أزمة الهجرة المعاصرة ونظام الاستغلال العالمي
تاريخ النشر : 2021-10-21
أزمة الهجرة المعاصرة ونظام الاستغلال العالمي
د. مصطفي البرغوثي


أزمة الهجرة المعاصرة ونظام الاستغلال العالمي

بقلم د. مصطفى البرغوثي

هناك أسباب عديدة تدفع الناس إلى الهجرة، ومنها الأسباب الاقتصادية، والبطالة، والقمع والتنكيل، والبحث عن الأمان.

و بغض النظر عن الأسباب، هناك هجرة قسرية وأخرى اختيارية.

الهجرة القسرية تحدث عندما تهدد الحروب والمجازر والمجاعات حياة الناس ، لعل من أبرزها، في تاريخنا المعاصر، ثلاث هجرات كبرى، الأولى في الصين بعد الاحتلال الياباني منشوريا عام 1931 وما تبعه من تنكيل، وقتل، واغتصاب، ما أدى إلى هجرة عشرين مليون إنسان.

الثانية في عام 1947 نتيجة اعتماد الاستعمار البريطاني لسياسة "فرق تسد" الشهيرة، والتي أدت إلى تقسيم القارة الهندية إلى دولتين، الهند وباكستان، وما تبع ذلك من صراعات وحشية أدت إلى هجرة ما بين 12 إلى 16 مليون إنسان من مسلمين وهندوس، وإستمرت آثار هذه السياسة بانقسام الباكستان إلى دولتي باكستان وبنغلاديش، وإلى المواجهات المسلحة الدورية التي تعيشها منطقة كشمير.

الثالثة هي الهجرة الأشهر وحدثت بعد ذلك بعام في فلسطين، نتيجة جريمة أخرى ارتكبها الإستعمار البريطاني، وعد بلفور، ونتيجة المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في عام 1948 وأسفرت عن تهجير 70% من الشعب الفلسطيني، أصبحوا اليوم حوالي سبعة ملايين لاجيء مهجرين بالقوة بعيدا عن وطنهم ومحرومين من العودة إليه.

ليست الهجرة الاختيارية في الواقع اختيارية تماماً، إذ يكمن سببها الرئيس في انعدام العدالة في النظام الرأسمالي الاقتصادي العالمي، و التفاوت الهائل في درجات التطور الاقتصادي ومداخيل الناس. وحسب البنك الدولي فإن متوسط الدخل القومي للفرد في العالم هو حوالي أحد عشر ألف دولار سنوياً، ولكن هذا رقم خادع، لأنه لا يظهر الفروقات بين الدول، ففي حين يصل دخل الفرد السنوي إلى 66 ألف دولار في أمريكا الشمالية و34 ألف دولار في أوروبا، و126 ألف دولار للفرد في لوكسمبرغ، فإنه لا يتجاوز 508 دولارات في أفغانستان، وأقل من 270 دولار في بوروندي الإفريقية ولا يزيد عن 614 دولار في تشاد، ويقل عن 600 دولار في جمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، وموزمبيق، والنيجر، والسودان، و300 دولار في الصومال، ولا يتجاوز 800 دولار للفرد في قطاع غزة في حين يصل إلى 44 ألف دولار للفرد في إسرائيل.

وفي حين تتمتع دول أمريكا الشمالية وأوروبا بدخل مرتفع فإنها تعاني من أزمة بشرية تكمن في انخفاض نسبة المواليد الجدد، وتعاظم عدد كبار السن غير القادرين على العمل في هرمها السكاني، ما يهدد بصورة خطيرة أنظمة الضمان الاجتماعي لديها، والتي لا يمكن أن تصمد دون قوة عاملة شابة تغذي الدخل الاقتصادي. ومقابل ذلك، فإن نسبة الشباب القادرين على العمل مرتفعة في البلدان الفقيرة ذات الدخل المنخفض.

وينشيء هذا الواقع عمليتين متناقضتين، فالبلدان الرأسمالية المتطورة، وشركاتها الكبرى (corporates) تسعى إلى زيادة أرباحها من خلال استغلال القوة العاملة الرخيصة في البلدان الفقيرة وضعيفة الدخل، وهي مثل حكوماتها تضع كل العقبات الممكنة في وجه هجرة العمال إليها كي تحافظ على استغلالها لهؤلاء العمال ذوي الأجور الرخيصة في بلدانهم.

وهي لا تريد لهم أن يهاجروا لأن أجورهم سترتفع إذا وصلوا إلى البلدان الغنية، وستصبح الدول التي وصلوا إليها ملزمة بإدراجهم في أنظمة التأمين الصحي، والاجتماعي، والحماية من إصابات العمل ... الخ.

وهذا السبب هو المحرك الحقيقي للإتجاهات العنصرية، والأحزاب القومية المتطرفة، و اليمينية الفاشية في بلدان كالولايات المتحدة وأوروبا، و الرئيس الأمريكي السابق  دونالد ترامب، والعنصرية الفرنسية مارين لوبان، نموذجان صارخان لهذه الإتجاهات.

ما تمارسه منظومة الاستغلال الرأسمالي، هو إطلاق حرية تنقل رأس المال والاستثمارات، وحرية التجارة والتصدير بين بلدان العالم، مع تقييد تنقل العمال إلى البلدان الغنية ومنعه.

وبذلك يتحقق الربح مرتين، مرة باستغلال القوة العاملة الرخيصة في بلدانها، وأخرى ببيعها المنتجات الإستهلاكية الجاهزة لهذه البلدان والتي تحتكر إنتاجها كبريات الشركات مثل مايكروسوفت وآبل، بما في ذلك منتجات الإعلام الإجتماعي كالفيسبوك.

ولكن ذلك لا يحل مشكلة نقص القوى البشرية العاملة، لدى بعض البلدان، وذلك هو سبب العملية المناقضة الثانية، عندما تشجع البلدان الصناعية هجرة المتعلمين والعقول الشابة إلى بلدانها.

وما يحدث فعلياً أن معظم المهاجرين من خريجي البلدان الفقيرة والنامية من أطباء، ومهندسين، وعلماء، وإختصاصي كمبيوتر يتعلمون في بلادهم على حساب قوت أهلهم، أو أموال دولهم، أو يذهبون في بعثات على حساب اقتصادات بلادهم الضعيفة، ثم يهاجرون إلى البلدان الغنية، فكأن البلدان الفقيرة تصرف من قوت يومها على تعليم الخبراء الاقتصاديين الذين سيذهبون وهم جاهزين للعمل، حتى وهم يستكملوا تعليمهم للحصول على درجات عليا، لخدمة اقتصاد البلدان الغنية، ولحل أزمة نقص القوى البشرية فيها ومعالجة المخاطر على صناديق الضمان الإجتماعي فيها.

إنها صورة موحشة للعالم الذي نعيش فيه، ولا يجملها تصدق بعض الدول الغنية بمساعدات محدودة على بلدان استغلتها ونهبت ثرواتها، وما تزال.

وهي صورة تجلت بأوضح ما يكون في أزمة وباء الكورونا التي يعيشها العالم، ففي حين يتلقى الناس في البلدان الغنية لقاح التطعيم الثالث، تعاني معظم الدول الإفريقية ودول عديدة أخرى من إنعدام اللقاحات، بعد أن عانت من قلة الفحوصات، و ستعاني في المستقبل كذلك من شح الأدوية والعلاجات.

بعد أن كانت الرأسمالية تقسم كل شعب في بلدانها إلى أغنياء مُستغِلين وفقراء مُستَغلين، جاءت العولمة الرأسمالية  لتقسم العالم بكامله إلى بلدان  مستَغِلة وبلدان مستَغَلة.