أسباب وخفايا تغيير مدير المخابرات الأردنية

أسباب وخفايا تغيير مدير المخابرات الأردنية
أسباب وخفايا تغيير مدير المخابرات الأردنية

عمان ـدنيا الوطن- شاكر الجوهري

يكتسب التغيير الأخير، الذي اجراه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني على رئاسة جهاز المخابرات العامة أهمية كبيرة، تتناسب مع الأهمية القصوى التي يحظى بها هذا الجهاز داخل الأردن، وعلى مستوى العالم، خاصة بعد الإشارة والإشادة الصريحين اللتين صدرتا عن بيل كلينتون، رئيس الولايات المتحدة السابق، الذي قال بصراحة كاملة إن مساعدة هذا الجهاز ساهمت في احتفال آمن للأميركيين ببدء الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح.

ولا يقلل من أهمية الحدث كونه روتينيا، وسبق العمل به من قبل في عهد الملك عبد الله، الذي انتهج اسلوبا مغايراً لما كان عليه الحال في عهد والده الملك الراحل حسين، إذ أنه لم يتفاعل مع نظرية "دوام الملك في تعاقب الحكومات"، وهي النظرية التي أدت إلى تعاقب الحكومات خلال فترة تقل عن السنة الواحدة، بل إن بعض الحكومات لم يعمر أكثر من بضعة أشهر، واعتمد بدلاً من ذلك نظرية تدعو لإطالة أعمار الحكومات ما أمكن، ما دام يتوقع أن يؤدي استقرار الحكومات إلى مراكمة وتكثير الإنجازات. وقد تجلى ذلك في عهد حكومة المهندس علي أبو الراغب، كما تجلى في صبر الملك، واصراره على اطالة عمري حكومتي عبد الرؤوف الروابدة وفيصل الفايز أكثر من سنة بعدة أشهر، بالرغم من اكتشافه تباين رؤيته الإقتصادية خصوصا (مشروع المنطقة الإقتصادية الخاصة في العقبة) مع رؤية الروابدة، واكتشافه المبكر عدم قدرة حكومة الفايز على الإنجاز.

الملك، حين قرر اطالة عمر الحكومات بهدف زيادة الإنجاز، استعاض عن نظرية "دوام الملك في تعاقب الحكومات"، بنظرية بديلة ترى أن "دوام الإستقرار في تداول رئاسة دائرة المخابرات العامة"..!

في اطار هذه النظرية الجديدة، التي تبدو أكثر انسجاما مع المنطق، جاء قرار الملك قبل اربع سنوات ونيف تعيين اللواء سعد خير مديرا لهذه الدائرة، خلفا للفريق سميح البطيخي، الذي تؤكد روايات متطابقة أنه لعب دوراً رئيساً في تسويق فكرة استبدال ولي العهد السابق الأمير حسن، وتسهيل انتقال ولاية العهد بسلاسة للأمير عبد الله، الملك الآن.

اطاحة البطيخي

لم يكن من المنطق في شيء استمرار البطيخي في موقعه لفترة أطول، وهو أول مدير لدائرة المخابرات جرى تعيينه كذلك مستشاراً للملك، ومقرراً لمجلس أمن الدولي، واعطي لقب معالي، خاصة وأن الإشاعات كانت ملأت الأردن طولاً وعرضاً عن قرب تشكيل البطيخي لحكومة تخلف حكومة الروابدة، الذي اقام تحالفاًً قوياً معه.

يومها، يعتقد المراقبون، أن أكثر عاملين سرعا في اطاحة البطيخي هما:

اولا: حديث الشارع الأردني عن قوة البطيخي، بل إن هناك من اعتقد أنه رجل الظل القوي في البلاد، فكان لا بد من أن يعرف الجميع أن للنظام رأسا واحدة.

ثانيا: بدء تسلل هذا الإعتقاد إلى داخل مؤسسات الدولة، وخاصة داخل دائرة المخابرات العامة.

اواخر عهد حكومة الروابدة، سأل صحفي ضابطاً كبيراًَ في دائرة المخابرات العامة: متى سترحّل حكومة الروابدة..؟ وجاءت اجابة الضابط صاعقة حين قال بعد "صفنة" قصيرة احدثتها المفاجأة التي شكلها السؤال: هذا الأمر لا يعرف به أحد غير جلالة سيدنا (الملك) ومعالي الباشا (البطيخي)..!

يقول الصحفي أنه خلص من اجابة الضابط الكبير إلى أنه بغض النظر عن طول أو قصر الفترة التي كانت متبقية من عمر حكومة الروابدة، فإن الأكيد هو أن العد التنازلي للبطيخي قد بدأ، ما دام رجاله اصبحوا يعتقدون أنه بات شريكا في صناعة القرارات السياسية على هذا المستوى من الأهمية، ذلك أنه لا مجال في الأردن لازدواجية في قمة الهرم.

الآن، يصعب القول أن اسبابا مماثلة ساهمت في توقيت ابعاد الفريق سعد خير عن رئاسة دائرة المخابرات العامة. ومع أن التداول والتداور الدوري على رأس هذه المؤسسة الأمنية الهامة أصبح هو القاعدة، إلا أنه لا بد من وجود اسباب وعوامل ساهمت في تحديد توقيت القرار.

قراءة في قرار الملك

ابتداء، وبعيداًً عن اللياقات المعتادة في مثل هذه المناسبات، ومن ضمنها توجيه عبارات الشكر والتقدير للمدير السابق، مضافاً إليها هذه المرة الإبقاء على الفريق خير مستشاراً للملك لشؤون الأمن، وتعيينه مديرا للأمن الوطني، وتكليفه بالعمل "على انشاء وكالة للأمن الوطني"، يتوجب التوقف مليا أمام ما يلي:

أولا: الصيغة الوداعية لرسالة الملك للفريق خير، الذي قرر ترقيته إلى رتبة مشير، وعدم وجود اشارة واضحة في رسالة المشير خير الجوابية لأي تفصيل يتعلق بمهامه الجديدة، مكتفيا بالقول إنه يستمد من ثقة الملك "العزم والتصميم للنهوض بمسؤولياته الجديدة"، دون أن يحددها باعتباره مديراً للأمن الوطني.

ثانيا: تقديم قرار الملك الخاص بمغادرة خير "موقعك في قيادة هذا الجهاز" على حلوله "في منصب آخر هو بالأهمية بمكان"، ثم تكرار الشكر الوداعي لعطائه المتميز في دائرة المخابرات العامة، دون تحديد توصيفي لمهام الوظيفة الجديدة التي اشارت إليها الرسالة، مكتفية بالإشارة إلى "تعيينك مستشاراً لي لشؤون الأمن، ومديراً للأمن الوطني، بحيث تعمل على انشاء وكالة للأمن الوطني".

وهنا، يتوقف المراقبون أمام:

1ـ أن قرار تعيين خير مستشاراً لشؤون الأمن، يعني في واقع الحال الغاء لصفته السابقة كمستشار للملك، وهي الوظيفة التي كانت تتجاوز الأمن إلى السياسة.

2ـ أن القرار الجديد لم يشر إلى موقع آخر كان يشغله خير، وهو مقرر مجلس أمن الدولة.

وإذا كان هذا الموقع لم يسند لمدير المخابرات الجديد اللواء سميح عصفورة، فإن قرار تعيين المشير خير مديراً للأمن الوطني يتضمن الغاء لوظيفته كمقرر لمجلس أمن الدولة.

3ـ أن وصف الموقع الجديد لخير بأنه "من الأهمية بمكان"، هو محاولة للتعويض السيكولوجي، تماما كما أعلن في حينه أن اعفاء الأمير حمزة من منصب ولي العهد هو من قبيل التوطئة لتكليفه القيام بمهام أكثر أهمية كان يحول موقعه كولي للعهد دون اسنادها إليه.

4ـ أن تعيين خير مديراً للأمن الوطني، وتكليفه بإنشاء وكالة للأمن الوطني قد لا يتعدى ايجاد صيغة تنسيقية بين الأجهزة الأمنية القائمة، ذلك أنه من أجل ايجاد ما هو أكثر من هذا، خاصة إنشاء جهاز جديد للأمن الوطني، يحتاج إلى تشريع قانون منشىء للجهاز الجديد، وهو ما لم تصدر توجيهات من الملك للحكومة للعمل على اصداره عبر مجلس النواب الذي هو في حالة عدم انعقاد حاليا، بل هو في حالة مواجهة ساخنة مع الحكومة الجديدة.

ثالثا: تزايد التماهي بين مواقف الملك، وتوجيهات المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة الأميركية، نحو ضرورة "دمقرطة" أنظمة الحكم في الدول العربية. وفيما يتعلق بالأردن قال الملك في مناسبتين مؤخراً أنه يرنو إلى تشكيل حكومات منتخبة في الأردن. وهو ما دعت إليه صراحة كونداليزا رايس وزيرة خارجية اميركا.

امتنان لخير

وبالطبع، فإن المزيد من الحريات الديمقراطية لا يمكن إلا أن يكون على حساب الدور الأمني في السياسة.

ومع ذلك، واضح جداً أن العاهل الأردني يشعر بشديد التقدير والإمتنان للمشير خير لثلاثة اسباب رئيسة:

اولا: نجاحه في تحقيق انتقال سلس في ادارة المخابرات العامة لدى ابعاد الفريق البطيخي عنها.

ثانيا: نجاحه الباهر في ابقاء الأردن واحة أمن وأمان، وضبط واعتقال وتفكيك عدد غير قليل من شبكات التطرف الإرهابي قبل أن تنفذ ما خططت له، وأهمها الشبكة التي خططت لمهاجمة مبنى دائرة المخابرات العامة في عمان بقيادة عزمي الجيوسي، التابعة لأبي مصعب الزرقاوي.

ثالثا: ارتقائه في التنسيق الأمني مع العديد من الدول الأخرى إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة الولايات المتحدة الأميركية.

سببان لقرار التغيير

واضح جداً أن الملك اتخذ قراره في ضوء عاملين سياسيين محليين، احدهما متصل بضرورة التجاوب مع الطموحات الأميركية بشأن سقف أعلى للديمقراطية في الشرق الأوسط.

العامل الأول، قد يكون أقل تأثيراً، ويتمثل في المهمة السياسية الأخيرة التي قام بها الفريق خير لموسكو، ولم تؤد إلى شمول الأردن بالجولة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع أنها شملت مصر واسرائيل والسلطة الفلسطينية.

اوساط مقربة من خير حاولت أن تبرر ذلك عبر القول إن نجاح المهمة السياسية لخير في موسكو لم يبق من حاجة لزيارة بوتين للأردن. غير أن السياسيين يرون عكس ذلك.. إذ أن مثل هذه الزيارات يفترض أن تكون عادة من قبيل التحضير للقاءات على مستوى القمة، خاصة وأن الملك عبد الله زار موسكو مرتين خلال الفترة القصيرة الماضية.

غير أن العامل الأهم الذي ساهم بشكل فعال في توقيت قرار الملك ابعاد الفريق خير عن دائرة المخابرات العامة هو الأزمة السياسية الراهنة في الأردن، التي أعقبت تشكيل حكومة الدكتور عدنان بدران، وهي الحكومة التي لم يعد يعرف الملك ما إذا كانت ستجتاز ثقة مجلس النواب، أم أنها ستضطر للإستقالة، أم أن التطورات قد تضطر الملك لحل مجلس النواب..!

لا جدال في أن الملك لم يتخذ قراره اسناد رئاسة الحكومة للدكتور بدران إلا بعد أن تلقى تقرير تقدير موقف من مدير مخابراته يشجع على مثل هذا التكليف، إن لم يكن ساهم في الدفع باتجاه هذا الإختيار.

ولقد واجه النواب رئيس الوزراء الجديد بأنه لم يشكل حكومته، وإنما اعطيت له قائمة بأسماء وزراء هذه الحكومة قدمها للملك. ودور مدير المخابرات في مثل هذه الحالات عرف بشكل جلي في عهد حكومة عبد الرؤوف الروابدة، حيث أن الفريق البطيخي أبلغ الروابدة أن الملك اختاره رئيسا للوزراء، ثم كان البطيخي هو من طلب من الروابدة، في مكتب مدير المخابرات، ترك استقالة حكومته لدى مدير مكتبه قبل أن يغادر الدائرة..!

تلك بالطبع حالة لا يقاس عليها، وقد دفع البطيخي ثمنها منذ زمن. ومع هذا، يبدو أن الملك بات مقتنعا الآن بأن مدير مخابراته الأخير يتحمل قسما كبيرا من المسؤولية عن الأزمة السياسية الراهنة في الأردن.

فالفريق خير لم يحسن تقييم كفاءة والإمكانات الحقيقية للدكتور بدران، ولم ينجح في تقدير العواقب السياسية لهذا الإختيار على الصعيد المحلي، خاصة ردة فعل النواب، وهي يفترض أن تكون متوقعة في ضوء قراءة المعادلة النيابية القائمة، وعلاقة اطرافها مع الدكتور بدران، خاصة علاقة النواب الإسلاميين مع شقيقه مضر بدران، الذين شاركوا في حكومته سنة 1989. ولم يتوقع مدير المخابرات، بعد أن نجح في احتواء الحركة الإسلامية إلى حد كبير، أن يصبح نوابها بيضة القبان، وهم الذين يقررون حصول حكومة بدران على ثقة نيابية هزيلة، أو اضطرارها للإستقالة دون ثقة..! ثم أنه لم ينجح في احتواء المعارضة النيابية الواسعة لهذه الحكومة، وذلك على نحو سبب احراجا كبيرا للملك على المستوى السياسي الدولي.

فصل الأمني عن السياسي

في ضوء كل ذلك، يرى المراقبون أن الملك عبد الله المعروف بقدراته الفائقة على استقراء المستقبل، قرر، بعد أن توقع انعكاس حسابات مدير مخابراته التي لم تكن صائبة محليا هذه المرة، على حساباته هو خارجيا، وهي الحسابات التي يبدو ـ للمفارقة ـ أن خير غلبّها ابتداء على الحسابات المحلية حين تحمس لشخص بدران باعتباره شخصية مقبولة اميركيا، كما لدى الغرب، لطول اقامته في اميركا وفرنسا، قرر القيام بخطوة استباقية هدفها تأكيد التزامه أمام المجتمع الدولي بالإصلاح السياسي، عبر خطوة اصلاحية كبرى يتمثل جوهرها في فصل الأمني عن السياسي، ولعل العنوان الأكبر لهذه الخطوة هو ابقاء سعد خير مستشارا امنيا، بعد أن كان مستشارا سياسيا إلى جانب مهماته الأمنية.

ومن يدقق في الصورة التي نشرت للملك عبد الله مستقبلا الفريق خير، الذي يبدو في الصورة ممسكا بقلم وورقة صغيرة دون عليها ما سمعه من الملك عن عناوين عن مهماته الجديدة، يجد في عينيه ما يتجاوز الشعور بالمفاجأة جراء الملك، إلى الإستغراق في الذهول، لأنه فوجىء بقرار لم يكن يتوقعه أبداً، خاصة في هذا التوقيت.

وما دام هذا هو التصور، فقد كان بدهيا أن يختار الملك مدير مخابرات جديد لم يعهد عنه من قبل أي خلط للأمني بالسياسي وهو رجل متفتح، وذو آفاق واسعة ووعي سياسي مشهود لكل من عرفه ، يجعل من اسمه عنوانا مقنعا بأن اصلاحا سياسيا يفصل بين الأمني والسياسي في الأردن قد بدأ على يدي اللواء سميح عصفورة، بذات القدر الذي كانت المناقبية الشخصية للفريق خير تسهل تقبل عملية المزاوجة بين الأمني والسياسي، ما دام ذلك يحدث على يدي رجل مشهود له بنزاهة غير مسبوقة. وفي اطار هذه الخطوة الإصلاحية يمكن تفهم اسباب عدم تعيين اللواء عصفورة مستشاراً للملك ومقررا لمجلس أمن الدولة ومنحه لقب معالي، كسابقيه البطيخي وخير.

التعليقات