وداعا يا دنيا

وداعا يا دنيا

أسامة العيسة

مقدمــة

أمير الظلام

لم يبقَ للرجل الملقب بـ (أمير الظلام) إلا دقّ رأسه في الحائط ، بعد أن صعقه الخبر الذي تلقّاه للتو ، و هو مقتل أحد أكفأ رجاله على يد مقاوم فلسطيني .

كان (أمير الظلام) أو (الرجل الغامض) أو (الرجل الظل) كما تسميه الصحف ، يتربع على رأس جهاز (الشاباك) ، و من يحتل هذا المنصب يكون لديه صلاحيات واسعة ، و منها اتخاذه للقرارات بمفرده ، و عادة ما يكون رأيه في القضايا الأمنية ملزماً لحكومته ، و لكن من جانب آخر فإنه يتحمّل مسؤولية كلّ ما يحدث في الجهاز الذي يترأسه ، و كل خطأ يرتكبه أي من رجاله فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عنه .

و في ذلك الصباح ، لم يكن أمير الظلام قد تناول قهوته بعد ، عندما دق هاتفه الخاص و حمل له نبأ مقتل أحد أكفأ رجاله .

و لم يكفِ سيل السباب و الشتائم التي أطلقها في الهواء لكي تهدّئ من روعه ، لأنه كان يعرِف معنى أن يقتَل أحد رجاله بتلك الصورة التي حدثت ، و يعلم أن قيادته السياسية ستحمّله المسؤولية المباشرة عن ذلك و ربما سيفقد منصبه و ينهار مستقبله المهني في الجهاز الذي حقّق نجاحات كبيرة في عهده ضد المقاومين الفلسطينيين .

و كان عليه وسط همومه و غضبه أن يتصل برئيس وزرائه بواسطة الخط الساخن بينهما فوراً و كذلك إبلاغ وزير الحرب و قائد الجيش و قادة فروع أجهزة المخابرات الأخرى ، كجهاز الموساد المناط به العمليات الخارجية .

و لم يكن يدرك بعد و هو يقوم بمهمة الإبلاغ ، كيف حدثت بالضبط عملية قتل ضابطه ، و لم يكن يعرف بالطبع أن عملية القتل تقرّرت في ذلك اليوم الذي عاد فيه عامل فلسطيني إلى منزله يحمل في قلبه و عقله مأساة شعبه .

حسن و ابنته ميرفت

عاد الشاب حسن أبو شعيرة إلى بيته في مخيم (بيت جبرين) للاجئين الفلسطينيين في مدخل مدينة بيت لحم الشمالي و هو فرح ، رغم أنه كان منهكاً بسبب عمله الشاق في أحد الفنادق .

كان حسن بسيطاً في تعليمه و معيشته ، و كذلك كان ذكياً و حساساً جداً لمعاناة أهله و شعبه ، خصوصاً و أنه يعيش في مخيم للاجئين ، و مثلما جاء أبواه من قرية (بيت نتيف) قرب مدينة (الرملة) الفلسطينية ، بعد أن احتلها الصهاينة و شرّدوا أهلها عام 1948م و الذي يسمّيه الفلسطينيون و العرب و الأحرار في العالم عام النكبة ، التي أقيمت فيه دولة (إسرائيل) على أنقاض الشعب الفلسطيني ، فإن جميع أهالي المخيم جاءوا من قرى هدمها المحتلون بعد اقتحامها و قتل العشرات من سكانها المدنين العزل ، و خصوصاً من قرية (بيت جبرين) التي جاء منها معظم سكان المخيم و الذي سمّي المخيم باسمها ثم أطلق على المخيم اسم (مخيم العزة) .

كان حسن يرى و يسمع و يشعر بمعاناة أهله في المخيم الذي ولد فيه عام 1969م و في المدن و القرى المجاورة ، و نشأ و هو يرى جرائم المحتلين الصهاينة فانضمّ إلى المقاومة عام 1985م و نتيجة لذلك اعتقله المحتلون و زاده السجن إصراراً على مواصلة النضال ، فعندما خرج منه شارك مجموعات المقاومة في مخيمه في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 - 1992م) و تكرّرت تجربة السجن معه ، و في انتفاضة الأقصى التي بدأها الشعب الفلسطيني في 28/9/2002م ، كان حسن ضمن مجموعات العمل العسكري السري ، و شاهد كيف ارتكب المحتلون الصهاينة جرائم قتل للأطفال و الشيوخ و الرجال بدم بارد ، مثلما حدث مع الشهيد الطفل محمد الدرة الذي قتل و هو يحاول الاحتماء بحضن أبيه ، و الطفل مؤيّد الجواريش الذي قتله قناص صهيوني بينما كان يحمل حقيبته المدرسية على ظهره فتناثر مخه على دفاتره المدرسية .

و عندما عاد حسن مساء ذلك اليوم إلى منزله ، حدثته ابنته ميرفت كيف سقط مؤيّد بين أيدي أصدقائه الأطفال في نهاية يوم دوام مدرسي ، و نقل مصوّروا وكالات الأنباء العالمية صور مؤيّد إلى أنحاء العالم ، و لكن هذا العالم بقي نائماً عن مأساة الفلسطينيين .

و لم يحرّك هذا العالم ساكناً ، حتى عندما خرج الطبيب الألماني (فيشر) من منزله ليلاً ليسعف مصابين فلسطينيين فقصفته المروحية العسكرية الصهيونية أمام منزله و لم يعد لأطفاله و أبنائه الذين كانوا ينتظرونه ، و مثلهما الكثير من الشهداء .

و من الصعب على حسن أو على غيره من الفلسطينيين أن ينسوا ليلة القصف المخيفة تلك ، التي ذهب فيها الدكتور (فيشر) إلى غير عودة ، كانت مروحيات الاحتلال تطلق النار على كل شيء متحرك .

و في الصباح ، ذهب حسن إلى منزل الدكتور فيشر ، مثلما فعل المئات من المواطنين ، كانت رائحة الدم المختلط مع التراب تزكم الأنوف ، في المكان الذي سقط فيه الدكتور فيشر بينما كانت إحدى القطط ، غير عابئة بحركة المواطنين ، تضع قطعة صغيرة من اللحم في فمها و تركض بها إلى الحقول المجاورة لتنضم إلى قطط أخرى كانت تفتّش بحاسة الشم عن قطع أخرى تناثرت من جسد الطبيب الذي قطّعته القذيفة الصهيونية إلى أشلاء يصعب حصرها .


كان منزل الدكتور ذي الطابقين يعجّ بالمواطنين ، و كانت زوجة الدكتور جالسة ترتدي ملابس سوداء وسط النساء ، تحاول أن تتماسك أمام أبنائها ، بينما كانت مجموعات النساء تشدّ من أزر الزوجة و الأبناء .


و بعد أن قام بواجب العزاء ، خرج حسن من المنزل ، و على الدرج سمع إحدى النساء تقول لامرأة أخرى :

-هذا قدرنا ؟ ماذا نفعل ؟ يجب أن نقبل به .. !


و لم يقبل حسن على نفسه أن يجلس يندب قدره و حظّه و هو يرى جبروت الاحتلال الصهيوني بينما أشقاؤه العرب و المسلمون و العالم كله لا يحرّك ساكناً ، ففكّر بكيفية مواجهة المحتلين المدجّجين بالأسلحة الحديثة و التكنولوجيا خصوصاً تلك التي تأتيهم من أمريكا ، و رغم أنه أدرك صعوبة ذلك إلا أنه قرّر أن يفعل شيئاً ، و قال لنفسه : "لن أكون بأقل من الشهداء غيري الذين قاوموا ظلم الاحتلال طوال عشرات الأعوام" .


و هداه تفكيره إلى خطة بدت جنونية و هدف منها ليس فقط المشاركة في المقاومة بل الانتصار على الجيش الصهيوني الذي يقول عنه الصهاينة إنه جيش لا يقهر ، و أكثر من هذا قرّر الانتصار على المخابرات الصهيونية التي تعدّ من أقوى مخابرات العالم ؟ فهل سينتصر فعلاً ؟ .


كما قلنا عاد حسن فرحاً إلى المخيم حيث يسكن و دخل منزله ، و رغم أن زوجته أدركت بأنه فرحٌ إلا أنها أبدت استغرابها عندما رأته ساهماً و هو يحتضن ابنته ميرفت بعد أن سألها عن مدرستها ، و لم تشأ زوجته أن تضايقه بإلحاحها و أسئلتها فتركته على سجيّته و قالت في نفسها : "الله يحميه و يحمي جميع الشباب من البطش الصهيوني" .


قالت ميرفت لأبيها :

- اليوم لم نكمل الدراسة بعد أن قذفنا جنود الاحتلال بقنابل الغاز المدمع و أصابوا العشرات من التلميذات بالاختناق .


و سألت ميرفت :

- إلى متى سيبقى المحتلون هكذا يسرقون الأرض و يقتلون الأطفال و يطاردونهم في مدارسهم ؟

ربّت حسن بيده على كتف ابنته و ضمّها إليه بحنان قائلاً :

- ثقي يا ابنتي لن نجعل المحتلين ينعمون بالأمن و الهدوء و نحن نراهم يقتلون رجالنا و نساءنا و أطفالنا و يشرّدوننا عن أرضنا ..

قفزت ميرفت من حضن والدها و كأنها تذكّرت شيئاً :

-هل تعرف يا والدي ؟ ، جنود اليهود جبناء ، اقترب أحدهم من المدرسة و هو يصوّب بندقيته نحو مجموعة من الطالبات الصغيرات ، و قبل أن يطلق الرصاص ، رشقته الطالبات بالحجارة و عندما رآهن يحملن الحجارة هرب و هو يصرخ .. !

قال حسن :

- هذا هو الفرق ، يا ابنتي بين صاحب الحق و السارق الذي يعرف أنه يعتدي على الناس و لا يستطع أن يعيش إلا إذا قتل أكبر عددٍ منهم ليطمئن و لو قليلاً ، و لكن المقاومين لن يتركونهم ..

ردّت ميرفت :

- عندما أكبر يا والدي ، سأنضم للمقاومة ضد قتلة الأطفال .

ترك حسن ابنته لتذاكر دروسها ، و بعد أن أخذ له مكاناً في المنزل ، بدأ يستعرض ما جرى خلال الأيام الماضية و يكاد لا يصدّق نفسه بأنه كسب ثقة رجل المخابرات الصهيوني البارز (مودي) .

و تساءل حسن فجأة "هل يمكن فعلاً أن يكون (مودي) بلع الطعم" ؟؟ ... و سرّ تساؤل حسن هو معرفته الأكيدة لشخصية الضابط الصهيوني (مودي) .

الضابط (مودي)


كان (يهودا إدري) الملقب (مودي) من أذكى ضباط المخابرات الصهيونية (جهاز الأمن العام) و المسمّى (الشاباك) و هذا الجهاز مختص بملاحقة الفدائيين الفلسطينيين و اغتيالهم و اعتقالهم و التحقيق معهم ، و على يد محقّقي هذا الجهاز سقط العشرات من الشهداء الفلسطينيين في زنازين المحتلين التي يمارس فيها أبشع أنواع التعذيب .

و نظراً لذكائه و مثابرته أصبح برتبة (لفتنانت كولونيل) أي عقيد في شعبة الاستخبارات العسكرية ، و انتقل إلى الخدمة في جهاز (الشاباك) بعد اندلاع انتفاضة الأقصى للمساعدة في جمع المعلومات الاستخبارية و تجنيد و تشغيل العملاء و تنفيذ اغتيالات ضد الكوادر الفلسطينية .

و لم يكن اختيار (إدري) الذي أصبح اسمه الكودي بعد انتقاله إلى (الشاباك) (مودي) عفوياً لمهمة قيادة ملف (504) المناط به تجنيد العملاء و المسؤولية عن تصفية كوادر الانتفاضة ، فهو يجيد اللغة العربية و يتحدّثها بطلاقة و خبير في العادات و التقاليد العربية ، و كان من أبرز المحاضرين في دورات إعداد وحدات (المستعربين) و ضباط الاستخبارات ، و وحدات المستعربين هي ما يسمّيها الفلسطينيون وحدات الموت ، حيث يقوم أفرادها من الكوماندوز بالتخفّي بالزي العربي ومهاجمة الأفراد و المواطنين الذين يتقرّر تصفيتهم أو اعتقالهم من قبل أجهزة مخابرات الاحتلال .

و يعتبر العقيد (مودي) من غلاة المتطرفين المستوطنين ، و هو يسكن في إحدى المستوطنات التي أقيمت على أرض تم اغتصابها من الفلسطينيين و تشريد سكانها .

و منذ تسلّم عمله الجديد في (الشاباك) بدأ (مودي) عمله بهمة و نشاط و استطاع التخطيط لقتل حسين عبيات قائد كتائب الأقصى التي انتمى لها حسن أبو شعيرة ، و ذلك بقصف سيارته بالصواريخ مما أدّى إلى استشهاده و استشهاد سيدتين هما : عزيزة دنون و رحمة شاهين .

كان حسين عبيات نزل بسيارته مع آخرين من المقاومين إلى مدينة بيت ساحور ، لمعاينة آثار القصف الصهيوني على منازلها ، و بعد أن أوقف سيارته على جانب الشارع نزل و رفاقه إلى المنازل المتضررة ، و عندما عادوا إلى السيارة ، أطلقت الطائرات الصهيونية التي كانت تحلّق بعيداً الصواريخ على السيارة فهشّمتها ، و استشهد حسين و السيدتان و أصيب آخرون .

و رغم أن عملية قتل القائد حسين عبيات الذي أرّق جنود الاحتلال و المستوطنين بعملياته الجريئة ، لم تستلزم من (مودي) كثيراً من العمل الاستخباري ، بسبب عدم أخذ حسين الاحتياطات اللازمة في التخفّي ، و اعتماد (مودي) و رؤسائه في (الشاباك) على التفوّق التكنولوجي و الطائرات الأمريكية المزوّدة بأحدث الأجهزة ، إلا أن قتل حسين عبيات ، أثار سعادة كبيرة لدى قادة (إسرائيل) ، و لم يخفِ هؤلاء فرحهم بقتل عبيات ، و عبّر عن ذلك الفرح ، بشكلٍ علني رئيس دولتهم (موسى قصاب) و رئيس حكومتهم الجنرال (باراك) و قائد الجيش الجنرال (موفاز) و سلسلة طويلة من المسؤولين الصهاينة .

و في أحد مكاتب الشاباك كان (مودي) يشرب مع زملائه و على رأسهم أمير الظلام الغامض قائد الشاباك نخب الانتصار بمناسبة قتل حسين عبيات .

و تمكن (مودي) أيضاً من التخطيط لاغتيال الشهيد يوسف أبو صوي و هو أحد كوادر انتفاضة الأقصى البارزين ، الذي كان يمارس نشاطه بسرية تامة و لا يظهر كثيراً بشكلٍ علني ، و لكنه لم يستطع مقاومة الذهاب إلى منزل والده لتناول إفطار رمضان ، و وصل إلى منزل والده و كان يظن أنه نجح بذلك دون أن ترصده عيون (مودي) و لم يعرف بخطئه إلا قبل دقائق من أذان المغرب ، فعندما نزل يوسف إلى أمام المنزل ، كانت سيارة تتقدّم منه بسرعة يسبقها إطلاق عيارات نارية من قناصة محترفين باتجاهه ، و تغطّي عليها مئات الطلقات النارية التي انطلقت من الرشاشات الثقيلة من مواقع جيش الاحتلال على التلال القريبة من المستوطنات . و سقط يوسف شهيداً و جسده مطرّزاً برصاص الحقد .

و نجح (مودي) كذلك في اغتيال الشهيد (أحمد خليل أسعد) القائد في سرايا القدس و هي الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية .

كان هذا المقاوم المعروف باسم (أبو خليل) قدّم الكثير من أجل وطنه و أمضى سنوات طويلة في المعتقلات الصهيونية بسبب نضاله ضد الاحتلال ، و في انتفاضة الأقصى كان يقود مجموعات عسكرية و خلايا تنشط ضد المحتلين و لم يتمكّن (مودي) من النيل منه ، فاعتقل والده العجوز و رماه في زنازين التعذيب كوسيلة ضغط على (أبو خليل) ، الذي كان يعرف أن النضال ضد الاحتلال له ضرائبه و يلزمه تضحيات ، فاستمر في العمل سراً ، و لم يكن يتردّد على منزله إلا نادراً خوفاً من رصده من قبل رجال (مودي) ، الذي درس عدة خطط للتخلّص من أبي خليل ، و وجد أنجحها تلك التي ستنفذ عندما يكون (أبو خليل) في منزله .

و عندما تأكّد (مودي) أن (أبو خليل) في تلك الليلة في المنزل ، أعطى الإشارة إلى وحدة الاغتيالات الخاصة بتنفيذ الخطة ، و أمضى أفراد تلك الوحدة ليلتهم في الجبل البعيد المقابل لمنزل (أبو خليل) الذي عندما خرج صباحاً من منزله ، كان أفراد هذه الوحدة المتخفّين يطلّون برؤوسهم من الخنادق التي حفروها في الجبل يطلقون العيارات النارية من الرشاشات الثقيلة ليسقط (أبو خليل) أخيراً أمام عيني ابنته الصغيرة .

و جعل هذا النجاح (مودي) يبدو مغروراً خصوصاً بعد الثناء الذي كان يلقاه من رئيسه في الشاباك (آفي ديختر) ورئيس دولة الكيان الصهيوني و رئيس وزرائها و قائد جيشها .

و لكن رغم هذا النجاح إلا أن الانتفاضة كانت تسير بخطى واثقة و العمليات الفدائية مستمرة ، و كان على (مودي) أن يحاول اختراق مجموعات المقاومة و لهذا ذهب إلى حسن بعد أن درس ملفّه بالطبع ، و عرف أنه كان نشيطاً في العمل الفدائي ثم ها هو يراه مبتعداً عن العمل الفدائي و يعمل عملاً شاقاً في فندق و لا بد أنه بحاجة للنقود .

قال (مودي) لحسن :

-كما تعلم فإننا نعرف كل شيء عنك : عندما عملت في السابق مع (المخرّبين) ، تمكّنا من القبض عليك و سجنك أكثر من مرة .. !

فأجابه حسن :

-ما دمتم تعرفون كلّ شيء ، فإنّكم لا بد تعرفون أنني تركت كلّ شيء و أهتم فقط بتوفير لقمة الخبز لأبنائي في هذه الظروف القاسية .

ردّ عليه (مودي) :

- قلت لك نعرف كلّ شيء عنك ، و لهذا نريدك أن تساعدنا في القبض على (المخرّبين) .

أجابه حسن بلهجة حازمة و واثقة :

- لقد تركت العمل المقاوم و لا أعرف أي شيء ، و لا أستطيع مساعدة أحد سواء كنتم أنتم أو غيركم .

قال (مودي) بلهجة تهديد :

- لك زوجة و أبناء ينتظرون عودتك كلّ يوم ، و إذا لم تعمل معنا ، فأنت تعرف بأننا نستطع قتل زوجتك و أطفالك ، مثلما فعلنا ذلك كثيراً ، فاعمل معنا أحسن لك ..!

و تراجع (مودي) عن لهجته السابقة و قال بتودّد :

- .. و إذا عملت معنا لن نبخل عليك ، و بدلاً من أن تفقد أطفالك ، سنعطيك مالاً لتصرف عليهم ..!

و تكرّرت الضغوط من (مودي) على حسن الذي بدا له عرض (مودي) مفاجأة محزنة له ، إلا أنه فكّر أن يجعل الأمر مختلفاً و يقلب السحر على الساحر ..!

و بعد أشهر من مجاراة (مودي) و إيهامه بأنه يعمل معه ، قال له (مودي) :

- يا حسن أنت من أفضل عملائنا ، و أثبت إخلاصك و نرجو أن تستمر بالعمل معنا بهمة عالية و نحن لن نبخل عليك بأيّ شيء تطلبه .

و كان ذلك يعني أن حسن استطاع أن يكسب ثقة (مودي) ، و أن هذا لا يشكّ في حسن ، لذلك كان فرحاً في ذلك المساء عندما عاد إلى منزله .

رفاق حسن

كان حسن يعرف أن للعقيد (مودي) عيون من العملاء ترصده لتنقل تحرّكاته إلى (مودي) فضاعف عمليات التمويه بعد أن تلقّى عرض الخيانة .

فعندما يعود إلى منزله ينزل من السيارة على بعد مائة متر من المكان الصحيح و يسير مشياً و هو يراقب إذا كان أحد يتبعه ، و يسقط من يده جريدة يحملها و عندما ينحني لالتقاطها عن الأرض يتلفّت يميناً و يساراً ، ثم يقف أمام دكان (أبو محمد) في مدخل المخيم ، و يدردش مع أبي محمد و هو ينظر حوله ليتأكّد إذا كان مراقباً أم لا ، و يصل إلى بيته بعد أن يدور في أزقة المخيم ، و كلّ فترة و أخرى يطلّ من شباك المنزل على الشارع ، دون أن يلحظه أحد ، ليرى إذا كان يقف هناك أي من المخبرين الذين يعملون مع (مودي) .

و اتخذ إجراءات مشابهة لدى خروجه من منزله و ذهابه إلى أي مكان يريده ، و عندما كان يجد شخصاً يتبعه ، يدخل في أزقة المخيم التي من الصعب أن يعرف أسرارها إلا من يسكن المخيم ، و يخرج من مكان آخر تاركاً المخبر ضائعاً في الأزقة و الزواريب .

و استطاع تضليل عيون المخابرات و الالتقاء بشباب كتائب الأقصى و روى لهم ما حدث معه و قدّم اقتراحه ، و رغم المفاجأة لدى شباب الكتائب إلا أنهم بعد التفكير باقتراح حسن و دراسته من كل الجوانب ، فرحوا بما نوى عمله حسن و لم يضيّعوا وقتاً ، أعطوه مسدساً ، و بدأ حسن بالتدريب في ظروف بالغة السرية لتحقيق نصرٍ طالما تمنّاه و تمنّته الكتائب على ذكاء المخابرات الصهيونية .

و مع توالي الأيام و تضليل العقيد (مودي) من قبل حسن و رفاقه بخطة محكمة ، و ذلك بتزويده بتقارير مزيّفة عن العمل الفدائي و لكن فيها بعض المعلومات الصحيحة التي لا تضرّ لكسب ثقته ، و في ظروف صعبة للغاية كانت السيطرة العسكرية و الأمنية على الأراضي الفلسطينية فيها لـ (مودي) و جهازه ، تم تحديد ساعة الصفر و أمضى حسن ليلته تلك مع أبنائه.

و قال لميرفت :

- أنت الكبيرة يا ميرفت ، يجب أن تضاعفي اهتمامك بإخوتك ..

ردّت ميرفت :

- أحبهم يا أبي كما أحبك و أحب أمي ، و أحاول دائماً أن أوفّر لهم ما يطلبون .

حضن حسن ابنته و قال :

- أعرف أنك كبرت يا ميرفت قبل الأوان ، و أنا أعتمد عليك و أحبك كثيراً ..

و قبل أن يخلد إلى النوم اطمئن على ما كان كتبه ، قبل أيام ، من كلام في ورقة صغيرة و أخفاها في المنزل .

الموعــد القاتــل

اتصل حسن بمودي على هاتفه السري :

- أريد أن أراك لأمرٍ هام .

فوجئ (مودي) الذي ردّ معاتباً حسن بلهجة قاسية :

- ألم أقل لك لا تستخدم هذا الرقم للاتصال بي إلا إذا كان الأمر طارئاً .

رد حسن :

- الأمر هام و ضروري .

سأل (مودي) :

- ألم تكن تستطيع الانتظار حتى موعد المقابلة في المكان السري بالقدس .

أجاب حسن بصوتٍ جعله يبدو جاداً جداً :

- قلت لك الأمر ضروري ، و على أية حال لديّ معلومات تتعلّق بأمنكم يجب أن تعرفها و أنت حر … !

عندها قال (مودي) :

- إذاً موعدنا غداً الخميس في الساعة و المكان المتفقان عليه للحالات الطارئة .

اليوم هو الخميس : 14/6/2001

ذهب حسن مبكراً لموعده مع (مودي) الذي عرف أن مكانه قرب النفق في شارع الستين الاستيطاني على مشارف مستوطنة (جيلو) جنوب مدينة القدس المحتلة ، لتزويد هذا العقيد بالمعلومات الخطيرة التي بحوزته عن العملية الفدائية التي خطّطت لها كتائب شهداء الأقصى .

و قال حسن لنفسه و كأنه يخاطب (مودي) :

- كنت دائماً تفخر بأنك صفيت حسين و يوسف و أبو خليل ، و الآن جاء دورك أيها المصفّي ..!

و عندما اقترب من الشارع الذي أقيم لخدمة المستوطنين و ابتلع آلاف الدونمات المزروعة بالزيتون من أراضي الفلاحين العرب ، اختبأ بين شجيرات محاذية للشارع لم تطلها جرافات الاحتلال ، فبقيت شاهدة على عروبة هذه الأرض.

كان كلّ شيء بالنسبة لحسن يسير وفق الخطة الفدائية التي وضعها مع رفاقه ، و عندما اقتربت سيارة (مودي) الفوكس فاجن الحديثة ، تقدّم حسن و هو يخفي شيئاً في يده و ما إن فتح حارس (مودي) الباب ليصعد حسن ليذهب معهم لمكتب (مودي) في مقر المخابرات ، ليقدّم التقرير الهام ، حانت بالنسبة لحسن اللحظة الفارقة التي عاش أشهراً لأجلها و أيقن أن ذكاء الحق سينتصر الآن على تكنولوجيا الباطل ، فأشهر مسدسه و في ثواني كان يطلق رصاصات قاتلة على (مودي) فأرداه قتيلاً على الفور ، و قبل أن ينتبه حارسه على المفاجأة ، أطلق حسن رصاصتين في رأس و رقبة الحارس ، الذي لم يقتل ، و بسرعة عاد حسن أدراجه ، إلى حيث أتى بعد أن نفّذ الخطة ، دون أن يدري أن (مودي) كان معه حارسٌ ثانٍ يجلس في المقعد الخلفي و لم يتمكّن حسن من تمييزه بسبب زجاج السيارة الأسود الذي يجعل من بداخل السيارة يرى ما يجري خارجها دون أن يتمكّن من يقف خارجاً من رؤية من بداخل السيارة .

و لم يحرّك الحارس الثاني ساكناً إلا بعد أن رأى حسن يعود أدراجه ، فأطلق النار عليه من الخلف فسقط حسن على الأرض ، بعد أن أبلغ (مودي) بطريقته عن العملية الفدائية التي خطّط لها منذ شهور .

و خلال لحظات كانت أجراس الإنذار الحمراء تدقّ في مكاتب رئيس جهاز (الشاباك) و أجهزة المخابرات الصهيونية الأخرى ، و في مكتب رئيس الدولة و رئيس الوزراء و رئيس الأركان ، لتنقل الخبر الصاعق و هو مقتل العقيد (يهودا إدري) .

و اتفق أمير الظلام مع المسؤولين الآخرين على صيغة لنشر الخبر و هي أن ("مخرّباً" قام بتصفية ضابط المخابرات الذي يشغله غدراً ، و إصابة حارسه بجراح خطيرة و أن الحارس الثاني تمكّن من قتل "المخرّب") .

و سارع كبار المسؤولين في دولة الكيان الصهيوني إلى مكان الحادث و توجّه الجنرال (موفاز) قائد الجيش الصهيوني إلى منزل العقيد (مودي) ليقدّم التعازي لوالده و شارك (موفاز) و كبار ضباط جيشه و مخابراته في تشييع (مودي) إلى مقبرة جبل (هرتزل) في القدس المحتلة و الدموع تملأ أعينهم لهذا الاختراق للجهاز الذي قال عن نفسه إنه من أقوى أجهزة المخابرات في العالم .

ميرفت و حسن

بعد قليل من الحادث كان رفاق حسن و جماهير غفيرة بدأت تتوافد على منزل حسن في مخيم (بيت جبرين) ، فرغم أن أجهزة المخابرات الصهيونية لم تعلن اسم الضابط القتيل أو اسم الذي قتله ، إلا أن جميع المعلومات كانت لدى الكتائب ، فهي تعرف من هو (مودي) و أن الذي صفاه هو (أسد الكتائب) حسن أبو شعيرة ، كما أطلق على حسن . و أصبح أفراد الكتائب مصدر المعلومات الموثوق لوكالات الأنباء العالمية التي انشغلت بالنبأ الصاعق على أجهزة مخابرات الاحتلال .

في مخيم (بيت جبرين) بدأت المفاجأة على أسرة حسن ، كانت الأخبار تأتي تباعاً ، و لكن الخطأ الذي ارتكبه رفاق حسن ، رغم جهدهم الاستخباري و التدريبي الذي يثير الإعجاب ، فهو تصديقهم لرواية المخابرات الصهيونية حول مقتل حسن ، و يبدو أنهم من خلال رصدهم للعملية شاهدوا حسن و هو يسقط برصاص الحارس الثاني ، فاعتقدوا بأنه استشهد ، مع أنه في مثل هذه الحالات و بغياب رواية صادقة أو مستقلة ، فلا يجب أبداً الركون إلى روايات مخابرات معادية .

المهم بينما كان الحزن و الصدمة تعلو وجوه مسئولي المخابرات الصهيونية ، كانت الجماهير التي هبّت إلى منزل حسن تشعر بسعادة لما قام به من أجلهم و من أجل وطنه .

و أقيمت لحسن خلال الأيام التالية مهرجانات وطنية و ألصقت صوره على الجدران و طبعت على القمصان و أصبح اسمه على كل لسان كبطل يحتذى ، و كان الجميع في انتظار تسلم جثمان حسن الذي سلّم لأهله بعد 12 يوماً من العملية ، و تبيّن بعد فحص الجثمان ، خطأ تسرّع الكتائب بتصديق الرواية الصهيونية حول مقتله ، لأن الشواهد تدلّ على أن حسن اعتقل بعد إصابته و تعرّض لتعذيب قاس ، فهناك حروق على الجثمان و أحشائه مفقودة و تم فقأ عينه اليمنى و أصابعه مقطعة و هناك آثار لسبع رصاصات أطلقت على رأس حسن من نقطة صفر .

و نقل جثمان حسن بالزغاريد إلى مثواه الأخير لدفنه بجانب قائد الكتائب الشهيد حسين عبيات ، و رأى المشيّعون زوجة حسن و هي تتقدّم و تحمل في نعشه بدون أن تذرف أية دمعة و تهتف بحياته و حياة جميع الشهداء ، و بجانبها تسير ابنتها ميرفت .

و بعد الجنازة و في ساحة المخيم الذي ولد فيه حسن مشرداً عن بلدته الأصلية ، وقفت ابنته ميرفت تمسك الورقة التي خطّها و اطمئن عليها ليلة ذهابه لموعده مع ضابط (الشاباك) و لم تكن إلا وصيته ، و تلتها ميرفت بصوت واثق و هي ترتدي قميصاً عليه صورة والدها الشهيد :

(بسم الله الرحمن الرحيم)

وداعاً يا دنيا

إلى الذين يريدون معرفة الحق و فتح أبصارهم على النور و إنقاذ أنفسهم من أن يكونوا فرائس سهلة بين أنياب و مخالب هذه الدنيا ، أقول ضارعاً إلى الله عز و جلّ أن يتقبل منا و أن يجعله في ميزاننا يوم القيامة و أن يكون خالصاً لوجهه و أن ينفعنا و ينفع بنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

أما بعد ... فأنا حسن سعيد أحمد حسن أبو شعيرة من سكان مخيم العزة أبلغ من العمر 32 سنة متزوج و يوجد لديّ أطفال (3) و أرجو من الله أن لا ينساهم أحد من الشرفاء و من أهلي العظام في هذا المخيم من بعدي ، أهلي سوف أقوم بكلّ فخر بعمل بطولي في سبيل الله و الوطن و في سبيل شهداء الأقصى و أثأر لكلّ شرفاء فلسطين و من هنا أقول إلى أهلي و جيراني المناضلين و أبناء هذا المخيم المناضل أن يستمروا في مسيرة الكفاح حتى النصر و يرجع الحق إلى أهلنا بإذن الله و أقول حسبنا بالله و نعم الوكيل ..

أهلي الكرام أبناء عمّي أجمعين .. أنتم من جعلني بكلّ فخر و اعتزاز أن أكون بطلاً من أجل هذا الوطن و بهذا أقول سوف أقوم بعملٍ بطولي في أقرب وقتٍ ممكن .. يا رب بأن يكون هذا مشرّفاً لكم و لكل فلسطيني ، لا تنسوا أبنائي يا أهلي من بعدي حتى أطمئن في قبري ..


و أخيراً أقول :

بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالي

(و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)

صدق الله العظيم ...


أخوكم :

حسن سعيد أبو شعيرة

في حركة فتح

أنا شهيد أنا شهيد يا رب يا رب

في سبيل الله و فلسطين

الأقصى في دمي

وداعاً

5/6/2002

و أصبح حسن نموذجاً و مثلاً ، و كتب رفاقه الذين تابعوا العمل من بعده على صورة جدارية كبيرة له في مدخل المخيم الذي ولد و عاش فيه بعيداً عن بلدته الأصلية المدمّرة :

(إن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقّي) .

التعليقات