التنظيمات الفلسطينية لم تعد أبناءها لمواجهة قسم العملاء في سجن بئر السبع

التنظيمات الفلسطينية لم تعد أبناءها لمواجهة قسم العصافير في سجن بئر السبع



"الشباك" يستخدم وسائل تحقيق تعتمد على العملاء الملقبين بـ "العصافير" خلال التحقيق مع الفلسطينيين، والتنظيمات لم تُعد الشبان لحيل "الشباك" وأساليبه كما فعلت الفصائل في السبعينيات والثمانينيات - المصدر)."كنت في الفندق ستة ايام. فندق سجن بئر السبع. حمام كل يوم وطعام جيد ومكسرات وتلفزيون وفواكه وملابس عادية"، هذا ما يقوله (د)، الشاب الفلسطيني من رام الله الذي تعرض للتحقيق واعتقل طوال 40 يوما منذ أواسط شهر تشرين الثاني 2004، بعد الايام الستة التي قضاها في سجن بئر السبع. (د) لم يفهم ان "الفندق" الذي يتحدث عنه ليس إلا قسما عاديا من أقسام السجن، إلا في يومه الأخير هناك. في هذا القسم يوجد شبان مع "العصافير" (أي المتعاونين مع اسرائيل حسب ما يلقبهم الفلسطينيون).

المعتقلون الذين لا يحصل المحققون منهم على شيء يُرسلون الى هناك لانتزاع معلومات تُدينهم. "العصافير" يتنكرون بصورة سجناء عاديين على انهم مناضلين ذوي ماضٍ حافل ومهمتهم دفع المعتقل الى الوثوق بهم والشعور بالأمان، حيث يُشعرونه ان التحقيق معه قد انتهى وانه أثبت نفسه وكان بطلا، والآن ها هو ينتقل الى السجن حتى يتقرر اذا كانت السلطات ستقدم ضده لائحة اتهام أم انها ستطلق سراحه. في ظل الظروف المريحة التي يوفرونها له يقع الشاب بالإغراء ويعتقد ان السجن ليس تجربة صعبة كما كان يتصور. المعتقل يتمتع في قسم "العصافير" هذا بالاهتمام والرعاية، والسجناء القدامى يعاملونه بصورة مميزة. وعندها يفتح قلبه لهم ويحدثهم عن أسراره وبطولاته التي هي من صنع خياله.

"العصافير"، حسب قول السجناء، يستخدمون لهجات مختلفة حتى يطمسوا هويتهم الحقيقية، وما هم في الواقع إلا عملاء متعاونون مع اسرائيل من خارج السجن وبعضهم كان سجينا سابقا وترك التنظيمات داخل السجن ليتحول الى متعاون مع اسرائيل. "العصافير" يؤدون دورهم المسرحي لفترة معينة، ومن ثم يخرجون لقضاء الوقت مع عائلاتهم ومن ثم يعودون مرة اخرى. هذه الاستنتاجات نابعة من عملية مشاهدة متراكمة: مثلا عندما يخرج السجناء الموجودين في القسم الأمني الى الزيارة أو العيادة فيشاهدون فجأة نفس "العصافير" الذين كانوا معهم إبان إدخالهم الى قسم العملاء. السجناء - الممثلون هؤلاء ينتظرون أمام بوابة السجن للدخول الى "عملهم" واستبدال أحد رفاقهم الموجودين في المناوبة، أو يكونون خارجين في إجازتهم الى منازلهم.

غير مستعدين لعملية التحقيق

"العصافير" الذين خدعوا (د) كل الوقت عرضوا عليه ان يُصلي معهم. "قلت لهم أنني لا أُصلي، ومع ذلك كانوا يوقظونني في الفجر حتى أُصلي قائلين: آسفين، لقد نسينا أنك لا تُصلي - مسرحية كاملة". (د) فهم هويتهم الحقيقية في يومه السادس فقط لأنهم أصروا جدا على ان يقوم بإخبارهم عن "علاقاته العسكرية" مع فلان أو علان، وعن تجربته "العسكرية". وهذه كانت نفس المسائل التي ركز عليها المحققون خلال اسبوع التحقيق معه ولم يفلحوا.

"صحيح أنني كنت موظفا في ادارة أحد الاجهزة الأمنية الفلسطينية، إلا أنني لم أحمل بندقية ولم أطلق رصاصة بالتأكيد". عندما فهم (د) ان رفاقه في غرفة السجن هم عملاء وواجههم بذلك تم إخراجه من "الفندق" فورا وأُعيد الى الاعتقال العادي ("السجان دفع له صحن الطعام بساقه") في سجن عسقلان (قسم التحقيقات). وهناك فقط، عندما أصبح في زنزانة مع سجناء حقيقيين عرف بمصطلح "العصافير".

السجناء السابقون يستنتجون ان محكمة العدل العليا قد قيدت "الشباك" بأساليب التحقيق المشرعة، وحظرت ممارسة التعذيب خلاله، ولذلك قام بالتركيز على الاساليب الاستخبارية من خلال العملاء. طريقة غرفة "العصافير" أثبتت نفسها على ما يبدو بصورة جيدة، خصوصا خلال السنوات الاربع الأخيرة: آلاف المعتقلين وصلوا الى غرف التحقيق والاعتقال من دون أي تجربة في تنظيم سياسي ولا في تنظيم "عسكري"، ومن دون أي اعداد مسبق لعملية التحقيق. في السبعينيات والثمانينيات حاولت الفصائل الفلسطينية اعداد الأفراد لفترة التحقيق وما يحدث فيها والمعلومات وصلت الى كل من لم تكن له أنشطة سياسية. ولكن إبان الانتفاضة الحالية لم تتم في التنظيمات أية محاولة لاعداد الشبان لعملية التحقيق المحتملة، ومن اعتقل أبدى جهلا مذهلا في تقنيات "الشباك". المعتقلون القدامى يعتقدون ان الشبان يُصابون بالصدمة من ظروف التحقيق رغم انها لا تقارب بما حدث معهم في السابق.

(د) في الخامسة والعشرين من عمره، وهو من مواليد الاردن، وقد جاء الى رام الله قبل تسع سنوات مع والديه اللاجئين من احدى قرى 1948 المدمرة، وهما عضوان في م.ت.ف منذ سنوات طويلة. في حرب لبنان كانوا في بيروت وعاشوا عمليات القصف المتواصلة. الأب مسؤول كبير في أحد اجهزة السلطة. وقد جاءوا كلهم كمؤيدين أقوياء لعملية اوسلو. (د) أعزب، وما زال يسكن مع والديه وشقيقيه. أنهى دراسته الثانوية في رام الله ووجد وظيفة في كازينو أريحا، ومن ثم انتقل للعمل الاداري في أحد الاجهزة الأمنية، ولم تسر الامور معه على ما يرام فغادر. وفي منتصف الانتفاضة الحالية بدأ يعمل كسائق في شركة مع رفيقه (ج). والآن يتعلم برمجة الحاسوب. (د) موافق على نشر شهادته باسمه، بينما يناشده والديه ان لا يفعل ذلك.

في منتصف تشرين الثاني قام هو وزميله (ج) بنقل شخص ما الى أبوديس في سيارة تاكسي. وفي ظهيرة ذلك اليوم، خلال طريق العودة، أوقفه الجنود واعتقلوه هو وزميله في سيارتي جيب ونقلوه من موقع الى آخر الى ان وصل بعد يومين الى معتقل عسقلان. في غرفة التحقيق هناك كان الكابتن "شايكا" بانتظاره وقال له "لقد اعترف عليك اصدقاؤك"، ومن ثم قال له: لديك ساعة فاخرة وجهاز خلوي، فمن أين لك هذا؟. (د) ضحك من اسئلته هذه، فسرعان ما استشاط شايكا غضبا ونادى السجان لأخذه. السجان أخذه لاستبدال ملابسه بملابس السجن البنية وأعاده. شايكا أعطاه ورقة وطلب منه ان يقرأ حقوقه المكتوبة بالعربية والعبرية: "الحصول على وجبات ثلاث مرات في اليوم، والحمام ثلاث مرات اسبوعيا، وما الى ذلك".

بعدها أجلسه على كرسي بلاستيكي ويديه مكبلتين بأغلال بلاستيكية الى الخلف بصورة مؤلمة جدا. شايكا قال له: أصحابك اعترفوا عليك. فرد عليه بأنه حمامة سلام جاء من الخارج وهو مؤيد لاوسلو. وهكذا استمر التحقيق معه سبعة ايام حيث يتناوب عليه المحققون (شايكا وأبو ربيع ويوري)، ولم ينم خلالها إلا ست ساعات في زنزانته، وباقي الوقت قضاه في غرف التحقيق والشَبْح بأوضاع مختلفة.

في أحد الايام ربطوا (د) بجهاز مثل البوليغراف (كاشف الكذب) وعرض عليه أحد الاشخاص نفسه على انه بروفيسور من تل ابيب، ليعرف بعدها انه محقق.

قبل عامين أو ثلاثة عرف (د) عن شخص ما فكر بتنفيذ عملية انتحارية وقام بإيصال اسمه للسلطة. الشخص اعتقل وأطلق سراحه ليتحول بعدها الى مطلوب. "هذا الشخص ما زال غاضبا عليّ حتى اليوم. أنا احترمت اسرائيل، والمحققون دفعوني الى كراهيتها. قبل ان اعتقل اعتقدت انهم يعرفون كل شيء، ولكن دخولي الى السجن أزال هذه الفكرة. عندما أجلسوني وأنا مقيد للخلف خلال ساعات والرياح الباردة تهب عليّ قالوا لي أنني قمت باطلاق النار، فقلت نعم، وأنا الذي نفذ عمليات الحادي عشر من ايلول في امريكا وأنا الذي قمت بكل العمليات. في البداية قالوا لي: هناك اعمال كثيرة نفذتها. أطلقت النار على يهود. قلت لهم أنني لم أحمل بندقية أبدا، فقالوا لي أنني كاذب وممثل. بعدها خفضوا إتهاماتهم: أنت تزور المطلوبين في المقاطعة. قلت لا أنا أزور والدي الذي يعمل في الموقع. في نهاية التحقيق جربوا معي شيئا آخر: أنت سائق جيد، إعترف فقط ان رفاقك أطلقوا النار من السيارة". وعرضوا عليه التعاون معهم مرتين، فرفض. "أبو ربيع" قال له أُخرج وقُل أنك صمدت في التحقيق وأنك لم تقل شيئا. (د) رد عليه قائلا: "كيف أقول أنني صمدت وليس لدي ما أقوله. المسألة ليست مسألة صمود هنا".

"أربعين يوما كنت في المعتقل والتحقيق من دون شمس. سمحوا لي ان أرى المحامي في النهاية فقط. في اليوم الاربعين أطلقوا سراحي. ألقوا بي في معبر ترقوميا (جنوبي الضفة)، عرفوا أنني من رام الله إلا أنهم ألقوا بي هناك. ومن يحمل هوية الخليل يلقونه في عوفر بجانب رام الله. ذلك حتى نكرههم".

المصدر: عميره هاس

مراسلة هآرتس للشؤون الفلسطينية

التعليقات