من اين لك هذا ؟ ..كفى تسولا

من اين لك هذا ؟ ..كفى تسولا
من اين لك هذا ؟

حافظ البرغوثي – رئيس تحرير «الحياة الجديدة» ـ فلسطين

أحال الرئيس الفلسطيني محمود عباس ملفات أربعة مسؤولين الى النائب العام بتهمة الكسب غير المشروع والاعتداء على المال العام. ورغم ان مكتب الرئيس لم يكشف عن الأسماء إلا انه جرى تسريبها وهي لأربعة مسؤولين ثلاثة منهم في وزارة المالية والرابع في مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات وهم: ابو أسامة محمد جرادة وأبو أسامة سعيد الوكيلان المساعدان في المالية في غزة وسامي الرملاوي الوكيل المساعد في رام الله وفايز من مكتب الرئيس.

وكانت المخابرات الفلسطينية بدأت التحقيقات وجمع الأدلة عن المتهمين في قضايا الفساد إثر تقديم توفيق الطيراوي استقالته احتجاجا على تقاعس قادة الأجهزة الأمنية في العمل على ضبط الوضع الداخلي.. ورفض ابو مازن الاستقالة وكلفه بالمضي قدماً في العمل، فأخرج الطيراوي ملفات المتورطين في الفساد ورفعها اليه فأحالها الى النيابة العامة. وكان الطيراوي أكبر مسؤول فلسطيني تطارده إسرائيل بتهمة مشاركته في التخطيط لعمليات عسكرية في الانتفاضة وظل محاصراً مع ياسر عرفات في مقره الى ان تمت تسوية قضيته مع الاسرائيليين وعاد لممارسة عمله.

أما المسؤول الثاني فهو اللواء غازي الجبالي القائد السابق للشرطة الذي تطالب اسرائيل بتسليمه أيضاً حتى الآن بتهمة التخطيط لعمليات عسكرية .. لكن مشكلته أكثر تعقيدا حيث نحي من مصبه أثناء حياة عرفات وطولب باعادة بضعة ملايين من الدولارات كسبها بطرق غير مشروعة كترخيص السيارات المسروقة في غزة وغيرها..

وصادر الاسرائيليون مجوهرات وتحفاً من منزله في رام الله بثلاثة أرباع المليون دولار عند اجتياح رام الله حسب قول الاسرائيليين. ولعل ملاحقة المتورطين في قضايا الفساد سترتد في النهاية الى الرئيس الراحل الذي كان يغض الطرف عن كبار المتنفذين ولا يحاول ردعهم وإذا استمر العمل في هذا الملف فان المسألة قد تتحول الى محاكمة للعصر الأبوي لياسر عرفات.

فهو من كان يحمي هؤلاء ضامناً ولاءهم له في خضم التشابكات والتعقيدات في السلطة الفلسطينية ومراكز القوى التي نشأت في المؤسسات الحكومية وأجهزة الأمن حيث كانت هناك مراكز نفوذ ممن اطلقت عليها في حينه تحالف محدثي النعمة مع محدثي السلطة وهؤلاء احتكروا كثيرا من الموارد للسلطة كالرمل والحصمة والوقود والسجائر والاسمنت والعطاءات والمناقصات والسيطرة على المعابر.

فذات يوم قبل الانتفاضة وأثناء عبوري حاجز ايرز الى غزة فوجئت بمن يطلب رسوم عبور دولار مقابل ايصال رسمي لوزارة المالية، وكنت بالصدفة ذاهباً للقاء وزير المالية آنذاك محمد زهدي النشاشيبي، فسألته عن تحصيل الرسوم هذه فرد بالنفي، فأبرزت له وصل الدفع، فقال ان أحد قادة الأمن يجمعها لجهازه دون وجه حق وباسم وزارة المالية، وعندما سألته عن قضية كانت مثارة آنذاك وهي تهريب ذهب من الامارات عبر المعابر من قبل تاجر والاعلان عن دفع التاجر المهرب عدة ملايين للخزينة كمصالحة لقاء اطلاق سراحه نفى ذلك وقال انه لم يسلم للخزينة أي فلس وانما تسلمها قائد الشرطة ووضعها في جيبه.

إذن، كانت موارد السلطة نهباً لكبار المتنفذين دون حسيب او رقيب، ولهذا قال وزير المالية سلام فياض قبل أيام ان إيرادات السلطة قفزت بنسبة 27 في المئة خلال العام الماضي بالمقارنة مع العام الذي سبقه.. فقد تراجع نفوذ الكبار وتراجعت ميزانية مكتب الرئيس بنسبة الثلثين حيث لم يعد ابو مازن يوقع مساعدات وهبات لأحد بل عندما يصله طلب مساعدة يذيله بعبارة «كفى تسولاً».

كانت ملفات وقضايا الفساد في السابق تحفظ او تضيع حتى ان وزير العدل السابق المحامي فريح ابو مدين أبلغني ذات يوم انه يحمل بعض الملفات إلى بيته لأنها عرضة للسرقة من مكتبه .. ولم يكن أحد يجرؤ على فتح هذه الملفات حتى المجلس التشريعي نفسه. وذات سنة حملت ملفاً موقعاً من وزارة المالية بمبالغ سحبها أحد المتنفذين من المالية ولما عرضته على الرئيس الراحل قرأ الأوراق ثم أزاحها من أمامه بعرض ذراعه في اشارة الى انه يعلم ولا يريد إثارة المسألة. السلطة الآن في حل من استرضاء أحد ..

وكان الوزير فياض قد بدأ حملة «لملمة» إيرادات السلطة كشرط للحصول على مساعدات أجنبية وقامت فرق تفتيش ومحاسبة اوروبية واميركية بمراقبة حسابات السلطة لضبطها وفي النهاية شهدوا بأن الوزير فياض نجح وكان خاض صراعاً مع قادة الأجهزة الأمنية لصرف رواتب 53 الف عنصر أمني عن طريق البنوك وليس عن طريق الصرف الفوري ما أدى الى تسرب بضعة ملايين شهريا لم يعرف أين كانت تنتهي ثم أخضع صندوق الاستثمار الفلسطيني وهيئة البترول وهيئة التبغ إلى وزارة المالية.

وفي النهاية أصدر الاوروبيون تقريراً عن وجود شفافية في أداء السلطة المالي ما أتاح تدبير مساعدات اضافية ولم يعد المتنفذون قادرين على الاختلاس كما في السابق بل تجري ملاحقتهم لاستعادة الأموال التي كسبوها بطرق غير مشروعة وتم استحداث هيئة للكسب غير المشروع مهمتها التفتيش في هذه الأمور ولعل الاحداث الأخيرة التي وقعت في رام الله وغزة وحدوث فلتان أمني جاءت في جزء منها بتحريض من مراكز قوى هدفها إثارة البلبلة وعدم الاستقرار أمام الرئيس ابو مازن حتى لا يستطيع المضي قدماً في برنامجه الاصلاحي الأمني، اذ أن ثمة في الأفق من سيقول لهم: من أين لك هذا؟

بينما كان الشعار في السابق: «لماذا لم يكن لك هذا؟».

التعليقات