمن في التكامل بين الموضوع والاداء، القالب والمضمون وبين التلقائية والعفوية لدى جميع الممثلين بلا استثناء وبين عمق تقمص الحالة وكأننا لا نشهد فيلماً سينيمائياً وانما حالة حقيقية نتابع لحظاتها بترقب وتتابع يحبس الانفاس. نقطة التفتيش هو اول نقطة يطرحها الفيلم وكأنه يؤكد ان كل ما سيأتي هو ضمن هذا الاطار، اطار الاحتلال ولا يجوز رؤية ما سيحدث الا من داخله. الفعل الطبقي يتجلى سريعاً في عرض البطلين الفلسطينيين سعيد (قيس ناشف)وخالد (علي سليمان) الذان يعملان في كراج في نابلس ويعانيان التهميش والاستغلال من قبل مشغلهما ويتفاعل هذا الواقع الطبقي مع واقع الاحتلال. من هنا لا ارى وصف الشابين في مقالات سابقة ك"عاديين" صحيحاً. العادي يقبل بالموجود ويقبل "المشيئة الالهية" او النصيب كما جاء على لسان ام سعيد "احمد ربك ان عندك شغل ولاحقاً احمد ربك على انك حصلت على تصريح عمل من اسرائيل). وهنا نرى من المشهد الاول ان تفاعل الاضطهاد الطبقي والسياسي تقود البطلين الى رحلتهما القاتلة لتنفيذ عملية في تل ابيب. اذاً لدى الشابين وعياً ثورياً بمعنى: الوعي الكامل لوضعهما، رؤيتهما للاضطهاد الطبقيالاجتماعي والقومي السياسي ومن ثم القرار بالتحرك لازالة هذا الاضطهاد. وماركسياً عملية بلورة الوعي الثوري تؤدي الى حض اي انسان على رفض واقعه والعمل على تغييره. اما لماذا اتخذ تغيير الواقع هذا الشكل هو ما حاول الفيلم ان يصوره. فالحالة تمسنا جميعاً ليس فقط كفلسطينيين ولا كجزء من اقلية فلسطينية داخل اسرائيل وخارجها وانما لكل انسان يبحث عن اجوبة لهذا الخيار القاتل الذي افرزه الاحتلال والظلم وسنين الاعتقال القسري داخل سجن الوطن الكبير. هو رحلة خطوات الذي اختار الخيار الاخير لأنه لم ير افقاً ولا خيارات اخرى. انه اذاً اختيار اليائس واختيار المظلوم واختيار الذي سدت في وجهه ابواب الحياة وقناعة التوصل الى افق وفجر. انه اذاً اختيار الموت في حالة الموت ولن يتغير الاختيار الا في تغير الحالة. يقود هذا التحليل الى تفنيد الادعاءات ببربرية الشعب العربي الفلسطيني وارهابيته. الى تفنيذ الادعاء الى ان العمليات هي خيار بين خيارات اخرى وانه خيار من فراغ الحياة ويأس ذاتي.
العمليات تنبع من واقع مركب جداً وباستعراض تاريخي لتبني حركات تحررية اخرى لمنهج العمليات لا يكون تبني الفلسطينيين لهذا الاسلوب جديداً ولا غريباً. انه خيار من لم ير ان الوسائل الاخرى تجدي امام الغطرسة الاسرائيلية وواقعهم ليس موجوداً في فراغ الظلم الاجتماعي والطبقي الداخلي. سعيد وخالد هما صورة المشهد الفلسطيني الجديد بعد الانتفاضة الثانية. صورة الطفل الفلسطيني الذي ناضل بالحجر في الانتفاضة الاولى ليحصد صورة اوسلو المشوهة. هو صورة الطفل الذي لم يرم الحجر لكنه تعلم ان لغة غاندي لا تنفع في وجه العسكرة الاسرائيلية. ونحن لا نرى دور السلطة في الفيلم فهي الحاضر الغائب في الفيلم وفي الواقع ولكن نرى دور الفصائل العسكرية في فلسطين المحتلة التي اخذت على عاتقها مقاومة الاحتلال بالطريقة التي تراها فاعلة.
لقد اجتهد المخرج في تطوير شخصية خالد واظهرها بصورة مقنعة للغاية وساهم الممثل الشاب بأدائها على افضل وجه. من خلال هذه الشخصية تطرق المخرج الى موضوع غاية الحساسية وعالجه بدوره برؤية جديدة: "العمالة". سعيد ممتليء بمشاعر الذنب واليأس لفقدان اب كان عميلاً لاسرائيل. هو مقتنع بأن العمالة مرفوضة وعار لكنه مقتنع ايضاً انه من الظلم ان يعامل اولاد العملاء واسرهم كأنهم عملاء ايضاً. هم ضحية اولاً للاحتلال الذي خلق العملاء واستغل ضعفهم وحاجتهم. تعامل سعيد مع الموضوع مختلف ايضاً فهو لا يوجه حقده الى الفلسطينين الذين عاقبوا والده وقتلوه وهو في العاشرة بل الى الذي جعل من والده عميلاً وهذا الموقف موقف ثوري ففي حين يصعب عادة على ابناء واقرباء ضحايا العنف تجاوز ازمتهم الخاصة لرؤية الاطار الذي تتم فيه هذه التراجيديا كان لافتاً وعي المخرج هاني ابو اسعد لهذه الحقيقة وتأطيرها في اطار نقدي يتجاوز الذات الى فهم الحالة العامة من الصراع.
وسعيد شاب جميل الطلعة يخفق قلبه لحب فتاه فلسطينية الاصل ابنة لشهيد وطني (لبنى الزبال وهي ممثلة مغربية بلجيكية) وتعمل في مؤسسة لحقوق الانسان في نابلس. سهى تمثل الفارق الطبقي والاجتماعي بينها وبين سعيد. تمثل الخارج والداخل: نوع من توحد شطري البرتقالة ومن تميزهما في ذات الوقت، بين التوحد في فهم الواقع وبين الاختلاف في رؤية التعامل معه وهزمه. سهى تقول انها تفضل اباً يتنفس بوجوده معها على كونه ميت او شهيد. على ان اساليب النضال لا يجب ان تتوقف عند اختيار الشهادة او الموت. هذا النقاش بين سعيد وسهى في لقطة متميزة تمثل التحرر من القيود الاجتماعية الواهية التي تسقط امام قوة الواقع البائس حين تستقبله وحيدة في بيتها ساعة الفجر. وكأنه يستنجد بها وكأنه يودعها يأتي اليها راكضاً وكأنه في ركضه اليها يزيح عنه هم الحياة كلها، يلقي الهم ويعتذر عما سيكون منه. وهي لا تغلق الباب. العادات البالية تذوب امام هذا الحب الجميل. ولكنه الحب الفلسطيني الذي يكتب له في الكثير من الاحيان الموت في المهد ويعطي كلمات درويش لخيار الشهادة بعداً جديد"لا يصل الحبيب الى الحبيب، الا شريداً او شهيد". وهنا ايضاً تكمن تركيبة الفيلم الذي يتطرق فيها بشكل مغاير الى حرية المرأة وقيود المجتمع. السؤال المطروح هو هل كانت سهى ستفتح الباب لو انها غير متغربة؟ هل الفتاة التي تأتي من الخارج هي المتحررة وهي حاملة راية الحل السلمي؟ هل الفتاة من الارض الفلسطينية نفسها كانت ستحاول اقناع سعيد بأن الحياة افضل من الشهادة وبأن موتهم لن يحل الظلم فهو باق؟ وبغض النظر عن الجواب الذي ليس بالضرورة ان يتكون من احتمال واحد فإن الهام هو طرح قضية صعوبة فهم القادم من خارج حدود الاحتلال وتبعاته لما عاناه الفلسطيني داخله وبالتالي صعوبة فهم تبني رؤية التعامل معه باختيار الموت في النظر الى الادبيات حول تبني حركات تحرر خيار العمليات تتأكد فكرة ان منفذيها رأوا انها تجلب في الفعل نتيجة وان العدو في اساسه جباناً ويتقهقهر امام هذا النوع من المقاومة وانه لولا هذا الايمان لما تتالى "جيش" الاستشهاديين ولا تبنت شعوب كثيرة تحت الاحتلال العمليات الاستشهادية.
اما شخصية خالد فتتفاعل بين التدين والوطنية. هو ليس متطرفاً ولكنه اقرب من سعيد الى الدين. يقول ان الجيش سأل والده اي رجل يفضل ان تقطع ويتلفظ من حين لآخر بعبارات دينية. المخرج لم يطور الشخصية كما فعل مع شخصية سعيد. نشاهده في عدة مواقف قوية كموقفه الانساني قبيل تنفيذ العملية وهو بين اهله يلاعب اخاه الصغير المليء بالفرح والحياة. الاخ الطفل الذي لا يعرف ان مصدر الدفء وهذا الاخ العطوف لن يعود بعد اليوم الى هذا البيت. وايمانه بسعيد الذي فشل في المرة الاولى من تنفيذ العملية واعتقاد الفصيل انه خانهم وبثنيه في اللحظة الاخيرة لسعيد عن تنفيذ العملية بالكامل والعودة الى المخيم.
غير واضح في الفيلم تماماً من الذي يقف وراء العملية. احد الاطراف في التجنيد المباشر جمال (عامر حليحل) يتبع لتنظيم سياسي ديني قد يكون الجهاد الاسلامي وقد يكون حماس ولكن القائد العام ابو كارم (اشرف برهوم) يبدو كقائد فصيل علماني. وقد يكون المخرج اراد من وجود شخصيتين مختلفتين تعبيراً على ان عدة فصائل فلسطينية تبنت العمليات كخيار استراتيجي في مقاومة الاحتلال وعلى ان هذه عملية مشتركة لعدة فصائل كما حدث في عدة حالات.
برهوم وحليحل ابدعا في اداء الدور الذي اسند لهما. والحركة في مشاهد الاعداد للعملية في مصنع الصابون سابقاً تحبس الانفاس. تحضر الشابين للعملية، غسل الاجساد، الصلاة، الكوميديا السوداء عند تصوير الفيديو واعداد البوسترات لما بعد الحدث، والوليمة الجماعية التي جلس الجميع فيها على ناحية واحدة من المائدة ذُكرت في لقاءات صحفية كدلالة صورة العشاء الاخير.
وفي اعتقادي التشبيه معقداً كونه يطرح اسئلة من نوع من هو يهودا الاسخريوطي (الخائن ) ومن المسيح في هذا العشاء.. ورغم انه ليس دقيقاُ لكن لربما اراد المخرج بهذه الصورة التفاتاً الى الغرب المسيحي بقوله ان المسيح هو اول شهيد لأنه اختار الموت من اجل تحرير الانسان من الخطيئة وهنا اختار الفلسطيني الشهادة من اجل تحرير الذات من الذل والوطن من الاحتلال. الموت من اجل غاية اسمى تقود الى الجنة. هذه الجنة التي تقول سهى عنها انها موجودة على الارض فقط. وسعيد وخالد لم تكن جنة السماء غايتهما بل جنة الارض في الخلاص من الاحتلال والذل وكسر العنفوان.
تبدو السخرية ايضاً في اجابة المجند جمال لخالد: ما يحدث بعد الموت. يجيبه جمال: تأتي الملائكة وتحملك الى الجنة. ويريد خالد ان يتأكد فيشدد: هل انت متأكد؟ فيؤكد جمال جوابه السابق.
لكن هؤلاء الذين يدفعون سعيد وخالد الى الموت يهربان من الموت ويفران بجلديهما خوفاً من صاروخ اسرائيلي يسقط عليهما بعد فشل العملية في المرة الاولى. تبرز حفاوة ام سعيد واهل خالد لجمال في بيتيهما. وتشكر ام سعيد (هيام عباس) في دورها الجميل جمال لأنه يحرس الابناء وهي لا تعلم ان هذا المعلم الحارس قد جنّد ابنها للموت. وهنالك مواقف عدة جميعاً تحتاج لمشاهدات متكررة كبيع فيلم الشهيد والعميل في دكان الشرائط وقول صاحب الدكان ان شريط العملاء مطلوب اكثر من شرائط الشهداء مما يثير سهى التي تحتج على بيعهما في ذات المكان بل وبنفس السعر.
ونهاية لا يعالج المخرج ما بعد عيون سعيد وهو يجلس في باص ممتليء بالجنود في تل ابيب. وكان هذا خيار رائع. انه لا يدخل في مطبات عرض الصور وانما مجموعة من الدلالات والحالات التي تساعد المشاهد في تركيب الصورة التي تعتمل في الذهن والنفس الى الوصول الى القرار. فجميعنا يعلم ما بعد الحدث لكن معظمنا لا يعلم كيف يمشي هؤلاء طريق التردد والخوف والاسى والالم. ومن تصويرهم ك"وحوش برابرة" نراهم اناساً في قمة الحنق الانساني، في قمة الضعف الانساني وباختصار في قمة انسانيتهم!ّ!
د. سهير ابو عقصة داود-كاتبة ومحاضرة فلسطينية - كاليفورنيا
يشكل الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" (تمويله اوروبياُ ابداً لا يعني انه اصبح فيلم اوروبي كما حاول الكثيرون تصويره) منعطفاً هاماً في المسيرة الابداعية الفلسطينية لقوة الطرح والاداء، الاخراج والتمثيل وقد تسنى لي رؤيته على هامش مؤتمر الشرق الاوسط الذي انعقد هذا العام في واشنطن العاصمة الامريكية حيث تم عرض الفيلم الفلسطيني في اربع صالات عرض عدة مرات في اليوم ذاته. ومن المثير ان القاعة الصغيرة قد غصت في عرض المساء. معظم الوجوه بلاحات اجنبية وفي اعتقادي الكثير منهم من اليهود مع حضور آسيوي في حين غابت اللاحات العربية والشرق اوسطية. في اقل من اسبوع كان الفيلم يحتل الشاشات الامريكية بصورة لم يسبق لها لأي فيلم فلسطيني آخر. وقد تحول الفيلم الى احاديث الجامعيين والعاديين على السواء واثار نقاشات عديدة بين من رآه ومن لم يره بعد. واتوقع للفيلم اصداءاً باهرة في امريكا لموضوع لطالما رأوه على شاشات التلفاز والاعلام الامريكي المشوه حول منفذي العمليات وتصويرهم ك"برابرة" و"ارهابيين". ويأتي هذا الفيلم ليقد مناخاً آخر لم يعتد عليه الامريكي ولم يتوقعه ايضاً.
الجنة الآن فيلم سياسي اجتماعي مركب ومتميز بجميع المقاييس ومع انه يطرح موضوعاً مطروحاً على جدول البحث والنقاش اليومي، السياسي، الثقافي والفني الا ان تميزه يكمن في التكامل بين الموضوع والاداء، القالب والمضمون وبين التلقائية والعفوية لدى جميع الممثلين بلا استثناء وبين عمق تقمص الحالة وكأننا لا نشهد فيلماً سينيمائياً وانما حالة حقيقية نتابع لحظاتها بترقب وتتابع يحبس الانفاس. نقطة التفتيش هو اول نقطة يطرحها الفيلم وكأنه يؤكد ان كل ما سيأتي هو ضمن هذا الاطار، اطار الاحتلال ولا يجوز رؤية ما سيحدث الا من داخله. الفعل الطبقي يتجلى سريعاً في عرض البطلين الفلسطينيين سعيد (قيس ناشف)وخالد (علي سليمان) الذان يعملان في كراج في نابلس ويعانيان التهميش والاستغلال من قبل مشغلهما ويتفاعل هذا الواقع الطبقي مع واقع الاحتلال. من هنا لا ارى وصف الشابين في مقالات سابقة ك"عاديين" صحيحاً. العادي يقبل بالموجود ويقبل "المشيئة الالهية" او النصيب كما جاء على لسان ام سعيد "احمد ربك ان عندك شغل ولاحقاً احمد ربك على انك حصلت على تصريح عمل من اسرائيل). وهنا نرى من المشهد الاول ان تفاعل الاضطهاد الطبقي والسياسي تقود البطلين الى رحلتهما القاتلة لتنفيذ عملية في تل ابيب. اذاً لدى الشابين وعياً ثورياً بمعنى: الوعي الكامل لوضعهما، رؤيتهما للاضطهاد الطبقيالاجتماعي والقومي السياسي ومن ثم القرار بالتحرك لازالة هذا الاضطهاد. وماركسياً عملية بلورة الوعي الثوري تؤدي الى حض اي انسان على رفض واقعه والعمل على تغييره. اما لماذا اتخذ تغيير الواقع هذا الشكل هو ما حاول الفيلم ان يصوره. فالحالة تمسنا جميعاً ليس فقط كفلسطينيين ولا كجزء من اقلية فلسطينية داخل اسرائيل وخارجها وانما لكل انسان يبحث عن اجوبة لهذا الخيار القاتل الذي افرزه الاحتلال والظلم وسنين الاعتقال القسري داخل سجن الوطن الكبير. هو رحلة خطوات الذي اختار الخيار الاخير لأنه لم ير افقاً ولا خيارات اخرى. انه اذاً اختيار اليائس واختيار المظلوم واختيار الذي سدت في وجهه ابواب الحياة وقناعة التوصل الى افق وفجر. انه اذاً اختيار الموت في حالة الموت ولن يتغير الاختيار الا في تغير الحالة. يقود هذا التحليل الى تفنيد الادعاءات ببربرية الشعب العربي الفلسطيني وارهابيته. الى تفنيذ الادعاء الى ان العمليات هي خيار بين خيارات اخرى وانه خيار من فراغ الحياة ويأس ذاتي.
العمليات تنبع من واقع مركب جداً وباستعراض تاريخي لتبني حركات تحررية اخرى لمنهج العمليات لا يكون تبني الفلسطينيين لهذا الاسلوب جديداً ولا غريباً. انه خيار من لم ير ان الوسائل الاخرى تجدي امام الغطرسة الاسرائيلية وواقعهم ليس موجوداً في فراغ الظلم الاجتماعي والطبقي الداخلي. سعيد وخالد هما صورة المشهد الفلسطيني الجديد بعد الانتفاضة الثانية. صورة الطفل الفلسطيني الذي ناضل بالحجر في الانتفاضة الاولى ليحصد صورة اوسلو المشوهة. هو صورة الطفل الذي لم يرم الحجر لكنه تعلم ان لغة غاندي لا تنفع في وجه العسكرة الاسرائيلية. ونحن لا نرى دور السلطة في الفيلم فهي الحاضر الغائب في الفيلم وفي الواقع ولكن نرى دور الفصائل العسكرية في فلسطين المحتلة التي اخذت على عاتقها مقاومة الاحتلال بالطريقة التي تراها فاعلة.
لقد اجتهد المخرج في تطوير شخصية خالد واظهرها بصورة مقنعة للغاية وساهم الممثل الشاب بأدائها على افضل وجه. من خلال هذه الشخصية تطرق المخرج الى موضوع غاية الحساسية وعالجه بدوره برؤية جديدة: "العمالة". سعيد ممتليء بمشاعر الذنب واليأس لفقدان اب كان عميلاً لاسرائيل. هو مقتنع بأن العمالة مرفوضة وعار لكنه مقتنع ايضاً انه من الظلم ان يعامل اولاد العملاء واسرهم كأنهم عملاء ايضاً. هم ضحية اولاً للاحتلال الذي خلق العملاء واستغل ضعفهم وحاجتهم. تعامل سعيد مع الموضوع مختلف ايضاً فهو لا يوجه حقده الى الفلسطينين الذين عاقبوا والده وقتلوه وهو في العاشرة بل الى الذي جعل من والده عميلاً وهذا الموقف موقف ثوري ففي حين يصعب عادة على ابناء واقرباء ضحايا العنف تجاوز ازمتهم الخاصة لرؤية الاطار الذي تتم فيه هذه التراجيديا كان لافتاً وعي المخرج هاني ابو اسعد لهذه الحقيقة وتأطيرها في اطار نقدي يتجاوز الذات الى فهم الحالة العامة من الصراع.
وسعيد شاب جميل الطلعة يخفق قلبه لحب فتاه فلسطينية الاصل ابنة لشهيد وطني (لبنى الزبال وهي ممثلة مغربية بلجيكية) وتعمل في مؤسسة لحقوق الانسان في نابلس. سهى تمثل الفارق الطبقي والاجتماعي بينها وبين سعيد. تمثل الخارج والداخل: نوع من توحد شطري البرتقالة ومن تميزهما في ذات الوقت، بين التوحد في فهم الواقع وبين الاختلاف في رؤية التعامل معه وهزمه. سهى تقول انها تفضل اباً يتنفس بوجوده معها على كونه ميت او شهيد. على ان اساليب النضال لا يجب ان تتوقف عند اختيار الشهادة او الموت. هذا النقاش بين سعيد وسهى في لقطة متميزة تمثل التحرر من القيود الاجتماعية الواهية التي تسقط امام قوة الواقع البائس حين تستقبله وحيدة في بيتها ساعة الفجر. وكأنه يستنجد بها وكأنه يودعها يأتي اليها راكضاً وكأنه في ركضه اليها يزيح عنه هم الحياة كلها، يلقي الهم ويعتذر عما سيكون منه. وهي لا تغلق الباب. العادات البالية تذوب امام هذا الحب الجميل. ولكنه الحب الفلسطيني الذي يكتب له في الكثير من الاحيان الموت في المهد ويعطي كلمات درويش لخيار الشهادة بعداً جديد"لا يصل الحبيب الى الحبيب، الا شريداً او شهيد". وهنا ايضاً تكمن تركيبة الفيلم الذي يتطرق فيها بشكل مغاير الى حرية المرأة وقيود المجتمع. السؤال المطروح هو هل كانت سهى ستفتح الباب لو انها غير متغربة؟ هل الفتاة التي تأتي من الخارج هي المتحررة وهي حاملة راية الحل السلمي؟ هل الفتاة من الارض الفلسطينية نفسها كانت ستحاول اقناع سعيد بأن الحياة افضل من الشهادة وبأن موتهم لن يحل الظلم فهو باق؟ وبغض النظر عن الجواب الذي ليس بالضرورة ان يتكون من احتمال واحد فإن الهام هو طرح قضية صعوبة فهم القادم من خارج حدود الاحتلال وتبعاته لما عاناه الفلسطيني داخله وبالتالي صعوبة فهم تبني رؤية التعامل معه باختيار الموت في النظر الى الادبيات حول تبني حركات تحرر خيار العمليات تتأكد فكرة ان منفذيها رأوا انها تجلب في الفعل نتيجة وان العدو في اساسه جباناً ويتقهقهر امام هذا النوع من المقاومة وانه لولا هذا الايمان لما تتالى "جيش" الاستشهاديين ولا تبنت شعوب كثيرة تحت الاحتلال العمليات الاستشهادية.
اما شخصية خالد فتتفاعل بين التدين والوطنية. هو ليس متطرفاً ولكنه اقرب من سعيد الى الدين. يقول ان الجيش سأل والده اي رجل يفضل ان تقطع ويتلفظ من حين لآخر بعبارات دينية. المخرج لم يطور الشخصية كما فعل مع شخصية سعيد. نشاهده في عدة مواقف قوية كموقفه الانساني قبيل تنفيذ العملية وهو بين اهله يلاعب اخاه الصغير المليء بالفرح والحياة. الاخ الطفل الذي لا يعرف ان مصدر الدفء وهذا الاخ العطوف لن يعود بعد اليوم الى هذا البيت. وايمانه بسعيد الذي فشل في المرة الاولى من تنفيذ العملية واعتقاد الفصيل انه خانهم وبثنيه في اللحظة الاخيرة لسعيد عن تنفيذ العملية بالكامل والعودة الى المخيم.
غير واضح في الفيلم تماماً من الذي يقف وراء العملية. احد الاطراف في التجنيد المباشر جمال (عامر حليحل) يتبع لتنظيم سياسي ديني قد يكون الجهاد الاسلامي وقد يكون حماس ولكن القائد العام ابو كارم (اشرف برهوم) يبدو كقائد فصيل علماني. وقد يكون المخرج اراد من وجود شخصيتين مختلفتين تعبيراً على ان عدة فصائل فلسطينية تبنت العمليات كخيار استراتيجي في مقاومة الاحتلال وعلى ان هذه عملية مشتركة لعدة فصائل كما حدث في عدة حالات.
برهوم وحليحل ابدعا في اداء الدور الذي اسند لهما. والحركة في مشاهد الاعداد للعملية في مصنع الصابون سابقاً تحبس الانفاس. تحضر الشابين للعملية، غسل الاجساد، الصلاة، الكوميديا السوداء عند تصوير الفيديو واعداد البوسترات لما بعد الحدث، والوليمة الجماعية التي جلس الجميع فيها على ناحية واحدة من المائدة ذُكرت في لقاءات صحفية كدلالة صورة العشاء الاخير.
وفي اعتقادي التشبيه معقداً كونه يطرح اسئلة من نوع من هو يهودا الاسخريوطي (الخائن ) ومن المسيح في هذا العشاء.. ورغم انه ليس دقيقاُ لكن لربما اراد المخرج بهذه الصورة التفاتاً الى الغرب المسيحي بقوله ان المسيح هو اول شهيد لأنه اختار الموت من اجل تحرير الانسان من الخطيئة وهنا اختار الفلسطيني الشهادة من اجل تحرير الذات من الذل والوطن من الاحتلال. الموت من اجل غاية اسمى تقود الى الجنة. هذه الجنة التي تقول سهى عنها انها موجودة على الارض فقط. وسعيد وخالد لم تكن جنة السماء غايتهما بل جنة الارض في الخلاص من الاحتلال والذل وكسر العنفوان.
تبدو السخرية ايضاً في اجابة المجند جمال لخالد: ما يحدث بعد الموت. يجيبه جمال: تأتي الملائكة وتحملك الى الجنة. ويريد خالد ان يتأكد فيشدد: هل انت متأكد؟ فيؤكد جمال جوابه السابق.
لكن هؤلاء الذين يدفعون سعيد وخالد الى الموت يهربان من الموت ويفران بجلديهما خوفاً من صاروخ اسرائيلي يسقط عليهما بعد فشل العملية في المرة الاولى. تبرز حفاوة ام سعيد واهل خالد لجمال في بيتيهما. وتشكر ام سعيد (هيام عباس) في دورها الجميل جمال لأنه يحرس الابناء وهي لا تعلم ان هذا المعلم الحارس قد جنّد ابنها للموت. وهنالك مواقف عدة جميعاً تحتاج لمشاهدات متكررة كبيع فيلم الشهيد والعميل في دكان الشرائط وقول صاحب الدكان ان شريط العملاء مطلوب اكثر من شرائط الشهداء مما يثير سهى التي تحتج على بيعهما في ذات المكان بل وبنفس السعر.
ونهاية لا يعالج المخرج ما بعد عيون سعيد وهو يجلس في باص ممتليء بالجنود في تل ابيب. وكان هذا خيار رائع. انه لا يدخل في مطبات عرض الصور وانما مجموعة من الدلالات والحالات التي تساعد المشاهد في تركيب الصورة التي تعتمل في الذهن والنفس الى الوصول الى القرار. فجميعنا يعلم ما بعد الحدث لكن معظمنا لا يعلم كيف يمشي هؤلاء طريق التردد والخوف والاسى والالم. ومن تصويرهم ك"وحوش برابرة" نراهم اناساً في قمة الحنق الانساني، في قمة الضعف الانساني وباختصار في قمة انسانيتهم!ّ!
التعليقات