ندوة التغريبة الفلسطينية تستعيد الحكاية:رفضته التلفزيونات لعنوانه المحمّل بالمشاكل

ندوة التغريبة الفلسطينية تستعيد الحكاية:رفضته التلفزيونات لعنوانه المحمّل بالمشاكل

غزة-دنيا الوطن

لو قدّر للكاميرا أن تلتقط مشهدا "واقعيا" لكاتب مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، د. وليد سيف، ومعه المخرج حاتم علي، قبل إنجاز التصوير ببضعة أسابيع، لربما بدت الصورة هكذا: علي وسيف الى طاولة صغيرة في زاوية الاستديو، بل أجمل من ذلك، في موقع التصوير "الجردي" في الهواء الطلق. علي يحمل أوراقاً فرزها من مغلفاتها البريدية ليقرأ ردود القنوات التلفزيونية الكثيرة التي راسلها الثنائي، وهي تعلن "اعتذارها" عن عرض "التغريبة الفلسطينية" في رمضان كما ينقل علي نفسه مضمون الرسائل "لأن العنوان، قبل القصة، يبدو شائكاً، ومحملاً بإمكانية فتح باب المشاكل، وهي بغنى عن وجع الرأس هذا". يهز سيف رأسه بهدوئه المعهود، يدلك عينيه بإصبعين دقيقي التكوين، فيما علي يطمئنه إلى أنه ما زال هناك متسع من الوقت لفعل شيء... ‏

تدهشك المعلومة، يرويها حاتم علي في ندوة، أقامها "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" في قصر الأونيسكو مساء أمس الأول، لمناقشة "التغريبة". هل أصبحت القضية الفلسطينية، ووصفها الدقيق ب"التغريبة"، فألاً سيئاً تتحاشاه التلفزيونات العربية؟ لم تكن قضية "المنار"، المتهمة في فرنسا بمعاداة السامية، قد بلغت أوج أزمتها آنذاك، وإن كانت هناك بوادر حول مسلسل "الشتات"، وقبله "فارس بلا جواد" الذي لم تعرضه "المنار" وحدها. ومع ذلك، ترددت الشاشات العربية، التي "تطنطن" على رؤوسنا يومياً بحب فلسطين و"أهلنا وشهدائنا"، في شراء حقوق المسلسل. رفضت بحزم. حتى جواب "أم بي سي"، التي عادت وعرضته في رمضان الماضي، كان سلبياً في البداية. "تسنى لي أن أتصل بمسؤول كبير في القناة، ورجوته أن يشاهد الحلقات التي أرسلناها إليه قبل أن يتمسك بقراره"، يخبر علي، و"اتصل بي الرجل ثانية ليقول إنه سيعرض المسلسل، ويا ليتنا أرسلنا له الحلقات كاملة لأنه متشوق لمتابعته من الآن!". هكذا عُرضت "التغريبة". وهكذا تشجعت قنوات عربية، بعد انقضاء رمضان "أم بي سي" على "خير"، للاتصال بالثنائي وبشركة "سورية الدولية للإنتاج الفني" لشراء حقوق العرض التلفزيوني، ربما لأن محور المسلسل هو الإنسان الفلسطيني العادي، مؤنسناً بحرفة، بعيداً عن أرقام القرارات الدولية، بخيره وشره الطبيعيين، يروي قصة رحيله القسري المؤلم عن أرضه، بملابساتها في داخل المجتمع الفلسطيني اللاجئ كما بين هذا المجتمع والمحتل. ليس بطلاً أو شهيداً فحسب، له "عُقده" كأي شعب من لحم ودم، وذلك لا يقلل من أحقية قضيته. الشخصيات الأجنبية (البريطانية وغيرها) ليست كلها شيطانية بالمطلق، وذلك لا يقلل من جريمة الاحتلال. ربما. هذا يُحسب للعمل بالطبع، لكنه ينتقص حتماً من وعي القيمين على الشاشات العربية والذين آثروا التهيب "المضمون"! ‏

أول سؤال يفرض نفسه على وليد سيف، الذي أنجز مع حاتم علي ثلاثة مسلسلات أخرى هي "صلاح الدين الأيوبي" و"صقر قريش" و"ربيع قرطبة": لماذا التاريخ دائماً؟ وهل الإسقاط السياسي والاجتماعي على زمن مضى هو السبيل العربي الوحيد للخوض في أزماتنا الراهنة؟ "التغريبة الفلسطينية ليست تاريخاً، وإن كنت أتفق معك على أنها ليست راهنة، علماً بأن ارتداداتها هي قضية اليوم. أعتقد أننا نحاول كسر المحرمات تدريجياً، نستلهم من المادة التاريخية ما يخولنا طرح أسئلة عصرنا، وترينني أُنطق صلاح الدين بما أريد طرحه أمام الناس، فزمن الأحداث ليس المقياس، وإنما زمن المعالجة. الإسقاط كلمة معقدة بحاجة إلى حديث طويل، لكن إلى حد ما معك حق". ‏

روى سيف، الفلسطيني الأصل، ما وصفه ب"قصة عمره"، وأخرجها علي "فلسطيني الهوى" كما يصف نفسه. سئل الثنائي عن ولادة منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تحضر في المسلسل سوى في مرحلة أواخر الستينيات. كانت الإجابة بأن المنظمة لم تتكرس في الوعي العام الفلسطيني إلا في هذه المرحلة. مرة أخرى، البشر الفلسطينيون، ووعيهم الجماعي، منطلق، لا التاريخ "المدرسي". من هنا كان كلام سيف في الندوة عن "الفجوات" الفلسطينية في "التغريبة": "فجوات اجتماعية واقتصادية موجودة بين الريف والمدينة، وأفرزت جروحاً طبقية، عمّقها الاحتلال البريطاني لتنفيذ وعد بلفور، نعم، لكنها كانت موجودة. فأمي كانت مدينية من حيفا، فيما أبي ريفي، وأنا عايشت معنى ذلك التوتر، يجب ألا نتناول كل شيء بمنطق المؤامرة". ‏

حضرت أيضاً شخصيات "التغريبة": "أبو صالح" (جمال سليمان) و"أم صالح" (يارا صبري) وغيرهما. يضيء وجه سليمان وهو يصف تأثر أدائه للشخصية ببقال فلسطيني، عرفه وهو طفل يسكن مع عائلته في حي دمشقي شعبي. كان والد سليمان يلعب الطاولة مع أبي محمد، وكانت الجيوش العربية وفلسطين وبريطانيا وإسرائيل حاضرة دوماً في أحاديثهما: "أخذت منه لباسه الريفي على الرأس (حطّة وعقالاً)، المديني في الوسط (قميصاً وسترة)، ثم الريفي بشرواله. كانت "لا حول ولا قوة إلا بالله" أقسى ما يتفوه به عندما يكسر أحد الصبية زجاج محله بكرة اللعب مثلاً. لقد خسر كل شيء من قبل، وما عادت أي خسارة أخرى لتستفزه كثيرا". ويكمل سليمان: "خفت كثيراً من مشهد عودة أبي صالح بعد انتهاء الثورة. أنا أفهم معنى أن تكون بلا عزوة في مجتمع عربي. فأمي من عائلة مرموقة وأبي يتحدر من لامكان. أهلها يستقوون بنسبهم وهو يستقوي بثورته الاشتراكية. لذلك، عندما أفلت الثورة، شعرت شخصية أبي صالح بأنه لم يعد هناك ما يبرر قيمتها إذا صح التعبير". ‏

أما يارا صبري، فسارت بشكل معاكس: من "أم صالح" إلى يارا. ضيعت "أم صالح" طفلها ثم وجدته بعد شقاء، فباتت يارا أكثر ارتباطاً بولديها. كانت تضعهما نصب عينيها وهي تمثل الدور. كانت تجنبهما متابعة الأخبار ومشاهد العنف في فلسطين، والآن صارت جزءاً من "الحكاية"، وقررت أنه يجب أن يشاهدا ما يحصل لأقرانهما الفلسطينيين ويجب أن يتابعا "التغريبة"، ولو كان المسلسل مشحوناً عاطفياً بالنسبة إلى سنيهما: "مع أننا نعتبر نخبة مثقفة، وبرغم أننا مناصرون للقضية الفلسطينية بشغف، إلا أني كنت أتابع الأخبار، فأتألم، ثم أقول كما يفعل الكثيرون الحمد لله أني وعائلتي بخير. تعلمت أننا لسنا بخير، ولو كنا ننعم بمشاهدة التلفزيون في بيوتنا المريحة. هكذا علمتني أم صالح". ‏

هكذا تقول "التغريبة الفلسطينية" التي لا يستبعد وليد سيف استكمالها في أجزاء درامية مقبلة. ‏

*السفير

التعليقات