التسيب الأمني الفلسطيني

التسيب الأمني الفلسطيني
تقارير
بقلم:د. عبد الستار قاسم
نحج الكيان الصهيوني عبر السنوات في ملاحقة العديد من الفلسطينيين والايقاع بهم، وفي متابعة الخلايا الفلسطينية وتفكيك العديد منها، و إجهاض الكثير من المحاولات الفلسطينية لتوجيه ضربات لأهداف إسرائيلية. لقد اخترق العدو الصفوف وجند العملاء وكان قادرا على جمع الكثير من المعلومات مما مكنه من تحقيق نجاح في حالات كثيرة جداُ. صحيح انه لم يكن ناجحاُ في كل محاولاته، لكن دقته في تحديد الأهداف ورصد التحركات لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها. وقد أظهرت التجربة الفلسطينية خلال الانتفاضة الجارية حاليا مدى هشاشة الوضع الأمني الفلسطيني ومدى قدرة الكيان الصهيوني على ضرب الأهداف بدقة. استطاع العدو أن يجمع المعلومات الكثيرة حول النشاطات الفلسطينية ومكنته قدراته التقنية على القيام بمهام دقيقة مذهلة. اغتال العديد من النشطاء الفلسطينيين وضرب العديد من الماقع الحساسة، ولم يكن هجومه الأخير على مركز تابع لحماس في نابلس إلا تعبيرا عن الانكشاف الفلسطيني الأمني وقدرة العدو على المتابعة.
اغتال العدو الصهيوني عدداُ لا بأس به من القيادات الفلسطينية والمناضلين الفلسطينيين، واستطاع الوصول الى بيوت ومقرات البعض تاركا لهم الرسائل والتهديدات. وعبر سنوات النضال الفلسطيني داخل الأرض المحتلة كان بإمكانه أن يكشف عن الخلايا ويضربها أو يعتقل أفرادها قبل أن تقوم بالعمل، وعبر ذات السنين كان قادراُ على اعتراض العديد من المجموعات المسلحة التي كانت تحاول التسلل عبر الحدود خاصة من جهتي لبنان والبحر المتوسط والقضاء على أفرادها أو اعتقالهم. ولا يبدو أن العدو كان خائباً في جمع المعلومات عن مراكز اتخاذ القرار أو التدريب أو التخطيط أو التخزين.
بالرغم من الاخفاقات التي مني بها العمل الفلسطيني والنجاحات الاستخبارية والعسكرية التي حققتها إسرائيل لا يظهر أن الناشطين الفلسطينيين قد تعلموا الدروس بشكل جيد وأنهم يحاولون تصحيح الأوضاع الأمنية بحيث تستعصي المعلومات على العدو. واضح ان الأخطاء تبقى كما هي عليه، بل وتتراكم عبر الزمن والحرص الأمني لا يبدو أنه ضمن الأولويات. يشعر المرء أحيانا أن الأوضاع الفلسطينية المختلفة عبارة عن كف مفتوح أمام الصهاينة، ويشعر أن الفصائل والأحزاب والمسؤولين الفلسطينيين لا يكترثون لهذا الأمر من الناحية العملية، حتى أن هناك من تتسلل الى نفسه الشكوك بأن هناك من بين الفلسطينيين من هو معنى بالتسيب الأمني.
عوامل التسيب
لم يأت التسيب الأمني على الساحة الفلسطينية من فراغ ولم يكن وليد لحظة تاريخية معينة بقدر ما كان مواكبا لسنوات الصراع ضد الغزو الصهيوني والانتداب البريطاني. هناك أسباب وعوامل أدت الى هذا الوضع منها ما يعود الى التركيبة الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني ومنها ما له علاقة بطرق التنظيم الفصائلي والحزبي واستقطاب العناصر والعلاقة ما بين مختلف الفئات. هناك بالطبع جهود استخبارية اعتيادية من قبل العدو ووسائل دعمها تقنيا، لكن هذه لا يمكن تصنيفها ضمن عوامل التسيب ويعتبر نجاحها معتمدا ولو جزئيا على عوامل التسيب الذاتية. أي أن التسيب ذاتي وليس خارجيا، وأن النقاش هنا ينحصر في العوامل الذاتية.
بالنسبة للعوامل الاجتماعية أشير هنا الى عدد من التقاليد والعادات والمظاهر المواكبة سلوك الاجتماعي بصورة عامة. بنقاشها لا أعني أن كل فرد من المجتمع يخضع لها وانما ما أعنية أن المسائل تشكل ظواهر اجتماعية يمكن البناء عليها واستخلاص النتائج منها. وأرى هنا تلخيص الظواهر التي تعنينا بالتالي:-
أولا: التدخل في الشؤون الخاصة يعاني المجتمع العربي بصورة عامة لا مطلقة ومن ضمنه المجتمع الفلسطيني من مشكلة التهاون في احترام الحياة الخاصة. ينتاب الناس رغبة في معرفة أشياء عن الحيوات الخاصة ويرغبون في التدخل بها بشكل أو بآخر. يرغب الجار في استكشاف ما يفعل جاره في نهاره وليلة، وفي التعرف على علاقاته مع ذوية وجيرانه الآخرين وأصدقائه وزملائه في العمل. حتى أنه يحاول التسلل إلى العلاقة ما بين الزوج وزوجه وأنماط حياتهما وتنافرهما وتوافقهما بصورة ، يرغب المرء في بلادنا أن يعرف ماذا يخفي ذلك الرجل في الكيس الذي يحمله ، وماذا همست المرأة في أذن الأخرى، ومن الذي زار ذلك الشاب الليلة الماضية، وفيما إذا كانت عروس الأمس قد حملت أم بعد، وفيما اذا كان الشاب الذي لوح بيده لتلك الفتاة قد تقدم لخطبتها أم لا، وإلى آخر ذلك من الأمثلة التي نعرفها جميعا.
لا يتوقف الأمر عند هذا، و إنما يتم استكماله في جعل الأمور الخاصة للآخرين مادة للتسلية في الجلسات والسمر. يعاني المجتمع العربي من مشكلة جعل الآخرين مادة لتمضية الوقت، ومن المفضل عادة ألا يتم التركيز على الصفات الحميدة. ربما لا يقصد الناس الإساءة دائما، الا أنهم يملكون الكثير من أوقات الفراغ التي يصعب ملؤها من دون القيل والقال، وهكذا تتحول أحوال الناس الخاصة الى قصص علنية حتى لو بقيت تروى بالهمس.
ينعكس هذا سلبا على العمل الوطني خاصة في ظل شراك و مصائد أمنية كثيرة. فمثلا قد تقول امرأة لجارتها أنها رأت في الليل ملثما يحمل السلاح وان هيئته تشبه هيئة ابن فلانه. تهمس الجارة لأخرى والأخرى لأخريات، وهكذا حتى يصبح السر على لسان كل شخص. ومن المحتمل أيضا أن يقول رجل أنه رأى فلانا يجري مسرعا بعدما دوى انفجار أصاب جنودا صهاينة، وبالهمس تمتد الأقاويل حتى يصل الخبر إلى آذان الأعداء. وعلى هذا فحبس. وبهذه الطريقة يستطيع العدو أن يصل إلى عدد من الأسرار والنشاطات فيحبطها قبل ان تتسع وتشكل تهديداً له.
ثانيا: حب التفاخر والظهور يقع المناضل أحيانا في مصيدته الذاتية وذلك من خلال عدم الاحتفاظ بسره. فقد يقوم الشخص بعمل فيصنع به حدثا تتناقله وسائل الاعلام ووكالات الأنباء. وقد يرى أن الناس قد أعجبوا ببطولة هذا الذي صنع الحدث فلا يتمالك نفسه ويحدث صاحبه بالأمر على ان يبقى سراً. وقد يحدث عشرين كل على حدة ويطلب أن يبقى الأمر سرا. وبالطبع يحدث كل واحد من العشرين عشرين آخرين طالبا منهم ألا يفشوا السر الذي أصبح على الألسنة ومن ثم الى أجهزة مخابرات العدو.
واضح أن العرب مازالوا يعانون بصورة عامة من حب الظهور والتفاخر والذي هو جزء من عناصر القبلية التي ترى في الوجاهة قيمة عليا. يبدو أن عددا لا بأس به منا ما زال يتلقى تربية تلقينية تقوم على التميز والتفوق وضعف الاعتراف بقدرات الآخرين. وكأننا بذلك نعوض نقصا فشلت البرامج التربوية في ردمة وهو أن يرى الإنسان نفسه من خلال حركات استعراضية والتي يمكن أن تكون ذات تنائج سلبية. فاذا فشل المرء في بناء ثقة في النفس مرتكزة على قوى تنبع من داخلة يلجأ الى التمثيل ليثبت للآخرين أنهم من الصعب أن يطاولوه. على اية حال ، هذه مسألة تستحق الدراسة المستفيضة من قبل علماء في عدد من التخصصات.
المهم هنا ان بعض الشباب المسلحين لا يترددون على سبيل المثال في الظهور أمام الناس أو أمام آلات تصوير وسائل الإعلام. وعدد منهم يحاول بتعمد وإصرار أن تصل المعلومات حول تسلحه الى الناس ، ويجدون سرورا بالغا في اللعب سلاحهم خاصة في المناسبات . وبهذا العمل يقدم المسلح هدايا معرفية مجانية لأجهزة المخابرات المعادية . يتم التعرف عليه بالاسم ونوع السلاح ومكان السكن وبعدد الطلقات التي أطلقها وتلك التي بقيت معه.
لقد أثر التظاهر بالسلاح أو بالتدريب أو الفنون التنظيمية وما شابه ذلك على قدرات الشعب الفلسطيني وأوقع الكثيرين في مصائد الاغتيال الصهيوني أو الاعتقال . لقد دفع الشعب ثمناً باهظاً نتيجة هذه المعضلة وما زال يدفع، وعلى الرغم من وضوح السلبيات الناجمة عن هكذا سلوك إلا أن البعض ما زال يصر عليه.
ثالثاً: المشابهة
ربما يكون هناك من يقدر معنى الكتمان وأهمية الأسرار لكن لا يستطيع ان يصمد أمام إغراءات الوصف بالبطولة والالتزام بالدفاع عن الشعب. فهو قد يرى مسلحين يجوبون الشوارع ويطلقون النار ويثيرون إعجاب الآخرين. فلماذا لا يكون بطلاً كهؤلاء ؟ وكيف ستشبع السرية هذا الاندفاع المتولد لديه؟ وغدا عندما يقوم بعمل بطولي ضد العدو فإن الناس سيظنون أن الاستعراضيين هم الذين قاموا به ، أما هو البطل الحقيقي فلن يذكره أحد.
أوقع هذا السلوك عدداً لا بأس به من ابناء الشعب في براثن المخابرات الصهيونية أثناء مرورها بما عرف بغرف " العصافير" أي الجواسيس في المعتقلات . كان يصمد الشاب أثناء التحقيق ويتحمل التعذيب بكافة أشكاله، لكن كان يدلي بالمعلومات في تلك الغرف. ببساطة كان يتحدث الجواسيس عن بطولات وهمية قاموا بها ضد الاحتلال الصهيوني ويسهبون في وصفهم للنضالات الخرافية التي خاضوها . كانت هذه الاحاديث تشكل حوافز للشاب ليتحدث عن بطولاته أيضاً ويضيف إليها أحياناً أعمالا لم يقم بها.وهكذا كان يجد الشاب نفسه في صباح اليوم التالي أمام رجل المخابرات الذي كان قد تلقى الاعترافات من الجواسيس ليلاً.
رابعاً: التسليم للسلطان تعبير التسليم للسلطان عبارة عن تخفيف لكلمة التجسس. الجواسيس في البلاد العربية عبارة عن ظاهرة معروفة والناس يحاولون باستمرار عدم الخوض بالأحاديث التي يمكن أن توصلهم الى غرف التحقيق. أناس كثر يعملون في أجهزة المخابرات في البلاد العربية وهم عبارة عن ادوات لقمع الناس وقهرهم والاعتداء على حرياتهم . انهم لا يتورعون عن كتابة التقارير ضد الناس ورصد تحركاتهم وأقوالهم.ويبدو ان هناك إقبالاً على القيام بهذا العمل ، حتى أن العمل لصالح المخابرات الاسرائيلية سواء الداخلية او الخارجية يبدو واضحاً. جندت اسرائيل اعداداً كبيرة من المسؤولين والناس العاديين في الدول العربية لخدمة تطلعاتها المعرفية ولتزويدها بكافة أنواع المعلومات . الدول العربية مخترقة أمنياً من قبل اسرائيل وكذلك الفلسطينيون بمختلف تنظيماتهم وتجمعاتهم. وهؤلاء يشكلون التهديد الخطير لامن العرب و لإخراج الفلسطينيين.
على الرغم من تقديم المخابرات الصهيونية الاغراءات المختلفة لتجنيد الجواسيس والعملاء إلا أن عوامل اجتماعية تعطي تفسيراً جزئياً لانتشار الظاهرة. وهنا اذكر منها:
i- التسلط البيتي: ما زال جزء لا بأس به من الأسر العربية يعاني من التسلط داخل البيت: الاب يتسلط على الجميع ، الام تتسلط على البعض، الابن الأكبر على الأصغر ، الذكر على الانثى. وقد واكب هذا التسلط شكاوى متواصلة من الأضعف الى الأقوى وتقارير شفوية يقدمها الضعيف الى القوي حول ما قام به الضعفاء الآخرون أثناء غيابه. فمثلاً تنتظر الأم الأب لتشكي همها من الأولاد وتحدثه بكل ما فعل كل منهم. في مثل هذا الجو يبدأ الطفل بالظن أن هذا هو السلوك الصحيح وان عليه أن يحاكيه.
ii- الأحقاد القبلية: العائلية مقيتة أحياناً بحيث أنها تولد أحقاداً بين الناس وتقود أجزاءها إلى الإيقاع بالآخرين حتى لو كان الآخر عدوا للجميع. وقد شهدت الساحة الفلسطينية حالات من التعامل مع العدو على هذه الخلفية وذلك في عهدي الانتداب البريطاني والاحتلال . من خلال العدو تكسب عائلة قوة وتستطيع أن تحصل لأبنائها على وظائف حكومية وتسهيلات اقتصادية أخرى تجعلها ذات نفوذ . وهذا ما يدفع العائلة المنافسة إلى القيام بذات العمل حتى لا يضعف موقعها الاجتماعي أمام العائلة الأخرى.
iii- الظلم الناجم عن استغلال الحاجة: تعرضت قطاعات من الشعب الفلسطيني لظلم أوقعته عائلات اقطاعية أو متنفذة وتم استغلالها بطريقة بشعة وبدون أدنى احترام للانسان والقيم الأخلاقية الكريمة. استغل عدد من الناس لاسباب عدة منها الفقر وعدم وجود العزوة وربما أحياناً لانه من قرية نائية أو أنه لاجئ يبحث يائساً عن عمل . من شأن هذا الاستغلال أن يولد شعوراً بالظلم ورغبة في الانتقام. الارتماء بأحضان السلطة المحتلة كان خياراً بالنسبة للبعض واستطاعوا من خلال خدمتهم للعدو ان يشبعوا رغبتهم في الانتقام.
وقد لاحظت ان عدداً من العمال يقولون أحياناً ان العمل لدى " الخواجات" يعني اليهود أفضل من العمل في معامل ومزارع عربية . وهم يعللون ذلك في أن العربي يماطل في دفع الأجر ويسيء التعامل مع العمال . هناك آخرون يقولون العكس، لكنه من الواضح أن ممارسة الظلم عبارة عن عمل مقيت يدفع ببعض أبناء الامة إلى أحضان العدو.
iv- الشعور بالنقص وضعف الاحترام الذاتي: التسليم للسلطان يتطلب ويتمشى مع الشعور بالنقص وضعف الاحترام الذاتي. يحاول السلطان أن يقول لمن يتسلط عليهم أنهم لا يقوون على عمل المفيد ولا يستطيعون تدبير أمورهم بغيابه.ولكي يعزز ذلك يعمل على الامساك بخيوط القوة ومقوماتها ليجعل من الآخرين دونه عالة عليه وفاقدي القدرة وتبعيين . وهو دائماً يؤكد لمن حوله عجزهم وقلة حيلتهم وضياعهم في حالة غيابه.
نحن نلمس هذا إلى حد كبير في أساليبنا التربوية . ففي البيت يكرر الآباء على الابناء عبارات مثل " انت لا تعرف" و " انت لا تقدر" فضلاً عن عبارات التعنيف والاستهتار. وهذا أسلوب يمتد الى المدرسة، وفيها تتنامى تربية التلقين التي تهلك المبادرة الذاتية وتحيل الانسان إلى ببغاء غير قادر على الابداع وصناعة الحدث. ويلاحق شبح الببغاوية والتبعية للمدير و المسؤول الناس في وظائفهم ودوائر أعمالهم. وعبر أيام الملاحقة الطويلة والتي قد تمتد مدى الحياة يدرب الانسان نفسه على اتقان التبعية وفقدان الذات والصغار أمام من هم أعلى منه في مراتب التسلط.
إنه تدريب على الذنبية ( ان يكون المرء ذيلاً لغيره) بغض النظر عن الثور الذي يلتصق به الفرد. فالثور لا يتم تعريفه حسب معايير العداوة والصداقة وإنما حسب العصا التي يحملها وما يتبعها من نِعَم يمكن أن تواكب الطاعة والامتثال. لا يشعر الفرد داخله القوة ولا يشعر بالاحترام الذاتي، وتكبت على أنفاسه ضغوطات الهوان ومشاعر العجز والاذلال. لهذا لم يكن من الغريب أن تنضوي إعداد هائلة من الناس في الوطن العربي في أجهزة مخابرات لا هم لها سوى ملاحقة المواطن والاطمئنان الى ببغاويته وذنبيته . كثيرون هم الذين لا يرون عارا في التجسس على إخوانهم وأخواتهم وأبناء وطنهم وأصدقائهم لقاء بعض المال أو الإمتيازات . وقد خبر العديد منا أصدقاء لهم يطعنونهم بالظهر ويشون بهم الى أجهزة المخابرات . حتى الطلاب و الطالبات في المدارس والجامعات وكذلك المدرسون والمدرسات ثم تجنيدهم حرصاً على إذلالهم وتأكيداً على احتقارهم لانفسهم.
ولهذا لم يكن من المستغرب أن نجد في الوطن العربي وفي فلسطين من يقدم خدمات استخبارية هامة للعدو. لقد هزمنا العدو الصهيوني استخبارياً ومعلوماتيا، ومن الواضح أنه اعتمد في تحقيق بعض اهدافه على اولئك العجزة الذين ولدتهم التربية العربية.
النقاط الواردة أعلاه بحاجة الى دراسة وتمحيص وأبحاث علمية، والوقوف تماماً عندها والأضرار المترتبة عليها يتطلب برنامجاً على المستوى القومي تغدق عليه الحكومات الاموال الكافية . تصحيح الوضع الناجم عن مسائل تربوية لا يتم بقرارات يمكن تطبيقها فوراً، وإنما لا بد من التشخيص الدقيق ووضع السياسات التربوية التي يمكن أن تصنع وسائل تربوية جديدة تحرر الانسان العربي بما هو فيه من ضعف يعرضه لخدمة الاخرين على حساب الصالح العام.وهذه السياسات خاضعة لسياسات القادة والحكام ، إذ من المحتمل أن يكون الحاكم أو المسؤول عميلاً لقوى خارجية ولا يتمنى حياة تحرره من نير الآخرين.
العوامل التنظيمية:
يصعب القول ان التنظيمات والأحزاب والفصائل الفلسطينية قادرة على حفظ أسرارها لنفسها، ومن الصعب الظن بأنها غير مخترقة من قبل العدو الصهيوني أو قوى أخرى متعاونة مع الصهاينة . كرس العدو جهوداً كبيرة لاختراق الصفوف الفلسطينية ، ويبدو أن المنظمين لم يكترثوا كثيراً بهذه الجهود . ويخيل للمتابع لتطورات الأحداث على الساحة الفلسطينية أن العدو يتسلح بمعلومات كبيرة عما يجري داخل التنظيمات من نشاطات وجدليات، الخ.
تتعدد أسباب هذا الضعف الامني اذكر منها الآتي:
اولاً: غياب الانتقائية : لم تتوخ قيادات الفصائل منذ البدء مبدأ انتقائية العضوية إلا شكلياً في بعض الأحيان . فتحت هذه التنظيمات أبوابها منذ العام 1967 أمام كل من أراد التجند في صفوفها. وقد شكلت معركة الكرامة لعام 1968 منعطفاً في تدفق المتطوعين لصفوف الفصائل وقبولهم دون تمحيص أو تدقيق بخلفياتهم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والفكرية. وبالطبع كان الباب مفتوحاً امام مختلف أجهزة المخابرات لاختراق الصفوف وزرع العملاء ومن ضمنها المخابرات الصهيونية . وما زالت الفصائل غير معنية بالتدقيق وبخاصة التدقيق الأمني، ويستطيع المرء أن ينتمي لأي فصيل فلسطيني بسهولة ويسر.
تعمل الفصائل والتنظيمات التي تخوض صراعاً وتحرص على تماسكها الأمني على وضع البرامج والشروط التي تنظم العضوية. يخضع المرشح للعضوية لفترة دراسة تمنح الفصيل الفرصة للبحث عن خلفياته ،وتخضعه لفحوصات أمنية متعددة لتتأكد من أنه ليس مندساً، ويخضع لفترة اختبار بعد قبول عضويته . العضوية عبارة عن شيء هام في حياة التنظيم وتجب في حال الشعب الفلسطيني ان وتخضع لعدد من الاجراءات أكثر تعقيداً من حال أي شعب آخر بسبب المخاطر الأمنية الهائلة التي يفرضها العدو وأعوانه في المنطقة .
ثانياً: التركيز على الحجم العددي: على النمط العربي القبلي القديم ركزت بعض الفصائل على الكثرة وليس على النوعية ، وكانت كثرة الفصيل مرتبطة بثرائه . كبر عدد أفراد الفصائل الثرية بينما بقي عدد أفراد الفصائل الفقيرة قليلاً . وسواء كبر الفصيل أو صغر ، لم تكن نوعية الأفراد هي المطلوبة ، وإنما كان العدد اهتماماً أولياً للقيادات . ربما بالعدد تكبر "العزوة "، وبه تتباهى الفصائل بنفسها ، وبه تكسب الانتخابات حيثما حصلت . وكأن المسألة لم تكن تتعلق بتحرير فلسطين وإنما بهيمنة على الساحة الفلسطينية .
شكل الحجم العددي خطراً كبيراً على أمن الفصائل خاصة والشعب الفلسطيني عامة لأنه فتح المجال أمام مختلف الشخصيات والتوجهات والمآرب لتكون جزءاً من المعادلة الأمنية ، وبذلك كانت المعادلة ذات عناصر عجيبة أفرزت تفاعلات خطيرة على مختلف مستويات النشاط الفلسطيني .
ثالثاً : الاستعراض : شكل الاستعراض عاملاً فاضحاً لكل ما فراغ يمكن أن يكون سراً لدى الفصائل والتنظيمات ، وواضح أن الفصائل تلجأ كثيراً الى نشاطات استعراضية متعددة الأهداف والغايات . وقد أخذ اشكالاً مختلفة منها :
1- المهرجانات : صحيح أن المهرجانات ضرورية كأداة للتعبئة والتأثير في الجماهير ، إلا انها استخدمت بطريقة مكثفة وأكثر مما يجب على الساحة الفلسطينية . وغالباً ما يحضر هذه المهرجانات الأعضاء المنتمون للفصيل او الحزب القائم عليه مع بعض المدعوين من الفصائل الأخرى وعامة الناس . اعتادت وسائل الإعلام الحضور ولم يكن من الصعب أن تصل الصور الى أيدي العدو . وقد دأبت الفصائل داخل الأرض المحتلة على تسجيل هذا النشاط على أشرطة الفيديو وذلك لغاية التوثيق ولطمأنة التيارات في الخارج أن عناصر الداخل نشطة وجماهيرها واسعة . في كثير من الحالات وقعت هذه الأشرطة بأيدي المخابرات الصهيونية .
2- الانتخابات العلنية : من المفروض ان يتم اختيار القيادات واستبدالها في ظل الاحتلال والصعوبات الأمنية بحذر وسرية حتى لا تنكشف العناصر المناضلة. لكن في الأرض المحتلة كانت تتم هذه العملية ومازالت تحت سمع وبصر الاحتلال وبقوائم مكشوفة وبتصنيفات واضحة للأشخاص المتنافسين والمنتخبين . فمثلاً يمكن أن يعرف بأن فلاناً هو مرشح الجناح العسكري وأن الآخر مرشح الحلول السلمية وهكذا. ساعدت هذه العملية المخابرات المعادية في تصنيف الناس وتبويبهم وملاحقة نشاطاتهم ومراقبتها.
3- هلامية الخلايا السرية: شهدت الساحة الفلسطينية خلايا كان يطلق عليها صفة السرية تعد حوالي مئة شخص أو ستين أو ما شابه . كانت تنتشر الخلية الواحدة على طول الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان من السهل أن يتعرف أعضاؤها على بعضهم البعض وعلى مواطن سكناهم . لا يشكل حجم هذه الخلايا بأي معيار كان حرصاً على السرية أو حتى على الرغبة في الحفاظ على السرية. كلما كبر العدد ازدادت مخاطر التسلل الأمني ومعه أيضاً ترتفع الشكوك بنوايا المنظم.
هذا سبب رئيس في تفسير سقوط الخلايا قبل أن تعمر في يد العدو وسرعان ما كان يتم القبض على أعضائها وايداعهم السجن. وأحياناً يترك العدو الخلايا تعمر قليلاً حتى يتعرف على المدى العسكري الذي تنوي الذهاب إليه، لكنه كان يعاجلها بالاعتقال قبل أن تنفذ العمل. وقد رأيت المشهد المؤلم بنفسي في سجون الاحتلال حيث كان من الواضح أن الأشخاص المعتقلين قد أدلوا بمعلومات عن بعضهم البعض و أن الخلايا قد أسقطت نفسها وبعضها في أقبية التحقيق.
خدم هذا العمل الرغبة في تكثير أعداد المناضلين التابعين لفصيل معين لكنه لم يساهم في السير نحو تحقيق الحقوق الفلسطينية. بمعنى أن الغرض من قبل المنظم كان استعراضياً وليس نضالياً.
4- المتحدثون الرسميون والاعلاميون: حرصت بعض التنظيمات على أن يكون لها داخل الأرض المحتلة من يتحدث باسمها ومن يروج لها إعلامياً ومن يشكل حلقات وصل بينها وبين جماهيرها. بالطبع كان هؤلاء معروفين لدى الاحتلال وقد فتح لهم الجسور للتنقل الحر وللإدلاء بالتصريحات المختلفة والقيام بالنشاطات الاعلامية والسياسية. وبالطبع لا يتم هذا بدون ثمن يقبضه الاحتلال . لم يكن هؤلاء جواسيس وإنما كانوا عملاء يعملون على تنفيذ سياسات تفكك الفصيل وتثير داخله النزاعات وتؤثر سلباً على روحه المعنوية وتسيره في النهاية باتجاه مصلحة العدو.
فضلاً عن أن هؤلاء المتحدثين والاعلاميين أصبحوا مع الزمن مرجعية للمناضلين الذين ظنوا أن الكفاح هو السبيل نحو تحرير فلسطين. فإذا احتاج احدهم مالاً أو أراد ايصال رسالة سرية كان عليه أن يمر عبرهم، وبالتالي عبر الاحتلال.
5- النقابات واللجان والجمعيات: عملت الفصائل والأحزاب والتنظيمات على اقامة النقابات واللجان والجمعيات الخاصة بها، وكان من الواضح أمام الاحتلال التوجه النضالي والسياسي لكل منها وكان قادراً على تطوير السياسات التي تشل أي عمل جدي لها.
هناك ضرورة للتنظيمات النقابية والمهنية التي ترعى شؤون الفرد وتحافظ على حقوقه وتنمي شخصيته، ولكن عملنا في الأرض المحتلة كان أبعد ما يكون عن العمل النقابي والمهني.كانت مثل هذه التجمعات ذات طابع سياسي لخدمة أشخاص أكثر مما كانت جمعيات تهتم بالعمل النقابي والمهني. غابت في أكثر الأحيان الأخلاق المهنية لصالح الأبعاد السياسية، ولم تكن الكفاءة أساسية في إدارة الشؤون وإنما الانتماء السياسي. وما دام الأمر كذلك والاحتلال يعلم هذا فإنه كان يبتز المعلومات وقتما يشاء ان لم تكن تتوفر له طوعاً.
6- تسييس المؤسسات العامة: من أجل اظهار القوة والهيمنة على الساحة الفلسطينية تم تسييس المؤسسات العامة مثل الجامعات والمستشفيات ومراكز الدعاية والإعلام المختلفة. استطاع من يملك المال ان يسيطر واستجدى من لا يملك نصيباً له . فتح هذا باباً أمام الاحتلال لتعزيز قدراته الأمنية بالإضافة إلى إبعاد المؤسسات عن القيام بأعمالها بمهنية وأخلاق علمية. وبما أن المناضلين لا يستطيعون إدارة هذه المؤسسات بمأمن من الاحتلال، أخذ إدارتها من لا يناضلون وسيروها حسب برامج لا تزعج الاحتلال ما أمكن.
رابعاً: تبني أعمال مقاومة ضد الصهاينة جرت العادة أن يقدم الفلسطينيون مفاتيح أمنية لإسرائيل للبحث عن الذين استطاعوا القيام بعمل أمني ضد اسرائيل سواء كان إطلاق نار أو تفجير أو قطع أسلاك كهرباء وذلك بتبني العمل. كان يسارع التنظيم الذي يقوم بعمل كهذا بالاعلان عن ذلك ويعلن أنه سيواصل كفاحه حتى تحرير فلسطين.وغالباً ما كان يحصل هذا التبني بهدف اثبات الوجود على الساحة الفلسطينية وللتأكيد للجماهير بأن الفصيل صادق ويواصل القيام بما وعد به الناس، وكذلك بهدف تسجيل نقاط أمام الفصائل المنافسة.
ربما في هذه المسألة بالذات لم يكن الاحتلال يأخذ الأمور بجد لأنه جرت العادة أن تتبنى عدة فصائل فلسطينية عملاً معيناً. فإذا حصل وأن أصيب جندي اسرائيلي تسارع عدة فصائل إلى الإعلان عن قيامها باطلاق النار وإيقاع خسائر جسيمة في صفوف العدو بين قتيل وجريح .لم يكن دافع هذه التنظيمات إحداث بلبلة بقدر ما كان دافعها البقاء في الشارع الفلسطيني كفصيل فاعل ينفذ عمليات ضد العدو. دفع الأمر ذات مرة إحدى التنظيمات الى تبني عمل عكسري حصل في القدس . وقد تبين أن يهودياً هو الذي قام بالعمل اذ القى قنبلة على مطعم عربي فقتل عربياً.
خامساً : التغاضي عن الاختراقات الامنية.
وقعت خلايا كثيرة في أسر الاحتلال قبل أن تقوم بعمل ضد جموعه وقواته، ووقعت دوريات كثيرة في الجنوب اللبناني وفي البحر الابيض المتوسط في شراك الكمائن الصهيونية قبل ان تصل الهدف. وهكذا كان الامر بالنسبة للعديد من المتسللين عبر نهر الأردن بهدف مهاجمة مواقع اسرائيلية . لكننا لم نلحظ الاستفادة من الاخفاقات والبحث عن أسباب الفشل والخسائر الكبيرة في النفوس . لم تتطور لدى منظمة التحرير ولدى الفصائل سياسة أمنية من أجل ملاحقة الجواسيس والعملاء وتعزيز الاجراءات الأمنية . استمرت الدوريات تتدفق عبر الزمن، واستمر الفتك الاسرائيلي بها، واستمرت قياداتها بالاعلان عن اشتباكات مسلحة وإيقاع الخسائر بالعدو وعودة مقاتليها الى قواعدهم سالمين.
لا يختلف الأمر الآن في ظل السلطة الفلسطينية ، بل تفاقم . هناك تعاون أمني بين السلطة واسرائيل والمعلومات الامنية تتدفق من الجانب الفلسطيني الى الجانب الاسرائيلي ، والجانب الاسرائيلي لا يكتفي ويصر على أن الجانب الفلسطيني لا يقوم بواجبه خير قيام. (ربما خفت حدة هذا التعامل في ظل ظروف الانتفاضة)
الجواسيس والعملاء يرتعون داخل التنظيمات والمؤسسات ، ولا توجد آليات جادة حتى الآن للتنظيف . ومن يدري فقد يكون المعوَّل عليه أول الخائنين وليس من صالحة أن يصلح أهل البيت . هناك خطابات رنانة في إدانة الجواسيس وملاحقتهم، وهناك تهديدات وتوعدات ، لكن الجاسوس بات مطمئناً أن الاتفاقيات تحميه ، وبات المناضل قلقاً لأن الاتفاقيات تلاحقه.
كشف شباب الانتفاضة لعام 1987 اعداداً من العملاء أكثر من تلك التي كشفت عنها قيادات التنظيمات. كان الشباب جادين في تنظيف الصفوف ، لكن لم يلمس الشعب هذه الجدية من قبل القيادات. وقد رأى الناس بأم أعينهم كيف أن مشبوهين ومتهمين قد صبحوا أصحاب مسؤوليات عامة.
أمن الانتفاضة والمنتفضين
ابتدأت هذا المقال بالحديث عن قدرة إسرائيل على تنفيذ مهام أمنية بدقة واغتيال نشطاء فلسطينيين من مختلف التنظيمات لأصل الى استنتاج أن الأمر إلى حد بعيد عبارة عن محصلة للإهمال الامني الفلسطيني والتسيب الأمني الذي ساد عبر السنين . لم يستوعب الفلسطينيون حتى الآن أن المعلومات حاسمة في مختلف مجالات الحياة، وان الفشل هو حليف من لا يعلم، وأن النجاح هو حليف من يملك المعلومات . تغذي المعلومات العقول وتوسع الآفاق وتجعل من المرء أكثر قدرة على تحليل الأوضاع وتشخيص الأحوال واتخاذ القرارات المناسبة وما يتلوها من آليات تنفيذ . الذي لا يعلم يعاني من العمى والعالم بصير حتى لو عمل في ظلام الليل. وغالباً ما يعمل العالم تحت جنح الظلام، ويعمل غير العالم في وضح النهار ظناً منه أن الضوء يعينه على الرؤيا وتفتح البصيرة.
شبابنا يهاجمون الاسرائيليين بالحجارة والسلاح وهم مكشوفي الوجوه،وهم يظهرون أمام عدسات التصوير بما فيها العدسات التي يحملها جنود الاحتلال . حتى أن بعضهم يهاجم وهو يحمل سلاحا وفي فترات من النهار يسهل تصويرهم خلالها . وقد شاهد الناس على شاشات المرناة استعراضات عسكرية فلسطينية قام بها شبان قالوا أنهم سيهاجمون مواقع العدو وجنوده.حركات علنية كثيرة تنطوي على مخاطر أمنية كبيرة تحصل كل يوم وهي تشكل مغامرات غير محسوبة يدفع المشعب الفلسطيني ثمنها. وليس أدل على ذلك من الشباب الذين ظهروا على شاشات المرناة وهم يلقون بجثتي يهوديين من شباك محفر للشرطة في رام الله.
التراث الأمني الفلسطيني من الزاويتين الاجتماعية والتنظيمية هزيل ولم يعلم أبناءه الحذر والحيطة واتخاذ التدابير، بل علمهم سلوكاً ينزع نحو العلنية والتظاهر والتفاخر. وقد كلفنا هذا الأمر ثمناً باهظاً وسهل على العدو الكثير من الجهود الأمنية . إنه من المهم أن يتكيف السلوك الامني مع المتطلبات، وأن تكون هناك قناعة بأن أمن المواطن وأمن المناضلين أهم بكثير من أي مكاسب فردية ذات طابع معنوي مثل الظهور العلني أو الادلاء بتصريحات أو أقوال تلحق اضراراً أمنية بالشعب وبالأفراد، وأهم أيضا من نزعات التنظيمات نحو إظهار نفسها على الملأ.
هناك من يحاول أن يجعل النضال الفلسطيني نضالاً إعلامياً، ويحاول أن يستغل النضال العسكري لكي تكون التغطية الإعلامية أكثر سخونة. إنه يظن أن الاعلام محرك جداً للأوضاع الديبلوماسية ومساعد جيد للاسراع نحو تحقيق حلول سلمية، وأن الدم الفلسطيني يشكل قوة ضاغطة على المعنيين بحل الصراع للضغط على اسرائيل التي تملك المدافع والدبابات على القبول بالمطالب الفلسطينية . وكما عبر أحدهم عن هذا الأمر أن قوة الدم في مواجهة قوة المدفع. إنه يعني بالتحديد تلك القوة التي يفرضها نزيف الدم الفلسطيني على القوى العالمية من أجل اقناع اسرائيل بضرورة الاعتراف ببعض الحقوق الفلسطينية . أي أن الدم عبارة عن آلية لتحقيق أهداف سياسية قد تكون مناقضة للمصلحة الوطنية. إذ من الممكن ان يكون اعتراف اسرائيل ببعض الحقوق الفلسطينية مقابل تعاون أمني يخدمها، ومقابل ان يكون الفلسطينيون بوابتها للتطبيع مع الوطن العربي. قد يوهمنا البعض أن تحقيق بعض المطالب الفلسطينية عبارة عن
إنجازات وانتصارت ، لكن يخفي تحتها اموراً خطيرة نكتشف مداها متأخرين . انه من المهم أن ننتبه أن الدم الفلسطيني ليس رخيصاً ويجب ألا يكون مجرد مادة إعلام. والتاريخ لا يشهد حالات أرسلت أمة فيها أبناءها إلى حرب يموت فيها هم وحدهم. تنشب الحروب بين الأمم لكن الخسائر تقع في الطرفين. ومن أجل حقه يقبل المرء على المعركة وهو يعي أنه قد يَقتل وقد يٌقتل . أما أن يكون قتله هو النتيجة المسبقة للحرب فلا.
نصحنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن نستعين في قضاء حوائجنا بالكتمان ، وليكن هذا هو الاحتياط الأمني الذي يحكم سلوكنا. لنترك جانباً ترسبات الماضي، ولنضع رؤوسنا بين أيدينا مفكرين باستمرار في كيف تكون خسائرنا في أقل حدودها وخسائر العدو في أكبر حدودها. والمجاهد في النهاية هو الأعلى ، وذلك تأكيد من الله عز وجل : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون".

التعليقات