فدائي في المخابرات الإسرائيلية جزء 2بقلم:عبدالله عيسى

من ملفات المخابرات الفلسطينية:

فدائي في المخابرات الإسرائيلية

بقلم:عبدالله عيسى

جزء 2

الفصل الثالث

خطة لشن غارة على الجزائر

في الجلسة الأخيرة في باريس التي جمعت بين ضباط " الموساد " جون وإبراهيم سلمان, وبعد أن شرح الأول للثاني تفاصيل العمل وقام بتدريبه على توفير أمنه الشخصي واستعمال الحبرالسرى ووسائل الاتصال , تخلل الجلسة حديث عام حول الجاسوس الأمريكي – الإسرائيلي جوناثان بولارد . فقد سأله إبراهيم : " كيف تتجسسون على الولايات المتحدة وهى الحليف الرئيسي لإسرائيل ؟ " فقال جون : " الخطأ الذي يقع فيه العرب باستمرار هو الاعتقاد السائد بينهم بأن لا فرق بين إسرائيل وأمريكا . والحقيقة عكس ذلك تماماً . صحيح أن علاقاتنا مع أمريكا قوية جداً لكن هتاك أمور لا يراها العرب ونعرفها نحن . فعلى الغم من التنسيق الكامل بلين المخابرات المركزية و " الموساد " فنحن لا نثق بهذا التنسيق ولا في المعلومات التي نحصل عليها من الأمريكيين في هذا الإطار , لأننا نثق فقط بالمعلومات التي نحصل عليها بوسائلنا الخاصة , حتى من داخل أمريكا . والهامش الواسع الذي يتيحه لنا التنسيق والتعاون لا يرضينا . ففي كثير من الأحيان تقتضى مصلحة إسرائيل إعطاء الأمريكيين معلومات غير صحيحة في إطار التبادل على هذا الصعيد ونتوقع في المقابل أن يكون جزء من المعلومات التي نحصل عليها منهم خاضعاً للاعتبار ذاته " .

ثم أضاف : " مثلا قضية صاحبك أبو العباس . فلو تركنا الأمر لتتصرف به أمريكا بمفردها لما حصل شئ مما تراه وتسمعه .كما يجب أن تفهم أمرا مهما وهو أن نفوذنا في الولايات المتحدة كبير جدا ولا يمكن أن نسمح لاحد داخلها في خارجها بان يزعزع هذا النفوذ, لان استمرار وجود إسرائيل قوية مرتبط بالولايات المتحدة " . ثم انتقل جون إلى موضوع المهمة قائلا : " أول ما ستقوم به تحيد موعد سفر أبو العباس الباقي علينا . و أن كل شئ بثمنه " , فقال إبراهيم ممازحا : " المهم أن لا تنسوا انتم ذلك لأنني لن أنساه " . رد جون : " لا تخف . قائلاً تعرفنا , سوف تحصل على مبالغ لم تحلم بها في حياتك , المهم أن تعمل بصدق واخلاص معنا " . عندئذ كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل . فقال إبراهيم : " يجب أن اخرج الآن لا حاول الحجز على أول طائرة " . قهقه جون وقال : " لقد رتبنا كل شئ . فهناك حجز باسمك على طائرة الساعة الثانية بعد الظهر غدا " . وأضاف : " لا تنس أن تكون بعد شهر عندي هنا في باريس " , قال إبراهيم : " سأحاول جهدي " . رد جون : " لا يوجد شئ في عملنا اسمه " سأحاول " . هناك " موافق " . يجب أن تتعلم ذلك . قال إبراهيم : " حتى أتمكن من الحصول على إجازة من العمل , سأحاول أن أحصل على إجازة مرضية " . رد جون : " إجازة مرضية إجازة غير مرضية , هذا شغلك . المهم أن تكون عندي هنا " . قال إبراهيم : " موافق " . فرد جون : " بدأت تفهم العمل " .

نهض إبراهيم وحمل المبالغ المادية والأوراق والأدوات والأسئلة , ثم قال : " هل ستوصلني إلى الفندق ؟ " قال جون : " كلا . ومنذ الآن لن يشاهدنا أحد معاً . يجب أن تنزل وحدك وتتبع الإجراءات الأمنية التي دربتك عليها , وإلا فما فائدة هذه الجلسة الطويلة ؟ هل تعتقد أنني أردت تسليتك ؟ ! " فحمل إبراهيم حقيبته وتوجه نحو الباب وإذا بجون يقول له : " قف مكانك " . فتوقف والتفت إلى الوراء فتقدم جون نحو الباب ثم أصغى السمع لعل هناك أحد كان يصعد الدرج . ثم نظر في " العين السحرية " . وعندما تأكد من عدم وجود أي شخص فتح الباب بهدوء وقال : " الآن باستطاعتك أن تخرج " . خرج إبراهيم من الشقة إلى الشارع وسار مسافة على قدميه , وأخذ يتذكر توصية جون بألا يصعد أبدا في سيارة أجرة واقفة فقد تكون في انتظاره ويقودها رجال المخابرات , وبأن لا يوقف تكسى يقترب منه , بل يفوت عدة سيارات قبل أن يوقف إحداهما . وقال ببعض الإجراءات دون أن يكملها فتذكر كلام أبو محمد الذي كانت عباراته طوال الجلسة ترن في أذنيه : "ويجب أن تنفذ كل ما يطلبونه منك , كما يجب أن تنفذ كلامي حرفياً " . ولكنه كان يحس نفسه منهكاً فانطلق إلى الفندق وهو يشعر بصداع مؤلم كان رأسه أصبح في حجم برج ايفيل .

خلفيات الصراع

في اليوم التالي كان إبراهيم يجلس في مقعده في الطائرة الفرنسية عائداً إلى تونس حيث أبو محمد . وراح يستعيد شريط الرحلة , بدءاً بلقائه مع سوزان في " فندق هيلتون " وصولاً إلى سفره إلى باريس ولقائه مع ضابط " الموساد " جون , وكانت الأحداث تمر بسرعة فائقة , حتى أنه لم يجد الوقت الكافي لاستيعاب ما يجرى . فقد كان في حالة هجوم واندفاع , ووضع نصب عينيه النجاح . وأحس بالسعادة والفرح لاعتقاده أنه نجح في المهمة التي كلفه بها أبو محمد , وتذكر في الوقت نفسه الدوامة التي دخلها . وشعر أنه كبر عشرين عاماً . وهذه الأيام التي قضاها في باريس بدت وكأنها سنوات . وتذكر صور عائلته فعلت وجهه مسحة من الحزن والألم . فإذا عرفت " الموساد " أنه يكذب عليها فهل تنفذ تهديداتها ؟ وتذكر أخاه الذي استشهد في 1982 فامتلأ قلبه بالحماس والاندفاع , فقد منحه استشهاد أخيه دفعاً معنوياً رأى معه تهديدات جون فارغة وتافهة ولا تستحق حتى أن يلتفت إليها .

قرر أن يواصل العمل , وهو لم يكن جديداً على العمل النضالي . فقد قاتل في بيوت ضد الإسرائيليين وعمل في عدة مواقع في منظمة التحرير . والتغير البطيء الذي طرأ أنه انتقل الآن إلى الخطوط الخلفية للعدو , فقد أصبح وجهاً لوجه مع " الموساد " ودخل كواليس الصراع الخفى , وعليه أن يتأقلم مع الواقع الجديد .

تنبه إلى صوت المضيفة وهى تطلب ربط الأحزمة . ولم يشعر بالرحلة إطلاقا , فقد كان يعيش في عالم آخر . وكانت عشرات الأسئلة تتلاطم في ذهنه كأمواج البحر فتتكسر وتعود لتزمجر من جديد . وبدأ وكأن معركة كاملة يدور رحاها بين جهازي " الموساد " والمخابرات الفلسطينية , لكن ساحتها كانت بالنسبة إليه في رأسه وعقله وجسمه ومشاعره . فهل سيتحمل هذا الصراع الرهيب ؟ .

راح أبو محمد يتفحص ورقة الأسئلة والحقيبة والمبلغ المالي , ثم استمع إلى الرزالية كاملة بالتفصيل منذ سفره حتى عودته , وبعد أن انتهى من الحديث قال إبراهيم : " هل تعتقد أنني نجحت ؟ رد أبو محمد : الآن لا أستطيع الحكم , ويجب أن تكتب لي كل رحلتك بأدق التفاصيل حتى ملابس جون والشقة ونوع السيارات التي استخدموها وأرقامها , ويجب عليك أن تتذكر كل شئ . ثم صمت قليلاً وتابع : لقد قلت لك أنه يجب أن تنفذ تعليماتهم بدقة كما يجب أن تنفذ تعليماتي . أليس كذلك ؟ ودهش إبراهيم من هذه اللهجة فقال : لقد فعلت كل ما طلبته منى . فنظر إليه أبو محمد بعينين كالصقر . ثم قال : ليلة اجتماعك معه في الشقة لماذا لم تتبع كل كلامه ؟ لقد خرجت إلى الفندق مباشرة , فصعق الشاب من هذا الحديث وقال : كيف عرفت ذلك ؟ فرد عليه أبو محمد : يجب أن تفهم أنهم كانوا يراقبونك كما راقبتك أنا . وكانت التقارير تصلني يومياً إلى هنا , وكان يجب أن لا أقول لك هذا الكلام , لكنني فعلت ذلك حتى لا تقع مرة أخرى في خطأ أكبر في مرات لاحقة .

مراحل سريعة

كان تقييم هذه المرحلة في المخابرات الفلسطينية غير واضح , وكانت المسألة تحمل عدة تفسيرات , ف" الموساد " أسرعت كثيراً في تجنيد الشاب , وهذا يعود إما إلى نهاية تحضر عملية خطيرة وهى بحاجة ماسة إلى معلومات من نوعية خاصة لا يمنكن أن يوفرها إلا إبراهيم , وبالتالي تكون قد بلغت الطعم أو أنها فهمت اللعبة وكشفته وبالتالي فان كل ما يحمله إبراهيم من مهمات وهم وتضليل .

إلا أن الاحتمال الأخير لم يكن له ما يؤكده , خصوصاً أن جون كان يحرق المراحل . فما حصل عليه إبراهيم في رحلته كان من المفروض أن يحصل عليه بعد ما لا يقل عن شهرين من بداية تجنيده . إضافة إلى نوعية الاحتياجات التي طلبتها " الموساد " منه , إذ أرسلت معه أسئلة اختباريه كانت الأجوبة عنها معروفة مسبقاً لدى " الموساد " ودست بين هذه الأسئلة الاحتياجات الحقيقية .

وكانت أهم الأسئلة تدور حول مصادر تمويل جبهة التحرير الفلسطينية , وحجم الأموال التي تحصل عليها , وهل هناك علاقات بين الجبهة والحكومة التونسية ؟ وهل هناك عمليات إرهابية محتملة ضد إسرائيل ؟ وفى الوقت نفسه طلبت

" الموساد " تزويدها بكل ما يحصل عليه إبراهيم من معلومات إضافية .

فضلاً عمن هو ضابط الاتصال بين الجبهة والحكومة العراقية . وهل كان رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات على علم مسبق بعملية " اكيلى لاورو " إضافة إلى أسئلة اختباريه عديدة . لكن أهم ما ورد وجعل " الموساد " تسرع إلى هذه الدرجة في تجنيده هو أين يقع مكان إقامة أبو العباس بشكل محدد ودقيق , وما الحراسات القائمة حول وعدد الرجال ونوع الأسلحة , وهل يلبسون سترات واقية من الرصاص إلى جانب تنقلاته ومواعيد سفره , ومكتبه وعدد الغرف فيه والأشخاص الذين يترددون على هذا المكتب يومياً . وعدد الأشخاص الذين يبقون في المكتب ليلاً والمكان المحدد الذي ينام فيه الحراس . وكان واضحاً أن المخابرات الإسرائيلية تخطط لاغتيال هذا الرجل أما عن طريق عملية " "كوماندوس " داخل مكتبه أو منزله , أو بواسطة اختطاف طائرة قد يكون مسافراً فيها . وفى الوقت نفسه أعلن وزير خارجية أمريكا جورج شولتز عن جائزة مالية قدرها 250000 مايتان وخمسون ألف دولار لمن يساعد الحكومة الأمريكية في القبض على أبو العباس لتقديمه إلى المحاكمة في محكمة أمريكية وبدأ التنافس شديداً بين المخابرات المركزية والإسرائيلية للوصول إلى الرجل . واستغلت إسرائيل هذه الحملة لتدبير اغتياله هو وغيره من المسؤولين الفلسطينيين .

وخلال ديسمبر ( كانون الأول ) 1985 سافر أبو محمد إلى إحدى دول أوروبا الشرقية للقاء عدد من المسؤولين السوريين في إطار الحوار بين منظمة التحرير الفلسطينية ودمشق إلا أن هذه الحوارات تعثرت وفشلت سياسياً . مع ذلك تواصلت الحوارات والاتصالات على مستوى الأجهزة ليقتصر التنسيق على بعض الجوانب الأمنية . وبعد عودة أبو محمد , استعد إبراهيم للسفر حاملاً معه الأجوبة والمعلومات التي زوده بها الأول وبينما أرسل قسم من هذه الأجوبة بوسائل الاتصال المتفق عليها , بتوجيه من نائب أبو محمد في هذه العملية الضابط حسين الذي زوده بتعليمات جديدة للرحلة . وكان أبو محمد قد أبلغ أبو العباس بفحوى المعلومات دون أن يعلم الأخير مصدر هذه المعلومات بطبيعة الحال .

وفى 25 ديسمبر ( كانون الأول ) سافر إبراهيم إلى باريس , وفور وصوله اتصل هاتفياً بجون وترك له خبراً . وفى اليوم التالي اتصل جون وحدد لإبراهيم موعداً تمام الساعة السابعة من مساء اليوم التالي . وفى هذا الموعد الذي صادف 27 ديسمبر ( كانون الأول ) 1986 كان إبراهيم يطرق باب الشقة بعد قام بالإجراءات الأمنية المطلوبة . وبعد ثوان فتح الباب وأطل جون باسماً

وقال همساً : تفضل ادخل . ودخل الشاب وأغلق الباب خلفه ثم صافح ضابط " الموساد " وتوجها إلى قاعة الجلوس . وبعد السؤال عن الصحة والأحوال , بدأ جون يسأل إبراهيم عن رحلته وهل ضايقه أحد في المطار ؟ وهل أتم العمل بشكل جيد , وهل شك أحد بعلاقته مع " الموساد " وكانت الإجابات نفياً . وبدأ جون كئيباً , فسأله إبراهيم عن السبب فقال : ألم تسمع الأخبار ؟ رد : كلا , ماذا حصل ؟ قال لقد قامت مجموعة إرهابية اليوم بإطلاق النار على المسافرين في مطار فيينا وروما وقتل عدد كبير من المدنيين .

ذهل الشاب لهذا الخبر المفاجئ وقال : لم أسمع الأخبار . من الذي نفذ العملية ؛ من الذي نفذ العملية فرد جون : مهمتك أن تعرف الجهة التي تقف وراء العملية , وهو أمر مهم للغاية , وأية تفاصيل تحصل عليها ومهما كانت بسيطة , أبلغني بها

ثم استعرضا المعلومات التي أحضرها معه , واتفقا على اللقاء في الثامنة من مساء اليوم التالي .

وقد كانت عملية مطار فيينا وروما بداية المرحلة الجديدة من العنف التي أعقبت الغارة الإسرائيلية على حمام الشط في تونس , وما تبعها في أكتوبر ( تشرين الأول ) من تصعيد . وقد بدأت تصورات أبو محمد عن أن المرحلة تحققت وأثبتت الأحداث فم ما بعد وضوح رؤيته السياسية والأمنية . على أن هذه العملية أسفرت عن مقتل 14 شخصاً واصابة 68 بجراح في مطار ميتشينو بالإضافة إلى مقتل 3 أشخاص واصابة 47بجراح في مطار شفتات في فيينا . واستنكرت منظمة التحرير العملية في حين أعلن أبو نضال مسئوليته عنها من خلال اتصال هاتفي أجراه مجهول ينتمي إلى جماعة أبو نضال ( فتح المجلس الثوري ) في ملقا

( جنوب أسباني ) . وفى الوقت نفسه قام عملاء " الموساد " في قبرص بمحاولة اغتيال سمير أبو غزالة ممثل منظمة التحرير في قبرص عندما حاول هؤلاء العملاء تفخيخ سيارته . وقد اكتشف أمر المجموعة أثناء قيامها بالعملية فأطلقن النار عليه ولاذت بالفرار .

سأل ضابط " الموساد " إبراهيم : هل التقيت أبو العباس خلال الفترة الماضية ؟ قال إبراهيم : كلا ولم أشاهده منذ عملية " اكيلى لاورو " إذ بت أرافق شخصيات أخرى بين الحين والآخر , ومعظم عملي أصبح في المكتب . علق جون : هذا جيد , ويعطيك حرية حركة أكثر , ولكنه لا يعفيك من المسؤولية . دهش الفتى من هذه اللهجة المفاجئة وقال : ماذا تقصد ؟ قال جون : إننا ندفع لك مبالغ كبيرة وتوجد رسالة خاصة بك من تل أبيب . ثم أضاف : هل تعرف أحداً في معسكر تبسة في الجزائر ؟ صمت إبراهيم قليلاً وقال : نعم , أعرف بعض الأصدقاء من المقاتلين . وقال جون : جيد . رد إبراهيم لم أفهم . قال جون : نريدك أن تسافر إلى تبسة .

التخطيط لغارة تبسة

وبدت علامات الدهشة على إبراهيم وتسائل : لماذا تريدني أن أسافر إلى تبسة ؟ ! فابتسم جون بخبث وقال : وهل تعتقد أنها رحلة سياحية ؟ يوجد لدينا عمل كثير ونريد معلومات هامة من المعسكر . فاعترض إبراهيم وقال : لا يمكنني السفر . قال جون : لماذا ؟ رد إبراهيم : بسبب الإجازات . ماذا سأقول للمسؤولين هذه المرة ؟ جون : قل لهم أن والدك قد توفى . قال إبراهيم : وهل والدي في تبسة ؟ ! رد جون : استغل الظروف المناسبة وعندما تستطيع الحصول على إجازة مرضية أو عادية سافر فوراً بحجة زيارة صديقك في تبسة قاطعه إبراهيم وما هو المطلوب منى ؟ قال جون المطلوب كثير وسأعطيك ورقة أسئلة وسنتناقش فيها في ما بعد وقبل ذلك هناك أمر مهم أيضاً . لقد وردت إلينا معلومات عن أبو العباس سيسافر إلى الجزائر .

- إبراهيم : أرجوك. دعني من هذا الرجل .

- جون : ماذا تقول ؟

- إبراهيم : أنا لم أشاهدهم منذ عملية " اكيلى لاورو " . كما أن الرجل يتخذ احتياطات أمنية غير عادية ومن المستحيل معرفة مواعيد رحلاته .

- جون ( ضاحكاً بخبث ) : أنت الوحيد الذي لا يوجد أمامه مستحيل .

- إبراهيم : ماذا تقصد ؟

- جون : أنت مرافق , وتعرف جميع مرافقي القيادات , وقادر على أن تتصل هاتفياً بأحد أصدقائك وتسأله .

- إبراهيم : وهل تعتقد أنني على هذه الدرجة من الغباء ؟ أو أن أي مرافق مهما كانت علاقته بي سيسر إلى بأمر كهذا ؟ أنت تجهل أمن منظمة التحرير .

- جون : هل أنت معنا أم معهم ؟

- إبراهيم : أنا مع الواقع وأصول الشغل . ولا أريد أن أكذب عليك !

وبدت علامات الارتياح على وجه جون وقال : فهمتك يا نمس ! كل شئ بثمنه . وإذا استطعت أن تحدد رقم رحلة أبو العباس فلك مكافأة مالية كبيرة من " الموساد " وهذا الكلام ليس من عندي بل من تل أبيب وهذه رسالة تل أبيب إليك .

- إبراهيم : شولتز يعرض 250 ألف دولار . فكم تعرض تل أبيب ؟

- جون : لا تصدق كلام شولتز . هل تعرف شروط الجائزة الأمريكية ؟ ! فلن تنال دولاراً واحد قبل أن يقبض على أبو العباس ويحاكم أمام محكمة أمريكية ثم يقرر بعد ذلك . وأنا أعرف الأمريكان انهم لا يصدقون .ويقتلونك بعد القبض على أبو العباس , أو يبلغون عنك أي جهاز مخابرات , وفى أحسن الأحوال سيعطونك دولارات مزيفة ليكون مجرد حملها جريمة يعاقب عليها القانون . وبالنسبة إلينا , فلو استطعت تحديد رقم الرحلة , ولا علاقة لك بالأمر , سواء قبضنا عليه أم أسقطنا طائرته فنحن أحرار نفعل ما نريد , ولكن عندما تسلمني رقم الرحلة تقبض المبلغ فوراً . وهذا المبلغ لا علاقة له برواتبك ونفقاتك .

- إبراهيم : أية رواتب ؟

- جون : لقد حددت لك تل أبيب راتباً شهرياً قدره 1000 دولار . وهذا لا تعطيه تل أبيب إلا لرجال على مستوى عال .

- وابتسم إبراهيم وقال : أشكر تل أبيب على هذه الثقة .

فأضاف جون : أريد منك بعض التفصيلات حول أبو العباس , وهى : هل يستعمل ماكياج ؟ وهل يتنكر أثناء سفره ؟ هل يستعمل أقنعة أو غير ذلك ؟ أنت مقصر من هذه الناحية وتريد تل أبيب بشكل عاجل تفصيلات من هذا النوع .

ويتحدث أبو العباس حول هذه النقطة ويقول انه خلال الحملة التي شنتها المخابرات المركزية و" الموساد " ضده وما تبعها من ايداع مذكرة توقيف بحقه لدى الانتربول , سافر في إحدى المرات إلى باريس وبقى خمس ساعات في قاعة الترانزيت في مطار أورلى ومعه مرافقه الخاص أبو على كاظم , علماً بأن الأخير مطلوب أيضاً وهو يشتبه أبو العباس إلى حد بعيد . ومن لا يعرف أبو العباس شخصياً ويرى أبو كاظم , يعتقد أنه هو ولعل اختياره هذا المرافق الخاص الذي لا يفارقه كظله , يعود إلى هذا الاعتبار . وبقى الرجلان في مطار أورلى دون أن ينتبه إليهما أحد , على الرغم من أن صور أبو العباس كانت تنشر يومياً في الصحف وتعرضها التلفزيونات الأمريكية الغربية , مما يؤكد أن الإجراءات الأمنية لا يمكن أن تكون مثالية , والعنصر الأساسي والمعلومات .

ثم تحدث إبراهيم قائلاً : أنا لا أستطيع السفر كل شهر إلى باريس . فهذا سيكون موضوع شك من جانب رؤسائي وزملائي .

- جون : أنا معجب بحرصك وحذرك . وهو دليل على نجاحك ولا داعي لأن تسافر باستمرار إلى باريس ففي استطاعتك السفر إلى أي بلد أوروبي . إلى قبرص مثلاً فأنت تتردد عليها كثيراً وكل سفره إلى قبرص , تتصل بي وأنا أتيك خلال ساعات . لكن بعد زيارتك إلى تبسة يجب أن أراك في قبرص , والمهم أن أراك وهذا ضروري , ويجب أن تسافر إلى تبسة بالسرعة الممكنة هذه ليست تعليماتي . إنها من تل أبيب . وهى تلح عليك في الموضوع . وستأخذ مكافأة خاصة بعد تبسة كما سأعطيك الآن أي مبلغ تريده كنفقات الإقامة وراتبك الشهري وتذاكر السفر .

وواصل جون حديثه قائلاً : أبو نضال عاد بقوة , وعملية الأمس قام بها أبو نضال .

- إبراهيم : ولكنكم تتهمون منظمة التحرير الفلسطينية ؟

- جون ( متضايقاً من هذا السؤال ) : هذا ليس من شأنك أو شأني . فنحن لا علاقة لنا بسياسة تل أبيب . انهم يعلنون ويتهمون كما يريدون , والمهم عملنا نحن . يجب أن نركز على أبو نضال , وهى مهمة جديدة لك . أبحث عن أية معلومات حوله . لقد بدأت مرحلة العمل الجدي ونحن بحاجة ماسة إليك في هذه المرحلة .

- ثم أعطى جون إبراهيم عدة أوراق للأسئلة , منها قسم خاص بتبسة إضافة إلى أسئلة أخرى تتعلق بجبهة التحرير الفلسطينية وأبو العباس وأبو نضال . كذلك أعطاه المبالغ المالية بالدولار , ثم قدم له ايصالاً وطلب منه أن يوقع عليه بأنه استلم مبلغ ( كذا ) من المخابرات الإسرائيلية . فوقع الاتصال ثم نهض بعد أن حمل أغراضه وخرج ليسافر في صباح اليوم التالي عائداًُ إلى أبو محمد .

وزير الداخلية النمساوي

عاد الشاب ليجد أبو محمد وقد سافر إلى فيينا حيث التقى مع وزير الداخلية النمساوي , في إطار التنسيق الأمني بين المخابرات الفلسطينية والنمساوية . وقد جاءت زيارة أبو محمد بسبب عملية أبو نضال واشرح توجهات منظمة التحرير نحو إدانة الإرهاب ومكافحته تنفيذ ل " إعلان القاهرة " الذي قطع فيه عرفات الطريق على إسرائيل , عندما أعلن في 7 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1985 عن وقف العمليات الخارجية وأكد تمسكه بالمؤتمر الدولي للسلام وشجب المنظمة وادانتها جميع عمليات الإرهاب , سواء التي تتورط فيها الدول أو التي يرتكبها الأفراد أو الجماعات ضد الأبرياء والعزل في أي مكان

وأكد القرار الصادر عام 1974 بإدانة جميع العمليات الخارجية وكل أشكال الإرهاب وشدد على التزام جميع الفصائل والمؤسسات الفلسطينية بهذا

الإجراء . وأضاف أن المنظمة ستتخذ كافة التدابير الرادعة بحق المحالفين . كان هذا البيان التاريخي محوراً للقاء أبو محمد مع وزير الداخلية النمساوي في يناير ( كانون الثاني ) 1986 حين بدأ الوزير منفعلاً نتيجة عملية مطار فيينا , وقال سنقطع دابر الإرهاب , وقد اتخذنا إجراءات أمنية مشددة في المطارات والنقاط الحدودية وداخل النمسا " وأبدى أبو محمد دهشته لهذه اللهجة الغريبة وقال الإجراءات الأمنية ليست الحل الأمثل للإرهاب , فمعالجة القضية لا تتم من خلال تكثيف الإجراءات الأمنية ومطاردة الإرهابيين , وقد أثبتت الأحداث فشل هذه النظرية . والحل هو البحث عن الجذور والأسباب ... الخ .

ولم تستطع عملية مطار فيينا أن تهدم جذور الثقة بين المنظمة والحكومة النمساوية , وتطورت العلاقات السياسية والأمنية بينهما بشكل سليم . وعلى أثر هذه الزيارة انتقل أبو محمد إلى عدن بعد أن وقعت الأحداث الدامية هناك محاولاً احتواء الخلافات لكن الأزمة كانت أكبر من التوقعات . وخلال هذه الفترة كان الضابط حسين يتولى التنسيق مع إبراهيم . لكن القرار النهائي كان ينتظر أبو محمد الذي ما إن عاد من جولته حتى وجد الشاب في انتظار التعليمات . وبعد أن اطلع على الأسئلة الخطيرة أدرك فوراً أن أجهزة " الموساد " بدأت مرحلة جديدة من العمل مع إبراهيم . فقد تجاوزت مرحلة الشك , لكن الأسئلة الاختبارية تبقى واردة طوال خدمة العميل لأن الثقة مسألة نسبية حسب رأى أبو محمد , ولا توجد في عمل المخابرات ثقة مطلقة

ف" الموساد " تخضع ضباطها سنوياً لاختبارات كشف الكذب ويبقى الضابط تحت الاختبار طوال فترة عمله , لأنه معرض للسقوط في أي لحظة . أما المخابرات الفلسطينية فإنها تتبع نظاماً مختلفاً . وإذا كان هذا النظام من حيث المبدأ مشابهاً إلا أن الوسائل الاختبارية تختلف . ف " الموساد " تنتمي إلى المدرسة الأمريكية مع شخصية مستقلة , فيما المخابرات الفلسطينية تنتمي إلى المدرسة الشرقية مع شخصية هي الأخرى مستقلة . وتتميز المخابرات الفلسطينية بأن النظريات المتبعة في العالم لا تنطبق في كثير من الأحيان على عمل هذه المخابرات لأنها تشكل مدرسة مستقلة ومتميزة عن المدارس الأخرى كونها تعمل على أرض ليست أرضها ويتوزع " المركز " بين دول عديدة . وهى في النهاية مخابرات حركة تحرر وان كانت تمارس مهام الدولة منذ قيامها بشكل عملي .

وقد فشلت المخابرات الإسرائيلية والغربية في لبنان , لأنها طبقت النظريات على واقع مختلفاً تماماً عن تل أبيب أو واشنطن أو المخابرات الفلسطينية لمكافحة الإرهاب , بسبب نقص في الخبرة بالواقع اللبناني الذي امتد إلى دول عديدة في العالم . وكانت أسئلة " الموساد " هذه المرة تشمل قائمة بأسماء كوادر من جبهة التحرير الفلسطينية وتطلب أية معلومات تفصيلية حول واحد منهم , ومعلومات شخصية وأرقام هواتف وعناوين وحقيقة المهمات وهم : أبو العلاء , أبو أحمد حلب , زياد العمر ( مع تركيز خاص على زياد ) أبو على كاظم , أبو العمرين , حسين العايد , على اسحق , الرائد فهد , أبو مازن وأبو رباح . فضلاً عن سؤال مكرر هو ما إذا كان عرفات على علم مسبق بعملية

" اكيلى لاورو " وإذا كانت هناك عمليات محتملة ضد إسرائيل . إضافة إلى أسئلة حول علاقة ليبيا بالإرهاب وأبو نضال وعلاقة سورية بأبو نضال والتسهيلات التي تزعم " الموساد " أن السفارات الليبية والسورية تقدمها إلى أبو نضال وأية تفصيلات حول هذا الأخير وعبد الرحمن عيسى , وعاطف أبو بكر . وما علاقة أبو العباس بالحكومة العراقية ؟ وأين توجد معسكرات أبو العباس في العراق والجزائر ؟ ومنذ يناير ( كانون الثاني ) كانت " الموساد " قد بدأت في إثارة الولايات المتحدة الأمريكية ضد ليبيا لتنفذ الغارة بعد هذا التاريخ بشهور . وكانت الأسئلة كثيرة وخطيرة , فاتخذ أبو محمد قراره بأن يسافر إبراهيم إلى تبسة .

إلى تبسة

في أواخر ( كانون الثاني ) 1986 سافر إبراهيم سلمان إلى معسكر تبسة في الجزائر مزوداً بتسهيلات غير مباشرة من أبو محمد , تحت غطاء زيارة عادية إلى أحد الأصدقاء حيث مكث عدة أيام عاد بعدها ليلتقي أبو محمد الذي زوده مرة أخرى بتوجيهات وأجوبة عن الأسئلة . منها أن عرفات لم يكن على علم بعملية " اكيلى لاورو " وأنه اتخذ إجراءات ضد جبهة التحرير الفلسطينية كعقاب على تجاوزها , في حين كلفه ببحث عدد من النقاط لمعرفة قضايا خصوصاً ما يتعلق بتبسة . كما زوده بالمعلومات اللازمة حول طريقة حصوله على الأجوبة .

وسافر إبراهيم في منصف فبراير ( شباط ) 1986 إلى لارنكا ومنها إلى نيقوسيا , حيث نزل في فندق " كينيدى " وهناك اتصل بباريس , وترك خبراً لجون . وفى مساء اليوم نفسه اتصل به هذا الأخير محدداً موعداً للقاء الساعة السابعة من اليوم التالي . وفى هذا الموعد كان جون يطرق باب غرفة إبراهيم طرقات خفيفة بإصبعه ثم دخل لتبدأ جلسة جديدة من العمل , استمرت حتى ساعة متأخرة من الليل . سجل جون على أثرها الأجوبة , وخصوصاً حول تبسة وهى أسئلة كانت طويلة ودقيقة . كم عدد مقاتلي المعسكر ؟ من هم مسئولو المعسكر ؟ وما نوعية التدريبات التي يتلقاها المقاتلون في المعسكر , وهل هي كلاسيكية أم خاصة ؟ وهل يوجد في المعسكر تدريب على العمليات الإرهابية , مثل اختطاف الطائرات وتهريب المتفجرات في المطارات واحتجاز الرهائن ؟ وكيف يتحول المقاتلون من تبسة إلى لبنان وما هي الطرق التي يسلكونها والوسائل التي يستخدمونها ؟ من هم الأشخاص الذين يسهلون في قبرص عمليات إعادة المقاتلين إلى لبنان ؟ ومن يرشحه المقاتلون لقيادة المنظمة بعد عرفات ؟ وما أنواع الأسلحة وهل توجد حراسات جزائرية وكم عددها وتسليحها وكم ضابطاً فلسطينياً في المعسكر وأسماء المسؤولين ورتبهم ؟ وهل قادة المعسكر شعبيون بالنسبة إلى المقاتلين وهل يشتكى المقاتلون من شيء مثل سوء المعيشة أو نقص الراتب ؟

وكان أبو محمد قد اتصل بشكل سرى مع مسؤول الاستخبارات العسكرية في المعسكر وطلب منه معلومات محددة وزود الشاب بمعلومات إضافية مدروسة , ومنها وجود سجين برتغالي عمل مع " الموساد " في لبنان ويسجن الآن في المعسكر . وكانت المفاجأة عندما قدم جون إلى الشارب خارطة عن الجزائر طالبا منه وضع إشارة " اكس " على المعسكر . ثم طلب تحديد مقر قيادة المعسكر . زياد الأطرش , ومساكن الضباط والمقاتلين ومخازن الأسلحة والحراسة الجزائرية . فارتبط إبراهيم من هذه الأسئلة الخطيرة وأدرك اللعبة على الفور , فقال : لم أتمكن معرفة مخازن الأسلحة وأشار إلى النقاط الأخرى . وفى اليوم التالي عاد ضباط " الموساد " وطلب من إبراهيم رسم خريطة للمعسكر , كما طلب منه تحديد مسافات المعسكر , طولا وعرضا بالأمتار . وبعد قام بذلك , قال ضابط " الموساد " الآن حدد مواقع الصواريخ " سام " والمضادات للطائرات . فقال إبراهيم : لا أعرف مواقع الصواريخ ولا ما إذا كانت موجودة أم لا . فرد جون : ماذا تقول ؟ يجب أن تعرف . فهذا أهم من كل الأسئلة الأخرى حول المعسكر . فقال إبراهيم على الفور : أنك لم تطلب منى ذلك . فابتسم جون بخبث وقال : هذه غلطتي , ولكن هل تعتقد أن المضادات للطائرات موجودة داخل المعسكر أم خارجه ؟ .

الفصل الرابع

الموساد تتجسس على مندوب أمريكا

تضمنت تعليمات أبو محمد إلى إبراهيم سلمان قبل سفره أنه إذا سأله ضابط " الموساد " جون معلومات إضافية عن المعسكر , فعليه أن يكون متنبهاً . وقد رفض الشاب تحديد مواقع صواريخ " سام " والمضادات للطائرات , بحجة عدم مشاهدتها , أو الاطلاع على مواقعها في حال وجودها .

وفى اليوم الثالث عاد جون وطلب من إبراهيم رسم خارطة ثالثة عن المعسكر سائلاً إياه تحديد أمور أخرى أكثر دقة . وبعد انتهاء جلسات العمل زوده بمبالغ مالية ومجموعة عديدة من الأسئلة حول المرحلة المقبلة . وبعد عودة إبراهيم , بدأت الأمور تتضح , إذ وردت على المخابرات الفلسطينية معلومات من عدة مصادر , بينهما عملاء مزدوجون . وفى إطار تبادل المعلومات مع المخابرات الصديقة , تأكد أن إسرائيل تخطط ضربة عسكرية ضد معسكر تبسة . إلا أن التحليل الذي وصل إليه أبو محمد في البداية , عندما أحضر الشاب الأسئلة , رجح إلى عدة احتمالات : الأول إما أن " الموساد " تعرف عن معسكر تبسة أكثر من غيره وشاءت اختبار إبراهيم , أو أنها تنقصها بعد المعلومات عن تبسة . أما الاحتمال الثالث فهو أن تكون إسرائيل بصدد ضرب هذا المعسكر بالذات . ومن المعلومات المتوفرة خرج أبو محمد بقناعة مفاها أن إسرائيل تخطط فعلاً لقصف المعسكر , وخصوصاً بعد أن استفسر أبو محمد طويلا عن أسلوب جون في الحديث , وأسئلة أخرى عديدة . وقد أرسل هذه المعلومات إلى الجهات المختصة في منظمة التحرير الفلسطينية , وجرى توجيه قيادة المعسكر لاعلان الاستنفار , وأبلغت المعلومات إلى وزارة الدفاع الجزائرية التي وضعت قواتها في تأهب . وتم تسريب هذه الإجراءات إلى وكالات الأنباء بشكل معتمد . وأحبطت العملية المتوقعة . وبعد فترة قليلة , اتصل المسؤول عن الاستخبارات في معسكر تبسة بأبو محمد وأبلغه أن شخصاً ما يبحث بطريقة سرية عن السجين البنغالي . وعلى الفور جمعت المعلومات حول هذا الشخص , ثم ألقى القبض عليه واعترف بعلاقته مع " الموساد " وأن هذه الأخيرة كلفته البحث عن البنغالي , مما يعتقد أنه نتيجة المعلومات التي سر بها أبو محمد إلى المخابرات الإسرائيلية بعدما توفرت لديه معطيات سابقة حول الموضوع واراد التأكد منها .

إلا أن العملية الإسرائيلية لم تتوقف عند تبسة , بل تجاوزتها إلى القيادات الفلسطينية , فحمل إبراهيم أسئلة جون هذه المرة وهو حول أمن القيادات الفلسطينية وأبرزها ياسر عرفات وأبو اياد وأبو جهاد .

وبعد عودة إبراهيم بدأت أسئلة إضافية ترد باستمرار , في حين كان هو يرسل الأجوبة بوسائل الاتصال المتفق عليها . وكانت المؤشرات والمعلومات تدل على نوايا إسرائيل استغلال الحملة الأمريكية على منظمة التحرير لتنفيذ عدة عمليات , منها الغارة على تبسة . وكان التخطيط الإسرائيلي يقتضي إعادة سيناريو عملية فردان في بيروت . ولكن الاحتياطات الفلسطينية جعلت التنفيذ صعباً , وبدأ منذ ذلك التاريخ سباق بين مخططات " الموساد " والإجراءات الفلسطينية المضادة لحماية بعض القادة . فقد تم تزويد المخابرات الإسرائيلية بمعلومات تمويهية على هذا الصعيد . وكان أبو عمار وأبو اياد في جو الإجراءات الأمنية , في حين كان أبو جهاد العقبة الوحيدة , إذ كان يرفض تكثيف الحراسات والتمويه على تحركاته , لأنه كان غير مقتنع بهذه المظاهر .

وخلال شهري مارس ( آذار ) وإبريل ( نيسان ) اتخذت الأجهزة الفلسطينية إجراءات احترازية . وقد ترجمت هذه الإجراءات عملياً . وأسهم إبراهيم في هذه المسألة بإرسال معلومات زوده بها أبو محمد للتمويه على تحركات بعض القادة الفلسطينيين . فيما بعد عندما تبينت " الموساد " عدم صحة معلوماته أنه ينقل ما يسمعه من المرافقين و معارفه . وأن الذنب ليس ذنبه . وقد أحبطت

" عملية فردان الجديدة " وبدأ ل " الموساد " أن من المستحيل تنفيذها في ظل معلومات إبراهيم وفى إبريل ( نيسان ) 1988 وصلت لأبو جهاد واغتالته في منزله , بعد أن توصلت إلى قناعة نتيجة لتجربتها الأولى مع إبراهيم بأنه يستحيل تحقيق أكثر من هدف دفعة واحدة . وعلى الرغم مما أحاط اغتيال أبو جهاد من ملابسات , فالمعلومات الفلسطينية أشارت إلى أن " الموساد " تخطط عمليات أخرى وكان أبو جهاد الحلقة الأضعف في القيادات الفلسطينية والحراسات , بسبب قناعاته المشار إليها .

وفى الوقت نفسه وردت مجموعة هامة من الأسئلة حول أبو محمد تقول : أنه طالما يسافر كثيراً إلى أوروبا الشرقية فأين مكاتبه السرية في هذه البلدان ؟ وأين يقيم ؟ وأين مكاتبه العلنية ؟ وكم عدد العاملين فيها ؟ وطلبت تفاصيل أخرى . إذ لم يكن أبو محمد مجهولاً لدى " الموساد " بل هو معروف في دوائرها منذ 1986 , وقد نفذ عمليات ناجحة , وبحثت عنه " الموساد " لكنه بقى بالنسبة إليها مجهولاً .

الغارة على ليبيا

في تلك الفترة بدأت الأسئلة تتكاثر عن سورية وليبيا وأبو نضال , وحول دعم ليبيا للعمليات الإرهابية . وكان إبراهيم يرسل الأجوبة : لا علاقة لليبيا وسورية بالإرهاب لتثير الولايات المتحدة ضد هاتين الدولتين . فالاستخبارات الإسرائيلية ترتبط بعلاقات تعاون وتنسيق أمنى مع المخابرات المركزية

( سى. آى . إيه ) بمعلومات مغلوطة حول علاقة المنظمة بالعمليات الإرهابية وهو أسلوب اتبعته " الموساد " سابقاً مع بعض المخابرات الأوروبية . ومن خلال هذا التعاون تقدم معلومات تضليلية , الغرض منها إثارة الولايات المتحدة ضد العرب , والحصول على أكبر كمية من المساعدات والأسلحة ونسف أي تقارب عربي – أمريكي أو فلسطيني – أمريكي . فقد بحثت " الموساد " في فترة سابقة عن عدد الخبراء السوفييت في بعض بلدان المنطقة . وهى ليست احتياجات إسرائيلية بقدر ما هي احتياجات أمريكية . كما أنها تزود المخابرات الألمانية الغربية إذ بذلت جهدها من أجل منع أي تقارب بين بون ومنظمة التحرير , ولجأت إلى أسوأ الحيل , نشرت معلومات مضللة حول تعاون المخابرات الإسرائيلية والألمانية في اغتيال بعض القيادات الفلسطينية , كما في قضية أريكا تشامبرز ( سيلفيا رافائيل ) المتهمة بالاشتراك في اغتيال أبو حسن سلامة , قائد " القوة 17 " في بيروت عام 1979 .

وقد سعت " الموساد " إلى مد جسور مع الاستخبارات الألمانية . ورغم الشك الذي سيطر على الاتصالات الأولى التي أجريت بين الطرفين , فقد استطاعت تخطى مرحلة الحذر وبناء روابط قوية أدت فيما بعد إلى إجراء مفاوضات سرية مع الحكومة الألمانية من أجل تزويد الجيش الإسرائيلي ببعض المعدات والأسلحة المتطورة . غير أن همزة الوصل بدأت تتعمق , بعد أن قامت

" الموساد " بتزويد المخابرات الألمانية المسؤولة مقابل هذا التعاون حق استجواب العرب الذين تعتقلهم السلطات الألمانية . والواقع أن " الموساد " مارست هذا " الحق " منذ 1973 رغم مخالفته القوانين المحلية . على أن العلاقات بين " الموساد " والمخابرات المركزية الأمريكية هي الأقوى , فقد حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجن في أول زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة في يوليو ( تموز ) 1977 , إبراز " فضل " المخابرات الإسرائيلية على المعلومات التي تملكها دوائر وزارة الدفاع الأمريكية في ما يتعلق بالأسلحة السوفيتية , بغية التأثير على سياسة الرئيس السابق جيمي كارتر حيال الشرق الأوسط , إذ قدم بيجن إلى كارتر لدى وصوله إلى البيت الأبيض ملفاً مليئاً بالأوراق والوثائق طلب منه الاطلاع عليه بالتفصيل . وضم الملف لائحة بالمعدات العسكرية التي استولت عليها إسرائيل منذ العدوان على سيناء عام 1956 وقدمتها إلى الخبراء العسكريين الأمريكيين من أجل فحصها ودراسة نقاط ضعفها .

والحقيقة أن التعاون الإسرائيلي – الأمريكي في مجال التجسس يعود إلى الخمسينات . فقد كان المقر التابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية يضم قسماً على درجة عالة من السرية , وكانت مهمة هذا القسم تنسيق العمليات المشتركة مع

" الموساد " وكان على رأسه حينئذ جيمس أنغلتون الذي كان معروفاً بعدائه الشديد للسعودية والسوفييت . ومن أجل كسبه إلى جانبها بدأت " الموساد " تتحين الفرص لإسداء خدمة تساعده على دعم مركزه داخل الاستخبارات حتى كانون 1956 حين نجحت المخابرات الإسرائيلية بفعل وجود عدد من اليهود الروس داخل أجهزة الحزب الشيوعي في موسكو , في تسريب بعض الخطاب السري الذي ألقاه الزعيم السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف في ذلك الخطاب معارضته الشديدة لسياسة سلفة ستالين , كما حذر من وجود تمرد شعبي في عدد من دول أوروبا الشرقية . كما استطاع أنغلتون بمساعدة " الموساد " إنشاء جهاز مخابرات قوى وهو" السافاك " . واتسع التعاون ببين " الموساد " والمخابرات المركزية , إذ عمد الجهازان إلى دعم التمرد الكردي في المناطق الشمالية المحاذية للحدود الإيرانية . وفى الفترة التي أعقبت سقوط أنغلتون بسبب تورطه مع " الموساد " في الإعداد للانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام الرئيس الليندى في تشيلى , بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ 1975 عهداً جديداً في ظل رئيسها في تلك الفترة جورج بوش , فقامت بغية عرقلة الموافقة على طلبات الأسلحة التي تقدمت بها إسرائيل بتصوير الوضع أمام المسؤولين الأمريكيين على أن إسرائيل متفوقة عسكرياً على العرب . وعمدت إلى نشر بعض المعلومات المتعلقة بالقنبلة النووية الإسرائيلية .

وكانت إسرائيل تخفى بعض تحركاتها الإقليمية عن واشنطن , وتعمل سراً على التخلص من الأصوات المنادية داخل الولايات المتحدة بإجراء حوار مع الفلسطينيين . وطلب رئيس الاستخبارات أسحق هوفى من الحكومة الضوء الأخضر لمعاقبة هؤلاء المتشددين ضد المصالح الإسرائيلية . وجاءت الموافقة الفورية من بيجن . وتم بعد ذلك التركيز على سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أندرو يونج بسبب تصريحاته الإيجابية إزاء الفلسطينيين , التي أزعجت الدوائر المسؤولة في تل أبيب . وابتداء من 1979 قامت " الموساد " بتسجيل بعض محادثات يونج في نيويورك , عندما كان يجتمع من وقت إلى آخر بممثل منظمة التحرير زهدي الطرزى , وقد عمدت بعد تسجيلها الحديث الذي دار بين يونج وطرزي إلى تسريب مضمونه إلى مجلة " نيوزويك " الأمريكية , الأمر الذي أحدث ضجة في الأوساط الأمريكية الرسمية وأدى إلى استقالة يونج من منصبه . وخلال مارس ( آذار ) وأوائل إبريل ( نيسان ) كانت المخابرات الإسرائيلية تبحث عن علاقة ليبيا سورية بالعمليات الإرهابية . واستطاعت التضليل من خلال معلومات مغلوطة عبر افتعالها حادث تفجير ملهى " لابيل " في برلين واتهام ليبيا وأبو نضال بتدبيره على الرغم من أن كل التحقيقات أثبتت أن لا علاقة لليبيا بالعملية . وقد أرسل أبو محمد عبر إبراهيم ووسائل أخرى , معلومات إلى " الموساد " تنفى علاقة ليبيا أو سورية بالحادث . وأرسل إبراهيم ما مفاده أن " لابيل " يمتلكه شخص إيطالي , ووضع قنبلة في الملهى الذي يرتاده الجنود الأمريكيون كما يرتاده الآخرون , إنما وضعت لأسباب عديدة . فقد يكون صاحب الملهى الإيطالي قام بالعملية للحصول على مبالغ من التأمين , وقد يكون السبب تصفية حسابات بين عصابات المخدرات , وأنه لا أسباب سياسية وراء الحادث . وكانت إشارة واضحة إلى أن " الموساد " هي التي افتعلت العملية , كي تنفذ أمريكا تهديد ضد ليبيا .

الغارة الأمريكية

وكان لدى إسرائيل ما يشير إلى أن الغارة الأمريكية على ليبيا باتت مؤكدة . وقبل الغارة بيوم جرى اتصال هاتفي بين جون وإبراهيم فهم الشاب خلاله بالرموز أن هناك عملية ضد ليبيا , وطلب منه جون أن يكون حذراً كما سأله عدم السفر خلال هذه الفترة . وكانت التساؤلات المطروحة : هل تنفذ أمريكا الغارة ؟ ولكن المعلومات التي كانت في حوزة الأجهزة الفلسطينية أشارت إلى أن الهجوم وشيك . وقبل الغارة بست ساعات فقط , أرسلت هذه الأجهزة تنبيهاً إلى الجهات الليبية توقعت فيه أن الطائرات الأمريكية آتية . وصبيحة 16 إبريل ( نيسان ) 1986 قامت الطائرات الأمريكية بقصف طرابلس وبنغازي مستهدفة مقر الرئيس الليبي وبنغازي مستهدفة مقر الرئيس الليبي معمر القذافى . وعادت المنطقة إلى دوامة جديدة من العنف الذي تثيره باستمرار المخبرات الإسرائيلية .

ومع مطلع مايو ( أيار) 1986 وردت إلى إبراهيم أسئلة مختلفة تبحث عن نوع من التنسيق بين بعض الجهات الفلسطينية وجهات أمريكية مماثلة . وتردد أن القنوات السياسية على هذا الصعيد لم تنقطع منذ السبعينات عندما كان جورج بوش مديراً للمخابرات المركزية , وقد تمت الاتصالات مع أبو حسن سلامة ,

قائد " القوة 17 " , لكن " الموساد "نسفت هذه الاتصالات واغتالته في يناير

( كانون الثاني ) 1979 .

وخلال 1986 وإزاء تصاعد العنف ضد المصالح الأمريكية , ونجاح " التنسيق الأمني " بين بعض الجهات الفلسطينية ومثيلاتها في فرنسا وأسبانيا بشكل خاص , وأوروبا بشكل عام , إذ وصلت العلاقات إلى مستوى جيد , ظهرت بوادر حول تنسيق مماثل مع الولايات المتحدة . وخلال الفترة ذاتها أجرت الشبكة التلفزيونية الأمريكية " ان. بي. سى " حديثاً مع أبو العباس هدد فيه المصالح الأمريكية داخل الولايات المتحدة وأن من الظلم أن تتحمل أوروبا تبعة الصراع مع أمريكا . وقد أثار هذا التصريح الولايات المتحدة , واستغلته " الموساد " أفضل استغلال , فأثارت المخابرات المركزية مجدداً ضده ممات حمل الرئيس رونالد ريغان في قمة طوكيو للبلدان الصناعية على شن حملة من التهديدات . وفى الوقت نفسه أصدرت " الموساد " تعميماً على سفاراتها ضمنته ضرورة تحديد مكان أبو العباس وموعد سفره والطائرة التي تقله ورقم الرحلة . وكانت معلومات " الموساد " تقول أن أبو العباس في الجزائر وسيسافر إلى أبو ظبى .

وقد عرف إبراهيم فيما بعد أن التعميم الذي صدر إلى سفارات إسرائيل في العالم , حمل إشارة خاصة به وأرسل إلى السفارة الإسرائيلية في باريس . وكانت " الموساد " تتوقع أن يستخدم أبو العباس طائرة سوفيتية في سفراته لأن اختطاف هذه الطائرة من قبل " الموساد " إلى الولايات المتحدة يعتبر أمراً مستحيلاً .

وقد وردت الإشارة في التعميم المرسل إلى إبراهيم عبر سفارة إسرائيل في باريس من خلال عبارة " الرجل رقم واحد " في حين كانت مؤكدة لتوجيه ضربة إلى سورية مع عدم تدخل أمريكي مباشر . وحسب قول جون فان " أمريكا لديها الثقة الكاملة في قدرتنا على ضرب سورية بمفردها " .

أبو موسى وباريس

وحاولت " الموساد " بشتى الوسائل عرقلة أي تقارب سوري – فلسطيني , من خلال بث أخبار كاذبة وتنفيذ تفجيرات واغتيالات . ففي أواخر مايو ( أيار ) 1986 وردت برقية عاجلة إلى إبراهيم من " الموساد " تطلب فيها " معلومات عاجلة للغاية " حول أبو موسى ومهدى بسيسو ( أبو على ) مع أوصاف مادية لأن إبراهيم يعرف الرجلين معرفة شخصية , وكانت الاحتياجات تؤكد أن " الموساد " تخطط لأمر دموي . وفى الوقت نفسه وردت معلومات إلي المخابرات الفلسطينية من قبرص قالت أن أحد اللبنانيين كانت لديه مجموعة من المقاتلين يعملون معه قد اجتمع بضابط من " الموساد " وتم الاتفاق على اغتيال أبو موسى في دمشق . إلا أن الأجهزة الفلسطينية قامت بإبلاغ أبو موسى عبر معلومات وصلت متأخرة . وفعلاً , بعد أقل من أسبوعين , تسلل ذلك المقاتل اللبناني وجماعته إلى سطح العمارة التي يسكن أبو موسى في شقة في آخر طابق فيها . وعندما هم المسؤول الفلسطيني بدخول منزله , ومع مرافقه الخاص ابنه محمد , كان اللبناني يلقى عليهما قنبلة يدوية ويفر هارباً , فأصيب محمد بجراح وصمم دائم في أذنيه ونجا أبو موسى , وقد تمت هذه العملية بقصد توسيع الخلاف بين رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات وأبو موسى وبين المنظمة وسورية بعد ان برزت بوادر لاعادة العلاقات إلى حالتها الطبيعية في تلك الفترة .

وخلال يونيو ( حزيران ) 1986 , عادت " الموساد " إلى البحث عن أبو العباس , فوردت أسئلة حول عملية محددة كان يحضر هو لها داخل الأراضي المحتلة .وكانت هذه العملية الفدائية تستهدف الكنيست الإسرائيلي . لكن خللاً طرأ على العملية عندما قبضت المخابرات الإسرائيلية على شاب من جبهة التحرير الفلسطينية أثناء قيامه بشراء كمية من الأسلحة من أحد اليهود الإسرائيليين . وخلال الشهر ذاته طرحت على إبراهيم أسئلة سياسية دقيقة تقول : من يدعم منظمة التحرير الفلسطينية في الحكومة التونسية ؟ وما هي تطورات العلاقات التونسية – الفلسطينية ؟ كما وصلت برقيات أخرى تطلب منه السفر .

وفى منتصف يوليو ( تموز ) سافر إبراهيم سلمان إلى تونس , وكالعادة اتصل هاتفياً بضابط " الموساد " جون . وفى اليوم التالي ظهراً اتل به مرحباً وحدد له موعداً الساعة الثامنة ليلاً في الشقة . وعند السابعة خرج من الفندق , وتوجه إلى الشقة وقام بالإجراءات الأمنية كاملة وبشكل دقيق , حتى وصل إلى الباب في الموعد المحدد بالضبط , فرن الجرس . ومرت لحظات قبل أن يفتح جون الباب , فرحب بإبراهيم قائلاً : أهلاً بك .. تفضل وادخل ! فدخل الشاب إلى الشقة حيث كان في قاعة الجلوس رجل لم يره من قبل , أسمر البشرة , نحيف ومتوسط القامة , يضع نظارات طبية على عينيه , فسلم عليه وقدمه جون باسم : الدكتور شلومو . وبدأ الحديث عادياً ولكن إبراهيم كان مشغولاً بهذا الشخص الذي أمامه وبقى صامتاً يستمع إلى الحوار الدائر بينه وبين جون . وفى الحقيقة , تل أبيب تشكرك على خدماتك , وأنت اليوم الرجل رقم واحد بالنسبة إلى " الموساد " ولا أخفى عليك أن تل أبيب تراهن عليك وتكن لك معاملة خاصة , ومستقبلك كبير معنا . ولقد أثبتنا أننا صادقون معك , فكل المبالغ المستحقة وصلتك وأرسلت إليك . أليس كذلك ؟ وأية نفقات إضافية تطلبها نحن في الخدمة .

ولم يكن هذا الحديث مطمئنا لإبراهيم الذي ظل يستمع فيما شلومو يراقب بطريقة خفية . فواصل جون حديثه : لقد قررت تل أبيب زيادة راتبك إلى 1500 دولار شهرياً , وهو مبلغ لا تدفعه " الموساد " إلا لأناس على مستوى كبير . وأنت أحدهم وهم قلة فقاطعه إبراهيم قائلاً : ولكن أسئلتكم كبيرة ومتعبة , فقد وصلت إلى مرحلة لم أعد معها قادراً على الحصول على أجابا . ألا توجد إجازات في العمل ؟ رد جون : في الفترة الماضية , كانت احتياجات تل أبيب كبيرة . وفى المرحلة المقبلة ستغدو الاحتياجات أكبر والعمل متواصلاً . ثم ألقى على شلومو نظرة ذات معنى وقال لإبراهيم : هل حدثتك سابقاً عن أنك يجب أن تخضع لامتحان ؟ قال إبراهيم بدهشة : أي امتحان ؟ فابتسم جون وقال : جهاز كشف الكذب .

الفصل الخامس

مقتل ضابط الموساد

أبدى إبراهيم دهشته من حديث جون وقال : لماذا أتعرض لهذا الامتحان ؟فرد جون :لدينا تقليد في " الموساد " يتعرض خلاله سنوياً مرة واحدة لهذا الامتحان وهو أمر عادى .

- إبراهيم : لا علاقة لي بهذا الأمر .

- جون : المسألة عادية , والدكتور شلومو جاء خصيصاً ليقوم بالفحص , لأنه من غير الممكن أن تسافر إلى تل أبيب دون هذا الإجراء .

واستمر جون في إقناع إبراهيم , وتوجه الاثنان ومعهما شلومو إلى غرفة الطعام في الشقة . ولدى دخول إبراهيم وقعت عيناه على جهاز بحجم حقيبة " سامسونايت " (حوالي 50 ×40 سم ) . وطلب جون من إبراهيم أن يجلس إلى يمينه على كرسى قرب الجهاز . أما جون فكان خلف إبراهيم مباشرة . وعلى الأثر وضع شلومو إشارة " اكس " على الباب المغلق أما إبراهيم وعلى مستوى نظره بشكل أفقي . ثم طلب منه أن ينظر إلى الإشارة ولا يحول بصره عنها يمينا أو يسارا . وبعد ذلك قام شلومو بربط أسلاك تنتهي بنهايات معدنية وجلدية سميكة , وربط هذا الأسلاك على صدره وبطنه وأصابع اليد وذلك لقياس التعرق . ثم ربط على ذراعه آلة لقياس الضغط . وطلب من عدم التحرك أو التدخين . وبدأ الاستجواب على شكل مجموعات كل منها تتشكل من خمسة أو عشرة أسئلة , وكان المطلوب منه الإجابة عن كل سؤال بنعم أو لا فقط دون شرح , في حين كان الجهاز الذي يشبه إلى حد بعيد آلة تخطيط القلب , يخرج شريطاً ورقياً عليه رسوم بيانية .

هل اسمك إبراهيم سلمان ؟

- نعم

هل زرت تل أبيب ؟

- لا .

هل تعتقد أن علاقتنا سرية ؟

- نعم .

هل كذبت علينا خلال فترة عملك معنا ؟

- لا .

وضمنت المجموعة الثانية الأسئلة التالية :

هل أخبرت أحداً عن علاقتنا ؟

- لا .

هل اسمك إبراهيم سلمان ؟

- نعم .

هل تعتقد أن علاقتنا سرية ؟

- نعم .

هل تعمل مع المخابرات السوفيتية ؟

- لا .

هل أخبرت الأجهزة الفلسطينية عن علاقتنا ؟

- لا .

أما المجموعة الثالثة فتضمنت ما يلي مع العلم أن بعض الأسئلة تكررت في العديد من المجموعات :

هل زرت تل أبيب ؟

- لا .

هل يعلم أحد غيرنا بوجودك هنا ؟

- لا .

هل تخفى عنا معلومات ؟

- لا .

هل تكذب علينا ؟

- لا .

هل أنت على علاقة بالمخابرات الصينية ؟

- لا .

فترة التراجع

وبعد ذلك توقف شلومو وأوقف الجهاز وسحب الشريط الذي كان يلتف أمامه وراح ينظر إليه ويضع إشارات بالقلم . ثم رفع رأسه وقال موجهاً حديثه إلى إبراهيم : أنت تكذب علينا . فنظر إليه إبراهيم بازدراء وقال : من قال لك ذلك ؟ رد شلومو الجهاز .... انظر . وراح يشير إلى الشريط بالقلم وقال : مثلاً عندما سألتك عن اسمك بصدق وعندما طرحنا عليك الأسئلة الأخرى كنت تكذب .. لا تغضب , فالجهاز يقول ذلك وليست أنا وهو لا يكذب . فأجاب إبراهيم ببرود : إذن دع الجهاز يعمل معكم بدلاً منة وانتهى الأمر .

- شلومو : يا صديقي , لسانك يقول شيئاً وجسمك يقول شيئاً آخر .

- إبراهيم : أنا أجيب بما أعرف .

وهنا تدخل جون في النقاش وقال : هل أنت مريض بشيء ؟

- إبراهيم : كلا .

- شلومو : هل تناولت اليوم أي نوع من الأدوية ؟

- إبراهيم : كلا .. لماذا ؟

- شلومو : لأنك إذا تناولت اليوم أدوية فسد عمل الجهاز . وما حصل الآن أنك أجبت عن السؤال إجابة صحيحة , ولكن جسمك قال أنك كذبت علينا . والجهاز لا يمكن أن يكذب .

- إبراهيم : إذا كان هذا رأيكم , فالأفضل أن أترك العمل من الآن .

- جون : كلا لم نطلب منك ذلك , ولكن يجب أن تأخذ المسألة بروح رياضية.

- إبراهيم : لقد تعرضت للمخاطر خلال الفترة الماضية , وأعيش حالة خوف دائمة من انكشاف أمري . أن العقوبة على عملي معكم هي الإعدام . وأعصابي لا تحتمل . وها أنت تقول لي أنني أكذب .

- جون : لا تغضب سنعيد التجربة .

وفى تلك الأثناء , دار حديث بالعبرية بين ضابطي " الموساد " وكان إبراهيم يتظاهر بعدم معرفة هذه اللغة , فقال شلومو موجهاً حديثه إلى جون : حاول استفزازه حول ما إذا كان قد أبلغ لأحداً في منظمة التحرير أو أية جهة ثانية أخرى , وفى هذه الحالة سنلعب معه .

- جون : ما رأيك ؟ هل هو صادق أم كاذب ؟

- شلومو : لم يتبين بعد . وفى النهاية سأعطيك تقييمي له .

واستمرت الجلسة أربع ساعات متتالية دون انقطاع لم يسمح أثناءها للشاب بالتدخين أو حتى بشرب الماء , فأحس بصداع شديد , وشعر أن رأسه يكاد ينفجر . وكانت معركة ضارية , فكن يرد على الاتهامات , وأحس من خلال النقاش بين الرجلين أنه في وضع جيد ولا يشكون فيه , وان الامتحان قد تم للتأكد فعلاً . وفى نهاية الجلسة قال شلومو موجهاً حديثه بالعبرية إلى جون : ممتاز ... لا يكذب وبعد هذه العبارة قال شلومو بالعربية : على كل حال , سنجتمع ونرسل هذه المعلومات إلى تل أبيب وهى تقرر . وأعتقد أنك تكذب علينا وهذا ما يقوله الجهاز .

وبعد انتهاء الجلسة نهض إبراهيم وتوجه إلى قاعة الجلوس فيما كان يحس بالسعادة لنجاحه في الامتحان رغم إحساسه بالإرهاق الشديد والصداع الذي يكاد أن يفجر رأسه . وجاءه جون وحدد معه موعداً مساء الغد في الساعة السابعة مساء في الشقة .

مهمة جديدة

في مساء اليوم التالي وفى الموعد المحدد , كان جون في انتظار إبراهيم . وبدأ الأول الحديث : لقد أكد الجهاز أنك صادق معنا . فقال إبراهيم بانفعال : إذن , لماذا كنت تدعى أنني كاذب ؟ فقهقه جون وقال : هذه أصول الشغل يا صديقي . هل تعرف أنني عرضت على الجهاز في أوائل عملي في " الموساد " وجاءني خبير عصبي وعنيد وبدأ يتهمني بأنني على علاقة مع المخابرات الروسية فثارت ثائرتي لكنني اكتشفت فيما بعد أن المسألة لعبة . وعلى كل حال انس الموضوع , فلدينا الآن عمل كثير , وسأزودك بمجموعة من الأسئلة سأعطيك قبلها اسمي شخصين في منظمة التحرير على علاقة وطيدة مع أبو نضال وعبد الحمن عيسى . وأريدك أن توطد علاقتك بهما .

وبدأت المخاوف تنتاب الشاب وقال مستفسراً : ماذا تقصد ؟

- جون : أبو نضال إرهابي خطير , ويعمل بطريقة سرية للغاية , وينظم عناصره بأسلوب غريب ويجب أن تكون مهيأ لذلك , ففي العادة تجد شخصاً يتقرب إليك ويحدثك في السياسة بشكل عام , وبعد شهور يبدأ في خصوصيات سياسية ثم يعلمك بأنه من " فتح " . وبعد ذلك يعرض عليك العمل . فإذا وافقت وعملت معه و نفذت عدة مهمات بسيطة وأنت تعتقد انه " فتح " لكن فجأة يستدرجك إلي مكان ما وتعتقل ويبدأ التحقيق معك حول علاقتك بالمخابرات الإسرائيلية أو بأية مخابرات أخرى , ويتم خلال التحقيق تعذيبك , فان اعترفت أعدمت وان لم تعترف وتكون فعلاً لا علاقة لك مع " الموساد " عندئذ يتم تنظيمك بشكل جدي . وقد حاولنا دفع أكثر من 20 شخصاً إلى تنظيم أبو نضال دون نجاح يذكر .

تسمر إبراهيم في مكانه وقال : وقال : ولكن ما علاقتي بهذا الموضوع ؟ !

ابتسم جون وقال : لأننا سنحاول هذه المرة .

انفعل إبراهيم وأحس بأن ريقه قد تجمد في حلقه وقال : تحاول ؟ وهل تعتقد أنني حقل تجارب ل " الموساد " أنا أرفض المحاولة وأرفض العمل مع " الموساد " .

- جون : اسمعني يا صديقي . أنت من أفضل رجالنا وأكفاهم .

ولا تنس أنك الرقم واحد في نظر تل أبيب . ولم توكل هذه المهمة إلا إلى رجل خطير مثلك . وأنا متأكد أنك قادر على العملية .

- إبراهيم : هذه مهمة مستحيلة .

- جون : صعبة ولكنها ليست مستحيلة . والمهم أن تتقرب من هذين الشخصين , وقد أردت أن أحدثك عن الموضوع بهذا التفصيل لأنك قد تتعرض لموقف ما على الغم من أنني يجب أن لا أحدثك عنه . لأنني لا أعرف متى يتم لقاؤنا المقبل .

قال إبراهيم محدثاً نفسه : لن نتقابل بعد الآن .

- جون : المهم , من الآن سنسير باتجاه أبو نضال خطوة . ولكن في هذه الأثناء لدينا أعمال كثيرة أخرى .

- إبراهيم : مثل ماذا ؟

- جون : علاقة منظمة التحرير ب " حزب الله " والرهائن في لبنان . نريد أية معلومات حولهم . وهوارى يجب أن لا يغيب عن عينيك . نريد أية معلومات حول نشاطه , فقد عاد إلى الساحة .

وكذلك أبو جابر محمد الذي أصبح من جماعة هوارى .

ثم أعطاه ورقة عليها أسئلة وبعض المال . وعاد الشاب ليلتقي أبو محمد .

نفسية سيئة

وخلال أكتوبر ( تشرين الأول ) وصلت برقيات الحث على موضوع أبو نضال وطلبت من إبراهيم السفر . وكانت نفسية الشاب سيئة للغاية , وبدأ يحس بانهيار حقيقي . فالعمل كان متعباً من الناحيتين النفسية والجسدية . وفى أحد اللقاءات مع أبو محمد تحدث إبراهيم عن همومه الشخصية

وقال : لقد تعبت من هذه اللعبة , وأفضل أن أترك العمل , وقد وعدتني بذلك , هل تذكر ؟ !

فقال أبو محمد : أذكر . لكن هل فكرت ملياً ؟

- إبراهيم : نعم .

أبو محمد : المرحلة المقبلة جديدة وستبدأها " الموساد " معك . وأقول بصراحة أنها ستكون مفيدة للغاية . فقد تحملت أنت الكثير وأنا أعرف ذلك فلا تتوقف في منتصف الطريق . لقد عملنا بشكل ممتاز .

- إبراهيم : لا أستطيع .

- أبو محمد : هناك قاعدة في المخابرات تقول : " لا توجد خطوة إلى الوراء, فهناك خطوة إلى الأمام " .

- إبراهيم : أريد أن أتوقف . وأعرف أنه ليس باستطاعتي العودة إلى الأمس.

- أبو محمد : لن تتركك " الموساد " فستطاردك .

- إبراهيم : سأختفي عن الأنظار .

- أبو محمد : ما دام هذا قرارك فجهز نفسك للسفر ولا تخبر أحد أنك مسافر . ويجب أن لا يعرف أحد أثر عنك بعد اليوم .

ويتحدث أبو محمد قائلاً : لقد طاردت " الموساد " أحد الشباب بعد أن قامت بتجنيده . وعندما عاد إلينا اعترف بكل شئ ورفض أن يواصل العمل لكننا فوجئنا به في أحد الأيام وهو يدخل المكتب مذعوراً . فقد كان رجال

" الموساد " يطاردونه بالهاتف ويطالبونه بمواصلة العمل , ثم تحولوا الى المرحلة الثانية عندما طاردته سيارة وحاولت قتله .

ويعود أبو محمد إلى الحديث عن ضابط " الموساد " جون , واسمه الحقيقي زربيب صاموئيل عمل في المخابرات الإسرائيلية منذ الستينات في نهريب أموال اليهود من الخارج ,وكذلك هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة . ويعتبر من المتخصصين في شؤون شمال أفريقيا , وكان يرئس محطة

" الموساد " في باريس منذ سنوات تحت غطاء وكالة عقارية ويدير شبكة تجسسية فيها العديد من الفتيات الفرنسيات والإسرائيليات .

وكان أبو محمد قد عرض على إبراهيم صوراً لضباط " الموساد " في أوروبا فتعرف إبراهيم عليه , ولكن أحد لم يشاهده في باريس . فقد مات في حادث سيارة على إحدى الطرق السريعة خارج العاصمة الفرنسية . أما إبراهيم فقد توارى وعاش متخفياً في أحد البلدان الأوروبية الشرقية منذ أواخر 1986 .

التعليقات