جاسوس بلا قلب بقلم :دكتور سمير محمود قديح
جاسوس بلا قلب
بقلم / دكتور سمير محمود قديح
الباحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
بالقرب من جامع الزعتري على المدخل الشمالي لمدينة صيدا، ارتفعت البنايات
الرائعة التي تقع على البحر مباشرة بطريق بوليفار، المتفرع من الطريق السريع صيدا – بيروت.
بإحدى هذه البنايات ولد خميس بيومي لأسرة ميسورة جداً كثيرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين.
وفي محيط هذا الثراء عاش خميس مدللاً، مرفهاً ، منعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في حانات بيروت ومواخير صيدا برفقة من يماثلونه ثراء، وخواء، فنزف عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة الحسان، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً، غاضباً، على أمل أن يوماً سيأتي ويفيق الى نفسه.
لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات فجأة في حادث سيارة، وانخسفت الأرض بأسرته لما تبين لها أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق المُغيّب على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خاصة وقد تهرب منه أصدقاء الطيش وليالي النزق.
هكذا وجد نفسه العائل الوحيد لأمه ولإخوته الستة، وكان عليه، وهو الخاوي، أن ينبذ ماضيه ليعبر بهم خضم الفقر، والعوز، والمعاناة.
فعمل كأخصائي للعلاج الطبيعي بأحد مراكز تأهيل المعوقين بصيدا، وبعد مرور أربعة سنوات في العمل، اكتشف أنه كثور يجر صخرة يصعد بها الى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد دون أن يجني سوى الشقاء.
لذلك كره نفسه وكره واقعه، وفكر بالهجرة الى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب الى إنسان قائط، عصبي، عدواني، مكروه في محيط عمله.
كانت كل هي حاله، الى أن سقط وهو في قمة ضعفه في مصيدة الموساد بلا مقاومة، وكانت قصة سقوطه سهلة للغاية، وجاءت بدون ترتيب أو تخطيط طويل.
فذات صباح التقى بسيدة أرمينية مسنة، جاءت لتسأله عن إمكانية عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة بالمنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخص حالتها.
قرأ خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد "جريس" بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها بعينيها شعاعات الأسى والبراءة.
لعدة أسابيع . . داوم على زيارتها للعلاج الى أن تصادف والتقى بخالها "كوبليان" تاجر المجوهرات ببيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً واحداً محدداً، عن مدى قدرته الإقدام على عمل صعب، بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.
سافر كوبليان الى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يأكله قلق انتظار استدعائه. . وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بخميس جاء يسعى اليه في بيروت، يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة.
رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، فقد أراد الشاب الحانق أن يجدد ذكرياته في حانات بيروت، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يحرم من متع افتقدها.
كانت آلاف الليرات التي تنفق عليه في البارات دافعاً لأن تزيد من ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه، ورغبته، لم يعارض مضيفه فيما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأمريكية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضدالعرب، ولما أنقده خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو كان ضد لبنان نفسه.
في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه "روبرتو"، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.
كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خاصة وخميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت اليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت.
سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه الى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين ، ولاهثاً خائفاً عاد الى شقته، ولحق به روبرتو ليجده على هذا الحال، فيصفعه بعنف قائلاً انه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، بينما تنهال عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، ومعنى سكونه ما هو إلا خضوع والشعور بندم، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً وليناً، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً،فتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس.
ذلك أنهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس .. فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة بمكان . . !!
وعندما أذاع التليفزيون حادث التفجير، وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يرقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره، وقتل أية محاولة للرفض، أو التمرد، أو الندم.
كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان، والاتحاد السوفييتي، ويويد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه الى "الشرق"، وكانت إسرائيل تقصد أيضاً توجيه الاتهام الى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
ونظراً لظروفه السيئة. . أغدقت الأموال على خميس بيومي فكفر بعروبته، وتحول بعد مدة ليست بالطويلة الى دموي يعشق القتل والدم، بل إنه استطاع تجنيد لبناني آخر اسمه "جميل القرح" كان يعمل مدرساً وطرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال. فتصيده خميس وجره الى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضامه للشبكة، ولم يستغرق تدريبه هو الآخر وقتاً طويلاً، فلسابق خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب. . وأعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء.
هكذا انضم قاتل الى قاتل، وشكلا معاً في النهاية شبكة من الإرهاب هزت أعمالها بيروت.
صواريخ السيارات
وفي التاسعة صباح الثلاثاء 10 ديسمبر 1974 بينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير بمنطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث يوجد معرض "ذبيان وأيوب" للمفروشات. وعثر رجال الأمن على سيارة فيات "132" بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه. . ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ – آر . بي . جي – بلجيكية الصنع عيار "3" بوصة ونصف، مركزة على لوح خشبي متصل بأسلاك كهربائية منها انطلقت الصواريخ.
ووسع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية فيات أيضاً. . وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.
أخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، فتصيب مباشرة مكاتب المنظمة وتحطم واجهاتها ومحتوياتها.
في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الجكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة "أودي 180"، وعثر الى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة العديد من المواطنين والسيارات.
وبعد مرور عدة دقائق من هذه الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة بشارع كرم الزيتون الى هجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.
لقد كان خميس أحمد بيومي ذا دور فعال في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم الى الشبكة الارهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.
ولم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه الى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأرض اللبنانية.
ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيئ لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضل السياحة على الأمن، والسبب الثالث، التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة، لتلك الأسباب، كانت شبكة خميس بيومي والعديد من الشبكات التخريبية الأخرى، تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة.
هكذا أوقعت شبكات التخريب لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.
وحدث أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية على بلجيكي قبل أيام من التفجيرات الأخيرة، بعدما تأكد لديها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة، واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة.
أما الذين سمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدءوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا "الهدنة" لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد، تماماً كما حدث في بريطانيا من قبل مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه: أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ الى عاطفته الإنسانية، و "ترجوه" أن يتوقف ليومين أما إذا لم يستجيب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ. "!!!".
إنه أغرب نداء، ورجاء، لكن، هذه هي الحقيقة المؤلمة، هذا ما حدث بالفعل في لبنان عام 1974.
وفي التاسع من يناير 1975، وبينما الندف الثلجية البيضاء تتطاير في الهواء، ثم تتهادى كالرزاز لتستقر فوق الأرض، وعلى أسطح المنازل وأغصان الشجر، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي بشارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية.
وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء. . واحتاط لعدة أيام كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطول معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت رويداً رويداً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة. . وبوعد منهم بعدم إيذائه اعترف بكل شيء، فألقى القبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، هكذا كتبت لهم النجاة حيث لا يعرف خميس إلا أسماءهم الحركية، أما روبرتو فقد اختفى ولم يقبض عليه أبداً، وتسلمت السلطة اللبنانية خميس بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن، "!!".
تلك كانت محصلة إحدى شبكات التخريب في لبنان، زرعتها إسرائيل لزعزعة استقراره، واستنفار العرب منه، وجره بعيداً عن "المواجهة"، و "الشرق".
بقلم / دكتور سمير محمود قديح
الباحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
بالقرب من جامع الزعتري على المدخل الشمالي لمدينة صيدا، ارتفعت البنايات
الرائعة التي تقع على البحر مباشرة بطريق بوليفار، المتفرع من الطريق السريع صيدا – بيروت.
بإحدى هذه البنايات ولد خميس بيومي لأسرة ميسورة جداً كثيرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين.
وفي محيط هذا الثراء عاش خميس مدللاً، مرفهاً ، منعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في حانات بيروت ومواخير صيدا برفقة من يماثلونه ثراء، وخواء، فنزف عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة الحسان، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً، غاضباً، على أمل أن يوماً سيأتي ويفيق الى نفسه.
لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات فجأة في حادث سيارة، وانخسفت الأرض بأسرته لما تبين لها أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق المُغيّب على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خاصة وقد تهرب منه أصدقاء الطيش وليالي النزق.
هكذا وجد نفسه العائل الوحيد لأمه ولإخوته الستة، وكان عليه، وهو الخاوي، أن ينبذ ماضيه ليعبر بهم خضم الفقر، والعوز، والمعاناة.
فعمل كأخصائي للعلاج الطبيعي بأحد مراكز تأهيل المعوقين بصيدا، وبعد مرور أربعة سنوات في العمل، اكتشف أنه كثور يجر صخرة يصعد بها الى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد دون أن يجني سوى الشقاء.
لذلك كره نفسه وكره واقعه، وفكر بالهجرة الى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب الى إنسان قائط، عصبي، عدواني، مكروه في محيط عمله.
كانت كل هي حاله، الى أن سقط وهو في قمة ضعفه في مصيدة الموساد بلا مقاومة، وكانت قصة سقوطه سهلة للغاية، وجاءت بدون ترتيب أو تخطيط طويل.
فذات صباح التقى بسيدة أرمينية مسنة، جاءت لتسأله عن إمكانية عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة بالمنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخص حالتها.
قرأ خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد "جريس" بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها بعينيها شعاعات الأسى والبراءة.
لعدة أسابيع . . داوم على زيارتها للعلاج الى أن تصادف والتقى بخالها "كوبليان" تاجر المجوهرات ببيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً واحداً محدداً، عن مدى قدرته الإقدام على عمل صعب، بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.
سافر كوبليان الى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يأكله قلق انتظار استدعائه. . وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بخميس جاء يسعى اليه في بيروت، يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة.
رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، فقد أراد الشاب الحانق أن يجدد ذكرياته في حانات بيروت، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يحرم من متع افتقدها.
كانت آلاف الليرات التي تنفق عليه في البارات دافعاً لأن تزيد من ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه، ورغبته، لم يعارض مضيفه فيما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأمريكية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضدالعرب، ولما أنقده خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو كان ضد لبنان نفسه.
في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه "روبرتو"، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.
كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خاصة وخميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت اليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت.
سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه الى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين ، ولاهثاً خائفاً عاد الى شقته، ولحق به روبرتو ليجده على هذا الحال، فيصفعه بعنف قائلاً انه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، بينما تنهال عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، ومعنى سكونه ما هو إلا خضوع والشعور بندم، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً وليناً، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً،فتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس.
ذلك أنهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس .. فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة بمكان . . !!
وعندما أذاع التليفزيون حادث التفجير، وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يرقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره، وقتل أية محاولة للرفض، أو التمرد، أو الندم.
كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان، والاتحاد السوفييتي، ويويد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه الى "الشرق"، وكانت إسرائيل تقصد أيضاً توجيه الاتهام الى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
ونظراً لظروفه السيئة. . أغدقت الأموال على خميس بيومي فكفر بعروبته، وتحول بعد مدة ليست بالطويلة الى دموي يعشق القتل والدم، بل إنه استطاع تجنيد لبناني آخر اسمه "جميل القرح" كان يعمل مدرساً وطرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال. فتصيده خميس وجره الى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضامه للشبكة، ولم يستغرق تدريبه هو الآخر وقتاً طويلاً، فلسابق خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب. . وأعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء.
هكذا انضم قاتل الى قاتل، وشكلا معاً في النهاية شبكة من الإرهاب هزت أعمالها بيروت.
صواريخ السيارات
وفي التاسعة صباح الثلاثاء 10 ديسمبر 1974 بينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير بمنطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث يوجد معرض "ذبيان وأيوب" للمفروشات. وعثر رجال الأمن على سيارة فيات "132" بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه. . ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ – آر . بي . جي – بلجيكية الصنع عيار "3" بوصة ونصف، مركزة على لوح خشبي متصل بأسلاك كهربائية منها انطلقت الصواريخ.
ووسع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية فيات أيضاً. . وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.
أخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، فتصيب مباشرة مكاتب المنظمة وتحطم واجهاتها ومحتوياتها.
في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الجكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة "أودي 180"، وعثر الى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة العديد من المواطنين والسيارات.
وبعد مرور عدة دقائق من هذه الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة بشارع كرم الزيتون الى هجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.
لقد كان خميس أحمد بيومي ذا دور فعال في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم الى الشبكة الارهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.
ولم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه الى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأرض اللبنانية.
ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيئ لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضل السياحة على الأمن، والسبب الثالث، التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة، لتلك الأسباب، كانت شبكة خميس بيومي والعديد من الشبكات التخريبية الأخرى، تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة.
هكذا أوقعت شبكات التخريب لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.
وحدث أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية على بلجيكي قبل أيام من التفجيرات الأخيرة، بعدما تأكد لديها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة، واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة.
أما الذين سمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدءوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا "الهدنة" لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد، تماماً كما حدث في بريطانيا من قبل مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه: أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ الى عاطفته الإنسانية، و "ترجوه" أن يتوقف ليومين أما إذا لم يستجيب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ. "!!!".
إنه أغرب نداء، ورجاء، لكن، هذه هي الحقيقة المؤلمة، هذا ما حدث بالفعل في لبنان عام 1974.
وفي التاسع من يناير 1975، وبينما الندف الثلجية البيضاء تتطاير في الهواء، ثم تتهادى كالرزاز لتستقر فوق الأرض، وعلى أسطح المنازل وأغصان الشجر، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي بشارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية.
وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء. . واحتاط لعدة أيام كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطول معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت رويداً رويداً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة. . وبوعد منهم بعدم إيذائه اعترف بكل شيء، فألقى القبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، هكذا كتبت لهم النجاة حيث لا يعرف خميس إلا أسماءهم الحركية، أما روبرتو فقد اختفى ولم يقبض عليه أبداً، وتسلمت السلطة اللبنانية خميس بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن، "!!".
تلك كانت محصلة إحدى شبكات التخريب في لبنان، زرعتها إسرائيل لزعزعة استقراره، واستنفار العرب منه، وجره بعيداً عن "المواجهة"، و "الشرق".
التعليقات