هموم الامن الفلسطيني..بقلم:د.عبدالستار قاسم-جزء2

هموم الامن الفلسطيني..بقلم:د.عبدالستار قاسم-جزء2

الهاتف العادي

يمثل سلك الهاتف العادي وسط انتقال الإشارة الكهربائية من سماعة مرسل هاتف إلى سماعة مستقبل آخر. فهي كالهواء مفتوحة عند الاتصال أمام الجميع وتبدأ تلك الأسلاك بالإغلاق أمام الموجات المرسلة مع إبقاء الخطوط المخصصة للأرقام المطلوبة فقط مفتوحة أمام المستقبل، ومن هنا فإن دوائر المخابرات تستخدم هذا المبدأ للحصول على جميع المكالمات المتداولة وتخزينها جميعا ومعالجتها لحظيا قبل التخلص من ملايين المكالمات التي لا تعنيها حيث تبقي دوائر المخابرات خطوطها مفتوحة لدخول جميع المكالمات إليها دون استثناء. وهذه إحدى الطرق الكلاسيكية المستخدمة منذ زمن بعيد للتجسس على الهواتف السلكية.

كما أن وجود الأسلاك الحاملة للإشارات الكهربائية يمنح وسطا إضافيا للتجسس من خلال وضع تحويلة سلكية عليها تعمل تماما بمبدأ وجود عدة أجهزة هواتف لنفس الخط والرقم، وهذا نظام شائع الاستخدام في المكاتب متعددة الموظفين. مع رفع المستقبل سماعة هاتفه لسماع المكالمة يكون الراصد له قد رفع هو الآخر سماعته والتقط المكالمة ليستمع إلى كل ما يدور على الطرفين بين المتحادثين. ومن بين الأساليب الشائعة في التجسس على الهاتف استخدام المجال المغناطيسي الذي تولده الشحنات الكهربائية حول سلك الهاتف الذي يمكن أن يمتد آلاف الأميال، فبتقريب لاقط إشارات مغناطيسية من هذا السلك يخترق المجال المغناطيسي ويقوم بإعادة الإشارة المغناطيسية إلى إشارات كهربائية ثم تحول بعد ذلك إلى ذبذبات صوتية. لا تستغرق هذه العملية أكثر من أجزاء قليلة من الثانية لا يدرك المتحدث قيمتها وأهميتها.

البريد الإلكتروني ( أو ما يعرف بـEmail ) :

يعمل هذا البريد بنفس مبدأ الهاتف ولكن دون الحاجة إلى وجود أسلاك، بل تعتبر الشبكة العنكبوتية العالمية (World Wide web) بمثابة نظام يدمج الاستخدام السلكي واللاسلكي لأجهزة الاتصال بحيث يبقي الراصد خطوطه مفتوحة أمام الإشارات الكهربائية المرسلة في الهواء ليعالجها بجهاز الحاسوب خاصته لحظيا ويتصرف بناء على تلك المعالجة بنقل ما حصل عليه من معلومات إلى الدوائر الأمنية التنفيذية المختصة لتقرر التصرف المطلوب حيال الرسالة المنقولة ومرسلها ومستقبلها. وفي هذا المجال تحديدا تلعب سرعة التصرف أهمية قصوى إذ أن الإنترنت توفر وسيلة متنقلة للمراسلة لا تلتزم بمكان محدد ويمكن لمستخدمه إرسال رسائله من مواقع مختلفة وأجهزة حاسوب متعددة دون الالتزام بمكان محدد يستخدم كفخ للإيقاع به. فمرسل الرسالة يمكنه إعداد الرسالة(Message) ونقلها على قرص إلى أي جهاز كمبيوتر ثم يرسلها إلى العنوان العائم في الهواء في لحظات ويغادر المكان. وكذلك المستقبل حيث يمكنه تخزين المعلومات بلحظات على قرص آخر ثم يغادر المكان الذي استلمها فيه ليطالعها على جهاز كمبيوتر آخر غير متصل بالهواء المفتوح أمام القراصنة للمراقبة، وهو ما جعل من المراقبين مجرد مطلعين على ما يجري دون أن تتوفر بالضرورة إمكانية تحديد هوية من يقف وراء أي معلومة أو رسالة حيث تبقى كل تلك المعلومات رهنا بالتسابق الأمني في مجال الذكاء التحليلي للمعلومات بالعقول الإنسانية أو الآلية.

الأقمار الصناعية وطائرات التجسس:

تعتبر الأقمار الصناعية أهم أداة تجسس في العالم كونها تحمل أجهزة مراقبة وكاميرات تصوير وأجهزة تسجيل متطورة قادرة على تضخيم الصوت والصورة آلاف المرات. فهي بالتالي ترصد أرضا مكشوفة وتنقل كل ما يدور عليها من تحركات.

لا تختلف طائرات الرصد كثيرا عن الأقمار الصناعية إلا بتحليقها على مسافات أقل ارتفاعا عن السطوح الخاضعة للمراقبة. ولتجنب المخاطر في استخدام هذه الطائرات فإنها تحمّل بآلات التصوير والتسجيل وتطلق في الهواء دون العنصر البشري (الطيّار) حيث أن أغلب أنواع تلك الطائرات هي من دون طيّار ويتم تشغيلها والتحكم بها من محطات على الأرض توجهها وتدير عملها عن بعد عشرات الآلاف من الأميال.

يشكل استخدام الأقمار الصناعية وطائرات التجسس أسلوبا عالي الضمان لنجاح العمليات الأمنية المختلفة التي يمثل فشلها ضربة قاسية لأجهزة المخابرات. فعلى سبيل المثال قصفت مروحيات عسكرية إسرائيلية سيارة فلسطينية كانت تسير في منطقة نابلس شمال الضفة الغربية وكان يستقلها محمود أبو هنود واثنين من رفاقه أيمن ومأمون حشايكة، وبعد عدة أشهر عرضت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي فيلما وثائقيا حول الحادث تحت عنوان" حرب إسرائيل القذرة" نقلت فيه بالصورة الحيّة صورة السيارة الفلسطينية وهي تسير على الشارع قبل قصفها ثم مشاهد القصف وتدمير السيارة لحظة بلحظة.

لقد أتاح استخدام طائرات التجسس وآلات التصوير التي بداخلها لهيئة الأركان الإسرائيلية مراقبة أبو هنود الذي مثّل مصدر إزعاج للاحتلال من خلال تزعمه لكتائب الشهيد عزّ الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس والمسؤول عن تنفيذ عدد كبير من العمليات الاستشهادية ضد الإسرائيليين. ولفشل المخابرات الإسرائيلية وجيشها في إلقاء القبض عليه أو قتله في عمليتين سابقتين كان فشل العملية الثالثة يشكل ضربة قاسية وصفعة قوية للشاباك الإسرائيلي ورافعة معنوية هامة تحتاجها المقاومة الفلسطينية. وهو ما دفع المخابرات الإسرائيلية إلى اتخاذ كل أسباب النجاح لتنفيذ تلك العملية ذات الهدف المزدوج (الأمني والمعنوي). قامت طائرات التجسس بتتبع السيارة حسب إشارة العميل وبثّت صورا لمن هم بداخلها، وفي محطة الرصد تم التعرف إلى هوية أبو هنود والتأكد منها، فصدرت الأوامر للطائرات المروحية الأربعة بتعقب السيارة حتى أصبحت محطة الرصد الإسرائيلية تمسك بخيوط العملية بالكامل قبل أن توجه أمرها العسكري بتنفيذ الهجوم الذي بقي التصوير مسلطا عليه من كاميرات طائرة التجسس للتأكد من قتل أبو هنود قبل عرض هذا الفيلم على شاشات التلفزة كأسلوب لعرض العضلات والقدرات التقنية للجيش الإسرائيلي.

أجهزة التعقّب (Bugs) :

تسمى أجهزة التعقب بالبقة (Bug) بسبب حجمها الصغير. بدأ اللجوء إلى هذه الوسائل مع تطور الترانزيستور وأساليب الشحن والتفريغ للموصلات الكهربائية (البطاريات)، وترجع أهمية هذه الموصلات إلى دقة حجمها وسهولة إخفائها في أي جسم ليتحول إلى مصدر معلومات يصدر الذبذبات والإشارات على شكل موجات شبيهة بأمواج الميكرويف (Microwaves).

أغرب القصص الدالة على استخدام هذه الجسيمات قصة بناء السفارة الأمريكية في الاتحاد السوفييتي، حيث قام الروس بوضع كمية كبيرة منها بين حصى البناء لمنع اكتشافه من قبل الرقابة الأمريكية المشرفة على إقامة السفارة، وبعد الانتهاء من إقامة مبنى السفارة قام الأمريكيون بتفحص التصنّت عليها فوجدوا أصواتهم تنتقل من غرفة لأخرى بشكل منقطع النظير. بحثوا في كل التجهيزات والمقتنيات ولم يعثروا على شيء حتى أزالوا البناء بالكامل وأقاموا بناء جديدا أحكموا له الرقابة على المواد الخام المحضرة.

من جوانب خطورة استخدام هذه الأجهزة إمكانية زرعها دون لفت أي انتباه في أي شيء مثل أجهزة الكمبيوتر والهاتف والمحمول، وحتى في الثياب والأحذية وبين الجدران والأثاث بل وفي جسد الإنسان نفسه من خلال جراح بحيث تصبح أدق تفاصيل حياة الشخص المراقب مكشوفة ومعلومة من خلال بثّ موجات الميكرويف التي تطلقها هذه الجسيمات.

نماذج من الواقع

اعتقال أحد كوادر كتائب القسّام قرب نابلس:

يقول الأسير عن طريقة التعرف عليه: "بعد اعتقالي مع أفراد المجموعة العسكرية التي كنت أقودها لتنفيذ هجوم على إحدى المستوطنات قرب بلدة بزّاريا غرب نابلس أحضر لي المحققون في مركز تحقيق الجلمة ملفا رقّمت صفحاته من (1-1005)من ورق الـ(A4). لقد كانت هذه الأوراق تحمل جميع ما تحدثت به إلى أي إنسان بما فيها مكالماتي الشخصية والعائلية فلم أنكر أن هذه المحادثات تعود لي لأنها لا تحمل ما يدينني، ثم فوجئت بعد ذلك بهم يعرضون عليّ أوراقا مشابهة كنت قد تحدثت مكالماتي العسكرية من خلالها." لقد أصاب العرض الجديد المناضل الأسير بالذهول لأنه كان يفرد لحديثه مع القادة العسكريين في كتائب القسّام والمسؤولين عنه رقما آخر، ولا يذكر اسمه ولا لقبه عليه؛ وهذا أسلوب شاع استخدامه بين العاملين في الأجهزة العسكرية الفلسطينية المختلفة( تغيير بطاقة الهاتف الخلوي "سم") عند إجراء مكالماتهم التنظيمية. ويتابع المناضل حديثه بالقول:" أنكرت بادئ الأمر أن يكون الموجود على الورق حديثي وإن كنت قد أقررت أسلوب طباعة المكالمات مبدئيا على ورق فأحضروا لي جهاز تسجيل من نوع "ديجيتال" يشيع استخدامه في مؤسسات الصحافة وأسمعوني مقاطع حسّاسة لعدد من مكالماتي سجّلت بصوتي الشخصي، وواصلت إنكار أنها تعود لي، ثم أحضروا قرصا مضغوطا ووضعوه في جهاز التسجيل وتحدث إليه أربعة محققين بأصواتهم بنفس العبارة وطلبوا مني أن أتحدث بها ففعلت ، ثم أخرجوا القرص المضغوط وأدخلوه إلى جهاز حاسوب وقاموا بتشغيل برنامج خاص يدعى برنامج بصمة الصوت، أدخلوا الصوت الذي سجّلوه من المكالمة ثم قارنوه مع أصوات المحققين الأربعة وصوتي فقام بإعطاء الإشارة الإيجابية عند عرض صوتي فقط، ويضيف : سألتهم أن الحديث الذي قمتم بالتقاطه عبر الهاتف بيّن رقمين مجهولين هو فعلا خطير، لكن كيف عرفتم صاحبه فقالوا لي : ببصمة الصوت أيضا." لقد قام رجال الشاباك بالتصنّت على المكالمات الصوتية العادية لمن يتوقعون عملهم في دوائر المقاومة الفلسطينية، وكلما تتبعوا مكالمة تنظيمية مجهولة المصدر قاموا بعرضها على برنامج بصمة الصوت فاكتشفوا صاحبها، وهكذا تم الإيقاع بالمناضل وكشف عمله السرّي بصورة كاملة.

خلية من طولكرم :

اعتاد مناضلان من طولكرم استخدام أسلوب تغيير بطاقة الهاتف الخلوي(سم) عند الاتفاق على القيام بطلعة عسكرية أو نقل حقيبة مفخخة أو زرع عبوة ناسفة وغيرها من أعمال المقاومة، لكنهما كانا يجهلان التطور النوعي الذي وصلت إليه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مجال تتبع بصمات الصوت. ففي تاريخ 5/8/2001 كان أحدهما وهو مواطن من طولكرم يحمل الهوية الإسرائيلية كون والدته من مدينة اللّد ينقل عبوة ناسفة أحضرها من مدينة نابلس إلى رفيقه الذي كان قد جنّد استشهاديا لتنفيذ عملية استشهادية في مدينة نتانيا.

في بلدة عنبتا، لاحظ الأول حركة غريبة لطائرات الأباتشي فقام بالاتصال برفيقه بعد تغيير بطاقة الخلوي. طلب منه الرفيق أن يترك السيارة ويتأكد من إغلاقها ويبتعد عنها مسافة آمنة ففعل. مكث راكب السيارة ساعات في عنبتا حتى اطمأنّ إلى اختفاء الأباتشي قبل أن يسلك طريقا زراعية غير الطريق الأصلية المعروفة للوصول إلى طولكرم، وخلال سيره اصطدم بحاجز يغلق الطريق أمامه وعشرات الجنود يطوقون سيارته ويصوبون إليه السلاح، ثم ظهرت طائرات الأباتشي فوقه من جديد حيث يقول :" شعرت بمرارة الوقوع في الفخ، فاتخذت قراري بسرعة أن أشغل العبوة الناسفة وأفجر السيارة، لكني تنبهت أن أقرب جندي إلي يبعد عشرات الأمتار وبالتالي فإن تفجير السيارة يعني الانتحار، وخلال ارتباكي قبل اتخاذ القرار كانت كلاب بوليسية قد اقتحمت السيارة وقامت بتجريدي من كامل ثيابي دون أن تخدش جسدي خدشا واحدا وأخرجتني من داخل السيارة إلى حيث يقف الجنود الذين قاموا على الفور بإجراءات التحقيق الميداني. هبطت الطائرات وقام الجنود بإبطال مفعول العبوة وأخذوا الهاتف المحمول وأعطوه لقائد إحدى المروحيات الذي ضحك وأقلع بمروحيته على الفور.

لم تكتمل تفاصيل القضاء على الخلية عند هذا وإنما قامت طائرات الأباتشي بعد دقائق بقصف سيارة بيضاء مملوكة لحركة حماس كانت تسير قرب دوار شويكة في طولكرم واستشهد قائدها محترقا، ليتبين أنه شريك المعتقل. لقد تفحمت جثة الشهيد وبقيت على الهيئة التي استشهد فيها وبيده جهاز الهاتف ملتصق بأذنه مما يوحي أنه تلقى اتصالا هاتفيا لحظة استشهاده ربما يكون من نفس الرقم الذي حمله قائد الطائرة. هذا احتمال منطقي حيث أثبتت علوم الاتصالات إمكانية توجيه صواريخ ذكية مع موجات الهاتف كما فعلت الـ(KJB) –المخابرات الروسية- بجوهر دوداييف القائد العسكري الشيشاني الذي قتل بعد التقاط إحدى مكالماته مع وزارة الخارجية الأمريكية بوساطة صاروخ روسي تتبع موجات بثّ الهاتف الذي تحدث منه.

بتاريخ 17/8/2001، قام جهاز الأمن الخاص بطولكرم باعتقال أحد العملاء الذي أكد أن المخابرات الإسرائيلية سلّمته مادة رذاذ طلبت منه أن يرشها على سيارة الشهيد. ماهية هذه المادة ليست معروفة لدينا علميا لكنه من السهل التكهن بأنها تبث موجات أو إشارات تدخل إلى جهاز الحاسوب في الطائرة المزودة بالصواريخ.

استخدم الشاباك في تصفية هذه الخلية عدة عناصر تقنية: الهواتف المحمولة، المادة الكاشفة، المروحيات، الموجات الصوتية، الكلاب الحيوانية والعملاء؛ غير أن القاعدة الأساسية التي وصل من خلالها إلى الخلية كانت أجهزة الاتصال.

اغتيال يحيى عيّاش بالهاتف المحمول:

بقي عيّاش ملاحقا من قبل المخابرات الإسرائيلية لثلاث سنوات وجنّدت خلفه عشرات العملاء دون أن تظفر منه حتى أصبح في مقام الأسطورة بين الفلسطينيين. وجد الشهيد عيّاش في قطاع غزة، وربطته هناك علاقة بشاب لم تحم حوله الشبهات حسب قرار محكمة فلسطينية في غزة؛ غير أنّ خاله ويدعى كمال حمّاد تمكن من استخدامه للإيقاع بعيّاش عن طريق إعطائه جهازا خلويا كان نادرا في حينه. أعطي الشاب الجهاز المفخخ للشهيد عيّاش لإجراء اتصالاته، وبتاريخ 5/1/1996 وصلت الجهاز مكالمة ما إن ردّ عليها عيّاش حتى تفجر الجهاز. تلقت طائرة إشارة المحمول، فأعطت إشارة مضادة للعبوة المتفجرة التي كانت مزروعة في الجهاز.

اغتيال الشهيدين جمال منصور وجمال سليم ورفاقهما:

كان الشهيدان جمال سليم وجمال منصور يعقدان مؤتمرا صحفيا بتاريخ 31/7/2001 للإدلاء بتصريحات حول اعتقال العميل الذي وشى بالشهيد صلاح دروزة وتسبب باغتياله. دقّ جرس الهاتف المحمول لدى الشيخين في نفس اللحظة وكان على الخط متحدث ادعى أنه من هيئة الأخبار البريطانية(BBC)، وما هي إلا لحظات حتى انفجر المكان بصواريخ طائرات الأباتشي التي يرجح أنها كانت ترصد المكان للتأكد من مكان وجود الشيخين قبل أن تطلق صواريخها التي اغتالتهما مع ستة مواطنين آخرين.

والعبرة

مما تقدم حول التقدم النوعي الكبير لاستخدام التقنية في تتبع وضرب نشطاء المقاومة الفلسطينية، وبعد تقديم الأمثلة العملية لحالات اغتيال واعتقال فلسطينيين عبر متابعتهم بأجهزة الاتصال نستطيع القول إن عالم التجسس والتتبع عبر التقنية عالم مفتوح على مصراعيه يتطور وتتقدم وسائله بشكل سريع وحسب الحاجة الأكثر جدوى، ومع ذلك تبقى هناك الكثير من الطرق والوسائل لحماية النفس من خطورة أعين الرصد. فقد عرف الفلسطينيون من خلال الانتفاضة شكلا خاصا من أشكال التجسس الإسرائيلي وتتبع المقاومين من خلال رصد اتصالاتهم بوساطة طائرة تعقب دون طيار، وأدرك الفلسطينيون من خلال التجربة وتكرار المثال أن سماع صوت تلك الطائرة في أي منطقة يدل على قرب اغتيال أحد نشطاء المقاومة.

وقد تم تسجيل الكثير من حالات الاغتيال بعد سماع صوت تلك الطائرة كما في حالة الشهداء محمود الطيطي وأيمن حلاوة وصلاح دروزة في نابلس، ونزيه أبو السباع في جنين وزياد الدعاس ورائد الكرمي وفواز بدران في طولكرم وغيرها الكثير من الحالات مما يؤكد امتلاك تلك الطائرة لأجهزة تلتقط بثّ الخلوي وتقوم بتحديد المكان. ومع بدء عملية اجتياح الضفة الغربية في الأول من نيسان/2002، شوهدت آليات عسكرية إسرائيلية على شاشات القنوات الإخبارية وهي تتجول داخل المدن الفلسطينية وتضع على ظهرها صحونا لاقطة وترافقها في تحركاتها وحدات اقتحام، حيث رصد العديد من عمليات المداهمة التي تمت بوجود تلك الآيات وهو ما يشير إلى قيامها بدور في التعرف على أماكن اختفاء نشطاء المقاومة الفلسطينية المطلوبين لقوات الاحتلال. وأبرز مثال على ذلك شهده اعتقال ناصر أبو حميد القائد في كتائب شهداء الأقصى والمتهم بالمسؤولية عن عدة عمليات فدائية إذ تم اعتقاله من إحدى الشقق السكنية في منطقة رام الله بوجود تلك الآلية. وقد أوردت إذاعة الجيش الإسرائيلي في أخبارها أن الوصول إلى أبو حميد تم بعد تعقب اتصالاته مع عائلته لطمأنتهم على نفسه، وهو ما يدل على التقدم النوعي الكبير لاستخدام التقنية.

التجسس الأكاديمي

يعتبر الزحف الغربي عامة والأمريكي بالتحديد على الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين خاصة والعرب عامة من أهم الأمور الأمنية التي يجب أن تؤخذ بالحسبان عند دراسة الأوضاع الأمنية العربية. عملت الدول الغربية وما زالت تعمل حتى الآن على تطويع بعض الأكاديميين والمثقفين العرب بطريقة يخدمون فيها أهدافها ومصالحها دون أن تتملكهم مشاعر الخيانة أو التبعية.

من الملاحظ أن المراكز غير الحكومية والمدعومة غربيا وأمريكيا على وجه الخصوص قد تزايدت أعدادها في العقد الأخير في أغلب أقطار الوطن العربي بما فيها فلسطين. أغلب هذه المراكز تهتم بقضايا مطروحة عالميا الآن مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وبعث المرأة، وهي تدار من قبل مثقفين يحمل عدد كبير منهم شهادات الدكتوراه أو الماجستير. هذه مراكز موجودة الآن في المغرب العربي وفي المشرق وبتركيز كبير في دول مثل المغرب وتونس ومصر وفلسطين. تمويلها من الخارج بخاصة من الولايات المتحدة وتعيينات المسؤولين فيها تتم من الخارج، وتوظيف العناصر يتم حسب معايير خاصة لا تتعارض مع الأهداف التي يتم تحديدها من الخارج.

تمكنت الولايات المتحدة على مر العقود التي خلت أن تصول وتجول في الوطن العربي وتفرض هيمنتها إلى حد كبير وتنهب ما تشاء وتترك لأهل المنطقة ما تشاء. لكن هذه الهيمنة تبقى معرضة للزوال في حال صحوة الإنسان، أو في حال تصاعد الوعي بالاستغلال الأمريكي والذي يؤدي في النهاية إلى نوع من التمرد والإصرار على الندّية في التعامل أو الاستقلال الحقيقي. الهيمنة تبقى مؤقتة إذا اقتصرت على الأرض أو الثروات، وهي لا تدوم إلا إذا امتدت إلى الإنسان. الأرض والثروة يحررهما الإنسان في انطلاق وعيه، لكنهما لن يتحررا إذا كان المالك عبدا. فحتى تدوم الهيمنة على المقدرات العربية لا بد من السيطرة على عقل الإنسان وطرق تفكره وتعقله.

الوسيلة المثلى نحو ذلك الهدف هي القبض على عقول المثقفين والمفكرين بحيث يصبحون أدوات الفكر الغربي أو الأمريكي في المنطقة ويعملون بالتالي على بث تدريجي لمنهج حياة منسجم مع هذا الفكر. فإذا تولدت قناعات فكرية بأن الرأسمالية الليبرالية هي نهاية التاريخ وهي القدر المحتوم للتطور الإنساني فإن الهيمنة على المقدرات العربية تتوقف عن كونها هيمنة لتصبح جزءا من المنطق الإنساني الذي يعبر عن أفضل ما توصل إليه الإنسان من نظم. وإذا بثت فكرة حل الصراعات كما هي عليه الآن بدون أبعاد تاريخية وإنسانية ودينية فإن القبول بإسرائيل الديمقراطية التي تشرد الفلسطينيين يصبح فضيلة.

ولهذا فتحت الولايات المتحدة بعض خزائنها ومولت بعض المثقفين والمفكرين العرب لفتح مراكز أبحاث ودراسات تخص الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان والمرأة. القضايا تبدو براقة وجذابة للعربي الذي عانى من القهر والكبت على مختلف المستويات عبر مراحل طويلة من تاريخه، ومن السهل دخول المجتمع من خلالها. وقد أغدقت الإدارة الأمريكية الأموال التي بدت مغرية لعدد لا بأس به من المثقفين فأقبلوا عليها وبتفسيرات تستند على مصلحة الشعب وتثقيفه حول حقوقه كإنسان وحول محاسن الديمقراطية وما يصاحبها من حرية رأس المال. وقد أخذ الإقبال في بعض الأقطار العربية سمة السباق والتنافس من خلال تلّبس القيم التي يرغب الممول في ترويجها وإشباعها في الناس.

حتى نكون واضحين من الضروري الإشارة إلى أن استعباد العربي وكبت حريته من خلال أنظمة حياته المختلفة تفتح الأبواب أمام هذا الغزو الأجنبي. أي أننا لا نقول أن الوضع العربي جيد ونحن العرب لسنا بحاجة إلى من يعلمنا الحرية واحترام الآخرين، وإنما نوكد أننا نحن نصنع بأيدينا مأساة تقود إلى اغتراب الإنسان فتلقيه في أحضان الآخرين. يعاني العربي من القمع الاجتماعي والسياسي والكهنوتي، ويندر أن يعيش لحظات يشعر بها بحريته. والحال هكذا، وجد الآخرون ثغرات يحققون من خلالها مصالحهم على حسابنا فكريا وعاطفيا وماديا.

أقام عدد من المثقفين مراكز لا تؤمن في عملها الداخلي بحرية الإنسان ولا بالديمقراطية، ولا يصر الذين يمولوها على تطبيق القيم التي أرادوا الترويج لها. ففي عملها الداخلي، تعتمد هذه المراكز الوساطات والمحسوبيات في الوظائف وتفضل نوعية معينة من الناس حسب مقاييس الممولين، وهي نوعية لا تحترم نفسها ولا تراثها ولا تاريخها وإنما تحترم ما يريد السيد أن يُحترم. ومقابل ذلك هناك رواتب مجزية ومغريات أخرى مثل الدورات الدراسية والمؤتمرات العالمية وما شابه ذلك.

جنبا إلى جنب الترويج للفكرة عملت هذه المراكز على القيام بدراسات متعددة الجوانب ذات تمويل أمريكي أيضا، وشكلت قناة معلوماتية هامة بالنسبة للمخطط الأمريكي. دراسات لا يقوم بها مجرد مستشرق أو زائر وإنما ابن البلد الذي لا يرى الأشياء فحسب وإنما يفهم تماما الدوافع الكامنة خلفها وأبعادها الاجتماعية والنفسية وانعكاساتها على النسيج الاجتماعي وغير ذلك. إنها دراسات مكسوة باللحم والشحم ولا يمكن أن يتقنها من لم يكن عضوا في المجتمع وناهلا من منابعه التربوية، وهي تشكل أساسا متينا لفهم المجتمع وتيّسر في تخطيط السياسات وتنفيذ القرارات.

يقدم بعض علمائنا وأكاديميينا معلومات هامة عن الوطن والمواطنين والأحزاب والتنظيمات والتوجهات وغير ذلك من المواضيع الهامة. ربما كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى طواقم كبيرة من خبرائها وباحثيها وإلى أموال ضخمة للحصول على مثل هذه المعلومات، وهي الآن لا تحتاج إلا إلى بعض فتات المال تجند بها أبناء الوطن. معلومات دقيقة ومتواصلة يتم تقديمها لها تحت شعار البحث العلمي ودعم المجتمعات النامية وتحسين أحوال الناس. وبهذا أصبح بمقدور الولايات المتحدة أن تحرز تقدما كبيرا في دقة تخطيطاتها حول توجيه الحدث في الوطن العربي وفي التعامل مع مختلف الطروحات وإدارة الأزمات واستغلالها، الخ.

لاحظت من خلال معرفتي بالمراكز الموجودة في فلسطين والتي تخضع لذات السايس والموجه الخارجي الذي تخضع له المراكز الأخرى في الوطن العربي أن القائمين عليها يعملون دائما على استبعاد التاريخ عن نشاطاتهم البحثية والندوية. فهم يقولون للذين يحتكون بهم من الباحثين والدارسين الناشئين أن التاريخ عبارة عن أحداث قد مضت وأن استذكارها وخلطها مع تطلعات المستقبل لا يفيد بشيء وإنما يلحق الضرر بما يتطلبه البحث العلمي من انطلاق بدون قيود. يجب ألا يكون المرء أسير التاريخ أو حبيس انطباعات وقناعات مسبقة، هكذا يقولون ويزيدون بأن العالم قد تجاوز مراحل الأحقاد التاريخية والضغائن والطموحات القومية ومشاعر الاعتزاز بالذات والأمة لصالح التنمية والرفاء الشخصي والعلاقات القائمة على المصالح.

وهذا ما تمت ملاحظته في نشاطات التطبيع التي تبناها هؤلاء المثقفون والسياسيون المتعاونون معهم. شارك هؤلاء في تنظيم رحلات شبابية إلى دول مختلفة بمشاركة شباب وشابات من إسرائيل بهدف إقامة علاقات شخصية تمهد لعملية التطبيع، وأوصوا شباب فلسطين بالابتعاد عن مناقشة التاريخ ذلك لأن اجترار الآلام يفسد الاستمتاع بالرحلات. ولا أشك بأن أمثالهم في الوطن العربي يقومون بذات المهمات خدمة لمتطلبات ما يسمى بالعملية السلمية في المنطقة والتي تخدم بالتالي مصالح أمريكا.

ولوحظ أيضا أن هذه المراكز معادية للإسلام في سياسة التوظيف وفي تشكيل استعدادات العاملين فيها. إنها لا تقوم بأبحاث ذات طابع عدائي سافر للإسلام، لكنها تزرع داخل غرفها مشاعر الاستهانة بالقيم الإسلامية وترسخ فكرة ظلامية الإسلام وتخلف طروحاته عن طروحات التنوير والنهوض. وإن عمدت إلى القيام بأبحاث حول الإسلام فإنها لا تركز على ما يطرحه الإسلام من فكر وإنما على سلوكيات المسلمين الآن وعلى الحركات والتنظيمات الإسلامية. والهدف واضح وهو الإساءة إلى الإسلام من خلال سلوكيات غير قويمة ينسبها العامة وبعض رجال الدين إلى الإسلام. وكذلك الكشف عن نوايا وأساليب عمل الحركات والأحزاب التي تتخذ من الإسلام شعارا لها. وحسب رأي أحد الأمريكيين، هذه الأبحاث مهمة في مكافحة ما أسماه بالإرهاب الإسلامي.

هيأ بعض المثقفين والأكاديميين للولايات المتحدة أجواء مريحة لاختراق المجتمع العربي وأصبحت قدرتها على النفاذ إلى التفكير وطريقة الحياة العربية في زمن تكاثر المثقفين أفضل بكثير مما كانت عليه في زمن الجهل. كان يخجل الفلاح البسيط أن يمد يده للمستعمر مصافحا وكان يتوارى ضيقا إذا اضطر أن يكلم عدوا، أما المثقف، وليس كل مثقف، فقد خلع كل الأثواب باسم الواقعية والعقلانية والبحث العلمي ليرتدي ما يشف من اللباس ويحول الوطن إلى عورات مكشوفة.

يجادل مثل هؤلاء المثقفين والأكاديميين بأنهم ليسوا جواسيس ولا يمكن أن يكونوا كذلك من خلال حضور مؤتمر تطبيعي أو كتابة بحث علمي، وأنهم قادرون على كشف مخططات الأعداء وإحباطها بفضل سعة آفاقهم. هذا صحيح إذا كان المقصود بالتجسس مجرد الوشاية وكتابة تقارير شخصية مباشرة لهذه الجهة الاستخبارية أو تلك. لكنهم ينقلون معلومات حيوية لدول لها أهداف معادية للعرب ومصالحهم.

وهم يجادلون بأن المعلومات التي تزخر بها أبحاثهم وأوراقهم العلمية منشورة وليست حكرا على أحد، وبإمكان أي جهة أن تستفيد منها. وبالتالي، حسب قولهم، إنهم يستخدمون الأموال الغربية لإجراء أبحاث يستفيد منها العرب والقيادة الفلسطينية في صنع قراراتهم التي تمكنهم من درء العدوان والمحافظة على مصالحهم. هذا جدل مردود لأن الأنظمة العربية والقيادة الفلسطينية لا تقرأ أبحاثا ولا تهتم بالعلم والعلماء وتتخذ قراراتها على أسس غير علمية، ولأن العرب لا يملكون الوسائل المتطورة والأجهزة الفعالة للاستفادة فعلا من البحث العلمي. تملك الولايات المتحدة الوسائل والرغبة والإرادة على استعمال نتائج البحث العلمي بالطرق التي تعزز مصالحها في المنطقة. ويبقى الأفضل وطنيا أن يناضل هؤلاء المثقفون من أجل انطلاقة علمية في الوطن العربي بدل تقديم خدمات للأجنبي لقاء فتات من المال.

ألحق هؤلاء الأكاديميون والمثقفون ضررا كبيرا بالأمة العربية وبالشعب الفلسطيني، لكنهم ليسوا وحدهم الذين يتحملون المسؤولية. تقع المسؤولية الأكبر على الأنظمة والقيادات التي تعرقل البحث العلمي وتحاول أن تمنعه. لا تتوفر أموال كافية للباحثين والمثقفين العرب، ولا تتوفر لهم أجواء الحرية التي لا يمكن للبحث أن ينطلق بدونها. تقدير العلم والعلماء ما زال ضعيفا في الوطن العربي على المستويين الشعبي والرسمي، وحرية الفكر والرأي ما زالت تعاني من القمع الرسمي والحزبي والاجتماعي. أجواء الضعف والقمع تقود إلى التهاوي وتصنع ثغرات ينفذ من خلالها الطامعون، وعيوبنا عبارة عن بوابات يمر من خلالها الصهاينة والأمريكيون وكل من شاء أن يجعل لنفسه في وطننا مقاما. وبسببها أيضا قرر علماء ومفكرون أفذاذ أن يهجروا الوطن فكانوا نعمة لدول فتحت أمامهم أبواب العمل والتقدير.

عِبر في أمن المقاومة العربية

من خلال التجربة، نستطيع الاستنتاج أن سرية العمل الجهادي الكفاحي عبارة عن عامل حاسم في نجاح المقاومة ودحر المعتدي. من السهل أن يتغلب المرء على عقبات كثيرة تعترض طريقه الجهادي مثل نقص السلاح وقلة عدد المجاهدين وشح المال، لكن الاختراق الأمني عبارة عن سرطان قاتل يضيع الجهود ويودي بنفوس المقاتلين ويفسد مختلف الخطط ويضعف الثقة بالنفس ويسبب الإرباك والفوضى. قد يتزود المقاتل بمائة بندقية فيفرح لها، لكن من المحتمل أن يكون المزود جاسوسا أو مخبرا؛ وقد تتدفق الأموال الكثيرة على المقاتلين فتنشرح الصدور، لكن من المحتمل أن يكون القائد خائنا فيستعملها لإفساد المقاتلين، هم يموتون وهو يبقى حيا رمزا للبطولة والصمود.

لأن القضية الأمنية حاسمة في حياة الشعوب، نسجل العبر التالية كملخص لما تعلمناه عبر الزمن:

أولا: الحذر من وسائل الإعلام. وسائل الإعلام تبحث عن زفة ولا يهمها مصير الذين تقابلهم من المجاهدين. يريد الإعلاميون أن يحققوا سبقا إعلاميا فيبحثوا باستمرار عن رموز المقاتلين لإجراء المقابلات والتحليلات فيقدموا للعدو معلومات من شقين: معلومات عن الأشخاص وأخرى عن الخطط أو الرؤى وما شابه ذلك. وربما يكون من بين الإعلاميين مخبرين أو معادين. فمثلا قادت امرأة جميلة جاسوسة لإسرائيل عملت في الحقل الإعلامي الإسرائيلي إلى قتل خليل الوزير (أبو جهاد)، وقام من تنكروا بثوب إعلاميين باغتيال أحمد شاه مسعود، وعلى ذلك قس.

من المهم ألا يظهر أي مقاتل ملثم أو غير ملثم على شاشات التلفاز وألا يدلي ببيانات صوتية أو صورية، بل من المفروض أن تكون هناك آلية بدائية لا تعتمد التقنية الحديثة لمخاطبة الجمهور. ومن الأفضل أن تكون هناك آلية اتصال سرية مع شخص خارج مناطق المقاومة يستطيع أن يقوم بالدور الإعلامي المطلوب. والمهم أن الحدث هو ما يقوم به المجاهد وليس ما يقول. الحدث يصنع خبرا حقيقيا، أما القول فيصنع ثرثرة إعلامية.

وسائل الإعلام تريد أن تعرف من الذين يقاومون ومن أين يأتون بالسلاح وعن مجمل علاقاتهم الشخصية والحزبية والداخلية والخارجية وإلى غير ذلك. إنها تسأل أسئلة أمنية جدا وتقدم معلومات كثيرة لدوائر المخابرات المختلفة، وأشعر في كثير من الأحيان التي أشاهد فيها لقاءات تلفازية مع مقاتلين أو قادة أن المذيع/ة عبارة عن عنصر مخابرات والطرف المقابل عن شخصية منهارة تقدم معلومات أمنية خطيرة مجانا.

التجربة الفلسطينية بهذا الصدد فاشلة جدا ولا تقدم درسا يمكن الاستفادة منه. قادة الفصائل في فلسطين يريدون تحرير فلسطين من على شاشات التلفاز ومن خلال المهرجانات والخطابات فيقعون ويوقعون بغيرهم؛ وكذلك بالنسبة للعديد من المقاتلين الذين يظهرون على الشاشة متوعدين مهددين فيقدمون أنفسهم بلا ثمن للمخابرات الإسرائيلية. من الخطأ الكبير تقديم العادات العربية التي تقدس حب الظهور على القيم الأمنية. صحيح أن الناس يرون المقاتل على الشاشة فينتفخ رأسه لكنه قد يدفع رأسه ثمنا.

ثانيا: تعلمت أن قوة المقاتل تكمن في هالة الغموض التي يقيمها حول نفسه. المقاتل الغامض عبارة عن سر عميق يثير الذعر في قلوب الأعداء حتى لو كانت بندقيته صدئة. المقاتل الصلب هو المقاتل المتستر الذي يعمل كشبح كأنه من عالم الجن، فيلقي الرعب في قلوب الأعداء قبل أن يصلهم فتخور قواهم ويفقدون قدراتهم على السيطرة وخوض المعركة.

ثالثا: لا رحمة بالمخبرين والجواسيس والعملاء الذين هم خونة. العملاء هم الأخطر لأنهم يسهرون على تنفيذ سياسات العدو ويبثون الفتنة والفساد في المجتمع ويساومون على قضايا الأمة وعلى مصير الأمة والوطن مقابل مصالحهم الخاصة. أما المخبرون والجواسيس فيتلمسون الأخبار ويعملون في صفوف المجاهدين من أجل نقل المعلومات للعدو. هؤلاء عبارة عن آفات قاتلة تفسد الخطط وتوقع بأبناء الأمة قبل أن يقوموا بواجبهم.

التجربة الفلسطينية قامت على ملاطفة الجواسيس وعلى ترقية العملاء واحتضانهم، ومن يتعلم هذه الممارسة لا يريد في الحقيقة وطنا أو دولة وإنما يكون متآمرا مجرما ويعمل على قتل الناس باسم الثورة وإخضاعهم بذريعة الفشل. إنه من السخف والتحايل على مستقبل الوطن أن تتم تبرئة خائن بعد أدائه القسم القرآني أو بعد أداء ركعتي توبة لله سبحانه. لكن لا يجب اتخاذ أي إجراء ضد شخص مشتبه به دون التأكد لما في الإجراء الخاطئ من ظلم وتفتيت للمجتمع وتمزيق لقواه.

رابعا: عدم التدخل بشؤون الناس الخاصة. هذا ليس من عمل المجاهدين وليس من أعمال السرية والمحافظة على الذات والتنظيم. النزاعات بين الأزواج أو التجار أو اللصوص ليس من شأن الذين يريدون تحرير الوطن. هناك أهل الخير والإصلاح الذين يكرسون جهودهم لحل النزاعات بين الناس، وهناك الشرطة التي يجب تركها وشأنها من أجل الحفاظ على الأمن المدني بالقدر الذي تتمكن منه. لكن من المحتمل أن تستدعي الحالات المستعصية على الحل إجراء أمنيا من قبل المجاهدين وليس ظهورا مدنيا لأن الذي يصنع المشاكل المدنية في ظل الحرب إنما يريد بالأمة والوطن السوء.

خامسا: التعامل مع المتبجحين الذين يستعرضون سلاحهم وانتماءهم للمقاومة أو المجاهدين ينتهي بالمرء إلى السجن أو القبر وقبل إنجاز المهام الجهادية. المتبجح خطير كالجاسوس من ناحية تقديم المعلومات. من المهم جدا للمجاهد أن يتعامل مع متواضعين يعتبرون جهادهم جهادا في سبيل الله وليس من أجل نيل خير دنيوي لا يطول أمده مثل الجاه أو السمعة الطيبة أو فرض الهيبة. أما المتبجح فهو إما جاهل أو خائن مرتبط مع العدو، وسواء كان هذا أو ذاك فإنه يؤدي إلى خلل في صفوف المقاومة. لقد تعلمت يقينا أن السلاح العلني سلاح جاهل أو خائن.

سادسا: تعلمت أشك فورا بكل شخص يتوجه بسؤال أو استفسار له علاقة بالقضايا الأمنية. طبعا من المتوقع أن يتحدث العاملون معا بالقضايا الأمنية، لكن السؤال الأمني من خارج أصحاب الشأن يبعث على الريبة على الرغم من أن السؤال قد يكون بريئا. المجاهد لا يجيب ويبقى حذرا باستمرار خاصة من وسائل الإعلام.

سادسا: الخلايا كبيرة الحجم قاتلة لأنه من السهل كشف سرها. من المفروض أن تكون الخلية من شخص واحد فقط بالنسبة للمبتدئين في العمل الجهادي، ولا مانع من أن تكبر إلى ثلاثة أو أربعة بالنسبة للمحترفين الذين تمت تجربة قدراتهم على الكر والفر. لكن يبقى من الأفضل وبقدر الإمكان التعامل بأسماء وهمية ودون حصول تعارف شخصي يشمل أمورا مثل مسقط الرأس أو العمل، الخ. هذا ضروري من أجل التغلب على الاعترافات التي يمكن أخذها من الشخص في حال الاعتقال. كثير من المعتقلين يعترفون تحت وطأة التعذيب، ومن الأفضل ألا تكون لديهم معلومات حول الذين يعملون معهم أو حول قياداتهم.

سابعا: الاتصال عبر نقاط ميتة وأسماء وهمية أرقى بكثير من اتصال المعارف وفي البيوت أو الأماكن الخاصة. قد يكون الاتصال في موقف للسيارات أو مستشفى أو دائرة حكومية أو مسجد، الخ. ومن المفروض أن يكون هناك مهندسو اتصالات ينسقون كيفية ترتيب اللقاءات، على أن تتوفر قيادة اتصالات احتياطية جاهزة للعمل فورا عند سقوط القيادة الأساسية.

ثامنا: استعمال أجهزة الاتصال الحديثة خطير جدا ومن المفروض أن يكون المجاهد في غاية الحذر خاصة أن تقنية تحليل المعلومات وتفكيك الترميز قد تطورت جدا. الاتصال الشخصي المباشر هو الأفضل والأكثر سرية على الرغم من أن أنه يستهلك جهدا ووقتا كبيرين. أمريكا الآن قادرة على مراقبة نسبة ضئيلة جدا من المكالمات الهاتفية الأرضية والنقالة، لكنها وإسرائيل لديهما القدرة على التركيز على أماكن التوتر مثل فلسطين وأفغانستان والعراق ولبنان وتحليل مختلف المكالمات. كما أن لدى أمريكا تقنية بصمات الصوت المخزنة في الحاسوب والتي تمكن أجهزتها من معرفة المتكلم إذا كان صوته قد دخل البرنامج.

تاسعا: لاحظت أن الرجال في القضايا الأمنية أقل سرية من النساء خاصة الذين يكثرون من الكلام. هناك عقدة لدى الرجال في المجتمع العربي تتمثل في حبهم للظهور والتفاخر بأعمال قاموا بها أو لم يقوموا، أما النساء فتحب التكتم حول هذه المواضيع الحساسة خشية على مستقبل زواجها وحرصا على سمعتها. ولهذا فإنه من الممكن الاعتماد على النساء بقضايا حيوية مثل الاتصال ونقل المواد. لكن عادات المجتمع العربي ونظرته للمرأة تشكل معوقا كبيرا أمام حركة المرأة الجهادية وأمام مهام حركة المقاومة.

عاشرا: هناك انخفاض في مستوى الوعي الاجتماعي العربي بالقضايا الأمنية حيث أن الناس يكثرون من الثرثرة والإسرار حول نشاط هذا الشخص أو ذاك. وإذا كان العدو غير منتبه لنشاط شخص معين فإن ثرثرة الناس تنتهي أخيرا في حجرة مخابرات العدو. من المفروض أن تكون هناك حملة تثقيف أمني واسعة بخاصة في المناطق التي تشهد صراعا عربيا ضد الأعداء.

أحد عشر: غياب قيادة سياسية يشكل مشكلة مثلما تشكل القيادة السياسية المساومة مشكلة وعامل إحباط وهزيمة. القيادة السياسية يجب أن تكون ذات عقلية جهادية، أما إن اختل التناغم بينها وبين المجاهدين فإن التمزق سيكون مصير حركة المقاومة، وتتحول القيادة السياسية إلى سمسار يساوم على آلام الناس.

ثاني عشر: المهادنة والتردد يشكلان عاملا محبطا للمجاهدين وللروح المعنوية للناس. في التجربة الفلسطينية منذ عام 1920، ضاعت دماء الفلسطينيين في الهدن والمراوغات السياسية. من يريد تحرير الوطن عليه أن يستمر بدون توقف، ولا مانع من البحث عن ثمار سياسية دون ما توقيف للأعمال الجهادية. إنما عليه ألا يكون أهوج أو متهورا بل عاقلا ومصرا على تقييم الأمور علميا بدون انفعالات.

ثلاثة عشر: هناك أصناف من الناس لا يجوز أن يدخلوا في صفوف المقاومة: الجبناء والمزايدون وغير الأنقياء أخلاقيا. الجبناء يتساقطون في الطريق، وقد يتحولون إلى عملاء وجواسيس يلحقون أفدح الأضرار بالمجاهدين. أما المزايدون فلا يتركون مجالا للتفكير العلمي والتخطيط الهادئ، وتقود مزايداتهم إلى إفساد العلاقات مع الناس الذين من المفروض أن يكونوا السند الحقيقي للثورة والمجاهدين. أما غير الأنقياء أخلاقيا بخاصة أصحاب الفروج والمتعاطين للكحول والمخدرات والكاذبين فعلى استعداد أن يبيعوا فلسطين والعراق وموريتانيا وباكستان من أجل فخذ امرأة أو بطحة ويسكي. قد يكون من الساقطين أخلاقيا من يملكون الجرأة على المواجهة لكن الثورة بحاجة للجرأة وللتدبير والثبات في مواجهة متع الحياة الدنيا.هذه الأصناف لا تستحق المهادنة ولا الملاطفة لأنها مدمرة قاتلة. في ثورة منظمة التحرير الفلسطينية عبرة لمن يعتبر.

أربعة عشر: المال الوفير مفسدة للمجاهدين وللناس خاصة عندما يقع في أيد غير أمينة. من الأفضل أن يعتمد المجاهدون على أنفسهم وعلى شعبهم ماليا وغذائيا بقدر الإمكان. الناس هم الذين يحملون المقاومين ماليا، أما إذا أصبحت المقاومة تكيّة عثمانية كما فعلت قيادة منظمة التحرير فإن الناس يترهلون ويتحول النضال الوطني إلى استثمار شخصي ويعم الفساد وتستشري التواكلية والاستهانة بالذات.

خمسة عشر: لا أمان للأنظمة العربية ورجالاتها. تعيس من ينسق أعمال المقاومة مع نظام عربي أو حاكم أو سلطوي متنفذ، أو يأمن لأجهزة الأمن العربية بخاصة جهاز المخابرات الذي لا تأخذه في الناس والوطن شفقة أو رحمة. القادة العرب يحرصون دائما على كراسيهم ومتعها وفي سبيلها تهون مختلف الموبقات والمؤامرات. لا ضرورة لمواجهة الأنظمة تقليلا في عدد الأعداء المستنفرين، لكن بالرغم من ذلك لن تترك أغلب الأنظمة العربية مقاومة بدون ملاحقة لأن مصالحها مرتبطة بمصلحة أمريكا وإسرائيل، أو لأنها، في أحسن الأحوال، خائفة منهما. لا مانع من الحصول على أموال أو مساعدات من أنظمة عربية لكن دون مقابل تنسيقي أو معلوماتي.

التعليقات