القصة الكاملة لفضيحة الجدار الفاصل

لجان التشريعي تحمل وزير الاقتصاد المسؤولية الكاملة وتحيل القضية للنائب العام

حقائق غائبة عن التحقيقات.. والشبهات تطال وزراء ومراكز قوى

غزة ـدنيا الوطن- منير أبو رزق

في الوقت الذي كان فيه أبناء الشعب الفلسطيني يمارسون فيه كل أشكال الاحتجاج على قيام الحكومة الإسرائيلية ببناء الجدار العازل بما في ذلك الاستشهاد على أرضهم وفي بيوتهم التي تتعرض للمصادرة لصالح جدار الفصل العنصري.. وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس ياسر عرفات والحكومة الفلسطينية يطرقان كل أبواب المجتمع الدولي ومحكمة لاهاي لوقف بناء الجدار، كان الأسمنت المصري يمر من حيث لا يدرى عبر أيادي فلسطينية إلى الجدار من خلال أذونات استيراد حكومية فلسطينية.

عبر تلك الأذونات التي وقعها وزير الاقتصاد الوطني ماهر المصري لشركات مملوكة لشقيق وزير الشؤون المدنية جميل الطريفي ومتنفذين آخرين، تجاوزت الحكومة الإسرائيلية أزمة نقص الأسمنت السائب الضروري لبناء الجدار، كما التفت إسرائيل بذلك على الحظر الذي تفرضه جمهورية مصر العربية على تصدير الأسمنت إلى إسرائيل.

تلك الفضيحة أصابت حكومة أبو العلاء والقيادة الفلسطينية بالارتباك، مثلما أصابت الشعب الفلسطيني بالذهول والصدمة؛ مما دفع المجلس التشريعي إلى مناقشة القضية، وتكليف لجان الموازنة والشؤون المالية والرقابة واللجنة القانونية للتحقيق في هذه القضية ورفع توصياتها إلى المجلس التشريعي ورئاسة الوزراء.

لجان التحقيق التي تشكلت من أعضاء المجلس التشريعي، ورؤساء اللجان الثلاث توصلت بعد أكثر من عام من التحقيق إلى نتائج خطيرة، أوصت فيها بتحميل المسؤولية الكاملة عن الفضيحة لوزير الاقتصاد الوطني، كما أوصت بتحويل ملف ثلاث شركات إحداها لشقيق وزير الشؤون المدنية جميل الطريفي إلى النائب العام.

فمن خلال اللقاءات والاجتماعات والوثائق والمستندات ثبت قيام المدعو زئيف بلنسكي؛ وهو ألماني يهودي، وصاحب شركات بلنسكي للأسمنت LTD في حيفا، وشركة توزيع الزيوت والبترول، بتوقيع اتفاق مع شركة مصر بني سويف للأسمنت لشراء 120 ألف طن من الأسمنت السائب لصالح السوق الإسرائيلي خلال فترة بناء جدار الضم العنصري.

وأسس المدعو بلنسكى لهذا الغرض شركة خاصة به لنقل الأسمنت السائب من المصنع إلى معبر العوجا "نتسانا"؛ لتقوم بعد ذك شركة النقل التي يملكها في إسرائيل بنقلها من معبر العوجا "نتسانا" إلى إسرائيل، وتحقيقًا لهذا الغرض فتح مكتبًا له في مدينة المهندسين بالقاهرة.

وعندما تسربت تلك الأخبار إلى لجان مقاومة التطبيع، وتداولتها بعض الصحف المصرية؛ وتحديدًا صحيفة العربي الناصرية، اضطرت جهات أمنية مصرية للتدخل، وأوعزت لمصنع بني سويف للأسمنت بالتحلل من هذا الاتفاق، ووقف عملية توريد الأسمنت المصري إلى شركات إسرائيلية؛ الأمر الذي دفع بلنسكي إلى اللجوء لشركات فلسطينية لإكمال استيراد الأسمنت المصري.

لكن المدعو بلنسكي لم يتعب كثيرًا؛ فسرعان ما وجد شركات فلسطينية جاهزة للمساعدة، حيث بدأت شركات الطريفى وبركة باستصدار أذونات استيراد للأسمنت المصري من وزارة الاقتصاد الوطني، عبر اتفاق فرعى يضمن تحصيل هذه الشركات ملايين الدولارات كعمولة وسمسرة، وبلغ مجموع ما تم استصداره من هذه الأذونات ما يقارب 420 ألف طن.

و بناء على طلب شركة الطريفى للباطون الجاهز؛ المملوكة لوزير الشؤون المدنية جميل الطريفي وشقيقه جمال، تم إرسال كتاب إلى مصنع بني سويف للأسمنت يفيد أن كمية الأسمنت المراد استيرادها هي لصالح مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث قامت ثلاث شركات فلسطينية؛ وهى شركة الطريفي، وشركة انتصار بركة، وشركة قنديل الطريفى ، بنقل الأسمنت من مصنع بني سويف إلى معبر العوجا بواسطة شركة النقل المملوكة لزئيف بلنسكي، حيث كلف المكتب المصري للتصدير بالتخليص الجمركي في الجانب المصري من معبر العوجا، وبعد نقل الأسمنت من الجانب المصري إلى المعبر الإسرائيلي "نيتسانا" تجري عملية تحويل ملكية الأسمنت من الشركات الفلسطينية الثلاث بقدرة قادر متنفذ، وبورق رسمي، لصالح شركة بلنسكي التي تتكفل بإدخالها إلى السوق الإسرائيلي.

ولم تكتف تلك الشركات بالإضرار بالأمن القومي الفلسطيني عبر تهريب الاسمنت إلى جدار الفصل العنصري، بل تعدت ذلك إلى التهرب الضريبي، وعدم تسديد المقاصة عن الجزء الأعظم من الاسمنت؛ حيث بلغت كميات الأسمنت المهرب التي دخلت السوق الفلسطيني حسب أوراق وزارة الاقتصاد الوطني ووزارة المالية 33 ألف طن، وهو جزء يسير من مجموع ما تم استصداره من أذونات تقدر بـ 420 ألف طن، علمًا أنه لم تسدد المقاصة عن جزء كبير مما تم إدخاله إلى المناطق الفلسطينية، كما ثبت من خلال التحقيق أن وزارة الاقتصاد الوطني التي منحت أذونات الاستيراد لم تتحقق ولم تتابع دخول الأسمنت إلى أراضي السلطة الوطنية، واستمرت بإصدار أذونات استيراد جديدة لنفس الشركات، وبدون وضع أية تواريخ على الأذونات، وذلك حسب تقرير التحقيق الرسمي الذي تقدم به رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع للجان المجلس التشريعي.

كما تؤكد رسالة وجهها جرار القدوة رئيس هيئة الرقابة العامة إلى الرئيس ياسر عرفات أن بعض تلك الأذونات الممنوحة لشركة الطريفى تم توقيعها من جانب وزير الاقتصاد في منزل وزير الشؤون المدنية جميل الطريفي.

وخلصت اللجان الثلاث في تقريرها الذي رفع إلى رئيس الوزراء ورئيس المجلس التشريعي إلى أن الأسمنت المصري المهرب إلى السوق الإسرائيلي هو ذو مواصفات دولية، مواصفات "بورت لاند البريطانية"، وهي مطابقة للمواصفات المطلوبة للسوق الإسرائيلية، كما اتضح لها أن معظم تراخيص الاستيراد الصادرة عن وزارة الاقتصاد الوطني لا تحمل تاريخًا محددًا لصلاحيتها، مما يعطي مجالاً للتلاعب فيها، وثبت للجان أن وزارة الاقتصاد الوطني لا تمتلك أية إحصائيات لحصر حاجات السوق الفلسطيني من مادة الأسمنت، وأن الكميات المثبتة في أذونات الاستيراد مكتوبة بالأرقام ولم ترقن بالأحرف وهذا يمكن أن يسمح بالتلاعب في الكميات، كما تبين أن الكميات التي حصلت تلك الشركات على أذونات استيراد بشأنها بلغت 420 ألف من الفترة التي بدأت من شهر 9/2003 حتى شهر شباط 2004.

وحول ما ورد في لجنة التحقيق الرسمية ثبت للجان المجلس التشريعي أن هناك تناقضًا بين الكمية الواردة في رخص الاستيراد لمجموع الشركات وكل شركة على حدة، وبين الكميات الواردة في تقرير لجنة التحقيق الرسمية (65 ألف طن) ما بين 16/9/2003 وحتى 22/10/2003، علمًا أن رخص الاستيراد المرفقة تبدأ قبل 16/9/2003 وتصل حتى شهر شباط 2004م.

وأكدت لجان المجلس التشريعي أن رسالة وزير الاقتصاد الوطني إلى رئيس الوزراء ذات مضمون تطميني، حيث أنها تقلل من أهمية الموضوع، وتؤكد أن أعمال الغالبية العظمى من شركات استيراد الأسمنت هي أعمال قانونية، والمعلوم أن كلمة الغالبية تنم في أحسن الأحوال عن عدم الإطلاع.

وبالرغم من تعهدات وزير الاقتصاد الوطني بمنع تحويل ملكية الكميات المستوردة، وأن يكون الاستيراد على بيان جمركي فلسطيني، وذلك بتاريخ 22/2/2004 إلا أن اللجنة أكدت استمرار وزير الاقتصاد في إصدار الأذونات، وتحويل الملكية إلى شركة بلنسكي "شركة الوحيدي" بتاريخ 23/2/2004.

وأكدت لجنة التحقيق المشكلة من لجان المجلس التشريعي أن قضية تسريب وتحويل الاسمنت إلى السوق الإسرائيلية لها خطورة على الأمن القومي قبل أن تكون مسألة فقدان لضريبة القيمة المضافة، وأن الأسمنت المصري الذي يتم استيراده من جمهورية مصر العربية بافتراض أنه موجه للمناطق الفلسطينية من خلال الكوتا المخصصة للسلطة الوطنية الفلسطينية، والتي تقوم وزارة الاقتصاد الوطني بمنحها من خلال أذونات استيراد لشركات فلسطينية بقرار من وزير الاقتصاد الوطني، والتي كان يتم نقل ملكيتها على الجانب الإسرائيلي من معبر العوجا "نتسانا"، والتخليص عليها لصالح شركات إسرائيلية أدت إلى نتائج خطيرة تتمثل في:

- الالتفاف على لجان مكافحة التطبيع مع إسرائيل في جمهورية مصر العربية، والتي نجحت في منع تصدير الأسمنت المصري إلى إسرائيل، بإدخال هذا الأسمنت بوساطة فلسطينية، مما يعني الإضرار بالقضية الفلسطينية، والإساءة لسمعة السلطة الوطنية والشعب الفلسطيني، ويساهم بشكل كبير في إجهاض عمل تلك اللجان المناصرة للجان الفلسطينية.

- إدخال مثل هذه السلعة الاستراتيجية للسوق الإسرائيلي في ظل بناء جدار الفصل العنصري، والتسريع في عملية الاستيطان، ساهم في تعويض النقص من هذه المادة في السوق الإسرائيلي في تلك الفترة.

- ضياع المقاصة على الجانب الفلسطيني نتيجة نقل ملكية البضاعة من الشركة الفلسطينية إلى الشركة الإسرائيلية، وبذلك يتم التخليص الجمركي عليها لصالح الشركة الإسرائيلية.

- تسريب الكوتا المخصصة أصلاً للجانب الفلسطيني، وهي محدودة، إلى الجانب الإسرائيلي، وبذلك تكون إسرائيل قد استفادت من الكوتا والمقاصة في آن واحد، "تهرب ضريبي وتسريب" للكوتا".

والأخطر أنها أدت إلى الإضرار بشكل كبير بالسلطة الوطنية الفلسطينية، ونضال الشعب الفلسطيني، وتشويه سمعتنا جميعًا من خلال ما تم تداوله في وسائل الإعلام المصرية والعربية والأجنبية، من أن مسؤولين فلسطينيين وشركات فلسطينية تساهم في بناء جدار الفصل العنصري، وتوفير الأسمنت اللازم لذلك.

وأشارت لجنة التحقيق في تقريرها إلى أن كل ذلك ما كان يمكن أن يحدث لو قامت وزارة الاقتصاد الوطني بدورها في الرقابة على أذونات الاستيراد التي تصدرها؛ والتي توقع من قبل وزير الاقتصاد الوطني شخصيا، للتأكد من حسن توزيع واستخدام "الكوتا" المخصصة لمناطق السلطة الوطنية من الأسمنت المصري، من خلال تحديد صلاحية إذن الاستيراد، وأن لا تكون المدة مفتوحة، وإلزام الشركات التي تحصل على إذن استيراد بتزويد الوزارة بنسخة من فواتير الإدخال "المقاصة"، قبل حصولها على أية أذون استيراد لكميات جديدة، واتخاذ الإجراءات اللازمة بحق المخالف فيها، وإرسال نسخة من كل إذن استيراد، وكذلك فواتير الإدخال إلى الجمارك بوزارة المالية، لتقوم بتدقيقها ومطابقتها مع فواتير المقاصة الشهرية التي تعاد لوزارة المالية من خلال المقاصة مع الجانب الإسرائيلي، إضافة إلى اتخاذ الإجراءات القانونية بحق الشركات المخالفة، وكذلك معاقبة أي موظف أو مسؤول في وزارة الاقتصاد الوطني يخالف ذلك، وقد تبين للجان أن كل ذلك لم يحدث.

وأوصت اللجان الثلاث في نهاية تقريرها بتحويل ملف الشركات المذكورة للنائب العام لاتخاذ المقتضى القانوني في هذه القضية، وتحميل وزير الاقتصاد الوطني المسؤولية الكاملة عما حدث، إضافة إلى الطلب من السلطة التنفيذية اتخاذ ما يلزم لضمان عدم تكرار مثل هذه المخالفات مستقبلاً؛ ضمانًا لحسن استخدام وتوزيع والتصرف في جميع السلع الأخرى، سواء تلك التي تدخل ضمن الكوتات المعفية من المواصفات، أو الكوتا المعفية من الجمارك، أو ما يدخل لمناطق السلطة الوطنية من سلع كتبرعات أو تحت اسم تبرعات، والرقابة الفاعلة على أداء الوزارات والجهات ذات العلاقة بالشأن.

إلا ان تلك التوصيات لا تشمل دور وزير الشؤون المدنية جميل الطريفى بالقضية كونه أحد مالكي شركة الطريفي، وكون العديد من أذونات الاستيراد تم توقيعها من قبل وزير الاقتصاد بحضوره وفى منزله!!؟ كما لا تشمل مدير عام التجارة بوزارة الاقتصاد الوطني عبد الحفيظ نوفل، الذي شارك إلى جانب شقيق الوزير الطريفى في اللقاء مع المدعو زئيف بلنسكى في فندق "سمير أميس" بالقاهرة.!!؟ إضافة إلى تساؤلات أخرى حول المالك الحقيقي لشركتي انتصار بركة للتجارة العامة و بركة للتجارة العامة؟..ولماذا لم يتم طرح التقرير الموقع من قبل اللجان الثلاث في المجلس التشريعي حسب الأصول، وكما حدث في قضايا فساد أخرى ؟ولماذا لم يتم فتح ملف أمنى أو جنائي في القضية من قبل النائب العام رغم مرور أكثر من عام على افتضاح القضية؟؟!

التعليقات