ريا وسكينة بقلم: د. اسامة فوزي

ريا وسكينة بقلم: د. اسامة فوزي
ريا و سكينة

وعبقرية صلاح عيسى في الاسقاط التاريخي المعاصر المعاصر

جمال عبد الحميد ومصطفى محرم يعيدان اكتشاف نجوم حقيقيين للشاشة العربية

تعرض الفضائيات العربية هذه الايام مسلسل "ريا وسكينة" المقتبس عن القصة الحقيقية لمجرمتين اعدمتا شنقاً في الاسكندرية عام 1921 بتهمة ارتكاب 17 جريمة قتل ... واظن ان ملايين العرب قد تعرفوا على جانب من الحكاية بعد ان حولها انور وجدي الى فيلم سينمائي اكتسح دور السينما العربية في عام 1953 واصبحت (نجمة ابراهيم) التي لعبت دور "ريا" رمزاً لافلام الجريمة والرعب التي حاولت - آنذاك- مواكبة افلام الفرد هيشكوك ... ثم عاد حسين كمال فالقى الضوء مجدداً على الحكاية في منتصف السبعينات ولكن في اطار مسرحي ساخر اداه باقتدار عبدالمنعم مدبولي وشادية واحمد بدير في مسرحية حملت نفس الاسم.

لكن هذه المسرحية وذلك الفيلم قدما القصة في اطار بوليسي مجرد وساخر وحورت المسرحية الكثير في الوقائع حتى تنسجم مع السيناريو الضاحك بينما ركز الفيلم على بطولة الضابط ابراهيم حمدي الذي كشف الجرائم وقاد ريا وسكينة واربعة اخرين الى حبل المشنقة .

الفيلم والمسرحية لم يقتربا كثيراً من وقائع الحكاية كما ترويها ملفات التحقيق في محاكم الاسكندرية فقد اقتصر الفيلم على البعد الاجرامي للاختين وتحولت مشاهده الى مطاردة بوليسية مشوقة صنعت نجومية انور وجدي ... بينما تحولت جرائم الاختين الى (نكتة) في مسرحية لا زالت من اجمل المسرحيات العربية ... ومع ذلك ظل التساؤل الكبير حول حقيقة ما جرى في الاسكندرية عام 1921 ولماذا تم تصنيف الاختين ريا وسكينة كاشهر مجرمتين في التاريخ المصري المعاصر ؟

في اواخر السبعينات وخلال مشاركتي في الكتابة لمجلة 23 يوليو التي اصدرها الاستاذ الكبير محمود السعدني في لندن تلقت المجلة سلسلة حكايات كتبها الكاتب الصحفي المصري اليساري الصديق صلاح عيسى وكان عنوانها (ريا وسكينة) ... يومها اثار الامر فضولي لان تصدي كاتب يساري مثل صلاح عيسى لاعادة كتابة حكاية مجرمتين قاتلتين لم يتم عفو الخاطر وصلاح - لمن لا يعرفه- استاذ في فن التوثيق الروائي ولديه جلد عجيب ونادر لا تجده عند كثيرين هذه الايام - في العودة الى كتب التاريخ واعادة كتابة بعض فصوله من خلال اسقاط معاصر ... ولا زلت اذكر اني قرأت كتابه (حكايات من مصر) اكثر من عشر مرات وكان قد اهداه لي عام 1976 عندما جمعني به الصديق الشاعر احمد فؤاد نجم في دار الثقافة الجديدة في صبري ابوعلم حيث كان صلاح عيسى يستأجر مكتباً في الدار واذا وقع كتابه ( حكايات من دفتر الوطن ) بين يديك لن تتمكن من تركه دون أن تأتي عليه ... حكايات وردت عابرة في كتب التاريخ والصحف القتطها العبقري صلاح عيسى وقدمها في صورة جديدة بكل ابعادها الاجتماعية .

ما فعله صلاح عيسى هو ما كان يريدني محمود السعدني ان افعله حين اقترح علي في منتصف السبعينات ان استقيل من عملي الحكومي وان اتفرغ للعمل معه في جريدة الفجر التي تصدر في ابو ظبي لاعادة كتابة ( الاغاني ) لابي فرج الاصفهاني واقترح علي السعدني حتى عنوان الكتاب ( الاغاني من تاني ) ... كان يريدني ان اعيد كتابة حكايات الاغاني من جديد تماما كما فعل او يفعل صلاح عيسى ... ولان مشروعا كهذا كان اكبر مني فقد اعتذرت لاستاذنا الكبير .

تابعت فصول ( ريا وسكينة ) كما نشرتها 23 يوليو من قلم صلاح عيسى وادركت ان اختيار صلاح عيسى لجرائم الاختين لم يأت عفو الخاطر فقد نجح الكاتب من خلال سرد الحكاية اعتماداً على وثائق المحكمة في الاسكندرية في اعادة رسم صورة للمجتمع المصري السياسي والاقتصادي في مصر في مطلع القرن الماضي ... وخلص الى ان ريا وسكينة مثل باقي ملايين المصريين كانوا ضحايا للمستعمر الانجليزي ... وللباشوات والانظمة والاقطاع واليوم شاهدت الحلقة الخامسة من المسلسل الذي يخرجه جمال عبد الحميد فادركت على الفور ان كاتب السيناريو ادرك الابعاد التي ارادها صلاح عيسى وقدم لنا صورة انسانية مؤثرة لاختين تحاولان الحفر في الصخر من اجل تأمين لقمة العيش ... وتمكنت عبلة كامل من تخفيف الصورة البشعة التي قدمها انور وجدي في فيلمه وجسدتها العملاقة نجمة ابراهيم ... ولا ادري كيف سيتطور السيناريو بعد ان تبدأ عمليات القتل التي تقوم بها الشقيقتان والتي بلغت 17 جريمة بدأت بصديقة سكينة بائعة الطيور زنوبة السيدة الطيبة التي كانت تشفق على سكينة وتعينها .

لقد سعدت كثيراً عندما علمت ان المخرج المتألق جمال عبد الحميد انتهى من تصوير اربعين حلقة تلفزيونية مقتبسة عن كتاب صلاح عيسى من خلال حوار اعده كاتب السيناريو المبدع مصطفى محرم واظن ان المشاهد سيرى في هذا المسلسل صورة مختلفة للاختين ريا وسكينة من خلال تصوير دقيق لحياة البؤس والشقاء التي عاشها الشعب العربي في مصر ... والتي دفعت احد الممثلين في اول حلقة من المسلسل وبعد ان علم بموت ابيه الى القول : ابوي مات من الجوع!!


عندما زرت الاسكندرية اول مرة عام 75 طلبت من مرافقي ان ياخذني الى منطقة اللبان حيث كانت تسكن الاختان على مرمى حجر من قسم للشرطة وحيث تحول سكنهما الى مقبرة لاكثر من 17 امرأة ... ومن يتجول في احياء الاسكندرية القديمة وزواريبها يمكنه ان يلتمس عن قرب الاجواء التي صنعت من فتاتين فقيرتين مجرمتين من طراز مبتكر.


والحكاية باختصار ... ان ريا وسكينة وبسبب الفقر والضغوط الاجتماعية والاقتصادية آنذاك اقدمتا على قتل 17 امرأة ما بين نوفمبر 1919 و نوفمبر 1920 ودفن الجثث في ثلاثة منازل في احياء الاسكندرية القديمة منها منزل (اللبان) الذي يقع على مرمى حجر من قسم اللبان (قسم شرطة)

في كتابه (ريا وسكينة القصة الحقيقية) ينشر محمود صلاح ونقلاً عن ملفات ووثائق المحاكم في الاسكندرية التي زادت عن الفي صفحة معلومات غير معروفة عن ريا وسكينة وحكايتهما بسبب ما اصاب الحكاية من تشويهات واضافات وزيادات شارك فيها منتجو عدة افلام سينمائية تناولت الحكاية في السنوات الماضية ومنها افلام لاسماعيل يس ويونس شلبي وغيرهما.

مثلاً ... كثيرون يظنون ان (عبد العال) - زوج سكينة- هو فعلاً ضابط شرطة كما ورد في مسرحية حسين كمال مع ان وثائق المحكمة تشير الى غير ذلك وتم اعدام عبدالعال بعد اعترافه بالاشتراك في قتل خمس نساء وذكرت وثائق المحكمة ان عبد العال كان "شغال في المكابس"

نفذت المحكمة حكم الاعدام في ستة متهمين هم ريا وسكينة وحسب الله زوج ريا وعبدالعال وعرابي حسان وعبد الرازق يوسف وقبل تنفيذ حكم الاعدام بعبد العال صاح برئيس المحكمة : انا عندي سر لازم اقوله ... اعترافي بان عبدالرازق شريك في القتل لم يكن صحيحاً عبد الرازق بريء ولم يشترك معنا في القتل ... فرد عليه رئيس المحكمة: لماذا لم تقل ذلك من قبل ... الآن لا يباح سماع هذا الكلام وتم فعلاً اعدام عبدالرازق وهو عربجي وكان في الثلاثين من العمر.


اعدمت ريا وعمرها 45 سنة وكانت اختها سكينة في الاربعين من العمر وخلافاً لما رأيناه في الفيلم والمسرحية فان شخصية (سكينة) كانت اقوى من شخصية (ريا) وعندما صدر الحكم باعدامها شتمت رئيس المحكمة وقال طبيب البوليس في تقريره ان سكينة قبل اعدامها كانت جريئة ورابطة الجأش وقالت قبل اعدامها :" انا جدعة وحاتشنق محل الجدعان وقتلت 17 وغافلت الحكومة" ثم نطقت بالشهادة اما (ريا) فكانت منهارة وكان آخر طلب لها قبل الاعدام ان ترى ابنتها (بديعة).


اما حسب الله زوج ريا فقد قال قبل اعدامه انه قتل فقط 15 وليس 17 ... وقال تقرير الطبيب انه كان جريئاً جداً ورابط الجأش وسامي ابو العدل يؤدي الشخصية بشكل اعاد اكتشاف هذه الشخصية المبدعة والفنان الممتاز ... ومثله عبدالعال زوج سكينة الذي قال لعشماوي - الرجل الذي ينفذ حكم الاعدام- كتف ... شد حيلك!!

الوحيد الذي اثار حزن الحاضرين عليه قبل الاعدام وفقا لتقارير الصحافة ورجال الشرطة هو العربجي عبد الرازق الذي تقدم من حبل المشنقة خائر القوى وهو يقول: مظلوم ... اما ريا فقد طلبت من عشماوي ان يترفق بها لانها "ولية".


جريدة الاهرام التي صدرت في اليوم التالي لتنفيذ حكم الاعدام تقول :" بعد نصف ساعة جيء بسكينة وبينما كان المأمور يتلو عليها حكم الاعدام ذاكراً انها اشتركت في قتل 17 امرأة قالت سكينة: وهل قتلتهن بيدي .. طيب قتلت النسوان دي واستغفلت بوليس اللبان واتحكم علي بالاعدام وانا عارفة اني رايحة اتشنق وما يهمنيش .. انا جدعة .. هو في اكتر من الشنق .

ولما ادخلت الى الغرفة السوداء وبينما الجلاد يوثق يديها قالت سكينة: هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي ... حاسب انا ولية لكن جدعة .. الموت حق

ولما وقفت سكينة تحت حبل المشنقة قالت : سامحونا يمكن عيبنا فيكم

وختمت الاهرام تقريرها بالقول :" وكانت سكينة من اشجع الاشخاص الذين يقفون موقف الاعدام ومن اثبتهم جناناً".

مسلسل ريا وسكينة الذي انصح القراء بمشاهدته يقدم نجوما حقيقيين بدءا بصلاح عيسى وانتهاء بالممثلة الرائعة التي تجسد شخصية سكينة سمية الخشاب مع ان سكينة لم تكن - وفقا لصورة فوتوغرافية لها شاهدتها مؤخرا - بمثل جمال هذه الممثلة .... وقبل هؤلاء يقدم المسلسل لنا مصر في مرحلة تاريخية حاولت الكثير من كتب التاريخ تغييبها فعاد صلاح عيسى ورسم ملامحها من خلال حكاية اختين مجرمتين قتلتا 17 امرأة هما ريا بنت علي وعمرها 45 سنة واختها سكينة وكانت عندما اعدمت في الاربعين .

حكاية ريا وسكينة والتكتيك الاجرامي بقتل ودفن القتلى في ارضية السكن عرفته معظم امم الارض قبل وبعد ريا وسكينة .... وفي امريكا مثلا كان عضو الحزب الديمقراطي المقاول الثري جون واين جيسي يقتل الاطفال والغلمان ويدفنهم في منزله ولما داهمت الشرطة منزله في احدى ضواحي شيكاغو عام 1978 وجودا في ارضية المنزل 27 جثة غير الجثث التي كان يرميها في النهر ورغم ان جون واين لم يكن يقتل من اجل لقمة العيش كما كانت تفعل ريا وسكينة - فهو رجل ثري ومن اعضاء الحزب الديمقراطي البارزين وصوره مع زوجة الرئيس كارتر كانت تزين الصحف الامريكية - جون واين كان شاذا ويقتل من اجل متعة القتل مثله مثل العشرات من المجرمين .... اما ريا وسكينة فقد كانت لقمةالعيش والفقر الشديد هي الدافع لارتكاب جرائم قتل بشعة بهذا المستوى وقد توصلت الشقيقتان الى توليفة دينية تسمح لهما بارتكاب مثل هذه الجرائم من باب ان الموت علينا حق .... وهي توليفة اتوقع ظهورها في الحلقات القادمة من هذا المسلسل التلفزيوني الممتاز.

*عرب تايمز

التعليقات