قصة المفاوضات السرية بين طرابلس وواشنطن ولندن حول نزع أسلحة الدمار الشامل الليبية

قصة المفاوضات السرية بين طرابلس وواشنطن ولندن حول نزع أسلحة الدمار الشامل الليبية
غزة-دنيا الوطن
ظل المسؤول البريطاني الرفيع يذرع حجرته ذهابا وإيابا حتي تحول المساء إلى ليل كامل. وظل كل بضع دقائق يرفع الهاتف ليتصل بالعاصمة الليبية طرابلس. ويسأل هذا المسؤول السفير البريطاني في ليبيا أنتوني لايدن «ألم يبثوه حتى الآن؟». فأجابه لايدن «هناك مباراة كرة قدم على شاشة التلفزيون».
قبل هذه المكالمة بثلاثة أيام، كانت ليبيا قد وافقت على التخلي عن برامج أسلحتها النووية والكيماوية مقابل إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة ضدها، منهية بذلك مفاوضات سرية استمرت عدة أشهر مع البريطانيين والأميركيين.
وكان بيانا قد كتب كلمة بكلمة، خلال إجتماع شاق، تتويجا لذلك الاتفاق. وكان على وزير الخارجية الليبي أن يعلن القرار عبر التلفزيون الوطني ثم يتبعه الزعيم الليبي معمر القذافي بخطاب قصير إلزامي يؤيد فيه الاتفاق.
كانت الساعات تمر بطيئة في وقت كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الأميركي جورج بوش ينتظران على أحر من الجمر ذلك الإعلان. كان الوقت هو آخر عام 2003 وكلاهما بحاجة إلى انتصار يمكنهما من مواجهة الانتقادات المتزايدة لفشل أجهزة الإستخبارات في البلدين في كشف حقيقة واقع تسلح العراق قبل شن الحرب ضده.
وقال المسؤول البريطاني، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، وهو يسترجع تفاصيل هذا المسلسل، «كنا قلقين من أن يتم إلغاء كل ما توصلنا إليه، فقد أصبح الوقت متأخرا أكثر فأكثر». وعبر مقابلات جرت في الفترة الأخيرة مع الأطراف المعنية، استرجع المسؤولون الأحداث التي سبقت الإعلان الليبي والذي كان نقطة تحول تاريخية بالنسبة لنظام يعتبر خارجا عن القانون مع مساعيه لاسترجاع موقعه بين الأسرة الدولية. لكن المسؤولين ما زالوا غير متفقين على السبب الذي دفع القذافي للتخلي عن برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل. فبعض المعلومات تساند وجهة نظر الرئيس بوش الذي يرى أن السببين وراء ذلك كانا الإطاحة بصدام حسين ونظرية الولايات المتحدة الخاصة بالهجمات الاستباقية. إذ دفع ذلك الزعيم الليبي ليغير من موقفه.
لكن عددا من مسؤولين بريطانيين وأميركيين قالوا إن القذافي ظل يحاول لسنين أن يسلم الأسلحة التي بحوزته كي ينهي العقوبات الدولية التي ألحقت أضرارا كبيرة بالاقتصاد الليبي وتسهيل الطريق لوصول ابنه إلى الحكم في آخر المطاف. ففي الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تتحدث بحزم حول برنامج إيران النووي، ساعد المزيج من المفاوضات والمعلومات الاستخباراتية الجيدة والضغط الذي فرض على ليبيا على تشكيل خطة أخرى للتعامل مع طهران، حسبما ذكر ديبلوماسيون على إطلاع بمجرى الأحداث. وحينما انتهت مباراة كرة القدم ليلة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2003 ظهر محمد عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي على شاشة التلفزيون الحكومي ليعلن عن أن بلده ستكشف عن برامج أسلحته غير التقليدية وتقوم بتفكيكها. ثم ظهر القذافي لفترة قصيرة لإلقاء خطاب قصير يبارك به هذه الخطوة معتبرا إياه «قرارا حكيما وخطوة شجاعة».
وفي مكتبه، كان المسؤول البريطاني الرفيع يتنفس الصعداء. قال لاحقا «إنها جائزة كبيرة... نحن لم نكن متأكدين حتى النهاية من أن خطتنا ستنجح».
وخلال شهر من الإعلان، كان الخبراء الأميركيون والبريطانيون يتجولون بين المنشآت السرية حيث كانت ليبيا تصنع أسلحتها الكيماوية وبدأت بالعمل على صنع القنبلة النووية. وما عثروا عليه آنذاك كان مفاجئا ومثيرا للحذر. وهذا ما يؤكد على أنهم فازوا بجائزة كبيرة حقا. كان البريطانيون أكثر انفتاحا. فهم قاموا بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طرابلس في يوليو (تموز) 1999 . وسلمت ليبيا من جانبها ضابطي مخابرات متورطين بإسقاط طائرة بان إم فوق لوكيربي لمحاكمتهما من قبل محكمة اسكوتلندية كذلك وافقت الولايات المتحدة وبريطانيا على رفع مؤقت للعقوبات الدولية المفروضة ضد ليبيا. وصدر حكم على أحد المتهمين الليبيين في يناير (كانون الثاني) 2001، ثم تبلور زخم لإيجاد حل لقضية لوكيربي في اكتوبر (تشرين الأول) 2001 حينما حضر وفد ليبي بشكل سري إلى لندن للالتقاء بمسؤولين بريطانيين وأميركيين، حسبما قال أحد المشاركين في تلك المفاوضات.
وكان الوفد الليبي يترأسه موسى كوسا رئيس الاستخبارات الخارجية والذي طرد من بريطانيا قبل عقدين للاشتباه بقيامه بتنسيق هجمات إرهابية.
وتوصلت المفاوضات أخيرا إلى أن تتحمل ليبيا مسؤولية مقتل 259 شخصا على ظهر الطائرة و11 شخصا على الأرض ودفع مبلغ 2.7 مليار دولار لأقارب الضحايا. لكن المشاركين في المفاوضات من أميركيين وبريطانيين قالوا إنهم كانوا واضحين مع الليبيين في إخبارهم أن حل مشكلة لوكيربي لن يكون كافيا لوحده.
وقال أحد المسؤولين، الذي اشترط عدم الكشف عن اسمه، «أكدنا أنه بينما تعتبر لوكيربي قضية مهمة جدا وهي شرط لتحقيق تقدم باتجاه إعادة تأهيل ليبيا للعودة إلى المجتمع الدولي فإن ذلك سيعتمد على حل ملف أسلحة الدمار الشامل الخاص بليبيا». واكتسبت المفاوضات مع ليبيا حول برامج الأسلحة غير التقليدية صفة الإلحاح في مارس ( آذار) 2003 بعد أن إلتقى سيف الإسلام القذافي الأبن الأكبر للزعيم الليبي، والخليفة المرجح لأبيه، مع موظفي استخبارات بريطانيين في فندق بلندن.
وحسبما ذكر مسؤول أميركي أطلع على المفاوضات، قال القذافي الإبن «دعونا ننقي الجو من تلك الشائعات التي تقول إن ليبيا تمتلك أسلحة دمار شامل». ولأن الابن كان ينظر إليه باعتباره مبعوث والده، فإن رسالته اعتبرت إشارة على أن الأب القذافي على استعداد للتوصل إلى اتفاق.
حينذاك كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تعرفان أن ليبيا قامت، رغم إنكارها، بتصنيع أسلحة كيماوية. كذلك كان البلدان يعرفان أن شبكة العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان قد جهزت ليبيا ببرامج تمكنها من صنع قنابل نووية.
وخلال الأسابيع التي أعقبت ذلك اللقاء التقى مسؤولان من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وآخران من نظيره جهاز المخابرات الخارجية البريطاني (أم آي 6) مع كوسا وليبيين آخرين في لندن وفي مدن أوروبية أخرى لكن لم يتحقق أي تقدم حاسم. وقال المسؤول الأميركي الرفيع «كانت هناك فترات من الاتصالات، لكن الليبيين لم يعترفوا حتى ذلك الوقت بأنهم يمتلكون برنامجا لصنع القنبلة النووية... كانوا خجولين». وبإستثناء بوش وبلير، فإن هناك عددا قليلا من المسؤولين الكبار في واشنطن يعرفون بالمفاوضات. وكانوا يخافون من أن أي تسرب للمعلومات سيجند المعارضة إما داخل ليبيا أو في الجزء الأكبر من العالم العربي وهذا ما سيجعل القذافي يفكر مرتين.
وخلال أيام وصلت مجموعة كبيرة من خبراء وكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية الى ليبيا، وفقا لما قاله مسؤولون معنيون بالعملية. وقد اخذ جزء اكبر من مخزون ليبيا من برامج الأسلحة النووية والكيمياوية خلال رحلة دامت 12 يوما وبدأت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2003 .
وفي 16 من نفس الشهر، جلس وفد ليبي لاعداد التفاصيل النهائية للصفقة حول مائدة غداء مع نظرائهم الأميركيين والبريطانيين في «ترافيليرز كلوب» الخاص وسط لندن. وسوية مع كوسا، جرى تمثيل الليبيين من جانب سفيرهم في ايطاليا عبد العاطي العبيدي ومحمد الزواي مبعوثهم الى بريطانيا. وأمامهم كان ويليام ايرمان وديفيد لاندسمان، وهما مسؤولان كبيران من وزارة الكومونويلث والشؤون الخارجية البريطانية، واثنان من المسؤولين من المخابرات البريطانية. أما الفريق الأميركي الصغير فكان يقوده روبرت جوزيف مدير إدارة مكافحة نشر الأسلحة المضادة في مجلس الأمن القومي وستيفن كابس مساعد مدير العمليات في وكالة المخابرات المركزية. وكان كابس، ضابط العمليات المتمرس الذي كان على معرفة بكوسا منذ سنوات، قد اشرف على العملية الاستخباراتية وقاد الزيارات الأولية الى ليبيا. واستمر الجدال المشحون 10 ساعات. وقال المشاركون ان الفريقين البريطاني والأميركي أصرا على اعتراف واضح من ليبيا بانها امتلكت برامج اسلحة كيماوية ونووية وانها تعد بتفكيكها. وفي النهاية وافق الليبيون على التخلي عن كل ما يرتبط بالبرنامجين ولكنهم امتنعوا عن قيام القذافي بالاعلان عن ذلك. وجرى التوصل الى تسوية تسمح لشخص آخر بالاعلان. ولكن الزعيم الليبي سيبارك القرار علنا. ووصلت رحلة الخطوط الجوية البريطانية رقم 898 الى مطار طرابلس الدولي يوم 18 يناير ( كانون الثاني) 2004 . وعلى متن الطائرة كان فريق يضم 14 من الخبراء الأميركيين والبريطانيين بقيادة من دونالد ماهلي نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون السيطرة على الأسلحة وضابط الأسلحة النووية المتقاعد.
وكان الأميركيون أول الدبلوماسيين الذين يزورون ليبيا رسميا منذ عام 1980 . وكانت جوازات سفرهم تحمل طوابع خاصة من وزارة الخارجية تسمح لهم بدخول البلاد. وخشية من احتمال تغيير القذافي رأيه عمل الفريق ليل نهار لإعداد قائمة مفصلة بمئات الأطنان من المعدات والتجهيزات المرسلة من شبكة عبد القدير خان. وكانت أولويتهم ازالة المكونات الرئيسية لمشروع تخصيب اليورانيوم الذي اقيم لانتاج المواد القابلة للانشطار للأسلحة النووية.
وبعد يومين من وصول الفريق قام الليبيون أيضا بنقل مئات الصفحات من الخطط التفصيلية لتصنيع رؤوس نووية كانوا قد اشتروها من حلقة خان. واعتبرت الخطط حساسة جدا بحيث وضعت في حقائب دبلوماسية، وكان اثنان من الأميركيين يتناوبان على النوم معها تحت وسادتهما، وفقا لما قاله احد المشاركين. وبينما كان الفريق الأميركي والبريطاني تواقين لأخذ الخطط والمواد الحساسة الأخرى الى الطائرة بأسرع ما يمكن، كان الليبيون تواقين الى عدم اثارة الانتباه الى التسليم. واصر كوسا على ان طائرة اميركية لا يمكن أن تهبط الا في الليل في مطار قليل الاستخدام خارج طرابلس وانها يجب ان ترحل قبل الفجر. وفي التاسعة والنصف من صباح يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2004 هبطت في المطار المعني طائرة حمولة عملاقة من طراز سي 17 مقبلة من قاعدة ماكورد الجوية في تاكوما بواشنطن، وقد طمست اشارات السلاح الجو الأميركي التي تحملها. وبعد أقل من خمس ساعات من ذلك وفي الساعة الثانية وسبع عشرة دقيقة فجرا أقلعت الطائرة حاملة 55 الف رطل من المعدات النووية وأنظمة التوجيه للصواريخ البعيدة المدى. وكانت متوجهة الى تينيسي حيث ستنقل المواد الى مختبر الأسلحة القومي في أوك بريدج.
وبعد شهرين، أبحرت ناقلة تحمل العلم الأميركي من طرابلس حاملة ما يزيد على الف طن من المعدات الاضافية من برنامج ليبيا النووي فضلا عن خمسة من صواريخ سكود بعيدة المدى مشتراة من كوريا الشمالية.
ورفعت إدارة بوش معظم القيود المفروضة على ليبيا واستأنفت العلاقات الدبلوماسية في الصيف الماضي. وقال المسؤولون إنهم يأملون ان يوجه قرار القذافي رسالة إلى إيران التي تتهمها الولايات المتحدة بمحاولة تطوير أسلحة نووية. وقال دبلوماسي أميركي مقيم في أوروبا «أردنا أن نظهر لدول أخرى أن هناك مخرجا».
* لوس أنجليس تايمز
غزة-دنيا الوطن
ظل المسؤول البريطاني الرفيع يذرع حجرته ذهابا وإيابا حتي تحول المساء إلى ليل كامل. وظل كل بضع دقائق يرفع الهاتف ليتصل بالعاصمة الليبية طرابلس. ويسأل هذا المسؤول السفير البريطاني في ليبيا أنتوني لايدن «ألم يبثوه حتى الآن؟». فأجابه لايدن «هناك مباراة كرة قدم على شاشة التلفزيون».
قبل هذه المكالمة بثلاثة أيام، كانت ليبيا قد وافقت على التخلي عن برامج أسلحتها النووية والكيماوية مقابل إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة ضدها، منهية بذلك مفاوضات سرية استمرت عدة أشهر مع البريطانيين والأميركيين.
وكان بيانا قد كتب كلمة بكلمة، خلال إجتماع شاق، تتويجا لذلك الاتفاق. وكان على وزير الخارجية الليبي أن يعلن القرار عبر التلفزيون الوطني ثم يتبعه الزعيم الليبي معمر القذافي بخطاب قصير إلزامي يؤيد فيه الاتفاق.
كانت الساعات تمر بطيئة في وقت كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الأميركي جورج بوش ينتظران على أحر من الجمر ذلك الإعلان. كان الوقت هو آخر عام 2003 وكلاهما بحاجة إلى انتصار يمكنهما من مواجهة الانتقادات المتزايدة لفشل أجهزة الإستخبارات في البلدين في كشف حقيقة واقع تسلح العراق قبل شن الحرب ضده.
وقال المسؤول البريطاني، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، وهو يسترجع تفاصيل هذا المسلسل، «كنا قلقين من أن يتم إلغاء كل ما توصلنا إليه، فقد أصبح الوقت متأخرا أكثر فأكثر». وعبر مقابلات جرت في الفترة الأخيرة مع الأطراف المعنية، استرجع المسؤولون الأحداث التي سبقت الإعلان الليبي والذي كان نقطة تحول تاريخية بالنسبة لنظام يعتبر خارجا عن القانون مع مساعيه لاسترجاع موقعه بين الأسرة الدولية. لكن المسؤولين ما زالوا غير متفقين على السبب الذي دفع القذافي للتخلي عن برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل. فبعض المعلومات تساند وجهة نظر الرئيس بوش الذي يرى أن السببين وراء ذلك كانا الإطاحة بصدام حسين ونظرية الولايات المتحدة الخاصة بالهجمات الاستباقية. إذ دفع ذلك الزعيم الليبي ليغير من موقفه.
لكن عددا من مسؤولين بريطانيين وأميركيين قالوا إن القذافي ظل يحاول لسنين أن يسلم الأسلحة التي بحوزته كي ينهي العقوبات الدولية التي ألحقت أضرارا كبيرة بالاقتصاد الليبي وتسهيل الطريق لوصول ابنه إلى الحكم في آخر المطاف. ففي الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تتحدث بحزم حول برنامج إيران النووي، ساعد المزيج من المفاوضات والمعلومات الاستخباراتية الجيدة والضغط الذي فرض على ليبيا على تشكيل خطة أخرى للتعامل مع طهران، حسبما ذكر ديبلوماسيون على إطلاع بمجرى الأحداث. وحينما انتهت مباراة كرة القدم ليلة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2003 ظهر محمد عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي على شاشة التلفزيون الحكومي ليعلن عن أن بلده ستكشف عن برامج أسلحته غير التقليدية وتقوم بتفكيكها. ثم ظهر القذافي لفترة قصيرة لإلقاء خطاب قصير يبارك به هذه الخطوة معتبرا إياه «قرارا حكيما وخطوة شجاعة».
وفي مكتبه، كان المسؤول البريطاني الرفيع يتنفس الصعداء. قال لاحقا «إنها جائزة كبيرة... نحن لم نكن متأكدين حتى النهاية من أن خطتنا ستنجح».
وخلال شهر من الإعلان، كان الخبراء الأميركيون والبريطانيون يتجولون بين المنشآت السرية حيث كانت ليبيا تصنع أسلحتها الكيماوية وبدأت بالعمل على صنع القنبلة النووية. وما عثروا عليه آنذاك كان مفاجئا ومثيرا للحذر. وهذا ما يؤكد على أنهم فازوا بجائزة كبيرة حقا. كان البريطانيون أكثر انفتاحا. فهم قاموا بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طرابلس في يوليو (تموز) 1999 . وسلمت ليبيا من جانبها ضابطي مخابرات متورطين بإسقاط طائرة بان إم فوق لوكيربي لمحاكمتهما من قبل محكمة اسكوتلندية كذلك وافقت الولايات المتحدة وبريطانيا على رفع مؤقت للعقوبات الدولية المفروضة ضد ليبيا. وصدر حكم على أحد المتهمين الليبيين في يناير (كانون الثاني) 2001، ثم تبلور زخم لإيجاد حل لقضية لوكيربي في اكتوبر (تشرين الأول) 2001 حينما حضر وفد ليبي بشكل سري إلى لندن للالتقاء بمسؤولين بريطانيين وأميركيين، حسبما قال أحد المشاركين في تلك المفاوضات.
وكان الوفد الليبي يترأسه موسى كوسا رئيس الاستخبارات الخارجية والذي طرد من بريطانيا قبل عقدين للاشتباه بقيامه بتنسيق هجمات إرهابية.
وتوصلت المفاوضات أخيرا إلى أن تتحمل ليبيا مسؤولية مقتل 259 شخصا على ظهر الطائرة و11 شخصا على الأرض ودفع مبلغ 2.7 مليار دولار لأقارب الضحايا. لكن المشاركين في المفاوضات من أميركيين وبريطانيين قالوا إنهم كانوا واضحين مع الليبيين في إخبارهم أن حل مشكلة لوكيربي لن يكون كافيا لوحده.
وقال أحد المسؤولين، الذي اشترط عدم الكشف عن اسمه، «أكدنا أنه بينما تعتبر لوكيربي قضية مهمة جدا وهي شرط لتحقيق تقدم باتجاه إعادة تأهيل ليبيا للعودة إلى المجتمع الدولي فإن ذلك سيعتمد على حل ملف أسلحة الدمار الشامل الخاص بليبيا». واكتسبت المفاوضات مع ليبيا حول برامج الأسلحة غير التقليدية صفة الإلحاح في مارس ( آذار) 2003 بعد أن إلتقى سيف الإسلام القذافي الأبن الأكبر للزعيم الليبي، والخليفة المرجح لأبيه، مع موظفي استخبارات بريطانيين في فندق بلندن.
وحسبما ذكر مسؤول أميركي أطلع على المفاوضات، قال القذافي الإبن «دعونا ننقي الجو من تلك الشائعات التي تقول إن ليبيا تمتلك أسلحة دمار شامل». ولأن الابن كان ينظر إليه باعتباره مبعوث والده، فإن رسالته اعتبرت إشارة على أن الأب القذافي على استعداد للتوصل إلى اتفاق.
حينذاك كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تعرفان أن ليبيا قامت، رغم إنكارها، بتصنيع أسلحة كيماوية. كذلك كان البلدان يعرفان أن شبكة العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان قد جهزت ليبيا ببرامج تمكنها من صنع قنابل نووية.
وخلال الأسابيع التي أعقبت ذلك اللقاء التقى مسؤولان من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وآخران من نظيره جهاز المخابرات الخارجية البريطاني (أم آي 6) مع كوسا وليبيين آخرين في لندن وفي مدن أوروبية أخرى لكن لم يتحقق أي تقدم حاسم. وقال المسؤول الأميركي الرفيع «كانت هناك فترات من الاتصالات، لكن الليبيين لم يعترفوا حتى ذلك الوقت بأنهم يمتلكون برنامجا لصنع القنبلة النووية... كانوا خجولين». وبإستثناء بوش وبلير، فإن هناك عددا قليلا من المسؤولين الكبار في واشنطن يعرفون بالمفاوضات. وكانوا يخافون من أن أي تسرب للمعلومات سيجند المعارضة إما داخل ليبيا أو في الجزء الأكبر من العالم العربي وهذا ما سيجعل القذافي يفكر مرتين.
وخلال أيام وصلت مجموعة كبيرة من خبراء وكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية الى ليبيا، وفقا لما قاله مسؤولون معنيون بالعملية. وقد اخذ جزء اكبر من مخزون ليبيا من برامج الأسلحة النووية والكيمياوية خلال رحلة دامت 12 يوما وبدأت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2003 .
وفي 16 من نفس الشهر، جلس وفد ليبي لاعداد التفاصيل النهائية للصفقة حول مائدة غداء مع نظرائهم الأميركيين والبريطانيين في «ترافيليرز كلوب» الخاص وسط لندن. وسوية مع كوسا، جرى تمثيل الليبيين من جانب سفيرهم في ايطاليا عبد العاطي العبيدي ومحمد الزواي مبعوثهم الى بريطانيا. وأمامهم كان ويليام ايرمان وديفيد لاندسمان، وهما مسؤولان كبيران من وزارة الكومونويلث والشؤون الخارجية البريطانية، واثنان من المسؤولين من المخابرات البريطانية. أما الفريق الأميركي الصغير فكان يقوده روبرت جوزيف مدير إدارة مكافحة نشر الأسلحة المضادة في مجلس الأمن القومي وستيفن كابس مساعد مدير العمليات في وكالة المخابرات المركزية. وكان كابس، ضابط العمليات المتمرس الذي كان على معرفة بكوسا منذ سنوات، قد اشرف على العملية الاستخباراتية وقاد الزيارات الأولية الى ليبيا. واستمر الجدال المشحون 10 ساعات. وقال المشاركون ان الفريقين البريطاني والأميركي أصرا على اعتراف واضح من ليبيا بانها امتلكت برامج اسلحة كيماوية ونووية وانها تعد بتفكيكها. وفي النهاية وافق الليبيون على التخلي عن كل ما يرتبط بالبرنامجين ولكنهم امتنعوا عن قيام القذافي بالاعلان عن ذلك. وجرى التوصل الى تسوية تسمح لشخص آخر بالاعلان. ولكن الزعيم الليبي سيبارك القرار علنا. ووصلت رحلة الخطوط الجوية البريطانية رقم 898 الى مطار طرابلس الدولي يوم 18 يناير ( كانون الثاني) 2004 . وعلى متن الطائرة كان فريق يضم 14 من الخبراء الأميركيين والبريطانيين بقيادة من دونالد ماهلي نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون السيطرة على الأسلحة وضابط الأسلحة النووية المتقاعد.
وكان الأميركيون أول الدبلوماسيين الذين يزورون ليبيا رسميا منذ عام 1980 . وكانت جوازات سفرهم تحمل طوابع خاصة من وزارة الخارجية تسمح لهم بدخول البلاد. وخشية من احتمال تغيير القذافي رأيه عمل الفريق ليل نهار لإعداد قائمة مفصلة بمئات الأطنان من المعدات والتجهيزات المرسلة من شبكة عبد القدير خان. وكانت أولويتهم ازالة المكونات الرئيسية لمشروع تخصيب اليورانيوم الذي اقيم لانتاج المواد القابلة للانشطار للأسلحة النووية.
وبعد يومين من وصول الفريق قام الليبيون أيضا بنقل مئات الصفحات من الخطط التفصيلية لتصنيع رؤوس نووية كانوا قد اشتروها من حلقة خان. واعتبرت الخطط حساسة جدا بحيث وضعت في حقائب دبلوماسية، وكان اثنان من الأميركيين يتناوبان على النوم معها تحت وسادتهما، وفقا لما قاله احد المشاركين. وبينما كان الفريق الأميركي والبريطاني تواقين لأخذ الخطط والمواد الحساسة الأخرى الى الطائرة بأسرع ما يمكن، كان الليبيون تواقين الى عدم اثارة الانتباه الى التسليم. واصر كوسا على ان طائرة اميركية لا يمكن أن تهبط الا في الليل في مطار قليل الاستخدام خارج طرابلس وانها يجب ان ترحل قبل الفجر. وفي التاسعة والنصف من صباح يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2004 هبطت في المطار المعني طائرة حمولة عملاقة من طراز سي 17 مقبلة من قاعدة ماكورد الجوية في تاكوما بواشنطن، وقد طمست اشارات السلاح الجو الأميركي التي تحملها. وبعد أقل من خمس ساعات من ذلك وفي الساعة الثانية وسبع عشرة دقيقة فجرا أقلعت الطائرة حاملة 55 الف رطل من المعدات النووية وأنظمة التوجيه للصواريخ البعيدة المدى. وكانت متوجهة الى تينيسي حيث ستنقل المواد الى مختبر الأسلحة القومي في أوك بريدج.
وبعد شهرين، أبحرت ناقلة تحمل العلم الأميركي من طرابلس حاملة ما يزيد على الف طن من المعدات الاضافية من برنامج ليبيا النووي فضلا عن خمسة من صواريخ سكود بعيدة المدى مشتراة من كوريا الشمالية.
ورفعت إدارة بوش معظم القيود المفروضة على ليبيا واستأنفت العلاقات الدبلوماسية في الصيف الماضي. وقال المسؤولون إنهم يأملون ان يوجه قرار القذافي رسالة إلى إيران التي تتهمها الولايات المتحدة بمحاولة تطوير أسلحة نووية. وقال دبلوماسي أميركي مقيم في أوروبا «أردنا أن نظهر لدول أخرى أن هناك مخرجا».
* لوس أنجليس تايمز
التعليقات