عاجل

  • استهداف من الطيران الحربي الإسرائيلي شرق خان يونس

  • شهيد في قصف إسرائيلي بالقرب من محطة دلول في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة

هموم الأمن الفلسطيني بقلم: د.عبدالستار قاسم -جزء 1

هموم الأمن الفلسطيني بقلم: د.عبدالستار قاسم -جزء 1

مقدمة

نجح الكيان الصهيوني عبر السنوات في ملاحقة العديد من الفلسطينيين والإيقاع بهم، وفي متابعة الخلايا الفلسطينية وتفكيك العديد منها، وإجهاض الكثير من المحاولات الفلسطينية لتوجيه ضربات لأهداف إسرائيلية. لقد اخترق العدو الصفوف وجنّد العملاء وكان قادرا على جمع الكثير من المعلومات مما مكنه من تحقيق نجاح في حالات كثيرة جداُ. صحيح أنه لم يكن ناجحا في كل محاولاته، لكن دقته في تحديد الأهداف ورصد التحركات لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها. وقد أظهرت التجربة الفلسطينية خلال الانتفاضة الجارية حاليا مدى هشاشة الوضع الأمني الفلسطيني ومدى قدرة الكيان الصهيوني على ضرب الأهداف بدقة. استطاع العدو أن يجمع المعلومات الكثيرة حول النشاطات الفلسطينية ومكنته قدراته التقنية على القيام بمهام دقيقة مذهلة. اغتال العديد من النشطاء الفلسطينيين وضرب العديد من المواقع الحساسة.

اجتاح الإسرائيليون مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني ومعهم القوائم الطويلة من المطلوبين والنشطاء الفصائليين، وكذلك الكثير من العناوين والنقاط الهامة من الناحية العسكرية، ولم يجدوا العناء الكبير في الوصول إلى أهدافهم مثل الأماكن السكنية والمخابئ. كان الإسرائيليون على معرفة ولو غير مطلقة بأسماء المحاصرين داخل مقر رئيس السلطة، وتوفرت لديهم معلومات على قدر كبير من الأهمية حول مدينة نابلس القديمة وهكذا. أما في غزة فواضح أن إسرائيل تتمتع بنفوذ استخباراتي واسع وأن عملاءها أوفياء للنعم البخسة التي يحصلون عليها. هذا لا يعني أنهم وصلوا

إلى كل ما يريدون وأنهم قد اخترقوا كل الاحتياطات الأمنية الفلسطينية ومخيم جنين شاهد على هذا، لكنه من الواضح أن المشكلة الأمنية الفلسطينية القائمة منذ أكثر من ثلاثين سنة ما زالت عميقة الجذور.

بصراحة، الساحة الفلسطينية مليئة بالمخبرين والجواسيس والعملاء، وهو الأمر الذي يتحدث به الناس على مختلف مشاربهم ومستويات عملهم. يظهر بين الحين والآخر فلسطيني يدافع عن هذه الظاهرة الخطيرة قائلا بأن كل الأمم تعاني من هذه الآفة وأن الشعب الفلسطيني معرض للاستقطاب أكثر من غيره من الشعوب بسبب وجود الاحتلال. هذا جدل صحيح، لكن حجم الظاهرة كبير إلى درجة أنه يفوق بكثير المساحة التبريرية التي يمكن أن تحلو للبعض. إنه لا يجوز لشعب يعاني من الغزو والتشريد والاحتلال على مدى أكثر من ثمانين عاما أن يبقى تحت وطأة مثل هذا الكم من الاختراقات وتحت هذا التبرير الذي يشجع العملاء.

على الرغم من الإلحاح المستمر بضرورة تطوير برامج أمنية تعالج القضية بشقيها القائم والسببي إلا أن الاستجابة غير موجودة أو ضعيفة جدا. الشعب الفلسطيني بحاجة إلى برامج تلاحق الجواسيس والعملاء الموجودين، وإلى البحث عن أسباب الظاهرة لمعالجتها من جذورها. إنها مسألة أشبه ما تكون بمرض لا يمكن علاجه إلا بالقضاء على أسبابه. حسب معرفتي، لم تعمل منظمة التحرير الفلسطينية منذ أن مركزت نشاطها في الأردن على مكافحة الاختراقات الأمنية، وقصّرت الفصائل كثيرا في الانتباه والمعالجة.

ربما يسأل أحد عن دور السلطة الفلسطينية في تطوير البرامج الأمنية الفلسطينية. سؤال من هذا القبيل يبين عدم معرفة السائل بأن السلطة الفلسطينية لم يكن لها أن تقوم لولا التزامها بمتطلبات الأمن الإسرائيلي، بمعنى أنها قامت على استباحة الأمن الفلسطيني مقابل كيان فلسطيني هزيل أحدث أضرارا أكثر مما جلب منافع. والدليل على ذلك هو أن عددا من الفلسطينيين المناضلين قد تم تسليمهم عنوة من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية للإسرائيليين، وأن الأجهزة الأمنية لم تتوقف عن التنسيق الأمني وتزويد الجانب الإسرائيلي بالمعلومات الهامة عن النشاطات الفلسطينية السرية. وقد أعلنت أجهزة الأمن مرارا عن نجاحها في إحباط العديد من محاولات القيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل وعن ضبط معامل لتصنيع المتفجرات.

قامت السلطة الفلسطينية بملاحقة بعض الجواسيس وأعدمت اثنين منهم مع بداية الانتفاضة الحالية، وأعدمت ثالثا في غزة بتهمة ثار حولها الشك، لكن ذلك كان أشبه ما يكون بذر الرماد في العيون. حجم ما قامت به السلطة قليل جدا بالنسبة لما هو مطلوب، و(لو) كان في الأمر جدية لانتهى كثيرون من المسؤولين وغير المسؤولين في مواقع وعلى أعواد لا يرغبون برؤيتها. وبالتأكيد سيجادل أحد ضد هذا القول على اعتبار أن السلطة تعرضت للهجوم الإسرائيلي المستمر خلال الانتفاضة والاجتياح الأخير بقصد تدميرها. هذا جدل لا يصمد إذا قلنا إن من يريد القضاء على نظام لا يقصف أبنية وإنما يقصف من يقومون على النظام. النظام ليس بأبنيته وإنما بالقائمين عليه. وهنا ليس المقصود أفرادا مخلصين للوطن في هذا الجهاز أو ذاك، وإنما أجهزة بسياساتها والصف الأول من القائمين على شؤونها.

تم الحديث كثيرا حول المسائل الأمنية الفلسطينية لكن بجدوى قليلة جدا. يبدو أن تحسنا قد طرأ على الأداء الأمني لبعض الفصائل، لكن الاجتياح الأخير وموجة الاغتيالات أثبت وجود ثغرات واسعة جدا. من المطلوب أن يتعلم الراغبون في القيام بأعمال تقود إلى التحرير أسس الأمن والاحتياطات الملازمة لها. وربما من الضروري صناعة رأي عام ليس على المستوى الفلسطيني فقط وإنما على المستوى العربي أيضا لترسيخ قيم أمنية جادة.

اغتال العدو الصهيوني عددا لا بأس به من القيادات الفلسطينية والمناضلين الفلسطينيين، واستطاع الوصول إلى بيوت ومقرات البعض تاركا لهم الرسائل والتهديدات. وعبر سنوات النضال الفلسطيني داخل الأرض المحتلة كان بإمكانه أن يكشف عن الخلايا ويضربها أو يعتقل أفرادها قبل أن تقوم بالعمل، وعبر ذات السنين كان قادراُ على اعتراض العديد من المجموعات المسلحة التي كانت تحاول التسلل عبر الحدود خاصة من جهتي لبنان والبحر المتوسط والقضاء على أفرادها أو اعتقالهم. ولا يبدو أن العدو كان خائباً في جمع المعلومات عن مراكز اتخاذ القرار أو التدريب أو التخطيط أو التخزين أو التحرك.

بالرغم من الإخفاقات التي مني بها العمل الفلسطيني والنجاحات الاستخبارية والعسكرية التي حققتها إسرائيل لا يظهر أن الناشطين الفلسطينيين قد تعلموا الدروس بشكل جيد على الرغم من أن بعضهم يحاول تصحيح الأوضاع الأمنية بحيث تستعصي المعلومات على العدو. واضح أن الأخطاء تبقى إلى حد كبير كما هي عليه، بل وتتراكم عبر الزمن، ولا يبدو أن الحرص الأمني ضمن الأولويات. يشعر المرء أحيانا أن الأوضاع الفلسطينية المختلفة عبارة عن كف مفتوح أمام الصهاينة، ويشعر أن الفصائل والأحزاب والمسؤولين الفلسطينيين لا يكترثون لهذا الأمر من الناحية العملية، حتى أن هناك من تتسلل الى نفسه الشكوك بأن هناك من بين الفلسطينيين من هو معنى بالتسيب الأمني.

عوامل التسيب

لم يأت التسيب الأمني على الساحة الفلسطينية من فراغ ولم يكن وليد لحظة تاريخية معينة بقدر ما كان مواكبا لسنوات الصراع ضد الغزو الصهيوني والانتداب البريطاني. هناك أسباب وعوامل أدت الى هذا الوضع منها ما يعود الى التركيبة الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني ومنها ما له علاقة بطرق التنظيم الفصائلي والحزبي واستقطاب العناصر والعلاقة ما بين مختلف الفئات. هناك بالطبع جهود استخبارية اعتيادية من قبل العدو ووسائل دعمها تقنيا، لكن هذه لا يمكن تصنيفها ضمن عوامل التسيب ويعتبر نجاحها معتندا ولو جزئيا على عوامل التسيب الذاتية. أي أن التسيب ذاتي وليس خارجيا، وأن النقاش هنا ينحصر في العوامل الذاتية التي تشكل عاملا أساسيا في دعم العوامل الخارجية.

بالنسبة للعوامل الاجتماعية يشار هنا إلى عدد من التقاليد والعادات والمظاهر المواكبة للسلوك الاجتماعي بصورة عامة. بنقاشها لا نعني أن كل فرد من المجتمع يخضع لها وإنما ما نعنيه هو أن المسائل تشكل ظواهر اجتماعية يمكن البناء عليها واستخلاص النتائج منها. ونرى هنا تلخيص الظواهر التي تعنينا بالتالي:-

أولا: التدخل في الشؤون الخاصة

يعاني المجتمع العربي بصورة عامة لا مطلقة ومن ضمنه المجتمع الفلسطيني من مشكلة التهاون في احترام الحياة الخاصة. ينتاب الناس رغبة في معرفة أشياء عن الحياة الخاصة للآخرين ويرغبون في التدخل بها بشكل أو بآخر. يرغب الجار في استكشاف ما يفعل جاره في نهاره وليله، وفي التعرف على علاقاته مع ذوية وجيرانه الآخرين وأصدقائه وزملائه في العمل. حتى أنه يحاول التسلل إلى العلاقة ما بين الزوج وزوجه وأنماط حياتهما وتنافرهما وتوافقهما بصورة مخالفة لكل معايير الأدب والقيم الدينية، يرغب المرء في بلادنا أن يعرف ماذا يخفي ذلك الرجل في الكيس الذي يحمله، وماذا همست المرأة في أذن الأخرى، ومن الذي زار ذلك الشاب الليلة الماضية، وفيما إذا كانت عروس الأمس قد حملت أم بعد، وفيما إذا كان الشاب الذي لوح بيده لتلك الفتاة قد تقدم لخطبتها أم لا، وإلى آخر ذلك من الأمثلة التي نعرفها جميعا.

لا يتوقف الأمر عند هذا، و إنما يتم استكماله في جعل الأمور الخاصة للآخرين مادة للتسلية في الجلسات والسمر. يعاني المجتمع العربي من مشكلة جعل الآخرين مادة لتمضية الوقت، ومن المفضل عادة ألا يتم التركيز على الصفات الحميدة. ربما لا يقصد الناس الإساءة دائما، إلا أنهم يملكون الكثير من أوقات الفراغ التي يصعب ملؤها من دون القيل والقال، وهكذا تتحول أحوال الناس الخاصة الى قصص علنية حتى لو بقيت تروى بالهمس.

ينعكس هذا سلبا على العمل الوطني خاصة في ظل شراك و مصائد أمنية كثيرة. فمثلا قد تقول امرأة لجارتها إنها رأت في الليل ملثما يحمل السلاح وأن مشيته تشبه مشية ابن فلانة. تهمس الجارة لأخرى والأخرى لأخريات، وهكذا حتى يصبح السر على لسان كل شخص. ومن المحتمل أيضا أن يقول رجل إنه رأى فلانا يجري مسرعا بعدما دوى انفجار أصاب جنودا صهاينة، وبالهمس تمتد الأقاويل حتى يصل الخبر إلى آذان الأعداء. وعلى هذا قس. بهذه الطريقة يستطيع العدو أن يصل إلى عدد من الأسرار والنشاطات فيحبطها قبل أن تتسع وتشكل تهديداً له.

ثانيا: حب التفاخر والظهور

يقع المناضل أحيانا في مصيدته الذاتية وذلك من خلال عدم الاحتفاظ بسره. فقد يقوم الشخص بعمل فيصنع به حدثا تتناقله وسائل الإعلام ووكالات الأنباء. وقد يرى أن الناس قد أعجبوا ببطولة هذا الذي صنع الحدث فلا يتمالك نفسه ويحدث صاحبه بالأمر على أن يبقى سراً. وقد يحدث عشرين كل على حدة ويطلب أن يبقى الأمر سرا. وبالطبع يحدث كل واحد من العشرين عشرين آخرين طالبا منهم ألا يفشوا السر الذي أصبح على الألسن ومن ثم إلى أجهزة مخابرات العدو.

واضح أن العرب ما يزالون يعانون بصورة عامة من حب الظهور والتفاخر والذي هو جزء من عناصر القبلية التي ترى في الوجاهة قيمة عليا. يبدو أن عددا لا بأس به منا ما زال يتلقى تربية تلقينية تقوم على التميز والتفوق وضعف الاعتراف بقدرات الآخرين. وكأننا بذلك نعوض نقصا فشلت البرامج التربوية في ردمه وهو أن يرى الإنسان نفسه من خلال حركات استعراضية والتي يمكن أن تقود إلى نتائج سلبية. فإذا فشل المرء في بناء ثقة في النفس مرتكزة على قوى تنبع من داخله يلجأ إلى التمثيل ليثبت للآخرين أنهم من الصعب أن يطاولوه. على أية حال ، هذه مسألة تستحق الدراسة المستفيضة من قبل علماء في عدد من التخصصات.

المهم هنا أن بعض الشباب المسلحين لا يترددون على سبيل المثال في الظهور أمام الناس أو أمام آلات تصوير وسائل الإعلام. وعدد منهم يحاول بتعمد وإصرار أن تصل المعلومات حول تسلحه إلى الناس ، ويجدون سرورا بالغا في اللعب بسلاحهم خاصة في المناسبات . وبهذا العمل يقدم المسلح هدايا معرفية مجانية لأجهزة المخابرات المعادية . يتم التعرف عليه بالاسم ونوع السلاح ومكان السكن وبعدد الطلقات التي أطلقها وتلك التي بقيت معه.

لقد أثر التظاهر بالسلاح أو بالتدريب أو الفنون التنظيمية وما شابه ذلك على قدرات الشعب الفلسطيني وأوقع الكثيرين في مصائد الاغتيال الصهيوني أو الاعتقال . لقد دفع الشعب ثمناً باهظاً نتيجة هذه المعضلة وما زال يدفع، وعلى الرغم من وضوح السلبيات الناجمة عن هكذا سلوك إلا أن البعض ما زال يصر عليه.

ثالثاً: المشابهة

ربما يكون هناك من يقدر معنى الكتمان وأهمية الأسرار لكن لا يستطيع أن يصمد أمام إغراءات الوصف بالبطولة والالتزام بالدفاع عن الشعب. فهو قد يرى مسلحين يجوبون الشوارع ويطلقون النار ويثيرون إعجاب الآخرين. فلماذا لا يكون بطلاً كهؤلاء؟ وكيف ستشبع السرية هذا الاندفاع المتولد لديه؟ وغدا عندما يقوم بعمل بطولي ضد العدو فإن الناس سيظنون أن الاستعراضيين هم الذين قاموا به، أما هو البطل الحقيقي فلن يذكره أحد.

أوقع هذا السلوك عدداً لا بأس به من أبناء الشعب في براثن المخابرات الصهيونية أثناء مرورها بما عرف بغرف " العصافير" أي الجواسيس في المعتقلات . كان يصمد الشاب أثناء التحقيق ويتحمل التعذيب بكافة أشكاله، لكن كان يدلي بالمعلومات في تلك الغرف. ببساطة كان الجواسيس يتحدثون عن بطولات وهمية قاموا بها ضد الاحتلال الصهيوني ويسهبون في وصفهم للنضالات الخرافية التي خاضوها . كانت هذه الأحاديث تشكل حوافز للشاب ليتحدث عن بطولاته أيضاً ويضيف إليها أحياناً أعمالا لم يقم بها. وهكذا كان يجد الشاب نفسه في صباح اليوم التالي أمام رجل المخابرات الذي كان قد تلقى الاعترافات من الجواسيس ليلاً.

رابعاً: التسليم للسلطان

تعبير التسليم للسلطان عبارة عن تخفيف لكلمة التجسس. الجواسيس في البلاد العربية عبارة عن ظاهرة معروفة والناس يحاولون باستمرار عدم الخوض بالأحاديث التي يمكن أن توصلهم إلى غرف التحقيق. أناس كثر يعملون في أجهزة المخابرات في البلاد العربية وهم عبارة عن أدوات لقمع الناس وقهرهم والاعتداء على حرياتهم. إنهم لا يتورعون عن كتابة التقارير ضد الناس ورصد تحركاتهم وأقوالهم. ويبدو أن هناك إقبالاً على القيام بهذا العمل، حتى أن العمل لصالح المخابرات الإسرائيلية سواء الداخلية أو الخارجية يبدو واضحاً. جندت إسرائيل أعداداً كبيرة من المسؤولين والناس العاديين في الدول العربية لخدمة تطلعاتها المعرفية ولتزويدها بكافة أنواع المعلومات. الدول العربية مخترقة أمنياً من قبل إسرائيل وكذلك الفلسطينيون بمختلف تنظيماتهم وتجمعاتهم. وهؤلاء يشكلون التهديد الخطير لأمن العرب عامة والفلسطينيين خاصة.

على الرغم من تقديم المخابرات الصهيونية الإغراءات المختلفة لتجنيد الجواسيس والعملاء إلا أن عوامل اجتماعية تعطي تفسيراً جزئياً لانتشار الظاهرة. وهنا نذكر منها:

i- التسلط البيتي: ما زال جزء لا بأس به من الأسر العربية يعاني من التسلط داخل البيت: الأب يتسلط على الجميع، الأم تتسلط على البعض، الابن الأكبر على الأصغر، الذكر على الأنثى. وقد واكب هذا التسلط شكاوى متواصلة من الأضعف إلى الأقوى وتقارير شفوية يقدمها الضعيف إلى القوي حول ما قام به الضعفاء الآخرون أثناء غيابه. فمثلاً تنتظر الأم الأب لتشكي همها من الأولاد وتحدثه بكل ما فعل كل منهم. في مثل هذا الجو يبدأ الطفل بالظن أن هذا هو السلوك الصحيح وأن عليه أن يحاكيه.

ii- الأحقاد القبلية: العائلية مقيتة أحياناً بحيث أنها تولد أحقاداً بين الناس وتقود البعض إلى الإيقاع بالآخرين حتى لو كان الغريب عدوا للجميع. وقد شهدت الساحة الفلسطينية حالات من التعامل مع العدو على هذه الخلفية وذلك في عهدي الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي. من خلال العدو تكسب عائلة قوة وتستطيع أن تحصل لأبنائها على وظائف حكومية وتسهيلات اقتصادية أخرى تجعلها ذات نفوذ . وهذا ما يدفع العائلة المنافسة إلى القيام بذات العمل حتى لا يضعف موقعها الاجتماعي أمام العائلة الأخرى.

iii- الظلم الناجم عن استغلال الحاجة: تعرضت قطاعات من الشعب الفلسطيني لظلم أوقعته عائلات إقطاعية أو متنفذة وتم استغلالها بطريقة بشعة وبدون أدنى احترام للانسان والقيم الأخلاقية الكريمة. استُغل عدد من الناس لأسباب عدة منها الفقر وعدم وجود العزوة وربما أحياناً لأنه من قرية نائية أو أنه لاجئ يبحث يائساً عن عمل . من شأن هذا الاستغلال أن يولد شعوراً بالظلم ورغبة في الانتقام. الارتماء بأحضان السلطة المحتلة كان خياراً بالنسبة للبعض واستطاعوا من خلال خدمتهم للعدو أن يشبعوا رغبتهم في الانتقام.

وقد لوحظ أن عدداً من العمال يقولون أحياناً إن العمل لدى " الخواجات"، يعني اليهود، أفضل من العمل في معامل ومزارع عربية. وهم يعللون ذلك في أن العربي يماطل في دفع الأجر ويسيء التعامل مع العمال. هناك آخرون يقولون العكس، لكنه من الواضح أن ممارسة الظلم عبارة عن عمل مقيت يدفع ببعض أبناء الأمة إلى أحضان العدو.

iv- الشعور بالنقص وضعف الاحترام الذاتي: التسليم للسلطان يتطلب ويتمشى مع الشعور بالنقص وضعف الاحترام الذاتي. يحاول السلطان أن يقول لمن يتسلط عليهم إنهم لا يقوون على عمل المفيد ولا يستطيعون تدبير أمورهم بغيابه. ولكي يعزز ذلك يعمل على الإمساك بخيوط القوة ومقوماتها ليجعل من الآخرين دونه عالة عليه وفاقدي القدرة وتبعيين. وهو دائماً يؤكد لمن حوله عجزهم وقلة حيلتهم وضياعهم في حالة غيابه.

نحن نلمس هذا إلى حد كبير في أساليبنا التربوية. ففي البيت يكرر الآباء على الأبناء عبارات مثل " أنت لا تعرف" و " أنت لا تقدر" فضلاً عن عبارات التعنيف والاستهتار. وهذا أسلوب يمتد إلى المدرسة، وفيها تتنامى تربية التلقين التي تهلك المبادرة الذاتية وتحيل الإنسان إلى ببغاء غير قادر على الإبداع وصناعة الحدث. ويلاحق شبح الببغاوية والتبعية للمدير و المسؤول الناس في وظائفهم ودوائر أعمالهم. وعبر أيام الملاحقة الطويلة والتي قد تمتد مدى الحياة يدرب الإنسان نفسه على إتقان التبعية وفقدان الذات والصغار أمام من هم أعلى منه في مراتب التسلط.

إنه تدريب على الذنبية ( أن يكون المرء ذيلاً لغيره) بغض النظر عن الثور الذي يلتصق به الفرد. فالثور لا يتم تعريفه حسب معايير العداوة والصداقة وإنما حسب العصا التي يحملها وما يتبعها من نِعَم يمكن أن تواكب الطاعة والامتثال. لا يشعر الفرد داخله بالقوة ولا يشعر بالاحترام الذاتي، وتكبت على أنفاسه ضغوطات الهوان ومشاعر العجز والإذلال. لهذا لم يكن من الغريب أن تنضوي أعداد هائلة من الناس في الوطن العربي في أجهزة مخابرات لا همّ لها سوى ملاحقة المواطن والاطمئنان إلى ببغاويته وذنبيته. كثيرون هم الذين لا يرون عارا في التجسس على إخوانهم وأخواتهم وأبناء وطنهم وأصدقائهم لقاء بعض المال أو الامتيازات. وقد خبر العديد منا أصدقاء لهم يطعنونهم بالظهر ويشون بهم إلى أجهزة المخابرات. حتى الطلاب و الطالبات في المدارس والجامعات وكذلك المدرسون والمدرسات ثم تجنيدهم حرصاً على إذلالهم وتأكيداً على احتقارهم لأنفسهم.

ولهذا لم يكن من المستغرب أن نجد في الوطن العربي وفي فلسطين من يقدم خدمات استخبارية هامة للعدو. لقد هزمنا العدو الصهيوني استخبارياً ومعلوماتيا، ومن الواضح أنه اعتمد في تحقيق بعض أهدافه على أولئك العجزة الذين ولدتهم التربية العربية.

النقاط الواردة أعلاه بحاجة إلى دراسة وتمحيص وأبحاث علمية، والوقوف تماماً عندها والأضرار المترتبة عليها يتطلب برنامجاً على المستوى القومي تغدق عليه الحكومات الأموال الكافية. تصحيح الوضع الناجم عن مسائل تربوية لا يتم بقرارات يمكن تطبيقها فوراً، وإنما لا بد من التشخيص الدقيق ووضع السياسات التربوية التي يمكن أن تصنع وسائل تربوية جديدة تحرر الإنسان العربي بما هو فيه من ضعف يعرضه لخدمة الآخرين على حساب الصالح العام. وهذه السياسات خاضعة لسياسات القادة والحكام، إذ من المحتمل أن يكون الحاكم أو المسؤول عميلاً لقوى خارجية ولا يتمنى حياة تحرره من نير الآخرين. وهناك من يؤكد أن الحكام والقادة هم العملاء الكبار الذين يرون وضعهم الشخصي وحكمهم رهينة بيد العدو الذي يستطيع خلعهم أو استبدالهم أو قتلهم، وأنهم بذلك معنيون بتجنيد العملاء والجواسيس لصالح العدو ضد الأمة والشعب.

العوامل التنظيمية:

يصعب القول إن التنظيمات والأحزاب والفصائل الفلسطينية قادرة على حفظ أسرارها لنفسها، ومن الصعب الظن بأنها غير مخترقة من قبل العدو الصهيوني أو قوى أخرى متعاونة مع الصهاينة. كرس العدو جهوداً كبيرة لاختراق الصفوف الفلسطينية، ويبدو أن المنظمين لم يكترثوا كثيراً بهذه الجهود. ويخيل للمتابع لتطورات الأحداث على الساحة الفلسطينية أن العدو يتسلح بمعلومات كبيرة عما يجري داخل التنظيمات من نشاطات وجدليات، الخ.

تتعدد أسباب هذا الضعف الأمني، نذكر منها الآتي:

أولاً: غياب الانتقائية : لم تتوخ قيادات الفصائل منذ البدء مبدأ انتقائية العضوية إلا شكلياً في بعض الأحيان. فتحت هذه التنظيمات أبوابها منذ العام 1967 أمام كل من أراد التجند في صفوفها. وقد شكلت معركة الكرامة لعام 1968 منعطفاً في تدفق المتطوعين لصفوف الفصائل وقبولهم دون تمحيص أو تدقيق بخلفياتهم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والفكرية. وبالطبع كان الباب مفتوحاً أمام مختلف أجهزة المخابرات لاختراق الصفوف وزرع العملاء ومن ضمنها المخابرات الصهيونية. وما زالت الفصائل غير معنية بالتدقيق وبخاصة التدقيق الأمني، ويستطيع المرء أن ينتمي لأي فصيل فلسطيني بسهولة ويسر.

تعمل الفصائل والتنظيمات التي تخوض صراعاً وتحرص على تماسكها الأمني على وضع البرامج والشروط التي تنظم العضوية. يخضع المرشح للعضوية لفترة دراسة تمنح الفصيل الفرصة للبحث عن خلفياته، وتخضعه لفحوصات أمنية متعددة لتتأكد من أنه ليس مندساً، ويخضع لفترة اختبار بعد قبول عضويته. العضوية عبارة عن شيء هام في حياة التنظيم وتجب في حال الشعب الفلسطيني أن تخضع لعدد من الإجراءات أكثر تعقيداً من حال أي شعب آخر بسبب المخاطر الأمنية الهائلة التي يفرضها العدو وأعوانه في المنطقة.

ثانياً: التركيز على الحجم العددي على النمط العربي القبلي القديم. ركزت بعض الفصائل على الكثرة وليس على النوعية، وكانت كثرة الفصيل مرتبطة بثرائه. كبر عدد أفراد الفصائل الثرية بينما بقي عدد أفراد الفصائل الفقيرة قليلاً. وسواء كبر الفصيل أو صغر، لم تكن نوعية الأفراد هي المطلوبة، وإنما كان العدد اهتماماً أولياً للقيادات. ربما بالعدد تكبر "العزوة "، وبه تتباهى الفصائل بنفسها، وبه تكسب الانتخابات حيثما حصلت. وكأن المسألة لم تكن تتعلق بتحرير فلسطين وإنما بهيمنة على الساحة الفلسطينية.

شكل الحجم العددي خطراً كبيراً على أمن الفصائل خاصة والشعب الفلسطيني عامة لأنه فتح المجال أمام مختلف الشخصيات والتوجهات والمآرب لتكون جزءاً من المعادلة الأمنية، وبذلك كانت المعادلة ذات عناصر عجيبة أفرزت تفاعلات خطيرة على مختلف مستويات النشاط الفلسطيني.

ثالثاً: الاستعراض : شكل الاستعراض عاملاً فاضحاً لكل ما يمكن أن يكون سراً لدى الفصائل والتنظيمات، وواضح أن الفصائل تلجأ كثيراً الى نشاطات استعراضية متعددة الأهداف والغايات. وقد أخذ اشكالاً مختلفة منها :

1- المهرجانات : صحيح أن المهرجانات ضرورية كأداة للتعبئة والتأثير في الجماهير، إلا أنها استخدمت بطريقة مكثفة وأكثر مما يجب على الساحة الفلسطينية. وغالباً ما يحضر هذه المهرجانات الأعضاء المنتمون للفصيل أو الحزب القائم عليه مع بعض المدعوين من الفصائل الأخرى وعامة الناس. اعتادت وسائل الإعلام الحضور ولم يكن من الصعب أن تصل الصور الى أيدي العدو. وقد دأبت الفصائل داخل الأرض المحتلة على تسجيل هذا النشاط على أشرطة الفيديو وذلك لغاية التوثيق ولطمأنة التيارات في الخارج أن عناصر الداخل نشطة وجماهيرها واسعة. في كثير من الحالات وقعت هذه الأشرطة بأيدي المخابرات الصهيونية.

2- الانتخابات الداخلية العلنية : من المفروض أن يتم اختيار القيادات واستبدالها في ظل الاحتلال والصعوبات الأمنية بحذر وسرية حتى لا تنكشف العناصر المناضلة. لكن في الأرض المحتلة كانت تتم هذه العملية وما زالت تحت سمع وبصر الاحتلال وبقوائم مكشوفة وبتصنيفات واضحة للأشخاص المتنافسين والمنتخبين . فمثلاً يمكن أن يعرف بأن فلاناً هو مرشح الجناح العسكري وأن الآخر مرشح الحلول السلمية وهكذا. ساعدت هذه العملية المخابرات المعادية في تصنيف الناس وتبويبهم وملاحقة نشاطاتهم ومراقبتها.

3- هلامية الخلايا السرية: شهدت الساحة الفلسطينية خلايا كان يطلق عليها صفة السرية تعد حوالي مئة شخص أو ستين أو ما شابه. كانت تنتشر الخلية الواحدة على طول الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان من السهل أن يتعرف أعضاؤها على بعضهم وعلى مواطن سكناهم. لا يشكل حجم هذه الخلايا بأي معيار كان حرصاً على السرية أو حتى على الرغبة في الحفاظ على السرية. كلما كبر العدد ازدادت مخاطر التسلل الأمني ومعه أيضاً ترتفع الشكوك بنوايا المنظم.

هذا سبب رئيس في تفسير سقوط الخلايا قبل أن تعمر في يد العدو، وسرعان ما كان يتم القبض على أعضائها وإيداعهم السجن. وأحياناً يترك العدو الخلايا تعمر قليلاً حتى يتعرف على المدى العسكري الذي تنوي الذهاب إليه، لكنه كان يعاجلها بالاعتقال قبل أن تنفذ العمل. وقد رأينا المشهد المؤلم بأم أعيننا في سجون الاحتلال حيث كان من الواضح أن الأشخاص المعتقلين قد أدلوا بمعلومات عن بعضهم البعض و أن الخلايا قد أسقطت نفسها وبعضها في أقبية التحقيق.

خدم هذا العمل الرغبة في تكثير أعداد المناضلين التابعين لفصيل معين لكنه لم يساهم في السير نحو تحقيق الحقوق الفلسطينية. بمعنى أن الغرض من قبل المنظم كان استعراضياً وليس نضالياً.

4- المتحدثون الرسميون والإعلاميون: حرصت بعض التنظيمات على أن يكون لها داخل الأرض المحتلة من يتحدث باسمها ومن يروج لها إعلامياً ومن يشكل حلقات وصل بينها وبين جماهيرها. بالطبع كان هؤلاء معروفين لدى الاحتلال وقد فتح لهم الجسور للتنقل الحر وللإدلاء بالتصريحات المختلفة والقيام بالنشاطات الإعلامية والسياسية. وبالطبع لا يتم هذا بدون ثمن يقبضه الاحتلال. لم يكن الكثير من هؤلاء جواسيس فحسب وإنما كانوا عملاء يعملون على تنفيذ سياسات تفكك الفصيل وتثير داخله النزاعات وتؤثر سلباً على روحه المعنوية وتسيره في النهاية باتجاه مصلحة العدو.

فضلاً عن ذلك، أصبح هؤلاء المتحدثون والإعلاميون مع الزمن مرجعية للمناضلين الذين ظنوا أن الكفاح هو السبيل نحو تحرير فلسطين. فإذا احتاج احدهم مالاً أو أراد إيصال رسالة سرية كان عليه أن يمر عبرهم، وبالتالي عبر الاحتلال.

5- النقابات واللجان والجمعيات: عملت الفصائل والأحزاب والتنظيمات على إقامة النقابات واللجان والجمعيات الخاصة بها، وكان من الواضح أمام الاحتلال التوجه النضالي والسياسي لكل منها وكان قادراً على تطوير السياسات التي تشل أي عمل جاد لها.

هناك ضرورة للتنظيمات النقابية والمهنية التي ترعى شؤون الفرد وتحافظ على حقوقه وتنمي شخصيته، ولكن عملنا في الأرض المحتلة كان أبعد ما يكون عن العمل النقابي والمهني. كانت مثل هذه التجمعات ذات طابع سياسي لخدمة أشخاص وفصائل أكثر مما كانت جمعيات تهتم بالعمل النقابي والمهني. غابت في أكثر الأحيان الأخلاق المهنية لصالح الأبعاد السياسية، ولم تكن الكفاءة أساسية في إدارة الشؤون وإنما الانتماء السياسي. وما دام الأمر كذلك والاحتلال يعلم هذا فإنه كان يبتز المعلومات وقتما يشاء إن لم تكن تتوفر له طوعاً.

6- تسييس المؤسسات العامة: من أجل إظهار القوة والهيمنة على الساحة الفلسطينية تم تسييس المؤسسات العامة مثل الجامعات والمستشفيات ومراكز الدعاية والإعلام المختلفة. استطاع من يملك المال أن يسيطر، واستجدى من لا يملك نصيباً. فتح هذا باباً أمام الاحتلال لتعزيز قدراته الأمنية بالإضافة إلى إبعاد المؤسسات عن القيام بأعمالها بمهنية وأخلاق علمية. وبما أن المناضلين لا يستطيعون إدارة هذه المؤسسات بمأمن من الاحتلال، أخذ إدارتها من لا يناضلون وسيروها حسب برامج لا تزعج الاحتلال ما أمكن. قامت منظمة التحرير الفلسطينية سابقا بتسليم المؤسسات العامة لأناس بناء على ولائهم السياسي وليس بناء على ولائهم الوطني، وهكذا فعلت السلطة الفلسطينية. الولاء السياسي يأتي بالمنافق والكاذب والدجال لأنه لا يبحث عن وطن وإنما عن فوائد شخصية تحت شعارات وطنية جوفاء تتضح هشاشتها مع أول صدام متوقع مع الاحتلال. قادة المؤسسات هم الأكثر حرمنة وفسادا في البلاد لأن أسس تعيينهم لم تقم على الحق. هؤلاء يسقطون أمام العدو سريعا لأن من يلهث وراء مصالحه يصعب عليه أن يقاوم أو يواجه أي سلطة وعلى رأسها سلطة العدو.

رابعاً: تبني أعمال مقاومة ضد الصهاينة

جرت العادة أن يقدم الفلسطينيون مفاتيح أمنية لإسرائيل للبحث عن الذين استطاعوا القيام بعمل أمني ضد اسرائيل سواء كان إطلاق نار أو تفجير أو قطع أسلاك كهرباء وذلك بتبني العمل. كان يسارع التنظيم الذي يقوم بعمل كهذا بالإعلان عن ذلك ويعلن أنه سيواصل كفاحه حتى تحرير فلسطين. وغالباً ما كان يحصل هذا التبني بهدف إثبات الوجود على الساحة الفلسطينية وللتأكيد للجماهير بأن الفصيل صادق ويواصل القيام بما وعد به الناس، وكذلك بهدف تسجيل نقاط أمام الفصائل المنافسة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشعب الفلسطيني لم تكن له أبدا قيادة أمنية تعمل على مواجهة العدو، وبقي كل فصيل مستقلا يقرر وحده متى يتحرك ومتى يتوقف، ومتى ينسق مع الآخرين ومتى يمتنع.

ربما في هذه المسألة بالذات لم يكن الاحتلال يأخذ الأمور بجد لأنه جرت العادة أن تتبنى عدة فصائل فلسطينية عملاً معيناً. فإذا حصل وأن أصيب جندي اسرائيلي تسارع عدة فصائل إلى الإعلان عن قيامها بإطلاق النار وإيقاع خسائر جسيمة في صفوف العدو بين قتيل وجريح. لم يكن دافع هذه التنظيمات إحداث بلبلة بقدر ما كان دافعها البقاء في الشارع الفلسطيني كفصيل فاعل ينفذ عمليات ضد العدو. دفع الأمر ذات مرة أحد التنظيمات الى تبني عمل عكسري حصل في القدس. وقد تبين فيما بعد أن يهودياً هو الذي قام بالعمل إذ ألقى قنبلة على مطعم عربي فقتل عربياً.

خامساً : التغاضي عن الاختراقات الأمنية

وقعت خلايا كثيرة في أسر الاحتلال قبل أن تقوم بعمل ضد جموعه وقواته، ووقعت دوريات كثيرة في الجنوب اللبناني وفي البحر الأبيض المتوسط في شراك الكمائن الصهيونية قبل أن تصل الهدف. وهكذا كان الأمر بالنسبة للعديد من المتسللين عبر نهر الأردن بهدف مهاجمة مواقع إسرائيلية. لكننا لم نلحظ الاستفادة من الإخفاقات والبحث عن أسباب الفشل والخسائر الكبيرة في النفوس. لم تتطور لدى منظمة التحرير ولدى الفصائل سياسة أمنية من أجل ملاحقة الجواسيس والعملاء وتعزيز الإجراءات الأمنية. استمرت الدوريات تتدفق عبر الزمن، واستمر الفتك الإسرائيلي بها، واستمرت قياداتها بالإعلان عن اشتباكات مسلحة وإيقاع الخسائر بالعدو وعودة مقاتليها إلى قواعدهم سالمين. ضاع العديد من أبناء فلسطين في استهتار أمني دام على مدى السنين تحت بصر وسمع الجميع ومعرفتهم.

لا يختلف الأمر الآن في ظل السلطة الفلسطينية، بل تفاقم. هناك تعاون أمني بين السلطة وإسرائيل والمعلومات الأمنية تتدفق من الجانب الفلسطيني إلى الجانب الإسرائيلي، والجانب الإسرائيلي لا يكتفي ويصر على أن الجانب الفلسطيني لا يقوم بواجبه خير قيام. (ربما خفت حدة هذا التعامل في ظل ظروف الانتفاضة لعام 2000)

الجواسيس والعملاء يرتعون داخل التنظيمات والمؤسسات، ولا توجد آليات جادة حتى الآن للتنظيف. ومن يدري فقد يكون المعوَّل عليه أول الخائنين وليس من صالحه أن يصلح أهل البيت. هناك خطابات رنانة في إدانة الجواسيس وملاحقتهم، وهناك تهديدات وتوعدات، لكن الجاسوس بات مطمئناً أن الاتفاقيات تحميه، وبات المناضل قلقاً لأن الاتفاقيات تلاحقه.

كشف شباب الانتفاضة لعام 1987 أعداداً من العملاء أكثر من تلك التي كشفت عنها قيادات التنظيمات. كان الشباب جادين في تنظيف الصفوف، لكن لم يلمس الشعب هذه الجدية من قبل القيادات. وقد رأى الناس بأم أعينهم كيف أن مشبوهين ومتهمين قد أصبحوا أصحاب مسؤوليات عامة. هذا علما أن شباب الانتفاضة وقعوا في أخطاء جسيمة في التثبت من خيانة المتهم.

الخطر التقني-الإليكتروني

شهد الصراع العربي الإسرائيلي منذ مراحله الأولى حروبا ومعارك شرسة استخدم فيها الجانبان أساليب ووسائل قتالية متنوعة، وسخّروا لها جلّ اهتماماتهم العلمية وقدراتهم التقنية لتلعب دورا حاسما. ليس هذا النمط من الصراعات بالجديد أو المحصور في الصراع العربي الإسرائيلي بل هو الصبغة العامة التي تمثل نمط الصراعات في العصر الحديث. فالحروب الحديثة هي حروب العلم والتقنية والتفوق في كفاءة السلاح والقدرات العسكرية التي حيّدت الجانب العددي للجيوش بشكل لافت، وهو ما مكّن إسرائيل على سبيل المثال من هزيمة الجيوش العربية عام 1967، وهو أهم الصفات التي ميّزت ما عرف بالحرب الباردة بين القطبين الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عبر الإفراط في التنافس على التطور التقني في المجال العسكري.

ربما يعود النجاح الإسرائيلي الكبير في ملاحقة العديد من قادة المقاومة الفلسطينية وعناصرها عن طريق عمليات رصد وتعقب تعتمد على تقنية الاتصالات هو ما دفعنا لتتبع هذه المسألة وتقديمها بصورة مبسطة للقارئ الفلسطيني العادي. قتل الإسرائيليون خلال انتفاضة الأقصى (283) عنصرا قياديا حتى نهاية تموز 2003، وذلك بعد تعقب ورصد وملاحقة طويلة ميزها غالبا استخدام وسائل التعقب التقنية للوصول إلى المصنفين بأنهم مطلوبون. لماذا نجحت إسرائيل في ذلك؟ الاستخدام المكثف للتقنية يجيب جزئيا عن هذا السؤال.

تتحفظ إسرائيل لدواع أمنية عادة عن كشف ملابسات تنفيذها لعمليات قتل نشطاء المقاومة الفلسطينية ولا تكشف من تلك التفاصيل إلا ما يخدم جانبا توجيهيا متعلقا بالحرب النفسية ضد الإنسان الفلسطيني. وقد ترك ذلك قصص استشهاد واغتيال وحتى اعتقال الكثير من قادة المقاومة وكيفية الوصول إليهم لغزا دفن معهم واحتفظ بالمعلومات عنه في ملفات الشاباك بعيدا عن متناول الباحثين. كما لا تتوفر لدى الجهات الفلسطينية المختلفة (الأمنية) الخبرة والقدرات العلمية لكشف تلك الملابسات والأساليب.

تطور التقنية

بدأت آلية الاتصال من خلال استخدام الصوت الذي هو عبارة عن موجات وذبذبات تنتقل في الهواء وتحمل صفات مميزة لكل منها تعرف بالترددfrequency))، وقد أدرك الإنسان منذ القدم وجود العلاقة بين الصوت واللغة والهواء حتى أن اليهود تحدثوا في أسفاركتابهم أن انهيار برج بابل في بلاد ما بين النهرين كان بسبب اختلاف لغات الأجناس البشرية. وقد وصف القرآن الكريم الاختلاف بالآية: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". مع تقدم العلم في وقت مبكر من تاريخ الثورة الصناعية بدأ الإنسان يهتم باستخدام عناصر الاتصال الثلاث (الصوت، اللغة ، والهواء)، ودراسة علاقتها بعضها ببعض لتوفير الاتصال عن بعد، فكان اختراع الهاتف في القرن التاسع عشر أول بواعث النهضة في عالم الاتصال. ثم ظهر جهاز التلفاز في بداية العشرينيات من القرن العشرين ليحمل تطور الاتصال بشتى أشكالها اللاحقة على قاعدة تحويل الصوت إلى إشارة كهربائية وإشعاعية من مكان ما ثم إعادتها إلى أصلها في مكان آخر، لقد أسست هذه القاعدة لظهور علم الاتصالات الحديث على أسس من الاحتياجات والمتطلبات التي يندرج فيها توفير المرسل والمعالج والمستقبل. في العام 1948، عرف الإنسان أول جهاز كمبيوتر ليشكل الثورة التقنية الحديثة في الحياة الإنسانية من خلال سرعة التعامل مع كمية ضخمة من المعلومات والقدرة على تخزينها وتحليلها لحظيا بكفاءة عالية ليفتح اختراعه الباب على مصراعيه لتطوير عالم الاتصالات.

فتح تطور تقنية الاتصالات شهية الجيوش الحديثة التي أخذت تكثف من سعيها العلمي من أجل إحراز التفوق العسكري. وقد رأت الدول التي تطلعت إلى الصدارة أن لا مجال أمامها إلا إحراز تفوق علمي على الأطراف المنافسة الأخرى وتحقيق سبق تقني يمكنها من الدفاع الفعال أو الهجوم المباغت القاتل. فلم يكن سباق التسلح العالمي إلا سباقا علميا تقنيا كانت فيه الغلبة دائما لمن كان أكثر قربا من خط النهاية. ولنا نحن العرب في ذلك تاريخ من الهزائم أمام إسرائيل التي فضلت طريق العلم والتقنية على طريق الجعجعة والخطابات الخاوية.

ربما في حكاية اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في عمان دلالة في هذا السياق. فقد حاول عملاء الموساد اغتيال مشعل بواسطة إدخال مادة سامه مجهولة التركيب إلى جسده عن طريق الأذن بعد أن رصد الموساد تحركات مشعل ذهابا وإيابا من وإلى مكتبه؛ وعند مدخل المكتب هاجمه اثنان من رجال الموساد ليصاب بعدها بحالة من الغثيان نقل على أثرها إلى مستشفى مدينة الحسين الطبية. تمكن مرافقه وحارسه الشخصي من إلقاء القبض على العميلين بعد ملاحقتهما بمساعدة المواطنين،وساءت حالة مشعل الصحية ودخل في غيبوبة كاملة. تسبب الحادث في إشعال أزمة سياسية بين حكومة نتنياهو والنظام الأردني الذي كان حريصا على الحفاظ على جميع الأوراق بيده وكشف النقاب بعدها عن إرسال الموساد طاقما خاصا إلى الأردن وبحوزته مضادا مجهولا للمصل المجهول الذي حقن فيه مشعل.

لقد كشف أسلوب الاغتيال بمادة كيميائية حيوية لا علاج لها إلا لدى صانعها عن امتلاك الموساد الإسرائيلي لوسائل قتل غريبة وغير معتادة تضع تساؤلات كثيرة أمام الكثير من المختصين بالعمل الأمني في العالم العربي.

التقنية والعمل الاستخباري

فتحت القاعدة الأهم في عالم الاتصالات وهي تحويل الصوت إلى إشارة كهربائية ثم إعادته إلى أصله من جديد في موقع آخر الباب على مصراعيه أمام عالم الرصد وجمع المعلومات فيما يعرف بدائرة التجسس، وذلك من خلال التقاط تلك الإشارة الكهربائية العائمة في ا لهواء والجو المفتوح أمام جميع المراقبين الذين يحرصون على التقاط أي إشارة لتخزينها وتحليلها والنظر في أهميتها، ومن ثم التصرف بناء على ما تحويه من معلومات. هذه هي القاعدة أو المبدأ الفيزيائي الذي تقوم عليه فكرة الاتصال الإليكتروني والتي تمت ترجمتها عمليا عبر أجهزة متعددة منها أجهزة الهاتف الخلوي والحاسوب والبث الفضائي.

الهاتف المحمول واللاسلكي

يعنينا في هذه الورقة دور الهاتف النقال أو الخلوي كأداة تقنية للرصد والتعقب والتجسس على المكالمات ومعرفة المتحدث والتعرف إلى هويته وتحديد موقعه للوصول إليه لاعتقاله أو تصفيته. لأن الهواء جوّ مفتوح للجميع، يستطيع أي شخص مهتم أن يضع لاقط الإشارات (Antenna) للحصول على أي إشارة كهربائية عائمة فيه مثل إشارة هذا الجهاز. ولذلك أصبح الهاتف النقال هو أخطر الأجهزة على حامله كونه يعمل بنفس الأسلوب. تتم آلية التقاط المعلومة منه عن طريق احتجاز أي جملة أو عبارة تحتوي على كلمات تحرص المخابرات على معرفة كل ما يتعلق بها حيث يتم معالجة المكالمة وتسجيلها بشكل كامل ولا تحتاج عملية تحليل تلك المكالمة لأكثر من 1/ 2.5 مليون ألف جزء من الثانية هي سرعة جهاز الكمبيوتر العادي. فإذا علمنا أن أجهزة المخابرات لديها أجهزة أكثر تطورا بعشرات المرات، فإن ذلك يعني أن قدرتها على تحديد موقع المتصل من خلال إجراء حسابات وقياسات للموجات الملتقطة من الجهاز المحمول لا يحتاج إلا إلى القليل من الأجزاء في الثانية وهو ما يعرف بآلية التتبع.

أما التعرف على صاحب المكالمة فهو أيضا أمر سهل. وفّرت التقنية الحديثة آلية بسيطة جدا للوصول إليه من خلال ما يعرف ببصمة الصوت، حيث يتم فحص مطابقة للصوت الملتقط مع عينات مخزنة من أصوات الأشخاص الذين تبحث عنهم دوائر المخابرات، الأمر الذي يشكل أول أساليب الاستهداء إلى المطلوبين عبر الاتصالات اللاسلكية.

تلخص هذه الآلية الأساس العلمي للتعامل مع أجهزة الاتصال كافة من خلال رصد المكالمة بعد جمع الإشارات الكهربائية من الهواء بوساطة اللاقط ثم تحليلها عن طريق أجهزة حاسوب متطورة ومتوفرة مدنيا، ثم تسجيل كل ما يلفت النظر فيها والتعرف إلى المتحدث من خلال برامج علمية تقوم على حسابات صوتية تعتمد على الذبذبات وتميز كل صوت وكأنها البصمة الخاصة به، ثم تحديد مكان المتحدث عبر حسابات غير معقدة بالنسبة لجهاز حاسوب متطور تعتمد على طاقة الموجات الصوتية عند التقاطها وحساب الكمية المفتقدة منها من الطاقة لمعرفة مصدرها. وسنتحدث حول عدد من التطبيقات العملية وحوادث اعتقال واغتيال استخدمت فيها هذه التقنية توا.

التعليقات