المحقق ميليس:طارد كارلوس في احدى فيلات دمشق وتعاون الحريري معه في ملاحقة منفذي لابيل في المانيا

المحقق ميليس:طارد كارلوس في احدى فيلات دمشق وتعاون الحريري معه في ملاحقة منفذي لابيل في المانيا
غزة-دنيا الوطن

اسمه يتردد على شفاه اللبنانيين (والسوريين ايضاً) منذ اشهر فقط، بل على شفاه قطاعات واسعة من الناس ومن المسؤولين في عدد غير قليل من الدول العربية والاجنبية منذ ان اختاره الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كوفي انان ليترأس لجنة التحقيق الدولية التي تحددت مهمتها بالكشف عن منفدي العمل الارهابي الشنيع الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه 19 شهيداً بينهم الوزير السابق باسل فليحان.

انه المدعي العام الالماني ديتليف ميليس «صائد الارهابيين» كما يسمى هنا والذي يشبهه البعض ايضاً بـ«الكاسر الذي ان عض فريسته فلا يتركها تفلت منه». ويعرف عن ميليس انه لا يهاب أحداً أو دولة مهما علا شأن كل منهما. وهذا ما حصل في الماضي على سبيل المثال مع الارهابي الدولي كارلوس الذي كان موجوداً في سورية، ومع يده اليمنى يوهانس فايريش لاحقاً، ومع مفجري مقهى «لا بيل» الليلي في برلين الغربية الذين اعترفوا بعلاقتهم مع الاستخبارات الليبية. وهو ايضاً الشخص الذي ينتظر منه المجتمع الدولي النجاح في مهمته الصعبة، وينتظر هو من نفسه ان لا يفشل لأن فشله سيعني قبل كل شيء ان العالم غير قادر على شل يد الارهاب التي ضربت في لبنان، اضافة الى انه سيكون فشلاً شخصياً لا يتوافق مع طبائع هذا «الصائد» الباحث عن التحديات والذي اختبره الدهر وصقلته المهنة بعد أكثر من ربع قرن من العمل فيها. وقد لا يعرف الكثيرون ان ميليس سبق والتقى الرئيس الحريري في لبنان مطلع التسعينات طالباً المساعدة في الكشف عن «جريمة لا بيل». ولهذه الواقعة قصة نوردها لاحقاً.

وللتدليل على أهمية المهمة التي كلفه بها مجلس الأمن الدولي وخطورة ابعادها الاقليمية المحتملة، ولتأمين غطاء دولي يحفظ مهمته من اي تأثير خارجي ويجعله «كبيراً بين الكبار»، لجأ انان الى تعيينه في منصب «نائب الأمين العام للأمم المتحدة»، ما يعني ان ميليس يحتل حالياً المرتبة الثالثة في الهيكلية الرسمية للمنظمة الدولية. ويعتبر ميليس اليوم من أكثر رجالات الدول حماية أمنية بعد تخصيص 40 شخصاً لضمان أمنه مع دعم لوجستي دولي خاص يواكب مكان عمله واقامته وكل تحركاته. وحصّنه مجلس الأمن الدولي بصلاحيات تفوق الصلاحيات الوطنية لكل دولة، وان لم يستغلها كلها بعد على رغم قدرته على فعل ذلك. واعتقاله «الجنرالات الأمنيين الأربعة» في لبنان بعد فترة قصيرة على بدء مهمته أظهر مدى عزمه وصلابته واصراره على وضع النقاط على الحروف والكشف عن كامل الحقيقة المتعلقة باغتيال الحريري، ان من حيث الأدوات التي استخدمت أو الجهة التي خططت وسهلت التنفيذ. وهو ينطلق في كل الاحوال من واقع ان مثل هذه الجريمة الضخمة لا يمكن ان تكون من فعل أشخاص قلائل وتتطلب تحضيراً واسعاً ومواكبة لوجستية كبيرة. ونقلت مجلة «دير شبيغل» عن محققين المان اعضاء في فريق التحقيق الدولي تساؤلهم «عن الطرف الذي يملك القدرة اللوجستية اللازمة، وكذلك المصلحة في وضع متفجرة ضخمة تزن 1000 كلغ من الـ «تي ان تي» في وسط بيروت». وقالوا للمجلة انهم «غير قادرين على تذكر حالة سابقة جرى فيها استخدام مثل هذا الحجم من مواد التفجير المحترقة لتنفيذ اعتداء».

عندما اتصل مكتب انان به من طريق النيابة العامة الالمانية في برلين للتوجه الى نيويورك بعد وقوع الاختيار عليه كان ميليس يقضي اجازة في جزيرة مايوركا الاسبانية. ومنذ ان وافق على التكليف كان واضحاً لديه انه سيتحرك «وسط حقل من الألغام السياسية» بحسب قول زميل له لم يشأ الإفصاح عن اسمه، ولكنه تحدث عن «طبائع ميليس التي تميزه عن غيره وأثبتها في غير موضع من حياته المهنية»، خصوصاً انه توجد صعوبة قصوى في الحصول على معلومات شخصية عنه وعن أمثاله في المانيا بسبب حظر مقصود من جانب السلطات القضائية المعنية. وفي الواقع أبلغ مسؤول القسم الاعلامي في مكتب الادعاء العام في ولاية برلين «الحياة» لدى الاتصال به ان المعلومات الشخصية عن ميليس تخضع للسرية التامة، وان كل ما يمكنه الكشف عنه هو انه ولد في 13 آب (أغسطس) 1949. وعلى رغم كل التفتيش الذي أجريناه في «بنوك المعلومات» لم نتمكن من الحصول على أي معلومات تتعلق بسيرة حياته فلجأنا عندها الى تجميع ما نشر عنه في وسائل الاعلام الالمانية منذ تعيينه محققاً دولياً.

مطاردة كارلوس



ونقل الموقع الالكتروني لصحيفة «دي فيلت» الالمانية عن زميل ميليس اعلاه قوله ان الأخير كون منذ أمد طويل سمعة تتلخص في انه «لا يهاب ادخال يده الى عش الدبابير في حال اضطر لذلك» مضيفاً انه كمحقق في عدد غير قليل من قضايا الارهاب «اشتبك» مع حكومات دول مثل فرنسا وسورية وليبيا، وكذلك مع حكومات بلده المانيا، فقبل 30 سنة وضع ميليس الارهابي الدولي الييتش راميرز (كارلوس) على لائحة الارهابيين المطلوبين للعدالة على رغم ان المذكور كان يتمتع بحماية عدد كبير من اجهزة الاستخبارات في ذلك الحين. وعندما تأكد ميليس من ان كارلوس يعيش في احدى فيلات دمشق لجأ الى الضغط على السلطات السورية لتسليمه على رغم ان الحكومة الألمانية كانت تخشى تعرض المانيا الى سلسلة من العمليات الارهابية من جماعات كارلوس في حال تسليمه اليها لمحاكمته. ولكن اصرار ميليس على متابعة قضية كارلوس دفع بالسلطات السورية الى ابعاد الأخير عن أراضيها فلجأ الى الخرطوم، لكن الاستخبارات الفرنسية تمكنت من رصد مخبأه لاحقاً وابلغت السلطات السودانية التي قبلت التعاون معها فقبضت عليه وسلمته الى القضاء الفرنسي الذي حاكمه وأصدر عليه حكماً بالسجن مدى الحياة.

تحقيقات «لابيل»

وأثبت ميليس في التحقيقات التي اجراها في جريمة تفجير ملهى «لابيل» الليلي الذي كان يرتاده جنود أميركيون في برلين الغربية عام 1986 عن تمتعه بـ«صبر شديد ونفس طويل». وكان الانفجار أدى الى قتل جنديين أميركيين وسيدة تركية والى جرح نحو 230 شخصاً آخرين.

وتمكن ميليس بفضل التحقيقات الطويلة الزمن، ولكن الدقيقة التي اجراها، من جلب المجرمين الى المحاكمة بعد مرور 15 سنة على الجريمة وزجهم في السجن لمدد طويلة. حول هذه المحاكمة يقول رئيس مكتب الادعاء العام في برلين ديتر ناومن عن مساعده ميليس: «من دون المثابرة التي ابداها لما تمكن من الكشف عن منفذي الجريمة (لابيل). وانا لا اعرف أحداً اكثر جلداً ومواظبة من ميليس». وعلى رغم ان المحاكمة هذه لم تكن أمراً مريحاً للحكومة الألمانية من الناحية السياسية أصر ميليس امام المحكمة على اتهام ليبيا واستخباراتها بممارسة «ارهاب الدولة» الأمر الذي أيدته محكمة برلين ايضاً في احكامها الصادرة، ما أحدث ضجة على اعتبار انها سابقة في القضاء الجنائي الالماني (لكن التهمة تكررت مرة ثانية في حق ايران واستخباراتها التي اتهمت بتنفيذ جريمة قتل ثلاثة معارضين ايرانيين في مطعم «ميكونوس» في برلين). ونقل عن ميليس قوله لاحقاً: «ان اعتداءات مثل (لابيل) هي التي مهدت الطريق أمام الاعتداءات التي شهدتها نيويورك» في اشارة منه الى 11 ايلول (سبتمبر) 2001. ويتابع رئيس ميليس التحدث عنه، فيشير الى انه «رجل مهنة بامتياز يتمتع بكنز كبير من الخبرة وغير مستعد للتساهل منذ لحظة وقوع الجريمة وحتى صدور الحكم». وعندما وقعت ليبيا العام الماضي اتفاق التعويض على ضحايا «لا بيل» بعد حل قضية تعويضات ضحايا «لوكربي» في بريطانيا علق ميليس على ذلك بالقول: «انه الطريق الوحيد الذي يؤدي نوعاً ما الى ارضاء الضحايا».

التعرف الى الحريري

وإضافة الى لغته الأم يتحدث ميليس الانكليزية والفرنسية بصورة جيدة، وشكلت قضية «لابيل» ومتابعته التحقيقات في شأنها في كل من بريطانيا وفرنسا ولبنان نقطة التقاطع في تعرفه عام 1991 الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان في بداية طريقه السياسي الطموح، الأمر الذي مكنه من اثبات خلفيات العمل الارهابي الذي نفذه خمسة اشخاص قدموا اعترافات بأن الاستخبارات الليبية جندتهم لتفجير الملهى انتقاماً من الولايات المتحدة التي اعتدت على ليبيا في ذلك الوقت. ففي ايار (مايو) من ذلك العام سافر ميليس الى بيروت بعدما تأكد من وجود الفلسطيني ياسر الشريدي في السجن لارتكابه بعض الجنايات، وهو أحد المتهمين الرئيسيين الملاحقين في تفجير «لابيل». وفي تحقيق لها، أكدت مجلة «دير شبيغل» الألمانية وجود صور للمحقق الألماني في العاصمة اللبنانية في تلك الفترة وهو يضع نظارتين سوداوين للوقاية من الشمس، يبرز من فوقها شعره الأشقر القصير جداً وفي يده رشاش كلاشنيكوف. وذكرت المجلة أن الحريري استجاب لطلب ميليس وقدم له المساعدة المطلوبة، ليس فقط في اجراء تحقيق مع شريدي، بل وفي التوقيع ايضاً على طلب تسليمه الى القضاء الألماني، الأمر الذي حسم عملياً مجرى المحاكمة. والآن دار الزمن دورته وعاد ميليس من جديد الى بيروت، إنما للكشف هذه المرة عن قتلة الحريري ورفاقه، وربما رد الجميل الى الشخص الذي ساهم في بروز اسمه كصائد للإرهابيين.

«إن مهمتي الجديدة هي بمثابة تحد»، قال ميليس بعد تسلمه قرار تعيينه رئيساً للجنة التحقيق الدولية، معرباً في الوقت نفسه عن قناعته بأن فترة الثلاثة اشهر ستكون كافية لحل لغز الجريمة، على رغم كل مصاعب المهمة. وذكر قبل مغادرته برلين الى نيويورك للاجتماع مع أنان ومسؤولين آخرين في الأمم المتحدة: «ان المحقق الذي لا يتمكن من الكشف عن القضية التي يحقق فيها خلال ثلاثة أشهر، لن يتمكن ربما من الكشف عنها على الاطلاق».

وقياساً الى التصريحات التي أدلى بها ميليــــس حتـــــى الآن، وهـــــي قليلــــة نسبياً، يمكن أن يميل المرء الــــى الاعتقاد بأن المحقق الألماني أنجـــز قسماً مهماً من مهمته، ولا يزال هنـــاك جزء في طور الانجاز يستدعي التمديد. والتصريح الذي أدلى به الى تلفزيون «دويتشه فيلله» الألماني في 4 أيلول (سبتمبر) الماضي، يؤكد هذا الاعتقاد.

وفي المقابلة، قال ميليس جملة تختصر الكثير مما توصل اليه في تحقيقاته: «عندما يجتمع أربعة من كبار الجنرالات مع بعضهم البعض ويخططون لجريمة، فإن تعبير المؤامرة هو المناسب هنا بالتأكيد».

أما بالنسبة الى سورية والدور الذي يمكن أن تكون استخباراتها لعبته في لبنان، فمن الواضح، بحسب مصادر مطلعة هنا، أن ميليس «يعي حساسية دمشق» ازاء القضية، ولا يريد اعطاء انطباع بأنه يسيسها أو يخضع لأي ضغوط خارجية، بل ينتطر تعاون السلطات السورية بصورة كاملة وشفافة مع مهمته. وتابعت المصادر: «ان حصل على التعاون المطلوب، سيكون في إمكانه تأكيد الشكوك المتوافرة لدى لجنته أو نفيها، وبالتالي استخلاص النتائج».

وذكّرت هذه المصادر بالتوازن الذي يمارسه ميليس في تصريحاته ازاء سورية قبل التحقيقات التي أجراها ولجنته مع عدد من المسؤولين فيها وبعدها. فهو سبق وذكر، على سبيل المثال، أنه «لا يشتبه بأي مسؤول سوري حتى الآن»، كاشفاً في الوقت نفسه عن «وجود شهود سوريين لديه». وشدد في السياق ذاته على أن تعاون دمشق معه «ضرورة لا بد منها للكشف عن الجريمة»، مضيفاً أيضاً أن «من دون هذا التعاون لن يكون في الإمكان الحصول على صورة كاملة عنها». وذكر لاحقاً بوضوح أن تحقيقات لجنته مع مسؤولين أمنيين وغير أمنيين في سورية «جاءت في اطار الاستماع اليهم كشهود»، وهذا ما تؤكده دمشق بدورها. لكن مصادره ذكرت أخيراً أنه سيشير في التقرير الذي سيرفعه الى أنان في 21 من الشهر الجاري، حتى ولو جرى التمديد لمهمته «الى أنه لم يحصل على التعاون المطلوب من سورية»، وهي جملة «ستفتح باب التكهنات ولا تعود تقفله»، على حد تعبير أوساط ألمانية «خصوصاً أن قوى دولية عدة تنتظر دمشق عند هذا المفترق».

ميليس وهانس بليكس

وأشارت مصادر أخرى الى أن ميليس يقود في لبنان «مهمة خطرة تماثل مهمة السويدي هانس بليكس، المفتش الدولي عن أنظمة الدمار الشامل في العراق قبل ثلاث سنوات». وكمفتش جنائي، يعمل بتكليف من الأمم المتحدة في لبنان، فإن تقرير ميليس الذي سيقدمه الى مجلس الأمن «سيكون الأساس الذي لن يحدد فقط مصير منفذي الجريمة، وإنما أيضاً العلاقة مع سورية التي كانت مسؤولة عن الأمن في لبنان عندما حصلت الجريمة وطيلة 15 سنة سابقة». وذكرت هذه المصادر بأن النظام السوري «موضوع منذ فترة على اللائحة السوداء في واشنطن». ومن هنا يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة «وضع مستقبل المنطقة بين أيدي ميليس».

وقال المحقق الدولي لمجلة «دير شبيغل»: «نحن في وضع نؤثر فيه مباشرة في السياسة. إنه حقل ألغام سياسي». وعقب مندوب المجلة الى بيروت هولغر شتارك بالقول: «ميليس يقول نحن، لكنه يعني نفسه في الدرجة الأولى».

وكرر المحقق الألماني في حديثه مع المجلة أكثر من مرة بأنه مدع عام، قائلاً: «لا انطلق (في تقديراتي) من إحدى النتائج، وإنما أحقق بانفتاح». ولمعرفته بأن الولايات المتحدة تنظر الى سورية منذ البداية على أنها الفاعلة «يوازن لهذا السبب الى أي حد يمكنه وضع مسافة بينه وبين توقعات واشنطن». لكن ميليس لا يأخذ الأميركيين فقط في الاعتبار، بل الروس ايضاً الذين اشتكوا عليه في مجلس الأمن عندما أعلن بعد فترة من وصوله الى بيروت أن التحضيرات لبدء التحقيقات انتهت، وأن فريقه الدولي أصبح جاهزاً. عندها احتج المندوب الروسي متسائلاً: «كيف يمكنه التصريح بذلك أمام الرأي العام الدولي من دون التشاور مسبقاً معنا؟». واعتبر ميليس، وهو يبتسم، أن الشكوى هذه ضده «تجربة جديدة لأنني معتاد حتى الآن على تلقي الملاحظات على عملي من جانب السلطة القضائية في برلين».

*الحياة

التعليقات