الفساد في السلطة بقلم: عدلي صادق
الفساد في السلطة الفلسطينية
عدلي صادق
لا بد من ارجاع جذور الفساد، في السلطة الفلسطينية، الى الوضعية التي كانت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، أو حركة "فتح"، قبل سنوات طويلة من إبرام اتفاقات "أوسلو"، أو ـ على الأقل ـ بعد انتهاء مرحلة التواجد في الأردن، لمقرات القيادة والمكاتب الإدارية للفصائل، مع الغالبية العظمى من القوات العسكرية، وبدء مرحلة هذا التواجد كله على الأراضي اللبنانية، ذلك على الرغم من أن الفساد المالي والإداري، والانحرافات التي شوهت العمل الأمني والسياسي الفلسطيني، تشكل حقلاً مستقلاً للدراسة، على الأقل في سياق بحث أثر البنية المترهلة، لما اصطلح على تسميته بـ "الثورة الفلسطينية" على النتائج التي مثلتها "أوسلو" كعنوان، أو كمدخل، للتسوية السياسية مع الدولة العبرية. فلا بأس من المجيء على ذكر فساد "المنظمة" كجذر أساسي ـ وليس جذراً وحيداً ـ لفساد السلطة الفلسطينية فيما بعد. وكانت أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية، قد شهدت فلتاناً مزرياً، لا سيما بعد انتهاء مرحلة الأردن، في العام 1971. وقيل الكثير عن مستويين من أسباب ذلك الفلتان: الموضوعي والذاتي. بمعنى أن ظروف العمل الفلسطيني وتعقيداته، وتداخلاته، أو تشابكاته مع الحالة العربية الرسمية، في عقدي السبعينات والثمانينات، اضطرت العمل الفلسطيني إلى توسيع هامش السرية، الذي يجري وراء الكواليس، والدخول الى سوق الذمم الشخصية في العالم العربي، لتأمين مواطيء الأقدام والقنوات والمعلومات والأدوار، فضلاً عن العلاقات السياسية، وما تستوجبه من اتصالات وغير ذلك على مستوى العوامل الموضوعية. غير أن خطايا العامل الذاتي، وما اشتملت عليه من فساد مروّع، وغياب مبدأ المحاسبة، بل إن حضور مبدأ مكافأة وتضخيم دور الفاسد والمارق، والمريب، والمتجريء على هدر قيم العمل الوطني وأخلاقياته؛ كان عاملاً فاجعاً، دفع الشرفاء ثمنه من سمعة الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن مساحات الأرض التي تقف عليها، ومن علاقاتها مع النُخب العربية، التي كان يتوجب أن تظل تخشى "الثورة الفلسطينية" وتهابها وتؤازرها!
وكانت التحديات التي واجهت منظمة التحرير الفلسطينية، سبباً، كذلك، في التقليل من شأن الدعوات المتكررة، لوضع الضوابط وإرساء قواعد الحساب والمساءلة والعقاب. وكان الفاسدون والأرزقيون، المتكسبون من المال الفلسطيني العام، يختلقون لأنفسهم تخصصات في العلاقة مع هذا النظام أو ذاك، ويطرحون أنفسهم كمفاتيح لحل كل العُقد وفتح المغاليق، في كواليس الأنظمة العربية، ويتصرف هؤلاء باعتبار أن مساءلتهم غير ممكنة، وباعتبار أن لزوم "الصنعة" يقتضي أن لا تكون تجاربهم عرضة للتمحيص أو للمراجعة. فضلاً عن ذلك، كانت الشريحة القيادية من رموز منظمة التحرير الفلسطينية، إما منشغلة في ممارسة مهام عديدة ومتباعدة في الاختصاصات، وإما أنها أصلاً لا تدرك مدى خطورة الممارسات الخاطئة والمشينة، وتتجاوز عنها على قاعدة استظراف الفاعل أو العلاقة الشخصية معه، أو لتلافي تسريباته وثرثراته!
وما أن داهمتنا حرب الخليج الثانية، وما حدث بعدها، من تضخيم متعمد لموقف قيادة منظمة التحرير أثناء الأزمة، الذي فُسر بأنه منحاز للعراق ومؤيد لاحتلال الكويت، حتى وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها، في حصار عربي، سياسي ومالي ولوجستي مُحكم، الأمر الذي بدت معه البيروقراطية المتفشية، داخل مؤسسات المنظمة، جاهزة لاستكمال أهداف ذلك الحصار، وفي مقدمتها تقليص حجم الطموحات الوطنية الفلسطينية، استعداداً للتسوية برعاية الولايات المتحدة!
في ذلك الخضم، كان مسار التسوية السياسية مقرراً، وشبه إجباري، وإلا فإن نجاة جسم المنظمة ستكون مستحيلة. وكان لا بد من الدعوة الى ترميم مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح أحوالها. ومثلما يحدث في هذه الأيام، كان تأثير الدعوة لإصلاح أوضاع "المنظمة" يشتد بفعل دعوات موازية، يطلقها مُن لا يريدون للحركة الوطنية إصلاحاً ولا خيراً، ويكون هدفهم التشويه لإضعاف فلسطين سياسياً، ولتقليص المطالبات بالحقوق الثابتة. وفي هذا السياق، صدرت عدة دعوات، وتشكلت لجان، منها ما سُمي بـ "لجنة من أين لك هذا" التي انبثقت عن اجتماعات المجلس الثوري لحركة "فتح" في العام 1993، قبيل التوصل لاتفاقات "أوسلو"، وربما يكون الرئيس عرفات، قد مرر الفكرة، للاستزادة من عناصر التمويه اللازمة لقناة التفاوض السرية، الموازية لمسار واشنطن ـ مدريد!
وما أن خرجت الى العلن، فحوى اتفاق أوسلو، حتى صدرت الدعوات مجدداً، وبإلحاح، لإجراء إصلاحات سريعة في بُنية منظمة التحرير الفلسطينية، والمباشرة في الإصلاح الديموقراطي. ونشر كاتب هذه السطور، عدة مقالات، تدعو الى الشروع فوراً في الإصلاحات وفي كنس رموز العفن، ووقف أنماط العمل الإداري والمالي، التي أضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى أوشكت على الإجهاز عليها. وقلنا أيامها، أن منظمة التحرير عندما تدخل أية عملية سلمية، ببُنية قوية، بُنية للمقاومة، أو بُنية للمعركة، فإن العملية السلمية يمكن أن تؤدي الى نتائج إيجابية، شبيهة بنتائج المعركة العسكرية الناجحة، أما إن دخلت "المنظمة" العملية السلمية، ببُنيتها المترهلة، وببنية الهزيمة، فإن النتائج ستكون كارثية، وربما لن تظفر "المنظمة" حتى بالهزيمة، لأننا بصدد عدو لا مثيل له في التاريخ: فهو رافض حتى لأن يتقبل الهزيمة من أعدائه، وليس لدى الدولة العبرية، مرقد عنزة، لمهزوم واحد، وإنما لديها مراقد أغنام كُثر، لعبيد بالجملة!
غير أن فجائية "أوسلو" وطبيعتها الغامضة، وما استوجبته من لقطات متلفزة، واتصالات، وإجراءات تنسيقية، على الأرض، وما استحثته من تبريرات ومن تبدلات في اللغة السياسية، أحدثت شرخاً في الوعي الجمعي الفلسطيني، وأصابت جزءاً غير ضئيل، من جسم "المنظمة" وعقلها، بإحساس ليس له ما يبرره، وهو أننا توغلنا سلفاً في المحرمات، أو غُصنا في المستنقع، ولا معنى للحديث عن طهارة يد، أو عن نضالات على صعيد البناء، أو في سياق خدمة الناس وتضميد جراحهم، بعد سنوات من المعاناة. فلم يكن الذين وصلوا الى الوطن، متشبهين بالعائدين من المعارك تحت قوس النصر، يشعرون بأنهم في سياق أمثولة نضالية أخرى، مفتوحة ـ حتى ـ على احتمالات العودة، لشكل الكفاح السابق المسلح. بالتالي، فإن ما حدث، عند الوصول الى الوطن، هو انجذاب عدد من المتنفذين من السلطة الناشئة، الى الشق الآخر من جذر فسادها اللاحق الذي تضخم باطراد. ويمثل هذا الشق، أرباب الأعمال الطفيليين، الذين ارتبطوا مبكراً بأجهزة الدولة العبرية، وعناصر شريحة الكومبرادور، التي تحرس وضع التبعية الاقتصادية للعدو، وفئة الساقطين الذين استعدوا لركوب موجة السلطة و"الشرعية الوطنية" بطبعتها الجديدة!
وبسبب عدم وجود خطط للتحقق الوطني، على الأرض، بموجب أية تطبيقات لأية تسوية سلمية، وكذلك بسبب غياب المناقبية، وروح الحرص على الناس، لم يكن صعباً أن يبادر أحد رموز حالة التسيب المالي، وهدر المال العام، وفوضى الاستثمار والتجارة، وهو نفسه أحد رموز الحالة، التي كان يتاح فيها للمشرفين على المشروعات الاستثمارية في أفريقيا، أن يسرق الربح مع رأس المال (لم يكن صعباً أن يبادر هذا) الى إبرام بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي يرهن حياة الفلسطينيين، لاتفاق إعلان المباديء، وللطرف الإسرائيلي، الى أجل غير معلوم!
وإن كان لا بد، في هذا السياق، من تجنب الحديث عن أشخاص، وذلك لاعتبارين أكيدين: أولهما أن الفساد أكبر وأخطر من الأسماء، والاعتبار الثاني أن الرئيس ياسر عرفات، هو المسؤول الأول عن وضعية الفساد، وبعض مسؤوليته كان متعمداً، باعتبار أن فوضى الصرف المالي، وغياب المحاسبة، هما المادة الخام، التي يظن ياسر عرفات، أنها الأنسب والأجدى لعمله. أما البعض الآخر من مسؤوليته، فقد كان بسبب عدم معرفته لأبسط مستلزمات ومباديء الإدارة الحكومية الصحيحة، لحياة المجتمع. وسنبين ذلك عند الإشارة الى الدعائم التي يقوم عليها الفساد!
منذ لحظة قيامها، كانت السلطة الفلسطينية، جهازاً وقع تحت سيطرة عناصر، لم يغب عن بالها موضوع الربح الخاص، أو الإثراء، أو التكسب الشخصي. وطغى السؤال: مُن يأخذ ماذا؟! وكانت مفردات الحديث عن التعيينات، في لغة التخاطب نفسها، يعكس المزاج المهيمن على العقول. فلان أخذ كذا، أو أن الرئيس أعطى فلاناً درجة كذا، أو موقع كذا. ولم تنأ شريحة من كبار المتنفذين، في كافة الميادين، عن مجالات المال، والعقارات والأراضي، والصلاحيات ذات الهامش المالي. وسرعان ما تشكلت الأعمدة ـ الثلاثة، أو الركائز الثلاثة لوضعية الفساد، وهي:
1- تكريس ما يُسمى علمياً بـ "الاقتصاد الرَيْعي"، القائم على المضاربات الطفيلية. بمعنى أن تتمكن جهات ومجموعات سلطوية متنفذة، من وضع اليد على السلع واسعة التداول، أو السلع الحيوية، وعلى منافذ وارداتها، وعلى السوق، وعلى الأسعار، لتحتكرها، وتقدم في نهاية كل شهر، أو بين الفترة والأخرى، للرئيس عرفات، ريوعاً تقول أنها أرباح، بأرقام تبدو له مقنعة أو مشجعة، أو قادرة على "تسليك" متطلبات الصرف العشوائي، دون أن تكون هناك أية إمكانية، لمعرفة الأرقام الدقيقة للريوع، وأين ذهب كل دولار، وماذا استهلكت الأجهزة البيروقراطية القائمة على الريوع، وكيف كانت مسلكيات ومعدلات الإنفاق، بالنسبة للقائمين "الكبار" على هذه الأجهزة، هذا في حال نفي احتمالات اقتطاع نِسَب اعتباطية أو سرقات. وكانت هذه الاحتكارات الطفيلية، تُعطل الدورة الطبيعة لاقتصاد المجتمع، وتخلق تداعيات أخرى، كاضطرار المتعاطين ببعض السلع، أو المنخرطين في الصناعات الوسيطة والصغيرة، الى دفع خوّات لتأمين وصول المواد المستوردة، وحرمان شريحة التجار القدامى، من حقوق كان الاحتلال نفسه يؤمنّها لهم. ومن المفارقات، أن المرحوم شعبان صادق، والد كاتب هذه السطور، قد فقد أيام الإحتلال، حقه المتأسس للأسرة، منذ العام 1927، لاستيراد الأسمنت، وذلك بسبب انخراط نجله (عدلي صادق) في الثورة الفلسطينية، أو بعد وقوع كاتب هذه السطور، في الأسر، في العام 1971. أيامها، لم يشأ الوالد، التنغيص على إبنه المعتقل، وإبلاغه بأنه قد "تسبب" في قطع رزق الأسرة. غير أن الصليب الأحمر، الذي تلقى شكاوى التاجر، أبلغ السجين بحقيقة الأحمر، في دردشة أثناء مرافقة السجين لموظفي الصليب، في السجن، للقيام بالترجمة. بعد سنوات، جاءت السلطة الفلسطينية، ولم يكن السجين السابق، قد تمكن من الوصول معها الى الوطن. وعندما طلبت الأسرة استرداد حقها في استيراد الأسمنت، قيل لها أن هذه السلعة لا يستوردها إلا فلان، التابع للرئيس شخصياً!
2- تكريس مبدأ التمويل الذاتي للأجهزة. وهذا مبدأ معروف في الأنظمة الاستبدادية. فعندما تكون حاجة الجهاز الأمني أو الشَرَطي، مليون دولار سنوياً (على سبيل المثال) ولا يأخذ من مالية السلطة أو خزينتها، أكثر من مئتي ألف، ويقال له: "دبّر نفسك" فإن الجهاز يستحدث لنفسه إيرادات، بطرق طفيلية، تستكمل تعطيل الدورة الاقتصادية الطبيعية، وتضع منطق العصابات موضع التنفيذ، فينبثق في ثنايا الحالة، وفي ظلال اللص الكبير، لصوصاً من الصغار، يمارسون الابتزاز، بل يستثمرون الزنزانة نفسها، والصلاحيات، لكي يكون هناك ثمناً، للإفراج عن بريء، أو لحبس بريء، أو لإطلاق جاسوس أو مُدان. ومن خلال تلك الوضعية، كان يُطاح بسمعة السلطة، وكان الناس يخلطون بين من اختلقوا لأنفسهم إيرادات، وحرصوا على الضوابط، وبين من لم يحرصوا على أية ضوابط. ولم يتجن الناس على أحد، عندما انفلت حبل النميمة بألسنة كاظمي الغيظ. ولا نبالغ إن قلنا، بأن سوق الجواسيس ينتعش في مثل هذه الحالات. فإن كان القائمون على المشروع الوطني، يتصرفون على هذا النحو، مع المواطن البسيط، فما الذي يمكن أن يحترمه أو أن يشفق عليه الإنسان، ذو النفسية الرديئة المستعدة للتعاون مع العدو؟!
3- بسبب الركيزتين السابقتين، وبالتقاطع بينهما، نشأت الركيزة الثالثة، أو الدعامة الثالثة، التي قام عليها فساد السلطة الفلسطينية. فقد انهارت القواعد أو الأسس التي يُفترض أن تحكم الجهاز الإداري للسلطة. وانفلت الفاسدون الى مباراة في اقتناص الوظائف لمن يريدون ولمن لا يستحقون. وتضمنت المباراة منافسة في الاستحواذ على الدرجات الوظيفية، دون الالتفات لشيء سوى تنفيع الأقارب والمحاسيب. وشهدت هذه المعمعة غرائب وعجائب، كأن تقفز الدرجة الوظيفية لشاب (أو فتاة) حديث التخرج، أو لم يتخرج بعد، ولا يمارس عملاً ذا قيمة، لتتخطى درجة معلم أو مدير مدرسة، أو طبيب، لم يتوقف عن العمل، وعن خدمة المجتمع، تربية أو طبابة، لأكثر من ربع القرن. وما تزال ملفات ديوان الموظفين العام، تحوي ـ بالآلاف ـ أمثلة لا يمكن أن تقبلها حكومة بلد، مثل ليبيريا، عندما كان يحكمها الشاويش صموئيل دو!
وبالطبع، لم يكن المنفلتون الى هذا النمط الغرائبي، من الفساد، يدركون التداعيات أو الأثر الذي تتركه مثل هذه الممارسة، على الوعي الجمعي للناس، وعلى سيكولوجيا المجتمع. وبمعنى آخر، لم يدركوا المخاطر السياسية التي ستنجم عن الفساد، والتي من شأنها إلحاق الأذى الفادح بالمشروع الوطني الفلسطيني!
وبخلاف هذه الأعمدة السوداء، التي قامت عليها وضعية الإنحراف الفاضح، في أداء السلطة الفلسطينية، كانت هناك لوغاريتمات مُرهقة، في طرق ممارسة الوزارات والوزراء لسلطاتهم. فقد تحولت معظم المؤسسات الحكومية، الى ما يشبه الملكيات الخاصة، أو الإقطاعيات، التي يستفيد منها "أصحابها" بأقصى ما يستطيعون، وبلا خجل. وتكاد تكون
*الهيئة العامة للاستعلامات-غزة
عدلي صادق
لا بد من ارجاع جذور الفساد، في السلطة الفلسطينية، الى الوضعية التي كانت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، أو حركة "فتح"، قبل سنوات طويلة من إبرام اتفاقات "أوسلو"، أو ـ على الأقل ـ بعد انتهاء مرحلة التواجد في الأردن، لمقرات القيادة والمكاتب الإدارية للفصائل، مع الغالبية العظمى من القوات العسكرية، وبدء مرحلة هذا التواجد كله على الأراضي اللبنانية، ذلك على الرغم من أن الفساد المالي والإداري، والانحرافات التي شوهت العمل الأمني والسياسي الفلسطيني، تشكل حقلاً مستقلاً للدراسة، على الأقل في سياق بحث أثر البنية المترهلة، لما اصطلح على تسميته بـ "الثورة الفلسطينية" على النتائج التي مثلتها "أوسلو" كعنوان، أو كمدخل، للتسوية السياسية مع الدولة العبرية. فلا بأس من المجيء على ذكر فساد "المنظمة" كجذر أساسي ـ وليس جذراً وحيداً ـ لفساد السلطة الفلسطينية فيما بعد. وكانت أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية، قد شهدت فلتاناً مزرياً، لا سيما بعد انتهاء مرحلة الأردن، في العام 1971. وقيل الكثير عن مستويين من أسباب ذلك الفلتان: الموضوعي والذاتي. بمعنى أن ظروف العمل الفلسطيني وتعقيداته، وتداخلاته، أو تشابكاته مع الحالة العربية الرسمية، في عقدي السبعينات والثمانينات، اضطرت العمل الفلسطيني إلى توسيع هامش السرية، الذي يجري وراء الكواليس، والدخول الى سوق الذمم الشخصية في العالم العربي، لتأمين مواطيء الأقدام والقنوات والمعلومات والأدوار، فضلاً عن العلاقات السياسية، وما تستوجبه من اتصالات وغير ذلك على مستوى العوامل الموضوعية. غير أن خطايا العامل الذاتي، وما اشتملت عليه من فساد مروّع، وغياب مبدأ المحاسبة، بل إن حضور مبدأ مكافأة وتضخيم دور الفاسد والمارق، والمريب، والمتجريء على هدر قيم العمل الوطني وأخلاقياته؛ كان عاملاً فاجعاً، دفع الشرفاء ثمنه من سمعة الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن مساحات الأرض التي تقف عليها، ومن علاقاتها مع النُخب العربية، التي كان يتوجب أن تظل تخشى "الثورة الفلسطينية" وتهابها وتؤازرها!
وكانت التحديات التي واجهت منظمة التحرير الفلسطينية، سبباً، كذلك، في التقليل من شأن الدعوات المتكررة، لوضع الضوابط وإرساء قواعد الحساب والمساءلة والعقاب. وكان الفاسدون والأرزقيون، المتكسبون من المال الفلسطيني العام، يختلقون لأنفسهم تخصصات في العلاقة مع هذا النظام أو ذاك، ويطرحون أنفسهم كمفاتيح لحل كل العُقد وفتح المغاليق، في كواليس الأنظمة العربية، ويتصرف هؤلاء باعتبار أن مساءلتهم غير ممكنة، وباعتبار أن لزوم "الصنعة" يقتضي أن لا تكون تجاربهم عرضة للتمحيص أو للمراجعة. فضلاً عن ذلك، كانت الشريحة القيادية من رموز منظمة التحرير الفلسطينية، إما منشغلة في ممارسة مهام عديدة ومتباعدة في الاختصاصات، وإما أنها أصلاً لا تدرك مدى خطورة الممارسات الخاطئة والمشينة، وتتجاوز عنها على قاعدة استظراف الفاعل أو العلاقة الشخصية معه، أو لتلافي تسريباته وثرثراته!
وما أن داهمتنا حرب الخليج الثانية، وما حدث بعدها، من تضخيم متعمد لموقف قيادة منظمة التحرير أثناء الأزمة، الذي فُسر بأنه منحاز للعراق ومؤيد لاحتلال الكويت، حتى وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها، في حصار عربي، سياسي ومالي ولوجستي مُحكم، الأمر الذي بدت معه البيروقراطية المتفشية، داخل مؤسسات المنظمة، جاهزة لاستكمال أهداف ذلك الحصار، وفي مقدمتها تقليص حجم الطموحات الوطنية الفلسطينية، استعداداً للتسوية برعاية الولايات المتحدة!
في ذلك الخضم، كان مسار التسوية السياسية مقرراً، وشبه إجباري، وإلا فإن نجاة جسم المنظمة ستكون مستحيلة. وكان لا بد من الدعوة الى ترميم مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح أحوالها. ومثلما يحدث في هذه الأيام، كان تأثير الدعوة لإصلاح أوضاع "المنظمة" يشتد بفعل دعوات موازية، يطلقها مُن لا يريدون للحركة الوطنية إصلاحاً ولا خيراً، ويكون هدفهم التشويه لإضعاف فلسطين سياسياً، ولتقليص المطالبات بالحقوق الثابتة. وفي هذا السياق، صدرت عدة دعوات، وتشكلت لجان، منها ما سُمي بـ "لجنة من أين لك هذا" التي انبثقت عن اجتماعات المجلس الثوري لحركة "فتح" في العام 1993، قبيل التوصل لاتفاقات "أوسلو"، وربما يكون الرئيس عرفات، قد مرر الفكرة، للاستزادة من عناصر التمويه اللازمة لقناة التفاوض السرية، الموازية لمسار واشنطن ـ مدريد!
وما أن خرجت الى العلن، فحوى اتفاق أوسلو، حتى صدرت الدعوات مجدداً، وبإلحاح، لإجراء إصلاحات سريعة في بُنية منظمة التحرير الفلسطينية، والمباشرة في الإصلاح الديموقراطي. ونشر كاتب هذه السطور، عدة مقالات، تدعو الى الشروع فوراً في الإصلاحات وفي كنس رموز العفن، ووقف أنماط العمل الإداري والمالي، التي أضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى أوشكت على الإجهاز عليها. وقلنا أيامها، أن منظمة التحرير عندما تدخل أية عملية سلمية، ببُنية قوية، بُنية للمقاومة، أو بُنية للمعركة، فإن العملية السلمية يمكن أن تؤدي الى نتائج إيجابية، شبيهة بنتائج المعركة العسكرية الناجحة، أما إن دخلت "المنظمة" العملية السلمية، ببُنيتها المترهلة، وببنية الهزيمة، فإن النتائج ستكون كارثية، وربما لن تظفر "المنظمة" حتى بالهزيمة، لأننا بصدد عدو لا مثيل له في التاريخ: فهو رافض حتى لأن يتقبل الهزيمة من أعدائه، وليس لدى الدولة العبرية، مرقد عنزة، لمهزوم واحد، وإنما لديها مراقد أغنام كُثر، لعبيد بالجملة!
غير أن فجائية "أوسلو" وطبيعتها الغامضة، وما استوجبته من لقطات متلفزة، واتصالات، وإجراءات تنسيقية، على الأرض، وما استحثته من تبريرات ومن تبدلات في اللغة السياسية، أحدثت شرخاً في الوعي الجمعي الفلسطيني، وأصابت جزءاً غير ضئيل، من جسم "المنظمة" وعقلها، بإحساس ليس له ما يبرره، وهو أننا توغلنا سلفاً في المحرمات، أو غُصنا في المستنقع، ولا معنى للحديث عن طهارة يد، أو عن نضالات على صعيد البناء، أو في سياق خدمة الناس وتضميد جراحهم، بعد سنوات من المعاناة. فلم يكن الذين وصلوا الى الوطن، متشبهين بالعائدين من المعارك تحت قوس النصر، يشعرون بأنهم في سياق أمثولة نضالية أخرى، مفتوحة ـ حتى ـ على احتمالات العودة، لشكل الكفاح السابق المسلح. بالتالي، فإن ما حدث، عند الوصول الى الوطن، هو انجذاب عدد من المتنفذين من السلطة الناشئة، الى الشق الآخر من جذر فسادها اللاحق الذي تضخم باطراد. ويمثل هذا الشق، أرباب الأعمال الطفيليين، الذين ارتبطوا مبكراً بأجهزة الدولة العبرية، وعناصر شريحة الكومبرادور، التي تحرس وضع التبعية الاقتصادية للعدو، وفئة الساقطين الذين استعدوا لركوب موجة السلطة و"الشرعية الوطنية" بطبعتها الجديدة!
وبسبب عدم وجود خطط للتحقق الوطني، على الأرض، بموجب أية تطبيقات لأية تسوية سلمية، وكذلك بسبب غياب المناقبية، وروح الحرص على الناس، لم يكن صعباً أن يبادر أحد رموز حالة التسيب المالي، وهدر المال العام، وفوضى الاستثمار والتجارة، وهو نفسه أحد رموز الحالة، التي كان يتاح فيها للمشرفين على المشروعات الاستثمارية في أفريقيا، أن يسرق الربح مع رأس المال (لم يكن صعباً أن يبادر هذا) الى إبرام بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي يرهن حياة الفلسطينيين، لاتفاق إعلان المباديء، وللطرف الإسرائيلي، الى أجل غير معلوم!
وإن كان لا بد، في هذا السياق، من تجنب الحديث عن أشخاص، وذلك لاعتبارين أكيدين: أولهما أن الفساد أكبر وأخطر من الأسماء، والاعتبار الثاني أن الرئيس ياسر عرفات، هو المسؤول الأول عن وضعية الفساد، وبعض مسؤوليته كان متعمداً، باعتبار أن فوضى الصرف المالي، وغياب المحاسبة، هما المادة الخام، التي يظن ياسر عرفات، أنها الأنسب والأجدى لعمله. أما البعض الآخر من مسؤوليته، فقد كان بسبب عدم معرفته لأبسط مستلزمات ومباديء الإدارة الحكومية الصحيحة، لحياة المجتمع. وسنبين ذلك عند الإشارة الى الدعائم التي يقوم عليها الفساد!
منذ لحظة قيامها، كانت السلطة الفلسطينية، جهازاً وقع تحت سيطرة عناصر، لم يغب عن بالها موضوع الربح الخاص، أو الإثراء، أو التكسب الشخصي. وطغى السؤال: مُن يأخذ ماذا؟! وكانت مفردات الحديث عن التعيينات، في لغة التخاطب نفسها، يعكس المزاج المهيمن على العقول. فلان أخذ كذا، أو أن الرئيس أعطى فلاناً درجة كذا، أو موقع كذا. ولم تنأ شريحة من كبار المتنفذين، في كافة الميادين، عن مجالات المال، والعقارات والأراضي، والصلاحيات ذات الهامش المالي. وسرعان ما تشكلت الأعمدة ـ الثلاثة، أو الركائز الثلاثة لوضعية الفساد، وهي:
1- تكريس ما يُسمى علمياً بـ "الاقتصاد الرَيْعي"، القائم على المضاربات الطفيلية. بمعنى أن تتمكن جهات ومجموعات سلطوية متنفذة، من وضع اليد على السلع واسعة التداول، أو السلع الحيوية، وعلى منافذ وارداتها، وعلى السوق، وعلى الأسعار، لتحتكرها، وتقدم في نهاية كل شهر، أو بين الفترة والأخرى، للرئيس عرفات، ريوعاً تقول أنها أرباح، بأرقام تبدو له مقنعة أو مشجعة، أو قادرة على "تسليك" متطلبات الصرف العشوائي، دون أن تكون هناك أية إمكانية، لمعرفة الأرقام الدقيقة للريوع، وأين ذهب كل دولار، وماذا استهلكت الأجهزة البيروقراطية القائمة على الريوع، وكيف كانت مسلكيات ومعدلات الإنفاق، بالنسبة للقائمين "الكبار" على هذه الأجهزة، هذا في حال نفي احتمالات اقتطاع نِسَب اعتباطية أو سرقات. وكانت هذه الاحتكارات الطفيلية، تُعطل الدورة الطبيعة لاقتصاد المجتمع، وتخلق تداعيات أخرى، كاضطرار المتعاطين ببعض السلع، أو المنخرطين في الصناعات الوسيطة والصغيرة، الى دفع خوّات لتأمين وصول المواد المستوردة، وحرمان شريحة التجار القدامى، من حقوق كان الاحتلال نفسه يؤمنّها لهم. ومن المفارقات، أن المرحوم شعبان صادق، والد كاتب هذه السطور، قد فقد أيام الإحتلال، حقه المتأسس للأسرة، منذ العام 1927، لاستيراد الأسمنت، وذلك بسبب انخراط نجله (عدلي صادق) في الثورة الفلسطينية، أو بعد وقوع كاتب هذه السطور، في الأسر، في العام 1971. أيامها، لم يشأ الوالد، التنغيص على إبنه المعتقل، وإبلاغه بأنه قد "تسبب" في قطع رزق الأسرة. غير أن الصليب الأحمر، الذي تلقى شكاوى التاجر، أبلغ السجين بحقيقة الأحمر، في دردشة أثناء مرافقة السجين لموظفي الصليب، في السجن، للقيام بالترجمة. بعد سنوات، جاءت السلطة الفلسطينية، ولم يكن السجين السابق، قد تمكن من الوصول معها الى الوطن. وعندما طلبت الأسرة استرداد حقها في استيراد الأسمنت، قيل لها أن هذه السلعة لا يستوردها إلا فلان، التابع للرئيس شخصياً!
2- تكريس مبدأ التمويل الذاتي للأجهزة. وهذا مبدأ معروف في الأنظمة الاستبدادية. فعندما تكون حاجة الجهاز الأمني أو الشَرَطي، مليون دولار سنوياً (على سبيل المثال) ولا يأخذ من مالية السلطة أو خزينتها، أكثر من مئتي ألف، ويقال له: "دبّر نفسك" فإن الجهاز يستحدث لنفسه إيرادات، بطرق طفيلية، تستكمل تعطيل الدورة الاقتصادية الطبيعية، وتضع منطق العصابات موضع التنفيذ، فينبثق في ثنايا الحالة، وفي ظلال اللص الكبير، لصوصاً من الصغار، يمارسون الابتزاز، بل يستثمرون الزنزانة نفسها، والصلاحيات، لكي يكون هناك ثمناً، للإفراج عن بريء، أو لحبس بريء، أو لإطلاق جاسوس أو مُدان. ومن خلال تلك الوضعية، كان يُطاح بسمعة السلطة، وكان الناس يخلطون بين من اختلقوا لأنفسهم إيرادات، وحرصوا على الضوابط، وبين من لم يحرصوا على أية ضوابط. ولم يتجن الناس على أحد، عندما انفلت حبل النميمة بألسنة كاظمي الغيظ. ولا نبالغ إن قلنا، بأن سوق الجواسيس ينتعش في مثل هذه الحالات. فإن كان القائمون على المشروع الوطني، يتصرفون على هذا النحو، مع المواطن البسيط، فما الذي يمكن أن يحترمه أو أن يشفق عليه الإنسان، ذو النفسية الرديئة المستعدة للتعاون مع العدو؟!
3- بسبب الركيزتين السابقتين، وبالتقاطع بينهما، نشأت الركيزة الثالثة، أو الدعامة الثالثة، التي قام عليها فساد السلطة الفلسطينية. فقد انهارت القواعد أو الأسس التي يُفترض أن تحكم الجهاز الإداري للسلطة. وانفلت الفاسدون الى مباراة في اقتناص الوظائف لمن يريدون ولمن لا يستحقون. وتضمنت المباراة منافسة في الاستحواذ على الدرجات الوظيفية، دون الالتفات لشيء سوى تنفيع الأقارب والمحاسيب. وشهدت هذه المعمعة غرائب وعجائب، كأن تقفز الدرجة الوظيفية لشاب (أو فتاة) حديث التخرج، أو لم يتخرج بعد، ولا يمارس عملاً ذا قيمة، لتتخطى درجة معلم أو مدير مدرسة، أو طبيب، لم يتوقف عن العمل، وعن خدمة المجتمع، تربية أو طبابة، لأكثر من ربع القرن. وما تزال ملفات ديوان الموظفين العام، تحوي ـ بالآلاف ـ أمثلة لا يمكن أن تقبلها حكومة بلد، مثل ليبيريا، عندما كان يحكمها الشاويش صموئيل دو!
وبالطبع، لم يكن المنفلتون الى هذا النمط الغرائبي، من الفساد، يدركون التداعيات أو الأثر الذي تتركه مثل هذه الممارسة، على الوعي الجمعي للناس، وعلى سيكولوجيا المجتمع. وبمعنى آخر، لم يدركوا المخاطر السياسية التي ستنجم عن الفساد، والتي من شأنها إلحاق الأذى الفادح بالمشروع الوطني الفلسطيني!
وبخلاف هذه الأعمدة السوداء، التي قامت عليها وضعية الإنحراف الفاضح، في أداء السلطة الفلسطينية، كانت هناك لوغاريتمات مُرهقة، في طرق ممارسة الوزارات والوزراء لسلطاتهم. فقد تحولت معظم المؤسسات الحكومية، الى ما يشبه الملكيات الخاصة، أو الإقطاعيات، التي يستفيد منها "أصحابها" بأقصى ما يستطيعون، وبلا خجل. وتكاد تكون
*الهيئة العامة للاستعلامات-غزة
التعليقات