فدائي في المخابرات الإسرائيلية جزء 1 بقلم:عبدالله عيسى

من ملفات المخابرات الفلسطينية:

فدائي في المخابرات الإسرائيلية

بقلم:عبدالله عيسى

جزء 1

المقدمة

قدر فلسطين أن تكون مهد الديانات ومهد الصراع منذ فجر التاريخ وقدر الفلسطينيين , بالنتيجة أن يكونوا في فوهة هذا الصراع وواجهة الحرب , منذ ذلك اليوم الذي اقتحم فيه يشوع بن نون مدينة أريحا لتشهد أرض القداسات أول مجزرة للفلسطينيين على أيدي اليهود , وليتعاقب الغزاة على أرض اللبن والعسل , ولتعدد المجازر مروراً بالصليبيين ودير ياسين وصبرا وشتيلا .

وبعد مرور سبعة عشر عاماً على تأسيس كيان العدو الإسرائيلي قامت منظمة التحرير الفلسطينية وأخذ الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني منحى جديداً في التاريخ فقد دأب هذا الكيان على إلغاء الوجود الفلسطيني من ذاكرة العالم , فقامت المنظمة بترسيخه وأعادت الذاكرة إلى العالم في سلسلة طويلة من العمليات البطولية واتسعت المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية على مساحة العالم كله , الأمر الذي جعل من الحرب السرية بين المنظمة وإسرائيل أخطر الأساليب في هذا الصراع . وقد اشتهر " الموساد " ( جهاز المخابرات الإسرائيلية ) في العالم كله , بفضل استعانته باليهود المحترفين من مختلف الأقطار , بل وباليهود في أجهزة المخابرات الغربية , وفى المناصب العليا والحساسة في هذه الدول , مما أتاح له تسجيل بعض النجاحات في الصراع العربي – الإسرائيلي حتى قيل من باب الدعاية والغرور , انه " أكفأ جهاز وغير قابل للاختراق " لكن العديد من أجهزة المخابرات العربية , استطاعت اختراق " الموساد " في أكثر من مكان , واكثر من مناسبة . بل إن جهاز المخابرات الفلسطيني يسجل باستمرار اختراقات كبيرة أدت في أكثر من مرة إلى قيام العدو بإجراءات شاملة لغربلته وتغييره بلا نتيجة .

ومن ملف المخابرات الفلسطينية ننشر القصة الحقيقية التالية بعد تغيير الأسماء . وتغيير بعض الحوادث لأن أبطال هذه القصة ما زالوا أحياء . وما زالت الأحداث والوقائع حية و مستمرة .

الفصل الأول

الغارة على تونس

في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان , وتحديداً في ديسمبر ( كانون الأول ) 1983

وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في واقع سياسي وتنظيمي مشتت بعد خروجها من طرابلس , وتعثرت كل الجهود والحوارات التي أعقبت هذا الخروج لتوحيد الصفوف بين قيادة رئيس المنظمة ياسر عرفات وبين " المنشقين " الأمر الذي أدى إلى توزيع قوات " فتح " بين دمشق وتونس وبعض الأقطار العربية الأخرى . وقد تلا ذلك انشقاق في جبهة التحرير الفلسطينية قادة أبو العباس , نائب الأمين العام للجبهة , تنظيمياً وسياسياً وعسكرياً, ويتمتع بشعبية داخلها مما جعل معظم أفراد ومسؤولى هذا التنظيم يغادرون معه إلى تونس .

وقد عرف أبو العباس قبل هذا التاريخ بتخطيطه عمليات عسكرية مميزة وناجحة داخل الأراضي المحتلة مثل عملية نهاريا 1974 , والطائرات الشراعية التي استهدفت مصفاة النفط الإسرائيلية في حيفا عام 1981 . وهى العملية التي أحدثت صدمة كبرى لدى القيادة الإسرائيلية في حينه . إذ استطاعت الطائرات الشراعية اختراق الحواجز الأمنية والتسلل جواً إلى العمق الإسرائيلي . وفى ظل تلك الانشقاقات والخلافات الداخلية على الساحة الفلسطينية , انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشرة في عمان ما بين 22 – 28 نوفمبر

( تشرين الثاني ) 1984 , وتبعه توقيع اتفاق عمان في أوائل 1985 . وما أثاره هذا الاتفاق من جدل على الساحة الفلسطينية والعربية , وفى هذا الوقت بالذات في يناير ( كانون الثاني )1985 , اتخذت القيادة الفلسطينية قراراً بتصعيد الكفاح المسلح داخل الأراضي المحتلة , وبضرورة عودة المقاتلين إلى لبنان . وقد شمل هذا القرار " فتح " والتنظيمات الأخرى , وسرعان ما بدأ الرجال في التخطيط ثم التنفيذ فأبحرت في أبريل ( نيسان ) 1985 الباخرة الفلسطينية التي كانت تقل 28 مقاتلاً فلسطينياً من قاعدة بحرية فلسطينية في إحدى الدول العربية وتبادلت إطلاق النار في عرض البحر مع الزوارق الحربية الإسرائيلية حيث استشهد في هذه العملية عشرون مقاتلا واسر ثمانية . وقد قام الشهيد أبو جهاد بإعداد الباخرة وتدريب المقاتلين في إحدى القواعد البحرية الفلسطينية بهدف ضرب وتدمير قيادة الأركان الإسرائيلية . إلا أن السفينة اكتشفت في عرض البحر وتمت مهاجمتها من قبل الزوارق الحربية الإسرائيلية . وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال حول هذه العملية الجريئة , إلا أنها بقيت لغزاً إلى الآن وتضاربت الأقوال حولها فالبعض يقول إنها وصلت إلي الساحل الفلسطيني وجرى قتال على أرض فلسطين , بينما يقول آخرون أن الاشتباك وقع في عرض البحر .

ولكن الثابت أن الباخرة قامت بعدة مناورات قبل تنفيذ العملية ووصلت إلى الساحل الفلسطيني قبل مشوارها الأخير . وعلى ما يبدو فقد طرأ عليها خلل في اليوم المذكور أو " ساعة الصفر " وربما لعبت الصدفة أو سوء الطالع دوراً في اكتشاف أمر الباخرة . ويقول أحد المحللين العسكريين أن الأقمار الصناعية الأمريكية قد اكتشفت الباخرة في عرض البحر وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعلام العدو الصهيوني بأمر الباخرة . وقد حققت هذه العملية أهدافاً سياسية ومعنوية , حيث ثبتت قدرة المقاتل الفلسطيني على الوصول إلى هدفه داخل الأراضي المحتلة رغم بعده آلاف الأميال عن الساحة الرئيسية للصراع , مما ولد دفعاً معنوياً لدى المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون مرارة البعد عن ساحة المعركة . كما شكلا دافعاً قوياً لدى أبو العباس الذي بدأ يخطط لعملية بحرية مشابهة , وان اختلفت في بعض تفاصيلها , وبالرغم من انشغاله آنذاك بالحوارات مع طلعت يعقوب وعلى عزيز , إلا أن تعلقه بالبحر وبالسفينة بدأ واضحاً من خلال العمليات البحرية العديدة التي خطط لها قبل الخروج من بيروت .

وقبل أن يستقر رأى أبو العباس على " اكيلى لاورو " كان قد قام بعدة استطلاعات في مالطة ودول أفريقية ساحلية تقيم علاقات مع إسرائيل , وقد رشح لمهمته أحد رجاله من ذوى البشرة السوداء , إلا أن هذه الخطط استبعدت وتمت الموافقة على " اكيلى لاورو " .

وخلال يوليو ( تموز ) 1985 وصلت الحوارات إلى طريق مسدود , وفشلت كل الصيغ التوفيقية , وأمام ضغط التنظيم اضطر أبو العباس إلى الإعلان عن عقد المؤتمر السابع لجبهته في 5 سبتمبر ( أيلول ) 1985 .

معلومات خطيرة

كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء عندما دخل ياسر عرفات قاعة المؤتمر في معسكر وادي الزرقاء الذي يبعد عن تونس العاصمة حوالي 100 كيلومتر , وكان من المقرر أن يفتتح المؤتمر العام السابع لجبهة التحرير الفلسطينية في الساعة الخامسة مساء , ولكنه وصل متأخراً وسط إجراءات أمنية مشددة وغير عادية . فدخل القاعة التي غصت بالمؤتمرين وبعدد كبير من رجال الصحافة العربية والأجنبية والوفود الصديقة من حركات التحرر العالمية , واستقبل بالتصفيق الحاد.

استمع عرفات إلى كلمات الوفود الصديقة والعربية ثم إلى كلمة أبو العباس , الذي كان يبدو سعيداً بنجاح مؤتمره حيث تم انتخابه من قبل أعضاء الجبهة أميناً عاماً

ولم يدرك أحد آنذاك أن هذا الرجل الذي كان يتحدث عن جبهته والساحة الفلسطينية بهدوء وثبات , سيصبح بعد شهر واحد لغزاً محيراً تتحدث عنه وكالات الأنباء العالمية . كما لم يلاحظ أي من الموجودين ذلك الشاب الأسمر البشرة النحيف والمتوسط القامة والذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر , يقف قريبا من المنصة , خافياً مسدسه بذكاء ولا تبدو عليه سمات المرافق . وقد يكون إبراهيم سلمان نفسه لم يفكر في تلك اللحظة بأنه سيخوض حرب مخابرات في قصة من أخطر قصص الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية و" الموساد " . وكانت عينا سلمان ترقبان الحضور بحذر , وعادة يشعر المرافق بالتوتر والقلق في مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات مهما بلغت الاحتياطات الأمنية , فالمفاجآت غير السارة واردة في أية لحظة .

وأخيراً وقف عرفات وألقى كلمة تحدث في بدايتها عن تأييده للمؤتمر , ثم انتقل بسرعة إلى قضية حساسة وقال : " لقد وصلتنا معلومات من جهات صديقة مفادها أن مجلساً وزارياً إسرائيليا مصغراً قد اجتمع وقرر أن تشن ( إسرائيل ) غارة جوية على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية " . وأضاف : " وفى طريقي إلى هنا تحدثت مع المسؤولين التونسيين وابلغتهم بالموضوع , فأعلنوا حالة الاستنفار في الجيش التونسي " . ثم واصل حديثه عن الأوضاع السياسية وخصوصا اتفاق عمان وضرورة مواصلة التحركات السياسية لعقد المؤتمر الدولي للسلام .

وكان واضحاً أن حديث عرفات بدا مستعداً لدى الكثيرين , فمسألة وصول الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تونس ليست سهلة من الناحية العملية , إلا أن مسحة من الرهبة سيطرت على القاعة , وكان التساؤل الوحيد الذي يدور في ذهان الحاضرين : هل يمكن أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلي هذا المكان ؟ !

وتناقلت وكالات الأنباء حديث أبو عمار . وكانت هذه المعلومات بحوزة المخابرات الفلسطينية قبل عشرين عاماً من عملية لارنكا التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لقصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط , وهو ما يؤكد أن عملية لارنكا كانت مجرد ذريعة . أما نية العدوان فميتة وجاهزة في انتظار التوقيت المناسب . تماماً كما حصل في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما اتخذت إسرائيل من اغتيال السفير اللبناني أرجوف في لندن ذريعة لهذا العدو . وقد غطت أحداث لبنان آنذاك على السبب المباشر في الغزو , أي محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي الذي أصيب بشلل وأصبح مقعداً بعد العملية , إلا أن هذه العملية التي تردد أبو نضال خطط لها كانت من ضمن عدة عمليات كان – كما تردد أبو نضال يخطط لها فضلاً عن قائمة شملت عدة أسماء .

إلا أن نبيل الزملاوى , مدير مكتب المنظمة في لبنان , آنذاك كانت مفاجأته أكثر من الجميع عندما اكتشف بعد عملية اغتيال أرجوف أن الشاب مروان الذي يرتبط بعلاقة قرابة مع صبري البنا ( أبو نضال ) وتحديداً ابن أخته , كان أحد مرافقيه وكان كثيراً ما ينوب عنه ويمثله في المهرجانات السياسية في بريطانيا , ولم يدرك حقيقة انتمائه إلا بعد الحادث إذ تبين أن مروان كان أحد الذين نفذوا عملية اغتيال السفير الإسرائيلي وكانت لدى المخابرات الفلسطينية قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 بشهور معلومات حول الحشود والاستعدادات الإسرائيلية للعدوان الذي خطط له أرئيل شارون .

في لارنكا

فجر يوم 25 سبتمبر ( أيلول ) 1985 اقتحم ثلاث مسلحين اليخت " فيرست " في ميناء لارنكا القبرصي حيث قتلوا امرأة واحتجزوا رجلين رهينتين مطالبين بالإفراج عن 20 معتقلاً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية . وقد انتهت هذه العملية باستسلام الفدائيين الثلاثة ومن بينهم أيان ديفيسون البريطاني , بعد مقتل الإسرائيليين الثلاثة , الذين كانوا أعضاء في جهاز المخابرات الإسرائيلية

" الموساد " وكانت بينهم امرأة أصبحت معروفة في " الموساد " ومن ألمع الجواسيس الإسرائيليين . وكان هؤلاء الإسرائيليين الثلاثة يشكلون وحدة تجسسية تقودها المرأة التي عملت في اليخت باسم " أستر بولزار " واسمها الحقيقي سيلفيا رافائيل واستعملت أثناء خدمتها في " الموساد " أسماء عديدة مستعارة وجوازات سفر مزيفة .

وكانت مهمة سيلفيا رصد تحركات الفلسطينيين في قبرص , عبر عميل للشبكة يدعى مصطفى صبرا , لقي حتفه عندما قررت " القوات 17 " تصفية هذه الشبكة . وقبل هذه العملية بشهور , قامت الزوارق الحربية الإسرائيلية باعتراض العديد من السفن التجارية التي كانت تقل مجموعات فلسطينية متوجهة من قبرص إلى لبنان , وكانت مهمة صبرا استدراج الفلسطينيين إلى سفن معينة ومعروفة تلك التي يستخدمونها للعودة إلى لبنان واعلام إسرائيل عنها مما أدى إلى اعتقال العديد من المقاتلين والكوادر الفلسطينية من خلال اعتراض السفن اللبنانية والقبرصية . أما سلفيا فكانت مطلوبة لدى المخابرات الفلسطينية نظراً للجرائم العديدة آتى ارتكبتها , ولعل أهمها جمع المعلومات وتسهيل دخول فريق اغتيال من

" الموساد " إلى بيروت لتفخيخ السيارة التي تم بواسطتها اغتيال أبو حسن سلامة قائد " القوات 17 " في 22 يناير ( كانون الثاني ) 1979 .

وقد أحدث مقتل سيلفيا رافائيل صدمة عنيفة لدى " الموساد " وأوساط المخابرات الإسرائيلية التي كانت تعتبرها نادرة في حقلها وهذه الجاسوسة من مواليد جنوب أفريقيا من أب يهودي وأم غير يهودية , هاجرت إلى فلسطين المحتلة في شبابها وفى السبعينات انتحلت شخصية مصورة صحفية تحت اسم " باتريشيا روكسبرغ " وكانت مهمتها رصد الأحداث في الشرق الأوسط . ومن خلال شخصيتها الجذابة وعملها المثابر استطاعت أن تنشئ اتصالات مع شخصيات سياسية مسؤولة , وكانت مهمتها إعطاء إسرائيل معلومات تساعد في تصعيد المشاعر ضد الفلسطينيين , وفى النصف الثاني من السبعينات ظهرت سيلفيا في النرويج حيث التقت بمجموعة من عملاء " الموساد " وكانت مهمتها ملاحقة أبو حسن سلامة . ولكن التباساً حصل بين شخصين أدى إلى أن يقتل " الموساد " نادلاً مغربياً يدعى محمد بوشيكي ظاناً أنه قائد " القوة 17 " . وأثر هذا الحادث قبضت السلطات النرويجية على رافائيل وخمسة آخرين بتهمة القتل . وقال القاضي حينئذ أن الجريمة كانت جزءاً من عملية للمخابرات الإسرائيلية . ولم يمض سوى 19 شهراً حتى أخلى سبيل رافائيل لتظهر بعد ذلك فر باريس حيث جهزت شقة بمثابة مخبأ أمين لعملاء " الموساد " ثم اختفت بعدها عن الأنظار .

وفى علم 1979 تم اغتيال أبو حسن سلامة بتفجير سيارته لاسلكياً في بيروت . وتحدثت التحقيقات حينئذ عن اختفاء سيدة إنجليزية هادئة , كانت في الشقة المجاورة لمكان التفجير . وكانت سيلفيا تمتلك شققاً في تل أبيب وباريس وقلما كانت تقيم في إسرائيل , وكانت ترغب في اعتبارها يهودية , ولكن بعض الأوساط الإسرائيلية كانت ترفض ذلك باستمرار لأنها من أم غير يهودية .

وأثر عملية لارنكا حددت القيادة الإسرائيلية توقيت الغارة على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس , في حين اتخذت إجراءات أمنية فلسطينية لمواجهة اعتداء محتمل . وكعادتها قامت أبواق الدعاية الصهيونية بشن حملة كبرى ضد منظمة التحرير و " الإرهاب " لتشكل غطاء للعدوان الذي خططت له قبل شهور من الغارة . كما كانت المخابرات الإسرائيلية في الوقت نفسه تلاحق طائرة أبو عمار . وهكذا تقررت الغارة صبيحة اليوم الأول من أكتوبر ( تشرين الأول )1985 .

طائرة عرفات

في فجر ذلك اليوم كانت الطائرة التي أقلت ياسر عرفات وأبو اياد من بغداد إلى المغرب ثم إلى تونس . قد غيرت طريقها نتيجة لمعلومات حول نية الطائرات الحربية الإسرائيلية اعتراض سبيلها في الجو , وتحويل مسارها إلى مطار اسرئيلى أو إسقاطها . لكن هذه المحاولة الإسرائيلية فشلت لتصل بأمان إلى تونس , وذهب عرفات إلى مقر قيادته في حمام الشط , وما كاد يلتقط أنفاسه حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المقر في تمام الساعة العاشرة والربع صباحاً , بينما كان عرفات غير بعيد عن مقر إقامته يقوم بتمارين رياضية كعادته كل يوم فهو حريص على الركض والسباحة وركوب الخيل وقد كان في تلك الساعة يرتدى لباساً رياضياً وشاهد الغارة التي استهدفت مقر القائد العام والأركان و" القوة 17"

وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد أقلعت فجرا من فلسطين المحتلة ورصدت وحدات الرادارالمصرى هذه الطائرات ولكنها عجزت عن تحديد الجهة التي تقصدها .

واظهرت أجهزة الرصد المصرية إن هدفا بحريا غير إسرائيلي كان يساعد في القيام بتشويش إداري أثناء تحليق الطائرات الإسرائيلية في الجو , وأعطيت أوامر فورية للطيران المصري وأجهزة الدفاع بالتعامل مع الطائرات الإسرائيلية إذا ما اخترقت المجال الجوى المصري , كما تم رفع حالة التأهب القصوى إلا أن أثر الطائرات الإسرائيلية فقد على أجهزة الرادار . الأمر الذي أدى إلى تحريك طائرة استطلاع مصرية على الفور لملاحقة الطائرات الإسرائيلية التي أخذت خط سير مطابقاً لطرق الطيران الدولية فوق البحر المتوسط .

وقد استخدمت إسرائيل في الغارة 16 طائرة من نوع " أف 16 " تزودت في الوقود بالجو . وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تمتلك طائرات الصهريج , وهى من نوع " بيونغ – 707 " أو " دى . سى 9 " أو " دى سى 10 " فقد تم تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود في الجو ثلاث مرات , مرتين في الذهاب ومرة في العودة . وانطلقت طائرات الصهريج من ايطاليا بدون علم الحكومة الإيطالية . وكانت قد وصلت إلى مطار روما ثلاث طائرات صهريج أمريكية من نوع

" بيونغ – 707 " في السابع والعشرين من سبتمبر ( أيلول ) تابعة للسرب الثالث عشر في وحدة التزويد بالوقود بالجو لدى الحرس الأمريكي ومقرها ولاية أوهابو,

وذلك للمشاركة في مناورات لحلف شمال الأطلسي . ورصدت ايطاليا طائرة من هذا النوع في الممر الجوى الذي استخدمته الطائرات الإسرائيلية في الغارة . كما أن مصادر مطار روما ذكرت أن طائرتين من الثلاث قد تركتا مربضيهما في أقصى اليسار من المطار في ساعة مبكرة من فجر يوم 1 أكتوبر ( تشرين الأول) وعادت إحداهما إلى ممر الهبوط في الساعة العاشرة والربع صباحاً فيما طلبت الثانية الإذن بالهبوط الساعة السادسة والنصف مساء .

وبعد الغارة مباشرة وضعت الحكومة الإيطالية حراسة مشددة وغير عادية على الممر الذي تربض فيه الطائرات الأمريكية الثلاث , وأدان رئيس الوزراء الإيطالي بتينو كراكسى إسرائيل بلهجة قاسية جداً وقال إن ايطاليا مصممة على استعمال حقها لمعرفة ما إذا كانت طائرات واشنطن قد استخدمت الأراضي الإيطالية لتزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود .

ولم تخف الولايات المتحدة الأمريكية دعمها للغارة الإسرائيلية وباركت ما حصل بعد ربع ساعة فقط من الغارة وعلى لسان لارى سبيكس الناطق الرسمي للبيت الأبيض , في حين واصلت وسائل الإعلام الإسرائيلية ادعائها بمقتل عرفات , حتى ظهر مساء ذلك اليوم في حديث مباشر من تونس مع التلفزيون الإيطالي القناة الأولى . وبعد ساعة من الغارة الإسرائيلية أعلنت إذاعة تونس النبأ على النحو التالي : " طائرات مجهولة الهوية قامت بقصف منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط " .

وكان مطار قرطاج الدولي قد رصد الطائرات الإسرائيلية قبل الغارة بدقائق وأبلغت المعلومات إلى وزارة الدفاع , التي رصدت راداراتها الطائرات المغيرة قبل دقائق من وصولها , في حين أبلغت ايطاليا تونس قبل دقائق من الغارة بأن طائرات مقاتلة تتجه نحو تونس !!

وجاءت الغارة الإسرائيلية في ظل أجواء من التوتر في العلاقات التونسية – الليبية وكانت هذه العلاقات شهدت تدهوراً خطيراً خلال الشهور التي سبقت الغارة , وكان الجيش التونسي وقد وضع في حالة تأهب قصوى لمواجهة عملية عسكرية ليبية ضد تونس ! الرأي العام التونسي كان مهيأ لغارة ليبية إسرائيلية , بسبب الحرب الإعلامية المتبادلة بين البلدين وفعلاً , قام الجيش التونسي بنقل طائراته الحربية من نوع ف – 5 إلى قواعد عسكرية في الجنوب التونسي , قرب الحدود التونسية الليبية , قبل الغارة , وذكرت بعض المصادر أن بورقيبة أصدر أوامره بعدم خروج الطائرات الحربية التونسية للتصدى للطائرات الإسرائيلية , وعلق محمد مزالى على هذه الحادثة بعد الغارة في حديث بثه التلفزيون التونسي ,

قائلاً : " لو خرجت الطائرات التونسية لاصطادتها الطائرات الإسرائيلية مثل العصافير " .

وقد حاول الضباط التونسيون في قاعدة " سيدي أحمد " الجوية قرب بنزرت , التي تبعد حوالي 50 كيلو مترا عن مقر المنظمة , الخروج بطائراتهم بغض النظر عن نوعية الطائرات يدفعهم الحماس للدفاع عن الوطن . وبعد نصف ساعة من انتهاء الغارة جاءت طائرات جزائرية مقاتلين اشتركت مع الطائرات التونسية في التحليق فوق حمام الشط وتونس العاصمة , خوفاً من قيام الطائرات الإسرائيلية بعملية التفاف خصوصاً أنه بعد الغارة مباشرة وصل عدد كبير من المسؤولين الفلسطينيين والتونسيين إلى مكان الغارة ومنهم عرفات وأبو اياد وأبو جهاد وأبو العباس . ومن الجانب التونسي جاء محمد مزالى والهادى البكوش ووسيلة بورقيبة وزين العابدين بن على .

وكانت ردة الفعل التونسية الشعبية قويت فعمت المظاهرات العاصمة التونسية وتوجهت إلى السفارة الأمريكية مطالبة بقطع العلاقات التونسية – الأمريكية , وفى الوقت نفسه استقيل مستشفى شارل نيكول في العاصمة الجرحى والشهداء الذين بلغ عددهم حوالي 200 جريح و 70 شهيداً , فشهد المستشفى اكبر عملية تبرع بالدم, وكان كل تونسي يريد التعبير بأي شكل عن انتمائه وتضامنه وتعلقه بالقضية الفلسطينية وأقبل أصحاب الجرافات من المواطنين ليتبرعوا بالعمل تطوعاً لإزالة الأنقاض .

وعلى أثر هذه الغارة وتصريح سبيكس , توترت العلاقات التونسية الأمريكية , فاستدعى الرئيس السابق الحبيب بورقيبة السفير الأمريكي في تونس , بيتر سيبستيان , وأبلغه استنكار الموقف الأمريكي , ولا سيما أن الغارة كانت خرقاً للتعهدات الأمريكية بعدم السماح باعتداءات أجنبية على تونس . ولم يكن لدى السفير ما يقوله سوى : " سأبلغ واشنطن " ! وقد تعمد بورقيبة سماع السفير كلاماً قاسياً , غير أن هذه السحابة لم تمر بهدوء , ولم يتم تجاوزها إلا في فبراير

( شباط ) 1986 عندما قام جورج بوش , نائب الرئيس الأمريكي حينها وجورج شولتز وكاسبار واينبرجر بزيارة قصيرة لتونس , فسوى الخلاف بتقديم مساعدات عاجلة , لتحديث أسلحة الجيش التونسي .

الرد على العدوان

ولم تكن الغارة على مقر منظمة التحرير حدثاً عاديا يمكن أن تزول آثاره بسهولة . ومنذ الساعات الأولى التي تلت الغارة وردود الفعل المختلفة تتواصل وتتفاعل رسمياً وشعبياً , فلسطينياً وعربياً ودولياً , ففي 5 أكتوبر ( تشرين الأول ) 1985 , بعد الغارة بخمسة أيام , كان في رأس بركة جنوب سيناء , جندي مصري يدعى سليمان خاطر . يفجر حزنه على ضحايا الغارة ونقمته على الإسرائيليين بإطلاق الرصاص على مجموعة من الإسرائيليين الذين أهانوا العلم المصري , فقتل سبعة منهم وحوكم في 28 أكتوبر ( تشرين الأول ) بالأشغال الشاقة المؤبدة في محكمة السويس العسكرية وبعد ذلك تم إعدامه داخل السجن . كذلك حركت النقمة شرطياً تونسياً يعمل في فرقة " النظام العام " وهى كانت تقوم بحراسة مقر منظمة التحرير في حمام الشط , وكانت المجموعة تتكون من 12 رجلاً , مسلحين بفنادق رشاشة , وأحد أعضاء المجموعة لم يستسلم للصواريخ والقنابل التي تقذفها الطائرات الإسرائيلية , رغم معرفته أن رصاصته لن تصل إلى الطائرات المغيرة , فعادت إحدى الطائرات وأطلقت سيلاً غزيراً من مدفعها الرشاش فاستشهد مع مجموعته . وكان الحادث الثاني بعد عملية سليمان خاطر , ذلك الذي أطلق خلاله الشرطي التونسي الرصاص على مجموعة من اليهود في جزيرة جربة التونسية . وفى 5 أكتوبر ( تشرين الأول ) ذاته كان المفاجأة عندما أدان مجلس الأمن العدوان الإسرائيلي على مقر المنظمة وصوت 14 عضواً في صالح قرار الإدانة وامتنعت الولايات المتحدة للتصويت ولم تستخدم " الفيتو " وطالب قرار مجلس الأمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بصفة عاجلة اتخاذ إجراءات لاقناع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال التي تنتهك سيادة أي دولة , ووحدة أراضيها وأكد القرار أن لتونس الحق في الحصول على تعويضات مناسبة نتيجة للخسائر في الأرواح والأضرار المادية .

ولم تتخذ الإجراءات التي تحدث عنها مجلس الأمن ولم تقتنع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال , فاغتالت أبو جهاد في تونس في 16 أبريل ( نيسان ) 1988 . واختطفت الطائرة المدنية الليبية التي أقلت عبد الله الأحمر , نائب الأمين العام لحزب البعث الحاكم في سوريا وولدت الغارة الإسرائيلية حالة يأس من قدرة العالم على إقناع إسرائيل بالكف عن ممارسة الإرهاب , واتخذ قراره بالرد بمنتهى العنف , فشهدت الأراضي العربية المحتلة عمليات جريئة ضد أهداف إسرائيلية , ولا سيما بناية المخابرات الإسرائيلية في القدس , التي انهارت بفعل انفجار . كما أدت الغارة إلى التعجيل فلا تنفيذ عملية كبرى كان يخطط لها أبو العباس استهدفت ميناء اشدود في الساحل الفلسطيني , وقد كان من المقرر لهذه العملية أن تحصل بعد التاريخ الذي نفذت فيه وهو 8 أكتوبر ( تشرين الأول ) بأسبوعين على الأقل . وكان من ضمن الخطة أن تحمل الباخرة عدداً من الصواريخ , إلا أن الغارة عجلت بالتنفيذ . ولم يكن المقصود احتجاز رهائن على الباخرة الإيطالية " اكيلى لاورو " بل كانت مجرد وسيلة وصول إلى ميناء اشدود لتنفيذ عملية فدائية كبرى داخل الأراضي المحتلة , ولم يكن من ضمن توجهات منظمة التحرير العودة إلى العمليات الخارجية , كما أكد ذلك ياسر عرفات في

7 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1985 في مصر , فيما عرف " إعلان القاهرة " الذي أوقف بموجبه العمليات الخارجية , ليقتصر الكفاح المسلح على الأراضي المحتلة إلا انه كان من حق المنظمة اتباع كافة الوسائل للوصول إلى الأراضي المحتلة للقيام بالعمليات المسلحة في إطار النظام الفلسطيني المشروع , وكل ما حصل في عملية " اكيلى لاورو " إن الأسلحة اكتشفت على ظهر السفينة . وكان قرار المجموعة بتحويل وجهتها حفاظا على دماء الأبرياء , ولو حصل ووصلت الباخرة إلى اشدود لاستغلت إسرائيل الفرصة وهاجمت السفينة وحدثت مجزرة .

ووجدت وسائل الإعلام الصهيونية في العملية فرصة لتحويل أنظار العالم عن الجريمة الإسرائيلية في انتهاك الأراضي التونسية , وقصف مقر المنظمة . واتهمت إسرائيل وسائل الدعاية الصهيونية في أمريكا أبو العباس بقتل عجوز أمريكي مقعد , على الرغم من أنه لا علاقة للمجموعة بمقتله , وكان منطقياً أنه باستطاعة المجموعة المسلحة قتل العشرات على ظهر الباخرة لو أرادت ذلك في عرض البحر , ولم يكن هناك سبب واحد يمنعهم من ذلك , لكن نية الاختطاف أو القتل لم تكن متوفرة . إلا أن إسرائيل عمدت بكافة الوسائل وبالتأثير عبر اللوبي الصهيوني في أمريكا , إلى إثارة الولايات المتحدة ضد منظمة التحرير وملاحظة أبو العباس , صفحة جديدة من مطاردة المخابرات لهذا الرجل .

الفصل الثاني

المنظمة رشحت إبراهيم والموساد جندته

صدف أن الباخرة الإيطالية " اكيلى لاورو " تحفل بتاريخ مأساوي . ففي 1972 شب حريق على سطحها ثبت أنه تم بفعل فاعل , بينما كانت موجودة في حوض جاف في جنوا شمال إيطاليا , وأدى الحريق إلى إصابة عدد كبير من العمال ورجال المطافئ , وفى 1975 اصطدمت بسفينة شحن لبنانية صغيرة تدعى " يوسف بابا " عند مضيق الدردانيل ولم يصب أحد من ركاب السفينة ال750 حينئذ , إلا أن أربعة من طاقم السفينة اللبنانية اعتبروا في عداد المفقودين , وفى 1975 تم احتجازها أثر شكوى تقدمت بها الشركة البحرية وتمت ملاحقتها قضائياً رغم أنها أفضل سفينة لدى أكبر الشركات البحرية الإيطالية . وفى 1976 صادرت الشرطة 29 طاولة ميسر كانت على متنها , ومثل مالكها أمام القضاء بتهمة انتهاك المنظمة للعب الميسر و" قواعد " الميسر . وفى 1981 شب حريق آخر على سطحها وهى في عرض البحر أمام جزر الكناري أدى إلى مقتل اثنين من الركاب وبعد عام من هذا التاريخ استطاع الدائنون في جزر الكناري الحجز عليها أكثر من عام , وبعد ثلاثة أعوام أي في 8 أكتوبر ( تشرين الأول ) 1985 , تم اختطافها .

اثر ذلك أعلن وزير الدفاع الإيطالي جيوفانى سبادولينى حالة التأهب بين جميع الوحدات العسكرية القادرة على العمل لحماية المواطنين الإيطاليين , واختطفت الطائرة على بعد 50 كيلو متر شمال بور سعيد , خارج المياه الإقليمية المصرية , إلى أن انتهت دراما السفينة التي كان على متنها حوالي 400 شخص من جنسيات مختلفة , بعد أن احتجزتها السلطات المصرية أربعة أيام , بعد ذلك أقلت طائرة مصرية مدنية المسلحين الأربعة ومعهم أبو العباس ومرافقه الخاص أبو على كاظم , من قاعدة عسكرية مصرية غرب القاهرة إلى تونس , وفى الجو حصلت المفاجأة حيث تم اعتراض الطائرة المدنية المصرية من قبل 14 طائرة حربية أمريكية انطلقت من حاملة الطائرات في الأسطول الأمريكي السادس , وأجبرت طائرة أبو العباس ومقاتليه على الهبوط في صقلية . وأثر ذلك سمحت السلطات الإيطالية لأبو العباس بالسفر إلى بلغراد , ومن هناك توجه إلى جهة مجهولة , لتبدأ صفحة من مطاردة المخابرات الإسرائيلية له في كل مكان في العالم .

تصفية ضباط " الموساد "

ولت تكن المخابرات الفلسطينية بمعزل عن هذه الأحداث فقد زودتها معلومات تشير إلى وصول ضابطين من المخابرات الإسرائيلية " الموساد "في 6 أكتوبر

(تشرين الأول ) إلى أسبانيا , وقد دخلاها على أنهما بحاران , فصدرت التعليمات إلى فريق متخصص الساحة الأسبانية باستدراجهما . وفعلاً . بعد توقف سفينتهما في عاصمة إقليم كتالانيا , وهما صهيون أبو يعكوف , وملأبوهما , حتى انتقلا إلى برشلونة من أجل تنفيذ مهمة " الموساد " وعلى الفور تحرك الفريق الفلسطيني الذي قام بتضليل الرجلين واستدراجهما إلى شقة في شارع فالنسيا حيث تم التحقيق معهما عدة ساعات ثم قتلا في الشقة . وفى 16 أكتوبر ( تشرين الأول) 1985 عثر البوليس الأسباني على جثتيهما , فاضطر المدير الإقليمي

" للموساد " في أسبانيا والبرتغال للانتقال إلى مدريد بعد اكتشاف الجثتين للتحقيق في الموضوع , في حين كان شمعون بيريز يتابع الحادث والتحقيقات المتعلقة به شخصياً . وأعلنت " القوة 17 " مسئوليتها " عن الحادث , علماً بأن عدة أجهزة فلسطينية اشتركت مع المخابرات الفلسطينية في تنفيذ العملية التي تمت بسرعة . وهذه الأجهزة هي " جهاز الغربي " الذي كان يرأسه الشهيد أبو جهاد وجبهة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها " أبو العباس " وجهاز " القوة 17 " الذي يرأسه العقيد أبو الطيب .

ومن خلال المعلومات والمعطيات التي كانت بحوزة جهاز المخابرات الفلسطينية , بات واضحاً أن إسرائيل قامت بقصف مقر منظمة التحرير لتحقيق عدة أهداف , أولها ضرب جهود التسوية بعد توقيع الأردن " اتفاق عمان " الذي كان بمثابة مبادرة سياسية أردنية – فلسطينية مشتركة , شكلت إحراجا كبيراً للقيادة الإسرائيلية التي ترفض السلام عملياً رغم حديثها المستمر عنه , وتعرقل أية خطوات جدية عربية أو دولية , وبالتالي فقد حققت الغارة أهدافها من حيث إدخال المنطقة في مرحلة من العنف , لكنها لم تستطع أن تضرب التوجهات العربية نحو السلام .

وقد عرفنا كيف مهدت إسرائيل للغارة وخططت لها وانتظرت التوقيت المناسب . ثم أوعزت إلى وسائل الدعاية الصهيونية في العالم , بإثارة ضخمة عالمية حول عملية " اكيلى لاورو " واتهام مجموعة أبو العباس بقتل عجوز أمريكي مقعد على ظهر الباخرة . رغم أن التحقيقات أثبتت أن أحد المسافرين الصهاينة ألقى به عن ظهر السفينة , لإثارة الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين . وقد أثارت إسرائيل هذه الزوبعة لتحقيق عدة أهداف , أهمها صرف الأنظار العالمية عن جريمتها بقصف مقر المنظمة في تونس , ثم خلق موقف أمريكي معاد للقضية الفلسطينية , عبر وسائل الإعلام الصهيونية , وبواسطة اللوبي الصهيوني في أمريكا إضافة إلى عنصر هام جداً , وهو تزويد المخابرات المركزية بمعلومات مغلوطة حول منظمة التحرير لضرب أية محاولة تقارب بين أمريكا والمنظمة . بالإضافة إلى هدف آخر أرادت إسرائيل تحقيقه , وهو الظهور أمام الرأي العام الإسرائيلي بأنها الدولة الوحيدة التي تقف ضد الإرهاب بفعالية .

ومن خلال معلومات المخابرات الفلسطينية كانت صورة المرحلة المقبلة تبدو قائمة فالمنظمة تتجه نحو المزيد من العنف , والمعلومات تشير إلى أن المخابرات الإسرائيلية ستستغل هذه الضجة الإعلامية التي أثارتها الأصابع الصهيونية حول " أكيلى لاورو " لتنفيذ عدة اغتيالات ضد القيادة الفلسطينية .

الجاسوسة سوزان

وفى اجتماع مصغر عقد في غرفة مكافحة التجسس الفلسطينية نوقشت برقية وردت من باريس تقول أن الجاسوسة الإسرائيلية سوزان آتية من باريس في مهمة تجسسية لم تعرف تفاصيلها . وكانت دماء شهداء حمام الشط لم تجف بعد , ورأى بعض الضباط أن اعتقال الجاسوسة والتحقيق معها وإعدامها أفضل معالجة للأمر.

إلا أن أبو محمد على بسيونى رأى غير ذلك , من خلال استشفافه للمرحلة المقبلة . فالمخابرات الإسرائيلية حسب رأيه بحاجة إلى روافد جديدة للمعلومات , ولعل المهمة الرئيسية الموكلة إلى سوزان الآتية من باريس , هي ترشيح عملاء " الموساد " لأن المرحلة مشحونة بالعنف المتبادل ورغم تطور وسائل جمع المعلومات إلا أن العنصر البشرى يبقى الأهم .

وكان اقتراح أبو محمد يتمثل في ترشيح أحد الشباب ليلعب دور العميل المزدوج . ولم يلق الاقتراح معارضة , إلا أن الشخصية المطلوبة ومواصفاتها أثارت جدلاً كبيراً , إذ أن الكفاءة ليست هي الصفة الوحيدة المطلوبة للرجل الذي سيلعب الدور , فالعملية تتطلب مواصفات ومميزات عديدة يصعب توفرها باستمرار في شخصية واحدة . وظهرت فكرة مجنونة ومغامرة ومحفوفة بالمخاطر , عندما قال أبو محمد " إنني أرشح إبراهيم سلمان " , وصعق الضابط حسين لهذه الفكرة وقال موجهاً حديثه إلى أبو محمد : " أنت تعرف طبيعة عمل إبراهيم سلمان " . فأجاب أبو محمد : " لهذا السبب رشحته " . واستطرد حسين : " ولكن هذه مخاطرة " فأجاب أبو محمد : " إنني أراهن عليه " .

وكان رهانا خطيرا بالفعل فسلمان يعمل مرافقا للقيادات الفلسطينية , وقد أراد أبو محمد أن يقدم طعما يسيل له لعاب " الموساد " , والاهم انه يريد معلومات تتعلق بالقيادات في المرحلة المقبلة . فهذا المرشح للدور شاب وطني موثوق به , ومطلع على أمن القيادات , وحساس , وزكى وسريع البديهة , هل يقبل هو القيام بهذا الدور ؟ فوجئ الشاب وهو يستمع إلى أبو محمد عندما طلب منه تنفيذ المهمة . ومضت دقائق طويلة وهو صامت لا يتحدث وكأنه فقد القدرة على النطق لكن أبو محمد كان يحس بالشاب . وبالأفكار التي تدور في رأسه , وتذكر موقفاً شبيهاّ عندما رفض واحد من ضباط المخابرات الفلسطينية العاملين تحت إمرته بتوجيه أحد العملاء المزدوجين لأن العملية بطبيعة الحال تقتضي تزويد العميل بمعلومات معينة ومدروسة وفيها نسبة محددة من الصحة , فرفض الضابط المهمة بقوله أنه لا يستطيع أن يزود العدو بمعلومات حتى لو كان الأمر يتعلق بلعبة تجسسية . واحترم أبو محمد موقف ضابطه ونقله إلى عمل آخر في الجهاز .

وخرج سلمان عن صمته وقال بصوت مخنوق : " الأفضل إذا كان بالإمكان أن تعفيني من المهمة " فقال أبو محمد : " لم أجد أفضل منك الآن لهذه العملية . ونحن بحاجة إليك , وفلسطين كلها بحاجة إليك يا إبراهيم " وبصوت بدا معه وكأنه يحدث نفسه أجاب : " وهل تعتقد أن من السهل على شخص مثلى أن يتعاون مع العدو حتى في إطار مهمة مكلف بها ؟ ! " فقال أبو محمد : " لو وجدت غيرك الآن لأعفيتك . ولكن ثق تماماً أنني لم أجد أحد بمواصفاتك " . فقاطعه سلمان قائلاً : " أعصابي لن تحتمل مثل هذا العمل " . فأجابه أبو محمد : أعدك " في المرحلة التي تقرر فيها التوقف عن العلم أن أوقف العملية مهما كان الثمن " . فابتسم وهو يسأل : " هلهل هذا وعد ؟ ! " فاجابه أبو محمد :

" أنت تعرفني جيدا " .

انفرجت أسارير سلمان بعض الشيء إلا أن شعورا غامضا قلقا كان يشع من عينيه , في حين كان أبو محمد يقول في نفسه الحمد لله . وبدأت جلسة العمل الأولى مع سلمان حدد فيها أبو محمد خطوات العمل في المرحلة الأولى وافهمه كيف سيتصرف في كل المواقف المحتلة , وحدد له وسائل به شخصيا . وفى اليوم التالي وردت معلومات جديدة تقول إن سوزان ستغادر باريس في 29 أكتوبر (تشرين الأول ) 1985 .

لقاء العميلين

وفى المقعد المجاور للنافذة في الطائرة الفرنسية جلست فتاة شقراء , شعرها الأصفر ينساب على كتفيها وهى تحاول تجاهل نظرات الرجال كلما تحركت في مقعدها . وفتحت صحيفة فرنسية و أخذت تقرا فيها في حين جلس إلى جوارها رجل عجوز مع زوجته . ومثل كل العجائز أخذا يثرثران بشكل أزعج الفتاة التى كانت بحاجة إلى الهودء للتفكير في المهمة الصعبة التي جاءت من اجلها , ولكنها لم تلاحظ عينين كانتا تراقبانها من مقعد خلفي فلم تكن تدر أنها منذ فترة وهى محل مراقبة دقيقة من المخابرات الفلسطينية والتقارير كانت ترد بانتظام حول نشاطها وتحركاتها .

في المساء هبطت الطائرة من في مطار تونس , فتوجهت سوزان إلى قسم الجوازات والجمارك وقدمت جواز سفرها البريطاني المزور , حيث تمت الإجراءات بشكل عادى وسريع مثل أية إجراءات خاصة بالسيدات الأجانب . وأخذت أمتعتها ولم يكن لديها ما تصرح به للجمارك من أدوات كهربائية أو ممنوعات , ثم خرجت تبحث عن سيارة أجرة , فأشارت إلى السائق الذي حمل الأمتعة المكونة من حقيبة زرقاء كبيرة , وحقيبة يد جلدية صغيرة بنية اللون .

تحركت سيارة الأجرة البيضاء من نوع " بيجو 205 " , وقال السائق بلغة فرنسية مكسرة , لأنها اللغة الأجنبية الوحيدة التي يعرفها : أهلاً بك في بلدنا . الحمد لله على السلامة , أجابت الفتاة وهى تبتسم , وقال بفرنسية سليمة :

" شكراً فندق هيلتون " .

اثر وصولها إلى الفندق الذي يعتبر واحد من أفخم الفنادق في العاصمة التونسية بالرغم من أن تاريخ بنائه يعود إلى السبعينات , ولكنه بقى محافظاً على مستواه كفندق خمس نجوم , بدا أن اختيار سوزان هذا الفندق ليس اعتباطياً وانما يعود إلى سبب أمنى يتعلق بمهمتها , فعل هذا الفندق يتردد يوميا عشرات الفلسطينيين من المسؤولين والكوادر والمرافقين وينزل به بعض مسؤولى منظمة التحرير الفلسطينية وهذا الفندق أصبح يشهد يومياً في الصباح وفى المساء ندوات سياسية وغير منظمة تشارك فيها كوادر منظمة التحرير الفلسطينية , قبل أن تتخذ قراراً بالحد من نزول كوادر المنظمة في الفنادق وتأمين شقق خاصة لاعتبارات أمنية .

وفى صباح اليوم التالي وفى حوالي الساعة التاسعة كانت سوزان تجلس في بهو الفندق وأمامها على الطاولة الصغيرة مفتاح غرفتها رقم 512 . تناولت سيجارة من علبة السجائر الفرنسية من نوع " رويال " التي كانت ملقاة على الطاولة وبجانبها ولاعة ثمينة . وبعد ربع ساعة جاء سلمان وجلس على مقعد قريب منها , فيما يقرأ صحيفة يومية باللغة العربية , وينظر في ساعته بقلق وكأنه ينتظر قدوم شخص ما . أخرج علبة سجائره وتقدم منها طالباً الولاعة , فابتسمت وأشارت إلى الولاعة بيدها , وتظاهرت بالانشغال عنه في حين كانت تراقب حركاته بطرف عينها منذ جلوسه , ونظر إليها نظرة ذات مغزى , وقال : " أنت سائح أليس كذلك ؟ " . فرفعت رأسها وقالت بحذر " نعم " .

وبدأ الشاب في حوار مفتعل مع سوزان حول الطقس في أوروبا والبلدان العربية والسياحة , على طريقة الشباب الذين يطاردون السائحات الأجنبيات , أعجبها الحديث . وأخذت تتفاعل معه على أنها إنجليزية تعيش في فرنسا ووالدها مليونير لديه شركات في لندن وباريس .

وفجأة سألته : " ما هي جنسيتك ؟ " قال بخبث : " لا داعي .. قد يزعجك ! " . وفتحت عينيها باستغراب وقال : " لماذا ؟ ! " قال : " لأنني فلسطيني " فأبدت بعدم اكتراث وهى تقول : " هل تعتقد أن هذا مزعج ؟ " . قال : " أنتم الأوروبيين تعتقدون أننا إرهابيون " . فابتسمت بارتياح وقالت : " أنت مخطئ , لقد تغيرت مواقفنا وتبدلت الصورة القديمة , ولكن الفلسطينيين لم يستوعبوا التغيير الذي طرأ على مواقف الشعوب الأوروبية , من القضية الفلسطينية " . قال : " يسعدني أن أسمع هذا الكلام ". ثم التفتت إليه وقالت : " ماذا تعمل ؟ "قال : لسوء الحظ , في منظمة التحرير الفلسطينية " .

أحست الفتاة أن الشاب لديه الكثير مما يقوله , فسألت : " لماذا تقول هكذا ؟ "

قال : " إذا التقينا مرة أخرى ستعرفين السبب " .

قال : " انه موضوع يخصك وحدك على أية حال " . قال : " أنا مضطر لأن أغادر الآن . لدى عمل , لقد انتظرت صديقي لنشرب القهوة ولم يأت " . ثم أضاف بانفعال : " يبدو أننا فعلاً لا نعرق النظام " . قالت: " إذا أردت اجلس لنتحدث . أنا لا يوجد لدى ما أعمله الآن " . قال : " لا أستطيع لدى عمل لكن إذا أردت سأتصل بك في الهاتف . ونتقابل مرة أخرى . في أية غرفة تنزلين ؟ " قالت : " بكل سرور . غرفة رقم 512 " . قال : " هذا رقم هاتفي إن احتجت إلى أي مساعدة أنا تحت أمرك " . وقدم لها رقم هاتفه في المنزل , ثم انصرف . لكن اللقاءات تواصلت .

وبدأت العلاقة تتوطد بين سوزان وسلمان واللقاءات تتكرر في حين كانت الفتاة طوال الوقت تدرس شخصية سلمان من جميع الجوانب , حالته المادية , علاقته بمسئوليه , وبمعارفه وهواياته , ارتباطاته العائلية , حبه للظهور , سريته في العمل , طموحاته حبه للمال وعلاقته مع الجنس الآخر . وفى نفس الوقت كان هو يجيب عن كل تساؤلاتها ويسرب إليها بطريق غير مباشر وبالاتفاق مع أبو محمد – معطيات حوله حتى بلغت " الموساد " الطعم . وهذه المرحلة كانت الأصعب فقد كانت الخطة تتركز على ترشيح سلمان بطريقة سليمة , وكان لابد أن يكون الطعم مغرياً . وفعلاً , ما إن مرت خمسة أيام على زيارة سوزان حتى فوجئ الشاب بعرض مثير تقدمه له , فقد عرضت عليه السفر إلى باريس للعمل في إحدى شركات والدها وكان هو قد اشتكى مبدياً تذمره من العمل مع المنظمة , لأنه متعب ويستغرق كل وقته وأنه أصيب بالإرهاق من هذه الدوامة إلا أن أبو محمد طمأنه إلى أنه لم يبدأ بالعمل الجدي بعد . وان كانت هذه أهم مرحلة . وعندما جاء العرض بدأ الشاب يشعر بالرهبة والقلق والحماس . وكانت مشاعر متداخلة انتابته وهو يستمع إلى اقتراح الفتاة إلا أن رده كان مدروساً أيضاً , فقالا لها : " هذا مجهود أشكرك عليه . ولكن هل اقدم استقالتي من عملي ؟ " ارتبكت بعد أن انتقل إلى مرحلة الهجوم وقالت : " كلا , لماذا تستقيل ؟ قد لا يعجبك العمل في باريس فتعود . وحتى لا تخسر كل شئ , خذ إجازة عادية وهناك قرر : إما أن تستقيل أو تعود إلى عملك " .

لم تكن المسألة سهلة , فالحذر واجب وجميع الاحتمالات واردة . والعرض الذي قدمته " الموساد " سريعاّ يثير الشكوك . فإما أنهم بلعوا الطعم فعلاً أو أنهم يستدرجون الشاب إلى باريس , ولكنهم على كل حال لا يزالون يجمعون المعلومات حول سلمان من مصادرهم في تل أبيب وعملائهم في الخارج .

وبدأت التعقيدات المفتعلة تواجه سوزان في سفر الشاب , فقد طلب منها إمهاله عدة أيام حتى يقنع المسؤولين عنه بأخذ إجازة , ثم ليبحث عن أحد الأصدقاء ليستدين مبلغاً من المال يؤمن به ثمن التذكرة , وفعلاً أصبح بعيداً عن الشكوك إذ لم يترك ثغرة واحدة . إلا أن " الموساد " لم تقرر بعد أن تضع فيه ثقتها حتى يتعرض لاختبارات عديدة أحياناً لا ترى بالعين المجردة . ولكن أبو محمد الذي كان يوجهه لم يتركه وحده يواجه مصيره المجهول في باريس فبعد أن تقرر السفر في 6 نوفمبر ( تشرين الثاني ) كلف فريقاً من المخابرات الفلسطينية بمراقبته مراقبة سرية دون أن يعرف هو بذلك .

الوصول إلى باريس

وصل سلمان بصحبة سوزان إلى مطار أورلى في باريس . وبعد إتمام الإجراءات الروتينية في المطار , كانت سيارة زرقاء من نوع " رينو 9 " في انتظارها . وحمل الحقائب سائق كان طويل القامة وذا شعر أسود ويضع على رأسه قبعة فرنسية من النوع الذي يرتديه سكان مارسيليا . وكان إلمام إبراهيم بالفرنسية ضعيفاً ولكنه كان قادراً على فهم الحديث .

انطلقت السيارة باتجاه أحد فنادق الدرجة الأولى في باريس , وتوقف السائق وأنزل الحقائب , فصافحته سوزان مودعة وهى تقول له : " سأتصل بك فيما بعد "ووجد سلمان غرفة محجوزة باسمه في الفندق وسرعان ما تمت الإجراءات الروتينية ونزل في الغرفة رقم 620 .

وكان سلمان منهكاً ذلك المساء . فاستغرق في نوم عميق . وفى صباح اليوم التالي نهض واستحم , ثم تذكر أمراً مهماً فماذا لو لم تتصل به سوزان ؟ نزل إلى بهو الفندق وجلس ينتظر وطال انتظاره . و مضى اليوم الثاني ثم الثالث دون أن تتصل أو تأتى فشعر بالقلق . وصار يعتقد انه تعرض لمقلب سخيف , وأصبح في ورطة حقا . فالفندق نفقاته مرتفعة , والمبلغ الذي يحمله لا يكفى , وبدأت الهواجس تنتابه من كل الجهات . وكان برنامجه اليومي يقضى بأن يخرج في الصباح والمساء فيتجول قليلاً في شوارع باريس ويتوقف أمام الواجهات ثم يعود إلى الفندق . وأنه سيعرف أنه في أسوأ الأحوال سيتصل هاتفياً مع أبو محمد لحل المشكلات المالية على الأقل . ولكن المخاوف المالية كانت أصغر المخاوف الأخرى التي كان يحس بها .

في صباح اليوم الرابع جلس كعادته في بهو الفندق يحتسى القهوة . عند الساعة الثامنة والنصف . فتقدم منه رجل قصير القامة , ممتلئ الجسم قوى البنية كأنه مصارع , في الخمسين من العمر . وقال بلغة عربية ذات لهجة شمال أفريقية : " ممكن أجلس ؟ " نظر إليه سلمان , فاعتقد أن الرجل الغريب من الثقلاء الفضوليين فرد عليه بضجر واضح : " تفضل " فجلس الرجل بجانبه وقال وهو يطلق ابتسامة خبيثة : " كيف حالك ؟ " .

استغرب الشاب هذا التطفل وقال باقتضاب : " الحمد لله " . وواصل الرجل هجومه المفاجئ فأجابه : قائلا : " هل جئت تبحث عن عمل في باريس أم أنك هنا للسياحة " . فأجابه : " جئت أبحث عن عمل , فان لم أوفق اعتبرها سياحة " . نظر الرجل إلى سلمان نظرة فاحصة ثم همس : " أنا سأساعدك " .

هم سلمان بالنهوض ليترك المكان . لكنه قال للرجل : " هذا أسلوب سخيف وأنا لم أطلب مساعدتك " ! وضع الرجل يده على كتف الشاب وقال بلهجة آمرة : " اجلس .. أريد أن أتحدث معك " . فجلس سلمان يستمع إلى هذا الرجل الغريب , الذي بدأ جولة جديدة في الحديث : " أريدك أن تسمع كلامي جيداً , إن منظرك الكئيب يؤكد أنك لست سائحاً واما جئت تبحث عن عمل , وأنا سأساعدك وسأضع بين يديك فرصة العمر . والفرصة تأتى مرة واحدة , إما أن تستغلها وتصعد إلى أعلى واما أن تكون غبياً وتبقى في الحضيض " . قاطعه سلمان قائلاً : " أدخل في الموضوع " : " جميل سنصبح أصدقاء . باستطاعتك منادتى جون . ما اسمك ؟ " فرد عليه قائلاً : " إبراهيم " . واصل جون حديثه : " أنت بحاجة الآن إلى تغطية نفقات الفندق , وقد جئتك بعد أن سمعت موظفة الفندق تطالبك بدفع مبلغ معين واعتذرت أنت ووعدتها بأنك ستدفع غداً أو بعد غد . لكنك لم تلاحظني . كنت أقف على مقربة منك وسمعت الحديث . ولهذا السبب جئت أتحدث معك " . عندئذ صاح سلمان وقد تذكر أمراً مهما ً : " أنت والد سوزان أليس كذلك ؟ أنا آسف لم أنتبه إليك ولم أعرفك " .

لم يدعه جون يسترسل في اعتذاراته فقال : " من سوزان هذه التي تتحدث عنها ؟ لا أعرف عن من تتحدث " . فاختصر سلمان النقاش وقال : " لا أحد أكمل حديثك فسأله جون : " ما هو عملك بالضبط ؟ " قال : " قبل عملي كيف تعلمت اللغة العربية ؟ " قهقه جون ضاحكاً وقال : " " لأنني أعمل مع العرب يا صديقي " .

أدرك الشاب منذ اللحظات الأولى أن الرجل من " الموساد " ولكنه تظاهر بعدم معرفة هوية جون , ومثل الرجل من " الموساد "ولكنه تظاهر بعدم معرفة هوية جون , ومثل الدور , وأخذ يتراجع شيئاً وقال همساً بعد أن مال برأسه نحو جون : " في منظمة التحرير الفلسطينية " , وسأله جون : " ولماذا تبحث عن عمل ؟ أجاب : أسباب كثيرة , الراتب القليل , ولا يوجد مستقبل في العمل مع المنظمة , إضافة إلى خطورة عملي " . وواصل تذمره من عمله , في حين كانت علامات الارتياح تبدو على وجه جون وهو يستمع إلى هذه الحكاية ثم عاد سلمان وقال له : " إن أردت مساعدتي فعلاً ابحث عن سوزان . والدها معروف ويمتلك شركات في باريس ولندن , وقد وعدتني بالعمل مع والدها " . وقاطعه جون بعصبية

قائلاً : " دعك من سوزان هذه . أنا سأساعدك . ثم كيف سأبحث عنها . هل تعتقد أنك في قرية ! أنت في باريس " . وسأله سلمان : " ماذا سأعمل معك ؟ هل لديك شركة ؟ " أجاب جون : " دخلنا في الموضوع . ستعمل مع المخابرات الإسرائيلية " . ونهض سلمان وقال : " ابتعد عنى لا أريد أن أراك ثانية هنا " . بقى جون جالساً وكأن سلمان يوجه حديثه إلى شخص آخر . في تلك اللحظة أخرج جون ظرفاً صغيراً بنى اللون , وألقاه على الطاولة ثم نهض وقال وهو يحدق في سلمان : " فكر جيداً يا إبراهيم سلمان أنت الآن في قبضتي ولن تفلت منى . إما أن تفهم وتكون عاقلاً واما .. الجواب في الظرف " .

وانصرف جون خارجاً من الفندق , بينما امتدت يد سلمان وهى ترتعش وتناول الظرف ليجد 6 صور بالأسود والأبيض , لأفراد عائلته في الأرض المحتلة , التقطت أمام منزلهم وفى أماكن أخرى بالشارع والأسواق , وهى صور لوالده ووالدته وأخواته وإخوانه .

عملية ابتزاز

أحس سلمان بالدنيا تدور به , وعلى الرغم من انه يعرف مسبقا انه سيتعرض إلى عمليات ابتزاز بأي شكل من الأشكال لكنه يواجه امتحانا صعبا . وخرج من الفندق هائماً على وجهه , فالمفاجأة كان لها وقع على نفسيته ورغم أنه كان يمثل دوراً , إلا أن عواطفه ومشاعره تجاه عائلته لا تقل أهمية عن إيمانه بقضيته ووطنه . وكان يعرف تماماً كيف سيتصرف , وتصرف بشكل سليم , ولكنه كان يحس بغليان داخل صدره .

بعد ساعة عاد إلى الفندق ومكث في غرفته حتى الساعة الثامنة مساءً عندما رن جرس الهاتف في غرفته , فرفع السماعة فسمع صوت جون على الطرف الآخر يقول له : " أهلاً إبراهيم .. أنا في الفندق تحت في انتظارك " . مضت دقائق قبل أن يهبط إلى بهو الفندق , فوجد جون في انتظاره جالساً بمفرده تقدم منه وجلس دون أن يصافحه .

وبدأت لهجة جون تتبدل وأخذ يتحدث قائلاً : " أعتقد أنك غاضب منى . ولكن ستعرف أنني فعلت ذلك لمصلحتك . لديك مستقبل كبير معنا , وستحصل على المال الذي تريده . وثق تماماً أن أحد لا يمس أهلك , ولم يكن أمامي إلا أن أفعل ذلك لأنك عنيد . ولو طاوعتني منذ البداية لما صدمتك . أرجو أن تنسى الموضوع تماماً ودعنا لنبدأ صفحة جديدة من العمل لدينا عمل كثير . سأدفع عنك نفقات الفندق وتذكرة السفر وسأعطيك بعض النقود لتأخذها معك " .

تظاهر سلمان بالاقتناع تدريجياً بحديث جون وقال : " من يضمن لي أنكم لم تمسوا عائلتي ؟ ! " . ابتسم جون بغرور وقال : " أنت الضامن ؟ " وسأل سلمان : كيف ؟ قال جون : " ما دمت تعمل معنا بصدق وتطيع أوامري فلن يمس أحد عائلتك . بالعكس , باستطاعتك زيارتهم في ( إسرائيل ) , وسنعطيك جواز سفر إسرائيليا ولم يعرف أحد أنك زرت ( إسرائيل ) " . ورد سلمان : " ولكن أهلي سيعرفون وهذا أمر مرفوض " . وبدت علامات الارتياح على جون وهو يقول : " كما تريد . الحذر مفيد , وأنت عاقل " ثم أضاف : " لم يبق معنا وقت كثير . إجازتك ستنتهي ويجب أن تعود بأسرع وقت . لدينا جلسة عمل الليلة " .

نهض جون وتبعه سلمان إلى خارج الفندق , حيث كانت تقف سيارته وهى من نوع " بيجو 604 " . وانطلقت هذه السيارة البيضاء في شوارع باريس , متبعة طرقاً ملتوية , حتى توقفت قرب إحدى العمارات فنزل الاثنان وتوجها إلى بناية قديمة ولكنها عصرية من الداخل . لم يستخدم جون المصعد , أشار إلى الشاب أن يتبعه على الدرج المؤدى إلى الطابق الأول . وتوقف أمام إحدى الشقق وضغط على الجرس مرة واحدة . وبعد لحظات طرق على الباب طرقاً خفيفاً ثلاث مرات . انفتح الباب وأطل منه رجل في الأربعين من العمر طويل القامة نحيف وأسمر البشرة , وقال مرحباً : " أهلاً " دخل الرجلان وأغلق الباب , وبعد دردشة قصيرة في الصالون , قال جون " مستر دافيد سيعلمك الكتابة بالحبر السري " .

وبدأ الرجل عمله على الفور دون مقدمات . وخلال ساعة كان سلمان قد أتقن العملية , فحمل الرجل حقيبته وانصرف , بينما بقى جون وسلمان وحدهما . وما أن خرج الرجل , حتى بدأ جون في الحديث عن العمل بشكل عام , وأخذ يعطى سلمان درساً بالأمن الشخصي . وقال له يجب ألا يتوجه إلى أي مكان يقصده مباشرة واما عليه أن يتبع طريقاً ملتوياً حتى يتأكد من أن أحد لا يتبعه فيقصد المكان الذي يريد . وأضاف جون أن عليه أن يأخذ سيارة أجرة إلى مكان معين ثم ينزل منها ويسير مسافة على قدميه , وبعد ذلك يأخذ سيارة أجرة ثانية ولا ينزل أمام المكان المطلوب مباشرة بل يسير مسافة على قدميه فيتوقف أمام واجهة ما , ويتظاهر بمشاهدة الصحف أو الأشياء المعروضة , ثم ينظر في زجاج الواجهة ليشاهد من يقف خلفه , وبعد ذلك يدخل . فان كان الذي يقف خلفه يقصده فانه سيتبعه .

قال سلمان معترضاً : " هذا عمل معقد ومتعب ومكلف , واجاب جون : " التكاليف ندفعها نحن . انك وسلامتك مسئوليتنا ونحافظ عليك . المطلوب فقط أن تحضر لي الفواتير حتى لو دفعت ثمن علبة سجائر . أما التعب والتعقيد فسرعان ما تتعود عليهما ليصبحا جزءاً من سلوكك اليومي " .

قال سلمان : " كيف سأحضر فواتير بأجرة تاكسي أو علبة سجائر ؟ قال جون : " أكتب فقط المبلغ والتاريخ والوجهة التي قصدتها وتوقيعك " . ثم أضاف : " وبالنسبة إلى وسائل الاتصال فسأعطيك رقم هاتف في باريس , لا تستعمله إلا إذا زرت العاصمة الفرنسية وفى حالات الضرورة القصوى . ثم لا تتحدث معي من هاتف منزلك . بل انزل إلى أي هاتف في الشارع واطلبني . وحتى في باريس لا تطلبني من الفندق . وعندما تستعمل الهاتف تقول التالي فقط بدون كلام كثير , فأنتم العرب تحبون الكلام الكثير في الهاتف . قل : " أنا جاك وأريد جون ورقم هاتفي كذا في باريس بقلب الأرقام وتبديلها . ولا تضف شيئاً وبعد أن تترك الرسالة اقفل الخط ولا علاقة لك بالباقي " . واتفق معه على شيفرة معينة لرقم الهاتف .

ثم قال : " يجب أن تعود إلي باريس خلال شهر , وإياك أن تحاول الهرب لأن

" الموساد " قادرة على أن تصل إليك ولو كنت في آخر الدنيا . هل تفهم ؟ سأعطيك الآن عناوين ترسل إليها رسائلك بالحبر السري في باريس ولندن

وروما . أرسل إلى أي عنوان تريده . وإذا استدعى الأمر في حالات الضرورة القصوى اتصل بي بالهاتف للإبلاغ عن عملية إرهابية مثلاً أو أي شئ من هذا القبيل وسنتفق على شيفرة للحديث بالهاتف . وأنا سأرسل لك بالبريد رسائل الحبر السري . فيها الأسئلة التي نريد إجابات عنها " .

ونهض جون إلى غرفة داخلية وأحضر حقيبة صغيرة سوداء , فتحها وقال : " هذا جيب سرى في الحقيبة لن ينتبه إليه أحد في المطارات . تضع الأوراق المهمة والفلوس فيه , وبالمناسبة لا تضع فلوسك في البنك , لأن كل البنوك مراقبة من المخابرات وهذا كفيل بان يفتح عليك العيون . كذلك لا تحاول أن تنفق أموالاً كثيرة أمام أشخاص يعرفونك .. ابق كما أنت وحاول أن لا تغير أي شئ في سلوكك وكن حذراً " . ثم ناوله ورقة الأسئلة وثمن التذكرة ونفقات الفندق ومبلغ ألف دولار ليتمكن من السفر مرة أخرى إلى باريس . وقال جون : " أية نفقات تطلبها ستحصل عليها . حاول التقرب من زجال منظمة التحرير ووسع علاقاتك . ولديك المال الكافي لذلك , ولكن لا تتهور . كن متزناً وحذراً وقريباً سنوفر لك غطاءاً مالياً إن احتجت إلى ذلك " .

وتحرك سلما في مقعده وقال : " هذه أمور صعبة وليس من السهل على استيعابها بسرعة " . فرد جون : " أعرف ذلك وعندما تأتى إلى باريس , وتترك لي الرسالة سأتصل بك بالهاتف في اليوم نفسه أو في اليوم التالي , و أقول لك : سنتقابل اليوم الساعة كذا .. فتعرف مباشرة أن اللقاء بيننا سيكون في هذه الشقة . وعندما تقوم بالإجراءات الأمنية التي شرحتها لك , وتدخل من باب هذه العمارة أية عمارة تدخلها ولا تتوجه مباشرة إلى الطابق الذي تريده . فإذا كان الطابق الرابع مثلاً , تصعد بالمصعد إلى الطابق الخامس أو السادس وتنزل على الدرج مفهوم ؟ " .

قال سلمان وقد أحس بالضجر : " هذا تعقيد لم أتعدو عليه " . فأجاب جون: " يجب أن تتعود عليه يا صديقي . أنا أعيش بهذا الأسلوب منذ عشرين سنة . والمسألة بسيطة ولا تخف " .

وواصل جون شرح بعض الإجراءات الأمنية الإضافية ومنها كيف يؤمن شقته بحيث يترك علامات صغيرة للغاية ليتأكد لدى عودته يومياً إلى المنزل مما إذا كان أحد قد دخل الشقة في غيابه أم لا , وكيف يتعامل مع سائقي الأجرة ممن يعملون مرشدين للمخابرات والبعض الآخر رجال من المخابرات يعملون بعد الظهر في مهمات خاصة " . ثم قام بتدريبه على إدارة النقاشات وجمع المعلومات والمصدر ومدى مصداقيته . وقال له في ما لو التقى به صدفة في فندق أو لأي مكان أو في الشارع إلا يسلم عليه أو يحدثه وكأنه لا يعرفه , ولا يتبادل معه حتى التحية .

وبدأ الشاب في تنفيذ المهمة الأولى ل " الموساد " .

*يتبع

التعليقات