تشويه التاريخ الإسلامي في التلفاز والسينما بقلم:ممدوح إبراهيم الطنطاوي

تشويه التاريخ الإسلامي في التلفاز والسينما بقلم:ممدوح إبراهيم الطنطاوي
بقلم / ممدوح إبراهيم الطنطاوي - كاتب وباحث مصري

تقدم السينما العربية وكذا التلفاز في بلادنا يوماً بعد يوم أعمالاً مختلفة منها الغث والتافه والمغرض ، وقليلاً هو السمين .. ولكن المؤسف حقاً أن تتناول هذه الأعمال السينمائية والدراما التلفازية المواضيع التاريخية الإسلامية بصورة مهينة ، وتجد كل من (هبّ ودبّ) ممن ليسوا أهلاً للحديث في هذا المضمار الكبير يدلون بدلوهم فيضيفون ويحذفون ، وينسجون من دروب خيالهم مواقف ووقائع كيفما يتراءى لهم .. وإذا واجهتهم بأغاليطهم في كثير من الحقائق التاريخية تشدقوا بالحبكة الفنية ومقتضيات المعالجة السينمائية والتلفازية لأحداث التاريخ وحوادثه ..

وفي ظل هذه الفوضى المتوشحة وبلباس الفن الزائف اندس أعداء متربصين بتاريخ الإسلام العظيم وحضارته المجيدة فانبروا يشوّهونه ويزيفونه أيما تزييف ، وقدموا أعمالاً كثيرة في ظاهرها الرحمة ، وفي باطنها العذاب كله ..

لقد رأينا قديماً أفلام ( توجو مزراحي ) في مصر ، وكيف تجسدت فيها العنصرية الصهيونية بتصويرها كل من هو أسمر اللون من الجنسين على أنه عبد ، يعمل خادماً وفي أحقر الوظائف حتى ظلت هذه الصورة مطبوعة في أذهان الكثيرين إلى يومنا هذا .. ولها ما لها من تأثير فكري خطير .

ثم توالت الأعمال ( الفنية ) وعُرضت أفلام صورت العرب كأنهم برابرة أشرار والمسلمين كأنهم قتلة وسفـاكو دمـاء .. لا حضارة لهم ولا تاريخ ، وهمهم الوحيد هو الفحش والسكر والانغماس في الشهوات والنزوات .. وبعدها ظهرت كثير من الأفلام والمسلسلات التي حملت أسماء إسلامية – مازال بعضها يتكرر عرضه حتى يومنا هذا – اتبع فيها سياسة السم في الدسم فمن مشهد يتلى فيه القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحول إلى آخر فيه عري وفجور وفحش وزمر وطبل ورقص .. ولكن سرعان ما خاب ظنهم ، فكثير من المسلمين رفضوا هذه الصورة القبيحة ، فلجأت أيدي العبث والتزييف إلى التاريخ الإسلامي فعرضت أفلاماً ومسلسلات وُسِمَت بأنها تاريخية قدمها المغرضون في شكل مبهر ومبهرج ، واستغلوا كثيراً منها في تشويه الصورة المشرقة لتاريخ الإسلام وعلمائه .. لقد رسموا للخليفة هارون الرشيد صورة مرذولة : ينام طوال النهار ، ويسهر حتى الصباح بين جواريه وحاشيته يشرب الخمر، ويترنح مع المعازف ، ويرتكب الموبقات . وهو هو الذي كان في الحقيقة خليفة عادلاً عابداً خاشعاً .. يحج عاماً ويغزو عاماً ، ويهتم بالعلم الشرعي ، ويرعى العلماء ويشجعهم ويوقرهم ..

وفي فيلم (الناصر صلاح الدين الأيوبي) تم تقديم شخصية الجندي الفدائي عيسى العوام في جيش صلاح الدين على أنه نصراني ، وهذا تزييف بيّن لا أصل له ولا دليل ، فعيسى العوام كان سبّاحًا مسلمًا ماهرًا و فدائيًا من جنود صلاح الدين الأيوبي يحمل الرسائل العسكرية والكتب على وسطه ويسبح بها ليلاً إلى هدفه لتبليغ أوامر القيادة العليا للقوات المسلحة الإسلامية مخترقاً أسطول العدو وحراسته..

وإذا كانت البينة على من ادّعى فمصداق قولنا ما ذكره القاضي (بهاء الدين بن شداد) كاتب سيرة القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي يرحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بـ (المحاسن اليوسفية والنوادر السلطانية) الذي يعتبر من أهم وأصح ما كتب في ترجمة صلاح الدين وسيرته وبطولاته ؛ فقد قال ما نصه : " ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلماً يقال له عيسى وصل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو ، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو ، وكان ذات ليلة شدّ على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار ، وكُتب للعسكر ، وعام في البحر فجرى عليه أمر أهلكه وأبطأ خبره عنّا - وكانت عادته إذا دخل البلد أطار طيرًا عَرّفَنَا بوصوله - فأبطـأ الطير فاستشعرنا هلاكه .. ولما كان بعد أيام بينا الناس على طرف البحر في البلد إذا هو قد قذف شيئًا غريقاً فتفقدوه فوجدوه عيسى العوام ، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب ، وكان الذهب نفقة للمجاهدين . فما رُؤيَ من أدَّى الأمانة في حال حياته وقد ردَّها في مماته إلا هذا الرجل ، وكان ذلك في العشر الآخر من رجب ". وهذا دليل يبطل زيف ما ذكر في الفيلم من أنه كان نصرانياً ..

وإذا فرضنا حسن النية في بعض الأعمال التاريخية – كما يروق للبعض ذلك - فإن كثيراً من المؤلفين والمخرجين لا يستقون الأحداث والمواقف التاريخية من مصادرها الصحيحة ، وكثير من كتب التاريخ في حاجة إلى التحقيق ، وكذا هناك روايات تاريخية كثيرة تلزمها المراجعة .. وهذه قضية قديمة .. فمنذ مئات السنين كتب العلامة ابن كثير الدمشقي كتاباً بعنوان : ( صححوا أغاليط التاريخ ) صحح فيه بعض المغالطات التاريخية وقتئذ ، وحديثاً كتب شي المؤرخ حسين مؤنس كتاباً بعنوان : ( تنقية أصول التاريخ الإسلامي ) صحح فيه أيضاً كثيراً من الأخطاء التاريخية..

فحري بنا أن ندرك خطورة هذا الأمر ، وأن تلعب وسائل الإعلام الإسلامية الهادفة دورها في مواجهة محاولات تشويه التاريخ الإسلامي وتزييفه – سواء أكان ذلك عمداً أو عن جهل – ولن نعدم أبداً وجود علماء ومؤرخين منصفين قادرين على تولي قيادة دفة تلك المواجهة .

التعليقات