وثائق نظام صدام

تواقيع علي الكيماوي على وثائق الابادة... و400 مليون مستند للدراسة والتفكير والبيع

غزة-دنيا الوطن

نتناول مسألة الوثائق التي خلفها النظام السابق والتي يبلغ عددها نحو 400 مليون وثيقة من الممكن أن تشكل ذاكرة ومادة للمصالحة والمكاشفة في أيدي المجتمع العراقي، لكن هذه الوثائق يمكن أن تشكل أيضاً مادة لحرب أهلية اذا ما حولتها الغوغاء الى وثائق إدانة عامة.
يحتاج العراق من دون شك الى قراءة مختلفة لما حل فيه في السنوات البعثية الثلاثين. يحتاج العراقيون الى معرفة ما جرى، فهذا يساعدهم على تجاوزه، ولكنه ايضاً يساعد على تفادي الميول الاتهامية والاستئصالية الكبرى المتفشية اليوم من دون ان يعلن ذلك. الحاجة الى تحديد المسؤوليات وتوزيعها متفاوتة بقدر من الحكمة يؤدي حكماً الى تفادي استئناف حرب اهلية يشعر زائر بغداد انها ما زالت تشتغل الى اليوم. فالبيوت العراقية عامرة اليوم بالحكايات المتبادلة عما جرى، وهذه الحكايات اذا ما اتيح لها ان تخرج من البيوت لكي تصبح الشوارع مسرح تصادمها فهي لقسوتها وشدتها لن تجد الا الرصاص لغة مشتركة. والأشهر الثمانية المنقضية على انفلاش هذه الحكايات في الشوارع والأزقة وفي المدن المضطهدة تؤشر الى صحة المخاوف. فالعمليات الانتقامية العمياء ليست في صدر الخبر العراقي ولا في متنه، ولكنها جارية وان على مستوى فردي وامني ضيق، والوثائق التي في حوزة منظمات امنية واهلية وطائفية والتي نهبت من مراكز الأمن والاستخبارات استعملت في عمليات انتقامية ما زالت فردية ولكن احتمال توسعها امر قائم، وهي بدأت تنتج احتقاناً سياسياً وطائفياً ضاعف من تعقيدات الوضع في العراق، وربما كان ما اورده الشيخ عبد السلام الكبيسي لـ"الحياة" لجهة تعرض عدد من رجال الدين في بغداد والبصرة لعمليات تصفية وخطف، وتعرض عدد من المساجد للاحتلال، نتيجة اولى مرشحة للتوسع والانتشار. ففي هذا البلد يحتاج كل شيء تقريباً الى اعادة تحديد وتقويم. الأملاك العامة والخاصة، وسجلات النفوس، ومن الميت ومن على قيد الحياة، ومن قتل من، ومن البريء ومن المتهم. ثمة مساجد مثلاً قامت طوائف اخرى باحتلالها مدعية انها انتزعت منها خلال حكم البعث، فأين الدليل على ذلك. وهناك من يقول ان هذه المزرعة كانت لعائلته وصادرها النظام السابق وقد قام فعلاً عدد من المسؤولين العراقيين الجدد باقتطاع املاك عامة مدعين ملكيتها اصلاً، وهذا قبل ان ندخل في قضايا المقابر الجماعية ومخبري الأحياء والأزقة، والمخاتير الذين كانت وظيفتهم ابلاغ العائلة بخبر اعدام احد افرادها، ناهيك عن الضباط والقضاة الموقعين على قرارات الأحكام التي صرت تجد نسخاً عنها في ايدي الجميع.
الحاجة الى تحديد جدول دقيق للمسؤوليات ولتبرئة قاعدة اوسع من المتهمين تعسفاً، حاجة ملحة في العراق. وذاكرة العقود الثلاثة الفائتة موجودة على ما يبدو. فالنظام السابق ترك بيوته وقصوره ودوائره مليئة بالوثائق والأوراق التي يمكن ان تشكل اما مادة لاستئناف الحرب الأهلية او لتجاوزها. واذا ما كان العراقيون عقدوا العزيمة على التصارح والمسامحة، فإن المادة التي خلفها النظام قد توفر لهم فرصة لم تتح لغيرهم من الشعوب التي مرت بأزمات وحروب اهلية عادت وتجددت بفعل قصر التجربة على صورة واحدة. هذه الوثائق وبحسب مطلعين على قسم منها لن تبرئ مجموعة بكاملها، كما انها لن تدين اخرى، فالتداخل بين المتورطين والضحايا كبير، ورسم الحدود بين الفئات قد يكون مهمة في غاية الدقة والتعقيد.
يؤكد المهتمون بمتابعة مصير وثائق النظام العراقي السابق وجود نحو 400 مليون وثيقة خلفها هذا النظام قبل اندحاره. وتتفاوت نوعية هذه الوثائق من حيث الأهمية بدءاً من المستوى الأعلى اي تلك المتعلقة برئاسة الجمهورية والاستخبارات العسكرية والاستخبارات ومديرية الأمن العام، ثم الوثائق الحزبية المرتبطة بحزب البعث الذي كان دولة رديفة له اجهزته الأمنية والسياسية التي خلفت وثائق وقرارات، ثم الوثائق المستقلة المتعلقة بعمل الوزارات والادارات. ويؤكد هؤلاء المهتمون ان نحو 80 في المئة من هذه الوثائق هي اليوم في حوزة قوات التحالف التي انشأت هيئة امنية استخباراتية مشكلة من مجموع الأطراف الاستخباراتية في اجهزتها واطلقت عليها اسم ISG او مجموعة استعراض العراق، ومهمة هذه الهيئة البحث في هذه الوثائق عن معلومات يمكن ان توظف لأهداف عسكرية او امنية او سياسية تتعلق بقوات التحالف، وفي مكافحة الأعمال العسكرية وكشف شبكات النظام السابق وارتباطاته وخططه، ولن يكون عمل هذه الهيئة بحكم تكوينها مرتبط بما قد تشكله هذه الوثائق من قاعدة معلومات قد تحدد للعراقيين مادة تفكير في المستقبل.
اما المتبقي من هذه الوثائق فهي في حوزة اطراف عراقية بعضها حزبي وطائفي، وبعضها انساني وثمة جزء مهم منها في يد عدد من المتاجرين بها خصوصاً تلك الوثائق التي وصل الكثير منها الى وسائل الاعلام التي دفعت ثمنها لوسطاء عراقيين، وهي تشمل اضافة الى اللوائح والوثائق الأمنية والسياسية، اشرطة فيديو وصوراً وأغراضاً عينية ودلائل حسية ومعنوية.
ويبدو ان قوات التحالف عادت والتفت على اطراف حزبية او اهلية تملك وثائق، وذلك عبر تمويلها مشاريع هذه الهيئات المتعلقة بهذه الوثائق على ان تزاوج الفائدة منها وتدخلها في عملية المسح الأمني لهذه الوثائق. وعلمت "الحياة" ان اطرافاً اميركية دخلت في الفترة الأخيرة على خط المنافسة على حيازة هذه الوثائق منها مكتب حقوق الانسان والعدالة الانتقالية التابع لسلطة الأئتلاف، الذي عرض على مؤسسة الذاكرة العراقية شراء منهجية العمل في هذه الوثائق، مستفيداً من كونه مؤسسة اميركية ويمكنها بالتالي ان تكون اقرب الى قوات التحالف من مؤسسة الذاكرة العراقية التي كانت من اولى الجهات المهتمة بالعمل على هذه الوثائق. ويبدو ان الادارة الأميركية في العراق تميل الى التعاون مع جهات اميركية على رغم الاتفاق المبدئي على التعاون مع مؤسسة الذاكرة العراقية. ومن المؤشرات التي يمكن رصدها في هذا الخصوص اعاقة حضور ممثل لهذه المؤسسة الى مؤتمر مدريد للدول المانحة، على رغم حصول اتفاق مسبق على حضوره. ويعيد مسؤولون قريبون من الادارة المدنية الأميركية هذا الأرباك في التعامل مع مؤسسة الذاكرة الى ان وزارة الدفاع الأميركية هي التي قررت قبل الحرب توزيع الأدوار في موضوع الوثائق ولكنها تخلفت عن تنفيذ قراراتها مما خلق فراغاً تحاول الآن ملأه مؤسسات اميركية لا تملك خبرات في هذا المجال. وهذا الفراغ هو الذي ادى الى توسيع صلاحيات مكتب حقوق الانسان في سلطة الائتلاف وبالتالي دخوله على خط المنافسة على الوثائق، وشروعه بدعم مشاريع محلية بهدف منافسة مؤسسة الذاكرة عراقياً. ويؤكد المسؤولون ان العمل في الوثائق العراقية حاز على موازنة تقدر بنحو 15 مليون دولار، وبالتالي فإن تسليم هذا الملف الى مؤسسة عراقية يعني ان هذه الموازنة ستكون في تصرفها، في حين ان ما يجري في بغداد هذه الأيام انما يجري وفق معادلة اخرى تتمثل في ان اميركيين يتنافسون على اموال اميركية في العراق.
اسماء كثيرة لمؤسسات انسانية وثقافية تعمل اليوم في بغداد، ومادة عملها الأساسية هي ارشيف النظام في العراق. لعل الأبرز بين هذه المؤسسات، مؤسسة الذاكرة العراقية التي كانت بدأت عملها في العام 1991، اي بعد حرب الخليج الثانية تماماً، ومادة عملها الأولى في ذلك الوقت كانت نحو 5.3 مليون وثيقة حصلت عليها المؤسسة من الفصائل الكردية، ومن قوات التحالف التي كانت دخلت جزئياً الى مناطق عراقية. ولكن المؤسسة لم تحصل على هذه الوثائق فور طلبها فقد سلمتها قوات التحالف هذه الملفات بعد استنفاد المسح الأمني لها الذي لم يؤت بحسب القيمين على المؤسسة نتائج كبرى، فهذه الوثائق بحسبهم يمكن ان تشكل قاعدة معلوماتية مفيدة بالمعنى الاجتماعي والسياسي لا بالمعنى الأمني. ويأمل القائمون على المؤسسة ان يتكرر اليوم ما حصل في التسعينات لجهة وصول قوات التحالف الى قناعة مفادها ان وثائق النظام هذه لن تتضمن معظمها او كلها معلومات امنية واستخباراتية تقتضي الاحتفاظ بها فتبادر الى تسليمها للعراقيين. ويؤكد الناشطون في هذه المؤسسة ان هدفها في النهاية ليس التقرير عن المجتمع العراقي وانما تشكيل الأدوات التي تسمح له عبر الحكومة المنتخبة ان يقرر الوسيلة التي سيتجاوز من خلالها المحنة التي عاشها، اي ان مهمة المؤسسة تمكينية وليست تنفيذية، وان تكون مصدراً من مصادر الاستفادة في مناهج التعليم في المدارس العراقية، كما ستكون المادة في متناول الباحثين والفنانين والكتاب.
ثمة مؤسسات انسانية اخرى تتصدى للعمل في وثائق الدولة العراقية واجهزتها، وتختلف هذه المؤسسات او الهيئات في اهدافها ومنهجية عملها. جمعية السجناء الأحرار واحدة من هذه المؤسسات، ويحاول القائمون على هذه المؤسسة استخراج اسماء الأشخاص الذين صدرت في حقهم احكام اعدام او سجن وتبويبها، وذلك من خلال الوثائق التي حصل عليها اعضاء الجمعية ومعظمهم سجناء سابقون. وحصلت هذه الجمعية على مساعدات مالية من الادارة المدنية الأميركية كان آخرها مساعدة بقيمة مئة ألف دولار.
تصل يومياً الى مركز الجمعية مئات من اهالي المفقودين ليبحثوا في السجلات عن اسماء ابنائهم. ويبدو من آلية العمل ان امكان وصول الأهالي الى محاضر الاعدامات امر قائم، ومتاح لهم ايضاً الاطلاع على كامل الملف المتعلق بابنهم في حال وجد. ومركز المؤسسة في بغداد تحول بفعل تقاطر المراجعين الى المكان الذي يعلن فيه الأهل الذين فقدوا ابنهم وفاته بعد ان يعثروا على اسمه. فعلى الجدار الخارجي للمبنى اوراق نعي متأخر لآلاف العراقيين والعراقيات استنسخت على عجل وتضمنت صورة المفقود وتاريخ فقده واحياناً اسبابها. نساء واطفال من بين المفقودين الذين اعلنوا اهلهم وفاتهم، ومن بين المعلقة صورهم على الجدار نساء غير محجبات ورجال دين.
لكن الأرشيف العراقي في ايدٍ اخرى ايضاً. مجموعات عدة وضعت يدها على كميات من هذا الأرشيف وبدأت بالتصرف بها على نحو مختلف. في منطقة الكاظم في بغداد عدد من هؤلاء الذين يطلقون على انفسهم اسماء مختلفة حولوا منازلهم الى مراكز انشطة خاصة. من الصعب الحكم على عمل هذه المجموعات ولكن الأكيد ان ثمة فروقات بين اهدافها المعلنة وانشطتها الفعلية. واضافة الى هؤلاء هناك روابط محلية وضعت يدها على سجلات وراحت تعمل. الرابطة الانسانية في منطقة الكاظم يقول المسؤولون فيها ان في حوزتهم نحو عشرة ملايين وثيقة، وان العدد الأكبر منها تم تخليصه من النيران اثناء احتراقها في قبو في الأسواق المركزية القريبة من حي المنصور في بغداد. الوثائق مركونة في شكل مرتجل، وموضبة في صناديق من المرجح ان تكون هي نفسها الصناديق التي وضبتها بها الاستخبارات العراقية، ولا يبدو ان هذه الوثائق بصدد ان تستعمل في اي مشروع. فالمنزل صغير ومصدع وخطر تسرب الرطوبة والمياه قائم. لكن اهل الدار يتعاملون مع هذه المادة كأملاك خاصة على من يريد الاستفادة منها ان يأخذ ذلك في الاعتبار. ويقول مسؤول الجمعية الشيخ عماد الدين الهادي: "لدينا وثائق كثيرة واشرطة فيديو صورت عليها جرائم ارتكبها عناصر ومسؤولون من النظام. ولدينا وثائق الأمن القومي وهي احكام اعدام وسجن والكثير منها موقعة من قبل صدام حسين". ومن الوثائق التي اخرجها الشيخ من درجه ليقدمها كنموذج على ما في حوزته، احكام اصدرتها محاكم عسكرية عراقية خلال فترة احتلال الجيش العراقي للكويت تقضي بمصادرة اموال واملاك العائلة الكويتية الحاكمة، وهي احكام تفصيلية بالأسماء والأعمار وشملت اسماء كثير من افراد عائلة الصباح. وجميع هذه الأحكام تبدأ بعبارة "استناداً الى الفقرة (أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور، قرر مجلس قيادة الثورة ما يأتي: ...". ورداً على سؤال عن اهداف الرابطة يقول الشيخ انه يقدم الخدمات لأهالي الشهداء والمعدومين عبر ايجاد فرص عمل لهم، وعبر مطالبة قوات الائتلاف ومجلس الحكم بالتعويضات. ويشير الى ان لديه في الكومبيوتر اسماء 20 ألف سجين تم اعدامهم واسماء المدفونين في المقابر الجماعية في منطقة المسيب. واخرج الشيخ من درجه ايضاً اغراضاً واوراقاً وجدت في هذه المقابر تم من خلالها التـعرف على هويـة عـدد من المدفـــونين.
ولكن العمل في الملفات مختلف عن العمل في المقابر الجماعية، اذ لم يجر مثلاً بحث عن اثر للأسماء التي عثر عليها في المقابر في ملفات الاستخبارات العراقية، فهذا الأمر يحتاج الى امكانات ليست في حوزة هذه الجمعيات. ويبدو ان منطق توزع الأسماء والملفات على مراكز الأمن لم يجد طريقاً كي يربط في مواقع المقابر الجماعية. فهل يعني وجود اسم معدوم محدد في مركز استخبارات الحلة وجود جثته في مقبرة جماعية قرب الحلة. الأمر يتطلب مقارنات ومتابعات مختلفة خصوصاً ان قرارات الاعدام لا تتضمن مكان دفن الجثة لا سيما قرارات الاعدام الجماعية. ولا يبدو ايضاً ان جهداً يبذل لأبعد من مهمة البحث في الأسماء او الاحتفاظ بوثائق مغرية من نوع اشرطة الفيديو التي يبدو ان المؤسسات التلفزيونية وخصوصاً العربية منها تتنافس على شرائها بمبالغ مغرية بالنسبة لهؤلاء.
الصحافية الفرنسية التي استغربت امتناع الشيخ عن عرض ما في حوزته خصوصاً عندما قال لها انه يحتفظ بالجزء الأكبر منها في منزل خارج بغداد لم يفصح عن موقعه، راحت تقول ان هذه الوثائق املاك عامة ولا يجوز اخفاءها. امتعض الشيخ من اصرارها وقال: "ان في هذه الوثائق اسراراً تتعلق في اعراض الناس وسمعتهم، فالأشرطة المصورة تحتوي على صور لبنات وهن يُغتصبن والوثائق فيها متورطون لا نحب ان نكشف اسماءهم". الشيخ بدا وكأنه يعرض ما في حوزته، خصوصاً عندما عبر عن ضيقه من الصحافيين الذين "يتكلمون كثيراً ولا ينفذون ما يقولون".
ويتحدث خبراء الوثائق في بغداد عن عمليات تزوير كبيرة تحصل في العراق لهذه الوثائق خصوصاً ان عدداً كبيراً من الأوراق البيض الخاصة بالأجهزة الأمنية المختلفة تمت سرقتها وانتشرت في ايدي العشرات، وتزوير هذه الأوراق جار على قدم وساق، وتم أخيراً الكشف عن عدد من الأوراق المزورة لأهداف عدة منها البيع وتشريع الأنتقام. ولكن عمليات التزوير يمكن كشفها من قبل الخبراء، فالوثائق الحقيقية تحتوي ارقاماً وتواقيع والتواريخ يمكن ان تكشف اسماء المناوبين من الضباط والمسؤولين، وللمراسلات بين الأفرع الأمنية منطق ولغة خاصتين.
يقول الناشطون في مؤسسة الذاكرة العراقية ان الوثائق المتوافرة تحتوي على مادة يمكن ان تشكل مادة مسامحة على قدر ما يمكن ان تشكل مادة ادانة للكثير من المسؤولين في النظام، ويعطون امثلة على ذلك من الوثائق التي حصلوا عليها في التسعينات والمتعلقة بالمناطق الكردية وتحديداً مناطق دهوك واربيل والسليمانية، فالاجرام تحول الى عمل مؤسساتي في هذه الحالة ويمكن الخلوص الى ذلك من خلال رصد عملية الأنفال التي جمع فيها اهل القرى في مجمعات مدينية اشبه بمراكز الاعتقال. القرى التي استؤصل منها سكانها تحولت الى مناطق امنية محظورة. انه التصنيف العسكري العراقي لهذه المناطق. ولكن السكان ظلوا مرتبطين بقراهم، بعضهم حاول الرجوع وآخرون عادوا بهدف زيارة القبور مثلاً او الاطمئنان على مزارعهم. اعدم جميع من حاول العودة الى قراه مهما كانت اسباب العودة. كانت سياسة الاعدام الفوري سياسة رسمية ونظامية صادرة بقرارات وتم تنفيذها مراراً وتكراراً بحق مجموعات بكاملها. وهي اعمال تم الآن توثيقها. وطبعاً تضمنت الوثائق ان عودة هؤلاء هي بمثابة مقاومة او تمرد، ولكن من الواضح وبعد التدقيق بالأسماء والتهم ان هؤلاء لا ينتمون الى اي جهة وانهم مجرد عائدين الى قراهم.
وفي المقابل هناك اشارات من نوع آخر يمكن ان تستخلص من الوثائق وتتمثل في ميل الى التستر على متهمين، وهذه الميول غالباً ما نجدها في الوحدات الأمنية المحلية. فمثلاً عندما تثبت تهمة الانتماء الى "زمرة عملاء ايران" او "سليل الخيانة" او غيرها من التهم على شخص ما، العقاب لا يقتصر عليه اذ ترسل مديرية المخابرات او غيرها الى دوائرها المحلية للتحري عن عائلته واشقائه، وغالباً ما لاحظ العاملون في الوثائق ان اجوبة الكتب الاستفسارية والأمنية هذه تكون في اتجاه تبرئة عائلة المدان من فعلته وحصرها به. ففي وقت تتأكد من خلال الوثائق حقيقة تضمن النصوص القانونية والرسمية للعقاب الجماعي في شكل واضح وصريح، يمكننا ان نجد وفي الدوائر التنفيذية الأدنى محاولات للتخفيف منها ولحرفها في اتجاه تخفيف الخسائر. وفي هذا السياق يمكن ادراج انواع اخرى من الوثائق بهدف توسيع دائرة البراءة من النظام. ففي مديريات المخابرات العراقية ملفات موظفي الدولة العراقية جميعهم، وهي تضم تعهدات موقعة من كل مواطن عراقي تقدم بطلب وظيفة، وهذه التعهدات التي ما كانوا ليحوزوا وظيفة من دون توقيعهم عليها يقرون فيها بالابلاغ عن اي شيء يخل بالنظام واي عمل معاد له وذلك تحت طائلة اعتبارهم شركاء فيه في حال تخلفهم عن ذلك. وهذه التعهدات التي يمكن مطابقتها مع اسماء المخبرين الذين تضمهم وثائق اخرى، وهو ما حصل على ما يبدو فظهرت نتائج مبدئية قد تساعد على تفهم اوضاع موقعي هذه التعهدات والعاملين بموجبها.
والعمل على تحديد سلم للمسؤوليات مسألة تتيحها الوثائق بالأسماء والأرقام خصوصاً ان الحكايات جميعها تتقاطع عند اسماء بعينها. ويتحدث العاملون في هذه الوثائق عن تكرر اسم علي حسن المجيد في معظم وثائق المأساة العراقية سواء في العقابات الجماعية او الفردية، فقد مثل هذا الرجل بحسب الوثائق اقصى القمعية والاجرامية، فهو كان ممثل مجلس قيادة الثورة في السلطة التنفيذية، وانيطت به جميع الصلاحيات التنفيذية والادارية والعسكرية، وقراراته لا عودة عنها. جميع قرارات الاعدام الجماعي التي نفذت في الشمال حملت توقيعه، وكذلك الأمر بالنسبة لقرارات اعدام فردية لمواطنين عاديين. ففي ملف تضمن قضية عائلة كردية في الشمال سرد لتفاصيل عقاب تعرضت له هذه العائلة على الشكل الآتي: في العام 1988 اصدر صدام حسين عفواً عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية في شمال العراق، وعندما وصل الخبر الى المواطن الكردي احمد حمه خان علق امام احد معارفه بأن صدام ما كان ليصدره لولا الضغوط التي مارسها عليه جلال طالباني. وصل خبر هذا الرجل الى الاستخبارات التي اعتقلته وابلغت تفاصيل ما قاله الى علي حسن المجيد الذي ارسل امراً مكتوباً بقطع رأسه وتدمير منزله وحجز كامل اسرته. وضم الملف ورقة اخرى كتبت بعد سنة ونصف على قرارات المجيد المتعلقة بهذه العائلة، والورقة عبارة عن رسالة من الاستخبارات الى علي حسن المجيد يبلغونه فيها انه لم يعطهم التعليمات المتعلقة بمدة حجز هذه العائلة.
قاعدة المعلومات التي يمكن ان توفرها هذه الوثائق تتيح كتابة وقراءة مختلفة للمأساة العراقية، اذ يبدو ان الكثير من الملفات متضـمن تفاصيل يمكن عبرها اولاً الكشف عن آلية عمل شبه عامة كانت آلة الاضطهاد تشـتغل بموجبها، وثانياً تتيح رصد منطق القسوة الخاص ومقارنته بأنواع اخرى شهدتها المجتمعات البعيدة والقريبة. ومن دون الوقوع في فخ الادانة الجماعية يمكن لهذه الملفات طبعاً ان تشـكل بـيانات ادانة تقـدم لمحــاكم عراقــية تنــظر في جــرائم النــظام السابق، خصوصاً ان مسؤولين فيه هم اليـوم قيد الاعــتقال ومــن الممكن محاكمتهم.
غداً حلقة خامسة أخيرة، عن وقائع العيش اليومي في بغداد.
أصوات "المقاومة" ورفض الاحتلال في بغداد... وقناع الوحدة على الرأس المهشم (3)
بغداد - حازم الأمين الحياة 2003/11/12
حلقة الأمس تناولت الضلع الثاني في المثلث السني وهو مدينة الرمادي. أما بغداد فتشهد حركة سياسية في وسطها العروبي والبعثي السابق على صدام. كذلك يشعر عدد من سكان المدينة انه خارج الحركة السياسية الجديدة التي يعيشها العراق اليوم. وتحقيق اليوم يتعرض لقضية هذه الشريحة من السكان ولقوى سياسية وشخصيات خرجت لتعلن ان في العراق من يرفض الأوضاع الراهنة وهو في الوقت نفسه من غير مؤيدي النظام السابق.
ساحة الحرية في بغداد.
الاشارة التي سبق التطرق اليها لجهة الفراغ الذي احدثه سقوط النظام في العراق، لها في بغداد حكاية مختلفة. الأحزاب والمنظمات الأمنية والطائفية التي اتيح لها الدخول مع القوات الأميركية، او تلك التيارات الداخلية التي افسح لها سقوط النظام، غالبيتها ضعيفة الصلة بالوسط العربي السني، هذا الوسط الذي طالما خرجت منه النخب الحاكمة في العراق طوال العقد الفائت على الأقل. وهو الوسط الأقل تضرراً وتهشماً جراء انقضاء اكثر من 30 سنة من حكم البعث. لكن لهذه الحكاية وجهاً آخر، فاضطهاد الشيعة والأكراد افرز قوى طائفية وقومية تسعى الآن الى ملء الساحتين في الشمال والجنوب. لكن النظام البعثي وأثناء سعيه الى احتكار الحياة العامة وبعد انجازه القضاء على القوى الأخرى السنية القومية منها تحديداً، سعى الى استيعاب بقاياها في آلته البيروقراطية والادارية. هذا الأمر مضافاً اليه غياب المأساة الكبرى التي ألمت بالجماعات الأخرى حالا دون تبلور اطراف سياسية يمكن ان تملأ الفراغ الذي ملأته في الحال الشيعية قوى المأساة الشيعية في العراق وفي الشمال القوى الكردية التي كانت منطقة الملاذ الآمن مختبراً كبيراً.
ربما كانت مقاومة الوجود الأميركي المظهر السياسي الأبرز الذي انتجه المسلمون السنة في العراق في مرحلة ما بعد صدام. ولكن حركة المقاومة هذه تضاعف من مأزق اهل السنة بدل ان تكون مخرجهم الى الحياة العامة، خصوصاً اذا اعتبرنا ان وظيفة السياسة هي تدبير حياة الجماعات والدول. فطرفا المقاومة العراقية الوحيدان الى الآن هما حزب البعث المنحل والمنتحر، وتنظيم "القاعدة" المحظور على نحو غير مسبوق في العالم كله. وهذان الطرفان لا يمكنهما ان يقدما برنامجاً تهتدي بموجبه جماعة او دولة. برنامج البعث الوحيد الانتقام الحرفي من كل العراق، وبرنامج القاعدة أُخروي وليس دنيوياً. انه مأزق عراقي عام على قدر ما هو مأزق سني. وفي بغداد تمكن ملاحظة هذا المأزق كل يوم، اذ يعترف كثيرون من اعضاء مجلس الحكم بضعف التمثيل السني فيه، لكنهم في الوقت عينه يتحدثون عن غياب القوى التي يمكن ان تمثل السنة في مجلس الحكم. "القوميون الأكراد ممثلون في مجلس الحكم في حين لا اثر للقوميين العرب". يردد هذه العبارة كثيرون في بغداد اليوم. ويبدو ان القوميين العرب الذين ما عاد لهم صوت في الكثير من الدول والمدن العربية، ما زالت بغداد تحتفظ ببعضهم وهم اليوم يحاولون بوسائل كثيرة ايجاد صيغ مختلفة لتجمعهم واطلاقهم اصواتاً وسط بحر الأصوات الذي تتلاطم أمواجه في بغداد. انهم البعثيون السابقون غير الصداميين، وهم بقايا الأحزاب الناصرية والقومية ووجوه بغدادية سبق ان لعبت ادواراً سياسية واقتصادية في مراحل متفاوتة في التاريخ العراقي الحديث. كثيرون ينادون بأن يضم مجلس الحكم ممثلاً لهذه الاتجاهات على رغم رفض هؤلاء لكل الوضع الناشئ عن سقوط النظام والاحتلال الأميركي.
محمود عثمان العضو الكردي في مجلس الحكم قال لـ"الحياة" ان من الحكمة توسيع مجلس الحكم حتى يضم فئات سنية عربية جديدة من بينهم القوميون العرب واطراف اسلامية كتجمع العلماء المسلمين. ويمكنك ان تسمع دعوات من هذا النوع من الحلقة القريبة من الدكتور عدنان الباجه جي ايضاً، ومرد هذا طبعاً الى حقيقة يختبرها هؤلاء كل يوم وتتمثل في شعور النخب السنية البغدادية خصوصاً والعراقية عموماً بضعف العلاقة مع مجلس الحكم ومع الحكومة المنبثقة منه.
في بغداد اليوم اكثر من محاولة لتنظيم صفوف اصوات خارج مجلس الحكم. قانون الاستثمار الأجنبي الذي كان الانقسام حوله مناسبة لفرز الأصوات، ولتحديد اصطفافات جديدة. ففي ردها على هذا القانون اصدرت مجموعة من السياسيين وأساتذة الجامعة والشخصيات الحزبية والاقتصادية والثقافية والعسكرية بياناً كان بمثابة "مانيفستو" سياسي حددت بموجبه مواقف هذه النخبة من مجمل الوضع في العراق. موقعو البيان يتشابهون لجهة خروج معظمهم من بيئة مدينية وقومية، ويرفضون التحديد الأخير الذي اطلقه عليهم مراقبون عراقيون وهو ان معظمهم مسلمون سنة. ولعل اختيار قانون الاستثمار الأجنبي كمناسبة لاطلاق حركة سياسية تنخرط فيها هذه النخبة، يشي بموقع هذه المجموعة من التركيبة العراقية. فالرفض المطلق لهذا القانون واعتباره امتداداً "لموجات النهب والسلب التي رافقت سقوط بغداد ومدخلاً لنفوذ الشركات العابرة القومية"، صادر عن بيئة اقتصادية مدينية محافظة. انها تلك المقاومة التقليدية للمتغيرات الاقتصادية العالمية، التي طالما صدرت عن اوساط مشابهة في الكثير من الدول.
اثناء بحثك في شوارع بغداد عن منازل بعض الموقعين على بيان رفض قانون الاستثمار ستلاحظ فروقاً بين الشوارع والمنازل هذه وبين شوارع ومنازل اخرى درج الصحافيون على التنقل فيها والتوجه اليها قاصدين منازل المسؤولين العراقيين الجدد. شارع حيفا مثلاً حيث يقيم الدكتور حبيب الراوي وهو بعثي سابق وأستاذ مادة الرياضيات في جامعة بغداد، من الشوارع القليلة في العاصمة العراقية التي تشعر اذا ما عبرت فيه بأنك حيال مدينة طبيعية وغير خربة، اصطفاف هادئ للأبنية وخراب قليل. ثمة ملامح لطبقة وسطى. ربما كان ديكوراً لحياة طبيعية يخلّف في العابر ارتياحاً غامضاً. المباني التي اقيمت متباعدة، والطريق المتسع الذي لا يشهد اكتظاظاً، والأرصفة النادرة في بغداد، ولكن الأهم من هذا كله الحياة العادية، حيث الناس يخرجون من منازلهم الى الدكان القريب، وحيث للمباني نواطير لا حراس مسلحين، وشرطي السير الواقف عند التقاطع الأخير للشارع مختلف ربما عن عناصر الشرطة المنتشرين في الشوارع الأخرى على نحو مختلف.
ان تدلف من الرصيف الى المبنى الذي يقيم فيه الراوي، سيفاجئك ما حل بهذه الفئات في العراق، فالأرجح ان المبنى لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عاماً، ويقيم فيه اناس منتظمو العيش، لكن الخراب الداخلي للمبنى محير فعلاً. فالتفاوت كبير. السلم الداخلي غير منجز والمصاعد معطلة، ويظهر كأن حريقاً داخلياً جعل الجدران سوداً. لكن هذا لا يبدد احساسك أنك بصدد زيارة اناس من ابناء المدينة، الذين عاشوا فيها العقود الأخيرة، وان منازلهم تختزن روائح تلك الحياة الغامضة، في ظل النظام المنهار. الدكتور حبيب سياسي سابق كان مسؤولاً في البعث قبل ان يكون صدام مسؤولاً فيه، لكنه ترك الحزب منذ اكثر من ثلاثة عقود. ثمة انفراج على وجه الرجل على رغم عدم انخراطه في الوضع الجديد الا من خلال توقيعه بيان رفض قانون الاستثمار. كان بعثياً عندما كانت للبعث قاعدة اجتماعية ما في العراق. وبعدما تحول الحزب الى منظمة امنية، انقطع الرجل في وحشة ذلك المجتمع المحاصر بعيون الأمن والاستخبارات. صار مواطناً عراقياً من اولئك الذين لا تتاح لنا رؤيتهم نحن الذين نعيش خارج العراق. ربما كان هذا سر الانفراج في وجه الرجل الذي كانت بعثيته في البداية باباً على العالم الخارجي، فتنقل في مهمات حزبية بين بيروت ودمشق وتعرف على اناس فيهما، وذلك قبل يحول البعث العراق الى سجن كبير.
يعتذر الراوي عن عدم تمكنه من الوصول الى مكتب صديقه الذي اعتاد على زيارته كل اربعاء وكان من المفترض ان نلتقي فيه هناك، فقد تعطلت سيارته والهاتف معطل عنده منذ قصف الأميركيون في بداية الحرب بدالة شارع حيفا. من الواضح ان استاذ الرياضيات في جامعة بغداد يعيش اليوم حياة عادية، ويبدو ان رغبته في الاستماع الى قادم غريب تفوق رغبته في التحدث عن اوضاع العراق اليوم. يقول الراوي: "الأميركيون دمروا البلد والدولة بين ليلة وضحاها. انفلات امني غير مسبوق. لا جيش ولا شرطة، والقوات الأميركية شجعت على هذا الانفلات عبر فتح باب المؤسسات للسراق. يرافق هذا كله غياب كامل لمؤسسات المجتمع المدني، فقد نظف النظام السابق العراق من كل شيء. ففي هذه الظروف كان من الممكن ان تشكل مؤسسات من هذا النوع حماية او ضمانة". ويضيف: "الأحزاب العراقية القادمة من الخارج لا قواعد لها في الداخل ولهذا عجزت عن حماية اي شيء. دخلت جهات اسرائيلية ثقافية وغير ثقافية على الساحة العراقية بحجة ان العراق اليوم حر وأبوابه مفتوحة للجميع".
لكن الراوي يفترق عن كثير من موقعي البيان في نقطة مطالبته بتوسيع مجلس الحكم، اذ ثمة من بين الشخصيات البغدادية من يرفض اصلاً صيغة وجود المجلس ويعتبره مجلساً اميركياً، فلا بأس بالنسبة الى الدكتور حبيب ان يتحول المجلس الى نوع من قناة ضغط على الأميركيين. أما بالنسبة الى المجموعة التي وقع معها البيان، فهو يعتقد بضرورة "ان نبني انفسنا سياسياً وأن نباشر نضالات مدنية. فالسياسة هي التي يجب ان تقود اي عمل".
تفصل "الناشطين السياسيين البغداديين من خارج الهيئات الجديدة" منطقة غامضة عن المقاومة بمعناها الأمني والعسكري. فمن الصعب ادراج هؤلاء في آلة النظام السابق، وهم ايضاً ليسوا جزءاً من الأجواء الاسلامية الصاعدة، ولهذا لا تبدو الأعمال العسكرية صدى او تعبيراً آخر لحركتهم، ولكنها في الوقت عينه منسجمة مع حركة اعتراضهم على الوجود الأميركي في العراق، وبرأي بعضهم "لا بأس من استثمارها في حركة الضغط على الأميركيين". انه مأزق آخر يقع فيه هؤلاء البعيدون عن اداة الضغط الفعلية التي تدفع في اتجاه اهدافهم، وهو ما يصعب مسألة حسم تمثيلهم. فـ"للمقاومة" في العراق رموزها والتعاطي مع ردائف او اشباه يُفقد المفاوض اوراقاً. الانخراط في حركة المطالبة والضغط لا يمكن ان يترافق مع خروج عن المعادلة. المقاومة العسكرية من الصعب ان تتحول الى جزء من اللعبة الداخلية، خصوصاً ان اهدافها ليسوا الأميركيين وحدهم. ثمة احزاب عراقية مستهدفة ايضاً، وعناصر الشرطة، وثمة طوائف وقوميات خارجها.
منزل فيصل فهمي سعيد وهو اقتصادي وموقع آخر على بيان رفض قانون الاستثمار ونجل احد الضباط القوميين الأربعة الذين حاولوا في الأربعينات الانقلاب على الملكية وأعدموا بسبب ذلك، يقع خلف مستشفى اليرموك القريب من شارع المنصور. وفيصل سعيد قومي عربي كما يعرِّف نفسه، وهو تجاوز السبعين من العمر. صورة والده الضابط في صدر غرفة الاستقبال لم تنتزع يوماً. يقدم شاياً معطراً خاصاً انتقى مذاقاته من بين عدد من العطور، وفيما تتولى زوجته بمساعة الأحفاد إعداده، يحكم هو جر الباب الذي يفصل غرفة الاستقبال عن بقية المنزل فتنحبس رائحة زمن آخر. انت دائماً متنازع في منازل هؤلاء الرجال، فالذين تميل الى الاعتقاد بأنهم اهل بغداد الحقيقيون يتكلمون بلغة اخرى. ليسوا سكان القصور الحاكمة، ولا هم اهل الضواحي الثائرون، ولكنهم قديمون، ويبدو ان انقطاعهم عن الاتصال بالعالم الخارجي خلال سنوات البعث ابقاهم في زمن لا يصلح للانبعاث من جديد. انهم قوميون من النوع الذي ينفي عن العراقيين كل شيء الا عروبتهم وإسلامهم، وهم بالتالي يرون ان اي تعاط مع الوضع في العراق على انه وضع مركب من تفاوتات وانقسامات مصدره المحتل الغريب الذي بدأ يخطط لحملته على العراق منذ العام 1920. ويقول سعيد "صدام حسين كان حاكماً استبدادياً، والقول إنه قومي عربي كذبة كبرى. اما المقاومة الراهنة فليست سوى ردود فعل. يجب علينا ان ننظم انفسنا ونبدأ بتحرير العراق من الاحتلال العسكري والاقتصادي، وذلك عبر التنظيم السياسي الحقيقي لصفوفنا نحن العراقيين الرافضين للاحتلال وللنهب الاقتصادي الذي نتعرض له من الأميركيين. نحن موجودون على شكل تجمعات، ونحاول الآن تأسيس تنظيم يؤمن بالعراق الحر وبالأمة العربية الموحدة والأخوة العربية والاسلامية".
لكن لخطاب هذه المجموعة او لخطاباتها وجهاً اهلياً داخلياً وليس المحتل هدفها الدائم. فالقوميون في سياق نفيهم شقاق الأمة ووحدتها يقعون في فخ استئثار الاختلافات، فلا بد من ان تقع في كلام هؤلاء على رفض لحقوق الأقليات القومية كالأكراد مثلاً، او على نفي الخصوصية الشيعية. لا بل ربما وقعت في كلام بعضهم على اعجاب مضمر بقوة صدام حسين او قوة العراق في عهده، على رغم ان كثيرين منهم كانوا من ضحايا هذه القوة. عندما يتحدث هؤلاء مثلاً عن خطأ صدام حسين في الكويت، يتحدثون عن خطأ التوقيت وعن الأغراض الشخصية، لكن بعضهم لا يفوته الحديث عن الكيانات الصغيرة المصطنعة، او عن الأطماع الايرانية التاريخية في ارض العراق وثرواته. وربما كان النقاش المتعلق بالدستور وبكتابته لحظة اخرى يقف عندها هؤلاء في مواجهة الدعوات التي تطلقها القوى الجديدة في العراق، خصوصاً تلك المتعلقة بالنظام الفيديرالي، اذ يعتبر هؤلاء ان الدعوات ليست سوى دعوات لتقسيم العراق وتحويله الى دويلات ضعيفة يقف خلفها الأميركيون وعملاؤهم.
في بغداد ووسط ضجيج الأوضاع الأمنية المتردية، والأسواق المزدحمة، والناس المسرعين الى اعمالهم او منازلهم، تشعر ان هناك احياء ومناطق صامتة. الناس فيها غير مندمجين في الحياة الجديدة. حتى الخوف من سيارة مفخخة او من حادث امني من ذلك النوع الذي تشهده المدينة كل يوم، لا يحدث في هذه الأحياء ذلك الهلع الذي يحرك المشهد. شارع الأعظمية مثلاً واحد من هذه المناطق، والأحياء المحيطة بمسجد ابي حنيفة. الأزقة هذه وخلافاً لأزقة المدن لا تشهد اكتظاظاً، فالناس وكما قال احد العابرين معظمهم في المساجد او في منازلهم في يوم الجمعة الأول من رمضان. في المسجد الصغير في الأعظمية لم ينزعوا صورة الرئيس الفار، وانما غطوها بملاءة بيضاء راح الفتية يرفعونها وفي الأرض ثمة اوراق ومنشورات مختلفة. احد هذه المنشورات كان الدعوة التي اطلقها حزب البعث الى اعتبار نهار السبت الأول من رمضان يوم انطلاق المقاومة وهدد فيه السكان الذين لا يلتزمون إقفال محالهم، في حين تضمن منشور آخر اعلاناً عن قيام عدد من الأحزاب الناصرية في الاتحاد تحت اسم الحزب القومي الناصري الموحد. وفي هذا الوقت كان الشيخ عبدالسلام الكبيسي يباشر خطبته من مسجد الإمام ابي حنيفة الكبير المجاور لأحياء الأعظمية، وكان رجال وشباب كثر بدأوا بالخروج من منازلهم مرتدين اثواباً عربية ترتفع قليلاً عن كواحلهم، متوجهين الى المساجد. على مدخل مسجد الإمام أبي حنيفة يتجمع عدد من سدنة المسجد والكلية الإسلامية المجاورة. وعلى رغم تحول المسجد الى واحد من المواقع السياسية والرمزية لسكان المنطقة، فلا يبدو ان الإجراءات الأمنية حوله مشابهة للإجراءات المتخذة حول مواقع دينية موازية. خطب الشيخ الكبيسي تلامس الدعوة الصريحة الى الجهاد العسكري ضد الأميركيين. ويؤكد الشيخ ان المقاومة هي الى الآن مقاومة اهل السنة والجماعة، وينفي ان تكون المقاومة هي من قام بالتفجيرات الأخيرة لمراكز الشرطة والصليب الأحمر. لكن اختبار هذا الكلام في بغداد مختلف عنه في مدن المثلث السني، فهو في العاصمة على احتكاك يومي مع كلام مختلف تطلقه مساجد اخرى، وهو يطلق وسط اتهامات متبادلة بالوقوف وراء التصفيات التي تشهدها بغداد يومياً والتي تأتي على مسؤولين صغار في حزب البعث وعلى ابرياء كثر، وفي ظل غياب اي وسيلة لقياس المسؤولية وتحديدها.
الخلاصة التي يمكن ان ينتهي اليها من يستمع الى الكلام العراقي اليوم، تتمثل في ان هذا البلد كان يعيش وعلى مدى العقود الثلاثة الفائتة حرباً اهلية فعلية، وما يجري الآن هو امتداد لهذه الحرب وصور مختلفة لها. المقاومة الآن هي احد هذه الصور، وكذلك الدعوة الى اجتثاث حزب البعث التي يطلقها ضحايا واطراف في هذه الحرب، خصوصاً انها تستهدف استئصال شرائح ومجموعات. لكن الأقنعة كثيرة والعراق ومنذ عقود كثيرة وهو يضع قناع الوحدة على رأس مهشم.
* غداً حلقة رابعة، حول أرشـيف النظـام السـابق.
عشائر الرمادي والأنبار المخترقة والثرية تقاوم الأميركيين الذين يعتقلون شيوخها ولا يستشيرونهم (2)
الفلوجة، الرمادي - حازم الأمين الحياة 2003/11/11
بعد ان تناولت حلقة الأمس في سلسلة تحقيقات من العراق مدينة الفلوجة ودور عدد من أبنائها في العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية ومسألة تسرب الأفكار والدعاوى الاسلامية الى مساجدها وعشائرها تتناول حلقة اليوم الانتقال من هذه المدينة الى الضلع الثاني في المثلث السني أي مدينة الرمادي التي على رغم ان أهلها يشكلون امتداداً عشائرياً لسكان الفلوجة، لكن الرمادي أكثر هدوءاً من الفلوجة. والمدينتان اذ تشكلان العصب السكاني والعشائري والسياسي لمحافظة الأنبار، تتنافسان على ألقابٍ يصرّ سكان الأنبار على تصنيفهما بها.
جولة "الحياة" في مدينة الرمادي شملت إدارات رسمية ومكاتب حزبية وديوانيات لشيوخ العشائر الدليمية، وهدفت الى رصد التباينات العشائرية التي شكّلت في السابق نافذة للنظام القديم تسلل منها الى حياة ونظم العشائر، وهي اليوم أيضاً مرشحة لوظائف جديدة في حال قرر الأميركيون استعمال العشيرة في حربهم على مقاوميهم من بقايا النظام السابق ومن المجموعات المتسللة عبر الحدود.
يتحدث العراقيون بكثرة عن دور الصدام الأول بين الأميركيين وسكان الفلوجة في تحديد نوع العلاقة بينهما. فالعشائر وبسرعة تحولت الى بيئة معادية للأميركيين، ويعود ذلك بحسب الكثير من ابناء المنطقة الى جهل المسؤولين في الجيش الأميركي بالتركيبة المعقدة لنظام القيم العشائري. هذا النظام الضيق والواسع في آن كان من الممكن استثماره في حال اجاد الأميركيون اساليب التعامل معه. فالعشائر وحدات سياسية في هذا المجتمع الصحراوي، ولم يكن يحكم حراك هذه الوحدات ناظم من النوع الذي يسعى الأميركيون الى تكريسه.
لطالما هادنت العهود المتتالية هذه العشائر وأفسحت لكي تخضعها لأنواع من الأنشطة التي لا تتطابق مع قيم الدولة الحديثة. فيتحدث ابو حارث وهو من عشيرة المرسومي في منطقة ابو غريب شرق الفلوجة عن نوع العلاقة التي كانت تربط عشيرته بالنظام العراقي وتحديداً بصدام حسين فيقول: "شيخ عشيرتنا كان مؤيداً للنظام البعثي فمزارعنا قريبة جداً من مزارع صدام على طريق المطار. كنا مدعومين ومهددين في آن. فلاح ومدعوم فلا بأس من قرص اذنه قليلاً. كان صدام في شهر رمضان يقيم افطارات لعشائر المزارعين المحيطين بمزارعه فيهدي مشايخها اسلحة وتهديدات في آن". انها معادلات صغيرة ولكن لا بد من العمل بموجبها في مجتمع العشائر هذا. انه المجتمع الذي يطفو على سطح الحياة الجارية فيه قدر من الشكليات التي لا يمكن تفاديها. الجنود والضباط الأميركيون يُبدون جموداً حيال هذه الأوضاع تضاعف من مأزقهم. يُطلق عليهم النار من منطقة فيقومون باعتقال رجال العشائر من دون توسيط شيوخهم، ويحققون مع هؤلاء فيحارون بالأجوبة.
حيرة الأميركيين
كائنات البادية لا يجيبون بصراحة على اسئلة المحققين، يقول ضابط أميركي بدا حائراً من تشابه الأجوبة ويضيف "جميعهم يدعون انهم فقراء ونحن جئنا لنساعدهم على تجاوز فقرهم، وقد فرغنا ثمانية ضباط لمساعدتهم عبر اصلاح المدارس وشراء مولدات للماء والمستوصف". تحدث الضابط بحيرة ولكن بصرامة من يريد ان يفرض قانونه مهما كانت النتائج. واشارة الضابط الى فقر رجال العشائر تنم عن جهل فعلي بالمنطقة وبسكانها، الا اذا كان يقصد فقراً بنيوياً لا مادياً، فمن العلامات التي يشار فيها الى عشائر الأنبار هو ذلك الرخاء الفعلي الذي يعيشونه وثمة تعبيرات غير منسجمة ولكنها دالة يسوقها السكان في معرض حديثهم عن اوضاعهم الاقتصادية، فيقول ابو حارث "نحن في منطقة تعبانة ولكنها غنية. منطقة زراعية واسعة، ومنطقة حدودية تتيح التهريب الى ثلاث دول". وطبعاً الرخاء الذي يشير اليه الكثير من الذين يتناولون الفلوجة والأنبار يعوزه الكثير حتى يصبح رخاء، انه حال من الانفراج الاقتصادي الذي رسى على قاعدة من التخلف التنموي ومن التوزيع غير الطبيعي للثروة. غنى العشائر الذي لم يترافق مع نمو في اي معدل اقتصادي، والذي لا يشكل اساساً لتقدم على اي صعيد.
لا تقتصر المواجهات بين الأميركيين وسكان الأنبار على مجموعات تغير على المواكب والمواقع، اذ استدرج الأميركيون العشائر الى مواجهات شاملة معهم. عشيرة البوعيسى قُتل اربعة من ابنائها في المواجهات الخاطئة في الفلوجة بين الأميركيين وعناصر الشرطة العراقية. والقتلى الأربعة هم طبعاً من عناصر الشرطة العراقية، وعشيرتهم اعتبرت ان استهدافهم من الأميركيين لم يتم من طريق الخطأ، وانما كان متعمداً، فراح شيخ العشيرة يحرض على قتال الأميركيين، وإمعاناً في سوء الفهم قام الأميركيون باعتقاله هو وابنائه الأربعة مما حوّل العشيرة كلها الى وحدة مقاتلة. فيبدو ان الضابط الأميركي المسؤول عن اعتقال الشيخ يجهل ان اعتقاله في عرف العشائر مس بكرامة العشيرة وبسمعتها بين العشائر (وهو الأهم) مما يستدعي شحذ الهمم لاستعادة الكرامة.
الأميركيون يعملون على ما يبدو في الأنبار من دون وسائط محلية، الضابط القادم من اميركا مباشرة في مواجهة شيخ العشيرة الذي يحتاج التعامل معه خبراء انتروبولوجيا. عشيرة البوعيسى هي اليوم العدو الأول للأميركيين في منطقة الأنبار. يلفظ اسمها الجنود الأميركيون ممدودة كما يلفظون اسم صدام او بن لادن.
الريف المختلف
يميز ابناء منطقة الأنبار بين الفلوجة وبين ريفها الأشد عشيرية وعداء للأميركيين منها. ويبدو ان الفلوجة هي مدينة هذا الريف، فسكانها جميعهم هم فروع لعشائر قدمت الى المدينة من البادية القريبة، اي من القرى التي ليست قرى بقدر ما هي تجمعات عشائرية يطلق عليها اسم العشيرة التي تستوطنها. فهناك قرية بني زيد وهي الاكبر، وقرية بني تميم وقرية عشائر زوبع. كما ان المدينة نفسها تضم احياء نقية الانتماء لعشائر محددة. أما اشهر عشائر الفلوجة فهم اضافة الى الدليم هناك عشائر البوعيسى والجميلة والمحامدة والفلاحات والحلابسة والكبيسات وعشائر زوبع.
اشتدت قبضة النظام العشائري على المجتمع الأنباري بعد سقوط النظام في العراق. انها ملاحظة سيدة من الفلوجة تعمل في شركة في بغداد، علماً ان هذه السيدة تؤكد ان الفترة التي سبقت السقوط لم تكن فترة تخفف من النظام العشائري. فالمرأة في البيئة الأنبارية مثلاً لا يمكن ان تتزوج الا ابن عمها، وان اختلف ابنا عمين حول الزواج منها، غالباً ما يفضل والدها ابقاءها في المنزل من دون زواج منعاً لخلافات داخل العائلة. وتضيف السيدة ان مسألة تعليم المرأة في الفلوجة صعبة جداً وأنها لا تعرف أياً من مجايلاتها تمكنت من الوصول الى الجامعة.
هذه الأعراف والقوانين اكتسبت قوة جديدة بفعل حـال الطـوارئ التي يعيـشها ابناء العشائر وصار من الصعب حصول تجاوز طفيف لها كما تؤكد السيدة. سيدة اخرى شيعية من جنوب العراق ولكنها متزوجة من رجل في الفلوجة قالت: "انا من الوسط، وعشائر الوسط لا يقبلون بالزواج من خارج العشيرة، لكن والدي رجـل متـعلم وتحدى عائلته وزوجني، وعندما انتقلت الى الفلوجة وجدت ان الأمر هنا مختلف، فهم مؤمنون ايماناً فطرياً وملتزمون بتعاليم الأسلام الأولى، لا اجتهاد ولا خلافات او انقسامات".
الطريق بين الفلوجة والرمادي تمتد لنحو مئة كيلومتر الى الغرب، وبين ضلعي المثلث السني تقع منطقة الخالدية التي لطالما شهدت بدورها اعمالاً عسكرية. السائق يفضل على ما يبدو ان يسلك الطريق القديم على الأوتوستراد السريع.
المسافة بين المدينتين
العراقيون يفضلون الطرق المأهولة على تلك الأوتوسترادات الصامتة، التي تعبرها السيارات مسرعة فيما ركابها يطأطئون رؤوسهم كلما شعروا ان سيارة اخرى تمشي وراءهم. فالطريق السريع هذا هو عينه الذي يشهد عمليات الـ"تسليب" اليومية، وسلوك الطريق القديم ربما جعلنا بمنأى من الـ"سليبة" الذين غالباً ما يكونون من سكان القرى الواقعة على الطريق القديم، وهم بطبيعة الحال يرغبون في الأبتعاد قليلاً من قراهم لكي يباشروا عملياتهم. ولكن للطريق القديم محاذيره ايضاً، فالسيارات تسير عليه متباطئة، وهو يخترق القرى والبلدات، واحياناً يحاذيها، وهؤلاء السكان هم اليوم في حال حرب مع الأميركيين، ومن المحتمل ان يصادف العابر عملية عسكرية قد لا ينجو منها، خصوصاً ان الدوريات الأميركية كثيفة، وكثيراً ما تضطر السيارات العابرة الى مرافقة هذه الدوريات لدقائق طويلة وثقيلة حتى تلوح فرصة لتجاوزها.
جندي أميركي أمام مبنى محافظة الأنبار في الرمادي.
المنازل الكبيرة والقصور على جانبي الطريق يبدو انها بنيت بقدر من الارتجال لا يناسب اكلاف بنائها. مئات من هذه القصور بنيت بمحاذاة الطريق تماماً. وبمحاذاة الطريق ايضاً ركنت خزانات نفط معدنية عملاقة يقول السائق ان اصحابها هم سكان هذه المنطقة الذين ازدهرت اوضاعهم في السنوات العشر الأخيرة بفعل اتفاق النفط مقابل الغذاء، فبدل تهريبهم المواشي الى الدول المجاورة وهو ما كانوا يفعلونه في السابق، شرع ابناء العشائر المقيمون في هذه المنطقة بتهريب كميات من النفط ضمن منطق التسوية عينها بين العشائر ورجال النظام الى الدول المجاورة. وهذه الخزانات المعدنية المركونة الى جانب الطريق هي احدى محطات التهريب هذه، والقصور والفيلات التي تنتصب خلفها هي احدى ثمرات هذه التجارة، فقد تحولت كميات النفط التي تفيض عن الكميات المسموح تصديرها ضمن اتفاق النفط مقابل الغذاء الى مشاع يوزعه النظام على مؤيديه في الداخل والخارج ويترك لهم حرية ايجاد وسائل التصريف. وربما حمل اجتماع هذه الخزانات المعدنية والقصور والفيلات مع تزايد الأعمال العسكرية على هذه الطريق دلالة رمزية تسهم في توضيح جوانب من قضية رفض سكان منها الأنقلاب الذي حصل بفعل سقوط النظام.
الرمادي أكثر هدوءاً
الرمادي اقل اكتظاظاً من الفلوجة، وهي بدورها تشاطئ الفرات وتمتد خلفه، ولا بد للداخل اليها من عبور جسر يدفعه مباشرة الى مستديرة على مدخلها، هناك حيث اتخذ الأميركيون من مبنى رسمي مركزاً لهم. وفي الرمادي ايضاً انتشار ملحوظ لعناصر الشرطة العراقية الذين تولوا تنظيم السير وحراسة نقاط تقاطع ومؤسسات رسمية. للأميركيين اكثر من موقع داخل المدينة، والجنود منتشرون في مواضع مختلفة منها. في مركز المحافظة يقفون الى جانب رجال الشرطة العراقية. الرمادي اكثر هدوءاً من الفلوجة، والجنود الأميركيون يستطيعون الظهور والأنتشار في شوارعها. انه الانطباع الأول. الشرطي العراقي الذي رافقنا الى مبنى المحافظة تحدث عن "المجاهدين"، وقال ان هدفهم اخراج الأميركيين، وهم لا يستهدفون عناصر الشرطة. الرشاش الذي بيده كان مهشّماً، واشتكى من الغلاء الذي دفعه الى التطوع في الشرطة على رغم المخاطر.
أما مقدم الشرطة في المحافظة فكانت شكواه من نوع آخر، فهو تحدث عن قلة السلاح والعتاد الذي في حوزة الشرطة وعن الصلاحيات المحدودة المعطاة لقادتها، وتساءل عن كيفية انجاز المهمات الأمنية في ظل هذا الواقع وقال: "نحن لسنا مسؤولين عن الأمن، الأميركيون هم المسؤولون ونحن نساعدهم. لا يمكن لهذه المعادلة ان تنتج امناً، فنحن ابناء المنطقة ونحن من يجب ان يتولى الأمن. كيف لي ان ألاحق المخلين بالأمن في حين يمتلك من الاحقهم اسلحة وسيارات تفوق التي في حوزتنا؟". اما إمام المسجد المجاور لمركز الشرطة فقال انه يدعو للجهاد السري "الذي يوفر على المؤمنين مشقة التعرض للاعتقال واذلال المحتلين".
الشيخ ماجد علي سليمان أمام منزله الجديد في الرمادي. (الحياة)
واضاف رداً على سؤال عن مدى صحة الأخبار المتعلقة بوجود مقاتلين عرب بين "المجاهدين" العراقيين اكد ان هؤلاء في حال وجدوا فلن يظهروا في المساجد وانما يختبئون في اماكن اخرى في المدينة.
ولكن على رغم شكاوى ضباط وعناصر الشرطة تشعر اثناء تجولك في الرمادي بتواطؤ ما بين عناصر الوضع الراهن ارسى شكلاً هادئاً للحياة. فالرمادي عاصمة الأنبار وهي ضلع اساسي في المثلث السني وفي محيطها يعيش الأميركيون حالاً من القلق والاستنفار الدائم، ولكن وفي موازاة ذلك افتتحت احزاب عراقية جديدة مراكز لها في الشوارع الرئيسية من المدينة وكتبت لافتات تعرف فيها. بالقرب من مسجد صدام الكبير مركز لحركة الوفاق الوطني التي يترأسها عضو مجلس الحكم اياد علاوي، وفي مقابله مركز لحركة القوميين الديموقراطيين العرب، وفي موضع آخر مركز للحزب الأسلامي وهو تنظيم متفرع عن الأخوان المسلمين يترأسه عضو مجلس الحكم محسن عبدالحميد. ولكن لا يبدو ان لهذه الأحزاب اي عمق اهلي في المدينة، فمراكزها بأستثناء مركز الحزب الاسلامي خاوية، والأعضاء الموجودون اشبه بموظفي استعلامات. في مكاتب حركة القوميين الديموقراطيين العرب التي كانت احد مراكز حزب البعث، رجال قليلون الأرجح ان معظمهم انضم الى الحركة أخيراً. لا يعرفون تواريخ كثيرة لحركتهم سوى انها تأسست في الأربعينات، وصورة عبدالناصر وهو يرتدي بدلته الزرقاء ورافعاً يده، بدت عتيقة، وقال الرجل الجالس خلف مكتبه انهم جاءوا بها من منزل رجل مسن كان يحب عبدالناصر واخفى صورته طوال فترة حكم البعث في المدينة. والناصريون هؤلاء غير منسجمين كثيراً في تناولهم لوضع العراق اليوم. الجو العام رافض للاحتلال الأميركي للعراق، بعضهم يسمي العمليات مقاومة وجهاداً وآخرون حائرون، ولكن عدداً منهم افصح عن انتمائه السابق لحزب البعث وعن جهلهم بما تكشف لهم من فظاعات كانت ترتكب في غفلة منهم. فقال المسؤول الجالس خلف المكتب "انا كنت من مؤيدي صدام، فقد سبق ان حرك فيّ مشاعر قومية اثناء قصفه اسرائيل ودفاعه عن العراق في الحرب العراقية - الأيرانية، ولكنني ومنذ سقوطه وانا اكتشف يوماً بعد يوم فظاعة ما ارتكب". من الصعب تقدير ما يمكن ان تمثله هذه الولاءات القديمة في البيئة السنية العراقية الآن، فهي إضافة الى ضعفها وتلاشيها خارج العراق، عاشت اوضاعاً خاصة في العراق. انهم قوميو العراق غير البعثيين الذين شكلوا في خمسينات وستينات القرن الفائت احدى ركائز العمل السياسي في الوسط السني العراقي، وفي ظل الفراغ الهائل الذي خلفه سقوط النظام البعثي في هذا الوسط يسعى هؤلاء الى لعب دور جديد، ولكنهم على ما يبدو في سباق غير متكافئ بالمرة مع اجواء اسلامية زاحفة الى هذا الوسط من كل حدب وصوب. رفض الاحتلال الأميركي هو الحد الأدنى الذي من المفترض على احزاب من هذا النوع ان تستجيب فيه للمزاج العام السائد في هذه البيئة، وهي استجابة غير غريبة عن المزاج التقليدي لهذه القوى. ولكن الفراغ الذي خلفه سقوط البعث لا يمكن اولاً لهذه القوى المنهكة والمتنازعة الأفكار والأهواء ان تملأه، وهو ثانياً لا يملأ بأدوات غير امنية، فالسياسة في مجتمع حطمته الحروب الأهلية والاقليمية المستمرة لا تجد قنوات لها الا عبر المنظمات الأمنية والعسكرية. انه المأزق الذي تعيشه ايضاً قوى من نوع آخر تستجيب لجزء من المزاج السني العام الذي ينحو في اتجاه اسلام حركي، ولكنها لا تستجيب لميول استئناف تحريك الجماعات عبر الخيار الأمني "الجهادي"، كالحزب الأسلامي الذي ولد من رحم تنظيم الأخوان المسلمين في العراق، ولكنه بعد سقوط النظام، قَبل بالأنخراط في الحياة السياسية الجديدة من خلال دخوله الى مجلس الحكم الموقت. فزيارة قصيرة لمركز هذا الحزب في الرمادي يمكن خلالها ادراك حجم الأرباك الذي يعيشه مسؤولو هذا الحزب ومناصروه في مجتمع الرمادي. فهذا الحزب الذي تأسس في العام 1960 وعمل في العلن حتى العام 1968 وهو تاريخ الأنقلاب البعثي، يُظهر مسؤولوه قدراً من الأرتباك خلال تحدثهم عن برامجهم الجديدة. مسؤول الحزب في المدينة تحدث بما يشبه دفاعاً عن النفس قائلاً: " نحن حزب سياسي علني شعارنا نعم للتفاهم ولا للتصادم. اخترنا طريق الحوار السلمي والجهاد السياسي سبيلاً لتحقيق ما ننشده وغيرنا اختار طريقاً آخر. لا ننكر على الآخرين اختيارهم ولا نرغب في ان ينكروا علينا اختيارنا".
يشكل الشيخ ماجد علي سليمان وهو شيخ مشايخ الدليم في الرمادي والأنبار اختراقاً نادراً للأميركيين في اوساط شيوخ العشائر السنة في غرب العراق. لكن نجاحهم في استمالة الشيخ لا يعود اليهم وانما الى خلاف الشيخ ماجد مع الأجهزة الأمنية العراقية خلال فترة حكم البعث وهو ما ادى الى فراره من العراق الى الأردن مع عائلته واقامته في ضيافة الدولة الأردنية منذ العام 1996 وحتى سقوط النظام. عاد الشيخ ماجد الى الرمادي فور سقوط النظام وكان في استقباله اشقاؤه الذين تولوا المشيخة في فترة غيابه. في ديوانه الواسع الذي تحيط به مجموعة من الفيلات التي تخصه، يستقبل الشيخ يومياً عشرات المراجعين من ابناء العشيرة. الديوانية العشائرية قديمة ومتآكلة، وبما ان الشيخ عاد لتصدر العشيرة فهو باشر بناء ديوانية تليق بنفوذه الجديد. الجلوس في حضرة الشيخ وبين ضيوفه يُمكن من تحسس بعض وجوه العيش في هذه المنطقة. ففي الديوان تضعف الرقابة التي تمارسها العشائر على افرادها وعلى المقيمين في قراها ومدنها. تحل قوة الشيخ محل قوة التقاليد والألتزامات العشائرية والدينية. انواع كثيرة من المراجعين والزوار. بعضهم يجلس صامتاً وآخرون يستل الشيخ نظارتيه ليدقق بأوراق احضروها له. الديوان عار والشيخ يعتذر عن استقبالنا فيه نحن الذين وصلنا قبل انجازه بناء الديوان الجديد. ويبدو ان شيخ الدليم في الرمادي في صدد بناء منزل جديد ايضاً راح يؤشر عليه، مما يشي بأن فترة هروبه من العراق لم توقف عائدات المشيخة. ويقول الشيخ ماجد "انا شيخ الدليم في كل العراق، عشيرتي يبلغ تعداد افرادها نحو ثلاثة ملايين، وجميعنا ضد صدام حسين". ورداً على سؤال حول استمرار شيوخ عشائر الأنبار في تأييدهم للنظام السابق يؤكد ان من يؤيد هذا النظام هم "شيوخ التسعينات" اولئك الذين عينهم صدام حسين مشايخ في فترة اعادة الأعتبار للعشيرة في التسعينات وراح الشيوخ القدماء يسمونهم مشايخ التسعينات. ولكن تبديل المراتب وخلطها واعادة انتاجها اصاب العشيرة ايضاً، فصار من الصعب التحقق من مشيخة ومن كمال المشيخة وعمومها العشيرة كلها، فشيوخ التسعينات هؤلاء تمكنوا في الفترة التي حكموا فيها عشيرتهم من تأسيس نفوذ فعلي لهم فيها، عبر شبكة المصالح التي ربطتهم بالنظام، في حين استمرت شرعية الشيوخ الذين اقصوا، ولكن استمرارها ترافق مع وهن في قدرتها على ادارة مصالح العشيرة، فتبوأ الشيوخ الجدد ونشأت ثنائيات كثيرة في الزعامة العشائرية التي تعتبر التشكيل السياسي الوحيد لمجتمع غرب العراق اليوم.
هذه الوقائع تصعب التوقعات المرتبطة بتحديد موقع العشيرة ومدى تأثيرها في مجريات الأحداث لكنها لا تلغيها. ففي حديث مع احد ضباط الشرطة العراقية الذي يتولى حماية انابيب النفط التي تمر من مناطق عشائرية مختلفة في العراق يقول: "هناك عقود حماية وقعت مع شيوخ العشائر، واثار توقيعها بعض المشكلات، فمن المفروض وبموجب هذه العقود ان يتولى شيوخ العشائر التي تمر فيها انابيب النفط حمايتها مقابل ثمن مدرج في العقد، ويرى شيوخ هذه العشائر ان من الأفضل توقيع هذه العقود معهم مباشرة وليس من طريق وسيط، كما ان بعض هذه العقود تأخر توقيعه مع عدد منهم وتركت الأنابيب من دون حماية فتعرضت للتفجير مما ترك المجال لآخرين لاتهام هؤلاء الشيوخ بالضلوع في تفجيرها لأستعجال توقيع العقود، ويقال ايضاً ان هناك منافسين لهؤلاء الشيوخ في عشائرهم يريدون اظهار ضعف هؤلاء وعدم قدرتهم على حماية هذه الأنابيب". اذاً هذه العشائر هي حقائق امنية ايضاً في العراق، وهم في غربه، إضافة الى ذلك وسائط سياسية واقتصادية. ولا بد للجالس في حضرة شيخ الدليم من ملامسة الوظائف المتنوعة المنوطة به، ولكن في المقابل يمكن لجولة قصيرة في المدينة استشعار عدم اجماع دليمي عليه، اذ اتهمه صاحب متجر في المدينة بأنه يساعد الأميركيين ليساعده هؤلاء في تجارته عبر الحدود.
يتحقق زائر الأنبار كل يوم من اختلاط الخيوط المفضية الى اضطراب الأوضاع الأمنية وتعقدها. فالتمييز بين المقاومة العشائرية والبعثية والأسلامية يفقد معناه في ظل اسلمة البعث او تبعيث الأيمان في السنوات العشر الأخيرة، والبعث ايضاً اعاد الأعتبار في الحقبة نفسها للعشيرة، والعشيرة بدورها بيئة غير غريبة عن الدعاوى الأسلامية.
لكن ما يتحقق منه زائر الأنبار ايضاً هو ان هذه الأتجاهات الثلاثة تعمل على خط حدودي وتتمتع بعمق سبق ان شقت طرقاً كثيرة اليه، بدءاً من طرق تهريب المواشي ثم النفط والغذاء، وما بينهما من تهريب للأفكار والدعاوى. ويبدو ان تمكن الناشطين من طرقهم الكثيرة دفع بهم الى حمايتها بالدماء. فهم وبعد مداهمات اميركية لبعض الطرق التي كانوا يحسبون ان غير العراقي لا يمكن ان يصل اليها، قاموا بأغتيال بارد لقائد شرطة القائم الحدودية المقدم رشيد العليوي امام منزله في مدينة القائم على الحدود الأردنية - العراقية، بعدما اتهموه بأعطاء الأميركيين خريطة طرق التهريب.
* غداً حلقة ثالثة، عن بغداد وقناع الوحدة المهشم.
اسلاميو الفلوجة وبعثيوها... وطريق المهربين الذي صار معبراً للمجاهدين العراقيين والعرب (1 من 5)
الفلوجة (غرب بغداد) - حازم الأمين الحياة 2003/11/10
شهد الوضع الأمني في العراق في الأسابيع الفائتة مزيداً من التدهور. فبين العمليات الانتحارية التي شهدتها بغداد والتي سقط على أثرها مدنيون ورجال شرطة عراقيون، وبين العمليات العسكرية ضد الأميركيين والتي أدت في الأسبوع الفائت الى اسقاط مروحيتين أميركيتين وعدد كبير من القتلى والجرحى بين الجنود... بين هذه الأحداث يبدو رصد المؤشرات الصغرى أمراً ضرورياً لفهم ما يجري، خصوصاً أن الأخبار تطاول الحدث بعينه مع مرورٍ سريع على ماضيه ومستقبله.
مشهد يومي في الفلوجة.
"الحياة" زارت مناطق في المثلث السني غرب بغداد، هناك حيث الأعمال العسكرية تتضاعف، ويتضاعف أيضاً سوء التفاهم بين القوات الأميركية والسكان. وهناك أيضاً يمكن رصد بداية تحول في الميول، مع ثباتٍ على رفض الوجود الأميركي. تحقيقات من الفلوجة والرمادي ولقاءات مع شيوخ العشائر والضباط السابقين. وعودة الى بغداد لرصد بداية تبلور نخبة بغدادية سنية غير صدامية ولكنها أيضاً رافضة للوجود الأميركي.
تبدأ "الحياة" اليوم بنشر سلسلة من خمسة تحقيقات عن موضوعات مختلفة من العراق بدءاً من مثلث المقاومة ثم الوثائق التي خلفها النظام السابق وختاماً بتحقيق يتناول أوجه العيش العادي للعراقيين اليوم.
السائق الذي اقلنا من بغداد الى مدينة الفلوجة، كان عراقياً من مدينة الحلة في الجنوب. رجل أربعيني خدم في الجيش العراقي نحو تسع سنوات، هي فترة الحرب العراقية - الايرانية، وهو كحال الكثيرين من اهل الجنوب، ولد في بغداد وما زال مقيماً فيها. انه "ابو زينب" كما يحب ان ينادى، على رغم ان بكره محمد، لكن الرجال في العراق يرغبون احياناً في ان يذكروا بأبوتهم للفتيات لا لـ"الوْلد"، فذلك يشعرهم بوظيفتهم كحماة للإبنة الضعيفة، ويعزز احساسهم بالنخوة والحمية. ألم يُنادى صدام في السابق بـ"ابو حلا"؟ واحياناً ابو العراق.
و"أبو زينب" عمل في الجيش سائقاً ايضاًَ، وتنقل بين الجبهات في شاحنة صغيرة ناقلاً الطعام والعتاد الى الجنود والقطعات، ثم سائقاً ومرافقاً لعدد من ضباط الجيش العراقي. وما ان وصلنا الى الفلوجة حتى توجه ابو زينب بسيارته الـ"غولف" الحمراء التي ارسلها أخيراً له شقيقه من المانيا، الى منزل الضابط الأخير الذي عمل معه خلال فترة خدمته الطويلة في الجيش. المنزل الواقع شرق المدينة لطالما قصده ابو زينب حاملاً لعائلة الضابط الأغراض التي يرسلها سيده في الجيش. اللقاء بين الجندي الذي يعمل اليوم سائقاً على سيارة جديدة، وبين قائده المسرّح من الخدمة والجالس في منزله مرتدياً الزي العشائري كان مفارقاً. خجل متبادل ولحظات من الحزن والصمت. في هذه اللحظة الضابط كان ضابطاً والجندي جندياً، وابو زينب السعيد بسقوط النظام وقف حزيناً امام الضابط الفلوجي الذي عامله بلطف اثناء خدمته العسكرية وأعفاه من عقابات كان يستحقها حين كان يعود متأخراً من اجازاته. شكل سقوط النظام انفراجاً لأبو زينب وبطالة وانسداداً لأفق العيش لقائده. انقلاب كامل في الأوضاع لم يصحبه حتى الآن انقلاب في المراتب، اذ سأل الضابط ابو زينب ان كان ينقصه هو او عائلته شيء، واجاب ابو زينب ان الأمور تسير معه في شكل جيد، ولكنه في المقابل لم يتجرأ على سؤال سيده السابق عن اوضاعه متفادياً بذلك الحرج الذي يمكن ان يسببه السؤال، فاكتفى بأرسال نظرات حزينة ومتعاطفة. كان موقفاً بالغ التعقيد، ومتفاوتاً بين ازدهار اوضاع الجندي السابق وتدهور حال الضابط، ومترافقاً مع حزن متبادل لما آلت اليه الظروف.
في اسواق الفلوجة ستعثر على المئات من هؤلاء الضباط الذين دفع بهم سقوط النظام في العراق الى الأسواق، وهم الآن جالسون في المتاجر الصغيرة لأقاربهم، لا يعملون ولكن قتل الأوقات يقتضي توزيعها بين الأسواق والأقارب. فالمدينة كانت واحدة من اكثر المدن العراقية ولاء للنظام، وقناة الولاء كانت المؤسسة العسكرية واجهزتها المختلفة. ولكن الى جانب هذا التعريف بالمدينة هناك تعريفات اخرى تصب جميعها في تفسير واحد لما تشهده الآن الفلوجة. فهي ايضاً اكبر مدينة في العراق لجهة عدد المساجد المنتشرة فيها قياساً بعدد السكان، وهي ايضاً مدينة العشائر الأولى، فاللحمة العشيرية فيها اقوى وامتن من قريناتها في المدن العراقية الأخرى، وثمة ذروات اخرى تتصل بوظائف تضافر اللحمة العشيرية مع الانتماء الى المؤسسة العسكرية وما رافقها من امتيازات سمحت بتجاوز المحن التي عاشها العراق كله في العقدين الماضيين.
النازل الى الفلوجة من الشارع المتفرع من الأوتوستراد الهائل الذي يربط بغداد بالحدود السورية والأردنية ستلوح له المدينة كتجمع للمساكن المكتظة التي تشوبها خضرة ضعيفة وغمامة غبارية يقلل من وطأتها نهر الفرات الذي يعبر من غرب المدينة اثناء توجهه الى بحيرة الحبانية التي تبعد نحو 30 كيلومتراً الى الغرب من الفلوجة. العلامات عند مدخل المدينة صارت معروفة لشدة ظهورها في الأفلام التلفزيونية والصور الصحافية. انها المستشفى الأردني المهشم على مدخل المدينة لجهة الحي الصناعي. وفي المحيط منازل واطئة، ومتاجر تشهد اقبالاً ومآذن مساجد كثيرة. ثمة نمو حديث لأطراف المدينة، فالأحياء التي تمددت في السنوات العشر الأخيرة شكلت حزاماً ليس بائساً حولها. ويقول السائق الذي كان كثير التردد على المدينة في بداية التسعينات انه يكاد لا يعرف معظم الأحياء لشدة التبدل الذي اصابها. هذه المنطقة اعطاها صدام حسين للضباط كي يبنوا فيها منازلهم، ولكن هناك منطقة اخرى مجاورة زرعت فيللاً جديدة. السيارة تتغلغل في الأحياء متخففة من الحذر الذي رافق التحضير لزيارة المدينة والذي احدثه تواتر الأخبار عن الاضطرابات اليومية التي تشهدها. فأبناء المدينة وفي موازاة الحرب التي يخوضونها ضد الأميركيين وضد الأوضاع الجديدة، يستأنفون ايضاً حياتهم العادية وتبادلاتهم اليومية، مما يخلف بعض الارتخاء والهدوء.
والفلوجة هي المدينة الأقرب الى بغداد بين مدن محافظة الأنبار التي كان يطلق عليها سابقاً محافظة الدليم نسبة الى عشائر الدليم المنتشرة فيها، وهي اكبر محافظات العراق لجهة مساحتها التي تبلغ نحو170 ألف كيلومتر مربع، وهي ايضاً المحافظة التي تضم حدود العراق مع ثلاث دول هي سورية والأردن والسعودية. لكن على رغم تمثيلها اكثر من ثلث مساحة العراق لا اثر في الأنبار للنفط، وهي ايضاً فقيرة بالمياه اذ يعبر الفرات من طرفها متجهاً الى الجنوب وتاركاً تلك البادية الشاسعة جافة تماماً، فيما يمتد ذلك الجفاف فيلامس الطبائع. فأبناء الأنبار استعاضوا عن المياه بمادة حياة بديلة، انها ذلك التماسك الذي يرطّب عيشهم ويجعله ممكناً. فالصحراء قاسية وممتدة الى ما لا نهاية ولا يمكن ضبطها الا باستمرار العشيرة علامة وحيدة للحياة.
الفلوجة ليست عاصمة المحافظة، ولكنها اقرب مدنها الى بغداد، كما ان للمدينة خصائص اخرى تجعلها علامة الأنبار. انها مدخل المحافظة الى بغداد، واكثر مدن المحافظة ازدهاراً اقتصادياً وتديناً وعشيرية وانتماء للبعث. ولهذه العلامات وظائف في الصورة التي انتهت اليها الفلوجة اليوم، اي صورة المدينة المنتفضة على الأوضاع الراهنة. ولا يمكن الحديث عما يجري الآن في الفلوجة والأنبار بمعزل عما شهده العراق في السنوات الـ12 الأخيرة، اذ شهدت هذه السنوات تبدلاً في احوال العراق كله، فانتقلت وحدات اجتماعية من حال الى حال وتحولت اقتصادات الجماعات بفعل نظام النفط في مقابل الغذاء الى عملية ارتزاق كاملة لا يتوسطها قناع رقيق او ادعاء، اما قبضة الدولة والنظام على المجتمع فاشتدت في مواضع وضعفت وتلاشت في مواضع اخرى، والفلوجة خصوصاً والأنبار عموماً من المناطق التي ازدهرت في الوقت الذي كان العراق كله محاصراً بالنفط في مقابل الغذاء، وبتحول الاقتصاد من الرعاية الدولتية المشوبة بالتزلم والانتماء الى العشيرة والحزب الى التزلم الذي لا تشوبه شائبة. فالمحافظة حدودية بامتياز وعملية التحايل على نظام النفط في مقابل الغذاء عبر التهريب واستبدال السلع المقايضة بالنفط، واستبدالها بسيولة نقدية عبر اعادة بيعها، معظم هذه العمليات كانت تتم عبر محافظة الأنبار، وساهمت فيها تحالفات عشائرية وعسكرية. للضباط امتيازاتهم وهباتهم وللعشائر علاقاتهم التاريخية عبر الحدود مع امتداداتهم العشائرية في الدول المجاورة. اما النظام وأجهزته ففي مقابل مضاعفة قبضته على العراقيين اضطر وبفعل اهتراء اجهزته وتآكلها الى حماية خاصرته الأنبارية عبر التغاضي عن التحالف بين قادة في الأجهزة الأمنية من ابناء الأنبار وبين عشائر انبارية كان صدام اعاد تشكيل مشيختها. وهذا التغاضي امتد ليشمل نواحي لم يكن النظام العراقي في وارد التغاضي عنها في السابق، اذ امن هذا التحالف بعض الحماية لمجموعات دينية بدأت تظهر في المساجد الأنبارية خارجة عن المفهوم البعثي للاسلام وللالتزام الديني. صحيح ان النظام شن حملات تأديب في حق عدد من ابناء الأنبار الذين انخرطوا في انشطة دينية واجتماعية مغايرة ومتسللة من دول الجوار، لكن حملات التأديب هذه اقتصرت على السجن لفترات قصيرة وارسال التحذيرات لهؤلاء الناشطين، وبقي هؤلاء مشمولين بالحماية العشائرية اولاً وبشبكة قراباتهم مع مسؤولين في الأجهزة الأمنية المختلفة. ولاحقاً سيكون لهذا النظام وظيفته المركزية في حركة ما يسمى "المقاومة"، فقنوات التهريب وطرقه وامواله هي اليوم نفسها قنوات "المقاومين" وطرقهم واموالهم ومؤيديهم العرب، فيما تشكل البيئة الايمانية التي تشكلت في الأنبار في تسعينات القرن الفائت من خلال التسلل عبر الحدود للأفكار والدعاة، الحاضن الأول لهؤلاء "المقاومين". يمكنك ان تشعر في الفلوجة ان "المقاومة" نمط حياة ألفه اصحابها وشكل امتداداً لأنشطة عادية كانوا يؤدونها في السابق. طرق الصحراء عينها تلك التي طالما سلكوها لأغراض الالتفاف على قانون النفط في مقابل الغذاء، والتسلل عبر الحدود بسيارات الـ"فورويل درايف"، وربما مقايضات وعلاقات مع عشائر وتجار من المناطق المجاورة.
التوسع الجديد
قصر عدي صدام حسين على بحيرة الحبانية غرب الفلوجة.
للوقائع التي تشهدها الفلوجة اليوم صلة اكيدة بهذا الواقع، وفي مشاهد الحياة اشارات كثيرة تردك اليه. فالتفاوت في الأحياء وفي حركة العمران غير خاضع لمنطق التفاوتات في المدن، ثمة شيء يشعرك بأن الأحياء الجديدة في المدينة انما نمت وتمددت بعد تبدل سريع في الأوضاع حوّل الحياة في اتجاه مختلف. الأمر لا يتعلق بحركة توسع عمراني طبيعي، هذا الأمر يمكن تسجيله قبل المباشرة بالحديث مع السكان. فالشيخ داود البوشديد شيخ عشيرة البوشديد في الفلوجة يقول: "ان اوضاع ابناء الفلوجة اكثر من جيدة، ومرت فترات صعبة على كل العراقيين لم تمر على اهل الفلوجة. ففي الفلوجة التكاتف العشائري موجود وهذا مكن ابناء البلدة من الوقوف في وجه المصاعب. حالتنا الاقتصادية جيدة اكثر مما يعتقد الجميع". وطبعاً لم يسق الشيخ داوود كلامه في اتجاه رسم علامات استفهام حول سر هذا الأزدهار في ظل تدهور اوضاع العراق كله، فهو يراه طبيعياً، وهو من ناحية اخرى احد اسرار صمود المدينة في وجه الأميركيين بحسب اشارات الشيخ.
وفي اسواق المدينة انت حيال حركة بيع وشراء كثيفة، في حين تدور الحرب على الأميركيين خارج اسوار السوق. محال تجارية كثيرة يقف فيها اكثر من بائع هم على الأرجح صاحب المتجر وقريبه الذي كان ضابطاً او عسكرياً وهو اليوم عاطل عن العمل. ظروف كثيرة ترشح المدينة لمصادمات مع الأميركيين. هؤلاء الضباط الغاضبون يشكلون واحدة من الحقائق الثقيلة لعراق ما بعد صدام حسين. كلمة واحدة في السوق ويتجمع عشرات منهم شارحين اوضاعهم، وخالطين بين عدائهم للأميركيين والحال الذي اصابهم من جراء حل الجيش. وبعد شرح مسهب لأسباب رفض اهل الفلوجة الأميركيين يشرع هؤلاء الضباط المنتشرون في الأسواق في شرح ضائقتهم الشخصية، فيقول ابو باسل: "انا ضابط متقاعد في الجيش اسرت في ايران خلال معركة القادسية وبقيت في الأسر عشر سنوات، ثم افرج عني قبل نحو ثلاث سنوات. واليوم انا من دون عمل بعد حل الجيش ولم اتقاضَ في الأشهر الستة الفائتة سوى مبلغ مئة دولار، في حين انا اب لتسعة اطفال اضافة الى زوجتي". اما ابو عمر الذي كان يقف مستمعاً لشكوى زميله، فله قصة مختلفة، فهو مقدم في الجيش لكنه حرم من اي راتب بسبب عضويته في فرقة حزبية الى جانب عسكريته وهو جزء من عقاب جماعي يتعرض له البعثيون في العراق كله، علماً ان ابو عمر زوج لأمرأتين ولديه من الأبناء عشرة. وشكوى هؤلاء الضباط لا تأتي في سياق مطلبي يهدف الى تصحيح وضع سائد بقدر ما هي سعي لاعطاء صورة واحدة لسقوط النظام، وتتمثل في انهيار كل شيء، فهكذا مثلاً لا تنسجم مطالبتهم برواتبهم مع رفضهم الكامل للاحتلال الذي من المفترض ان يكون هو من يدفع الرواتب. ضباط الجيش العراقي المنتشرون في الأسواق اصحاب الوجوه السمراء والمنتفخة، والمحددة شواربهم بدقة، تحولوا الى نوع اهلي، وراحو يتكلمون بأصوات غير معهودة بالعسكر.
ضباط كبار يشعرون ان في نزولهم الى الأسواق مهانة كبرى، وهم يفعلون ذلك من باب حقن النفس بمزيد من الغضب. وفي ظل هذه الأوضاع اصبح من المؤكد ان ثغرات كبيرة من هذا النوع يتسلل منها ناشطون بعثيون في حوزتهم مبالغ كبيرة يمكن في حال استثمارها ان تنتج "مقاومة" واعمالاً عسكرية مختلفة، فيتحدث الأمنيون في منطقة الأنبار مثلاً عن عضو في القيادة القطرية لحزب البعث يدعى فرحان المحمدي وهو من ابناء الفلوجة ومتوارٍ في ريفها ويقوم بتجنيد عدد من أبناء عشيرته والعشائر الأخرى عبر اغراءات مادية وفي ظل حال من البطالة التي قد تصل في ريف الفلوجة الى 80 في المئة.
فتيان أمام عربة أميركية في الفلوجة.
الشبان الواقفون امام احد الأفران خارج سوق الفلوجة تقدموا من سيارتنا وعرضوا بيع صور لعمليات عسكرية ضد الأميركيين. انها البضاعة التي يعلمون ان الصحافيين لا يقاومون اغراءها. قالوا انهم يؤيدون "ابو عداي"، وانه عائد لتأديب الجميع، اما بالنسبة للصور التي عرضوا بيعها فهم حتى الآن لم يلتقطوها ولكن في وسعهم كما قالوا التقاطها ساعة يشاؤون، فالأميركيون قريبون وتنفيذ عملية بهدف تصويرها امر في غاية السهولة. انهم الفتيان انفسهم الذين يخرجون بعد كل عملية، ويلتقط المصورون الصحافيون صورهم رافعين صورة صدام حسين، وصاروا محترفين في علاقتهم بالصحافيين، ويشكل هؤلاء احدى مستويات العلاقة بين الفلوجة والعالم، ولكنهم ليسوا صورة الفلوجة الوحيدة. فالبعث في الفلوجة اليوم ليس سوى ديكور هش لواقع أعقد. الولاء لصدام في المدينة واضح، لكنه هش. فراغات كبيرة بدأت تملؤها افكار وانتماءات اخرى لا تعلن عداءها للبعث ولا غربتها عنه، ولكنها ولاءات اخرى من دون شك. الصبية هؤلاء وربما اهلهم الخمسينيون هم اقوى صور البعث، وبينهم وبين اهلهم ثمة اجيال ما عاد البعث يشبع تطلعها. انه التحول من التدين التقليدي الى الاسلام الحركي الذي اتاحه سقوط النظام في بيئة مؤيدة لهذا النظام ولكنها في الوقت عينه جاهزة تماماً للتحول عنه.
لا يمكن التأريخ لهذا التحول في الفلوجة بيوم سقوط النظام، فقد سبقت هذا التاريخ عوامل كثيرة. فالتعريف البديهي للفلوجة في العراق هو انها مدينة متدينة. ويتحدث عدد من ابنائها عن طموحها للتحول الى حوزة السنة في العراق، فمدارسها الدينية والفقهية ودور الافتاء فيها كانت وما زالت مركزاً للفتوى ولانتاج الكتب الدينية، ومن ابناء المدينة عدد كبير من علماء الدين السنة الذين تخطت سمعتهم المدينة والعراق مثل الدكتور احمد الكبيسي والشيخ عبد العزيز السامرائي. وفي المدينة ثلاث ثانويات دينية يتخرج منها سنوياً عدد من الدعاة الذين يؤهلون للالتحاق في كليتي صدام للشريعة او الفقه في بغداد. ويتحدث ابناء الفلوجة عن رفض مدينتهم اي مظهر آخر يمكن ان يتسلل اليها حتى خلال حكم البعث، فقد تم وخلال سنوات حكم صدام تفجير دور للسينما حاول البعض افتتاحها في المدينة مستفيداً من سماح النظام له بذلك، كما فجرت في السنوات العشر الأخيرة محلات لبيع الأشرطة الموسيقية ومحلات الفيديو. ولكن من الواضح ان النظام نجح في ابقاء ميول المدينة هذه ضمن منطقته عبر انخراطه فيها ورعايته لوقائعها، فتولى هو الاشراف على المدارس الدينية عبر وزارة الأوقاف ولم يجعل من تحرك بعض الشباب لتفجير السينمات ومحلات الموسيقى قضية امنية كبرى، هذا فيما تولت الحملة الأيمانية التي باشرها صدام قبل عشر سنوات من سقوطه المواءمة التامة بين ميول المدينة ونزعة النظام الى الاحتماء بالمسجد والعشيرة، فراح صدام يُنشئ المدارس الدينية ويعطيها اسمه، وبادر الى بناء المساجد العملاقة والى ترميم المساجد القديمة، واضاف عبارة الله اكبر الى العلم العراقي.
لكن البيئة الفلوجية التي اندمجت فيها ميول النظام الجديدة ومشاعر السكان لم تكن في منأى عن اختراقات طفيفة شكلت في ما بعد نواة للتحول الذي تشهده الفلوجة اليوم. فتتحدث صحافية من الفلوجة عن ان التسعينات شهدت ايضاً تشكلاً لمجموعات اسلامية لم يسبق ان عرفتها المدينة، فبدأت تظهر لحى طويلة واثواب شرعية، ومجموعات سلفية قامت ذات يوم بشراء مجموعة اجهزة تلفزيونية وحطمتها في احد شوارع المدينة، مما اضطر النظام وفي عز الحملة الايمانية الى اقفال احد المساجد لإيوائه عدداً من هؤلاء. ويتحدث ابو حارث عن شقيقه الكبير وهو واحد من هؤلاء المؤمنين ويقول: "شقيقي الكبير معهم، وهو طرد من الجيش بسبب هذه التوجهات وأصبح عاطلاً من العمل، فصار يقضي معظم وقته في الجامع. البعثيون سمحوا لهم بالنشاط مع مراقبة دقيقة لهم، فكانوا يداهمونهم كلما توسعوا. حصل هذا الأمر عشرات المرات في الفلوجة وابو غريب. شقيقي لم يسجن لأن شقيقي الثاني الأصغر كان مسؤولاً في حزب البعث فتمكن من حمايته".
الخاصرة الرخوة للنظام
يبدو واضحاً ان البطش الذي عهده العراقيون في نظامهم السابق لم تُعامل بموجبه هذه المجموعات، ومن المرجح ان ذلك حصل لأن النظام كان بمعنى ما ضعيفاً في الفلوجة والأنبار كلها، فهو كان يستمد قوته من هذه البيئة ومن الصعب تالياً ان يمارس قوته في المركز الذي يستمدها منه، فاضطر الى اقامة توازن اتاح هذه الاختراقات.
اعتقل الأميركيون امام مسجد الفلوجة الكبير الشيخ جمال شاكر وشقيقه وابن شقيقه، والشيخ جمال رجل ستيني يشرف على المدرسة الدينية. جدران المدينة كلها اليوم مليئة بالشعارات الداعية للافراج عنه، وبشعارات التهديد في حال عدم اطلاقه. جميع اهل الفلوجة يتحدثون عن اعتقال الشيخ جمال، وصوره المستنسخة بآلات قديمة ملصقة على الجدران، اما انصاره فيتحدثون في الشوارع ومن دون حرج عن تنفيذهم عمليات انتقامية ليس بسبب اعتقال الشيخ فحسب وانما ايضاً لدخول الأميركيين الى المسجد وانتهاكهم حرمته. "السلاح في أيدي الجميع" يقول احد انصار الشيخ، ويضيف: "كل عراقي سبق ان تدرب على السلاح وخدم في الجيش وهو يجيد المقاومة"، اما الشيخ محمد خضير الزوبعي وهو استاذ في كلية العلوم الاسلامية في بغداد وعضو الهيئة الادارية لتجمع العلماء المسلمين فرع الفلوجة، فيقول: "من الصعب على اي امام مسجد ان يلقي خطبة في الفلوجة لا تتضمن دعوة الى الجهاد، فالناس يطالبون بإلحاح بالحض على الجهاد". وعن هوية منفذي العمليات ضد الأميركيين يقول: "ان من ينفذ العمليات المهمة هم شباب مؤمنون. جماعة النظام السابق دورهم محدود وهم جبناء، ويحاولون بعد كل عملية تحصل مصادرة هذه العملية عبر التظاهر والتهليل ورفع صور صدام حسين". ويضيف الشيخ: "هناك ثلاث ثوابت في الفلوجة وهي المساجد والعلماء والقبائل، العامل القبلي يدفع الى الثـأر من المحــتل والعـمل الديـني الى جــهاده".
الفترة الزمنية القصيرة نسبياً التي تفصلنا عن سقوط النظام في العراق كانت كافية بالنسبة لسكان في الفلوجة لتحقيب هوية المقاومة وفقاً لفترات زمنية موزعة على الأشهر السبعة هذه، فتقول سيدة من المدينة ان "المقاومة" في البداية كانت عشائرية، وناتجة من الصدام الأول بين الأميركيين واهالي الفلوجة والذي سقط فيه نحو 15 من ابنائها، مما استدعى عمليات ثأرٍ قامت بها العشائر، وبعد فترة زمنية قصيرة بدأ رجال النظام بالعودة الى مدينتهم بعدما كانوا موزعين في العراق كله بفعل خدمتهم في الأسلاك العسكرية، في حين كان عدد كبير منهم وخصوصاً المسؤولين الكبار قد غادروا الحدود الى سورية ثم عادوا بعدما طلب منهم السوريون ذلك، وباشر هؤلاء اعمالاً عسكرية مستفيدين من خبراتهم ومن امكاناتهم المادية، وترافقت عودتهم مع مباشرة المساجد بالدعوة الى الجهاد. وتضيف السيدة: "ولكــن في الفترة الأخيرة بدأنا نشاهد رجالاً غرباء يتنقلون في المدينة وهم غير عراقيين على الأرجح".
تتمدد الفلوجة على الضفة الشرقية لنهر الفرات. مشهدها ملتقطاً من جهة النهر يطفئ السخونة المرافقة لحكاياتها هذه الأيام. المدينة تعيش اياماً عادية، وليس ما يحدث سوى استمرار لأنماط العيش والسلوك. الأميركيون في هذا المعنى يعيشون مأزقاً اعمق من السياسة. فالعمليات ضدهم اذا ما كانت امتداداً لعمليات الثأر التي تخوضها العشائر منذ مئات السنين، وطرق المقاومين سبق ان اختبرها المهربون وحفظوها، والحدود القريبة لم تكن يوماً حدوداً، فهم بهذا المعنى حيال وضع جديد يجهلونه ويقعون كل يوم في افخاخه.
الصحراء الممتدة خلف النهر تشكل متاهة يخترقها طريق معبد وطويل وينتهي في نقطة يعجز النظر عن تحديدها. انها طريق الحبانية المرتبط اسمها بقاعدة الحبانية العسكرية، وعلى جانبي الطريق آليات عسكرية من ذلك النوع المتفشي في الكثير من المناطق الصحراوية في العراق، دبابات وشاحنات محطمة، وطرق رملية فرعية مفضية الى انحاء اخرى من المتاهة.
وفي نهاية الطريق المعبد يلوح فجأة بحر كبير في وسط الصحراء. فالنهر الملتف حول بادية الحبانية والمتخفي خلف التلال الرملية يعود ويصب في البحيرة الاصطناعية تلك، فتظهر للزائر الذي لم يسبق له ان قصد المنطقة مباغتة نظره هو الذي لا ينتظر من هذه الصحراء الا الرمال المتواصلة. ثم تبدأ المنشآت السياحية المتآكلة التي انشئت على الضفة الغربية للبحيرة بالظهور، ويلوح قصر صغير وطريق فرعي يفضي اليه. "انه قصر عداي صدام حسين وهذا يخته" يقول العامل المصري الذي يعمل هناك، فالأستاذ كما يسميه العامل كان يحب قضاء اوقات طويلة في هذا المنتجع.

التعليقات