صدقي والإنجليز.. 90 عاماً على أول رحلة مصرية هبطت في القاهرة
تاريخ النشر : 2020-01-21
صدقي والإنجليز.. 90 عاماً على أول رحلة مصرية هبطت في القاهرة
الطيار محمد صدقي


رام الله - دنيا الوطن
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة والربع عصر يوم السادس والعشرين من يناير عام 1930م، حشد كبير من عظماء وأعيان الدولة المصرية يتجمعون داخل سرادق ضخم أقيم حدوده علي أرض مطار هليوبوليس، ينتظرون في شغف وصول أول طيار مصري يهبط بطائرته المملوكة له قادما من خارج القطر المصري في شجاعة نادره، بعد رحلة مثيرة استغرقت نحو خمسة عشر يومًا حلق بها فوق أوروبا وصولا إلى القاهرة، مُتحديًا كل المعوقات التي وضعها الاحتلال الانجليزي أمامه آنذاك لإجهاض تلك الإرادة المصرية.

"هليوبوليس" أرض الاحتفال

بحسب التقرير الذي أوردته صحيفة (صدى البلد) المصرية، أقلعت الطائرة الصغيرة ذات المحرك الواحد والمقعدين المكشوفة - التي أطلق عليها اسم الاميرة فايزة نجلة الملك فؤاد الأول-  لقائدها الطيار المصري محمد صدقي، من مطار برلين في يوم الثاني عشر من يناير عام 1930م، وسط أجواء شتوية غاية في السوء، بعد انتظار أسابيع حتى منحته السلطات البريطانية - المسئولة حينها عن الطيران في مصر بالطيران إليها - التصاريح اللازمة للطيران، وودعه السفير المصري في برلين ومدير البعثات وبعض الطيارين الألمان، وأدار "صدقي" محرك طائرته واضعا في المقعد الجانبي له تمساحا صغيرا كان يتفاءل به، وأخذ يقطع رحلته المثيرة وسط الأجواء الشتوية المتقبلة من برلين إلى تشيكوسلوفاكيا ثم يوغوسلافيا ثم إلى برنديزي بإيطاليا، وتوالت توقفانه حتى هبط أخيرا في السلوم ليلة الخامس والعشرين من يناير عام 1930، ومنها إلى مرسى مطروح ثم إلى الإسكندرية، حيث أمضى ليلته ليقلع صباح اليوم التالي 26 يناير، حيث ظهرت في سماء القاهرة ودارت فوق المطار ثلاث مرات فسادت الحماسة والتهليل والهتاف والتصفيق، ليهبط بها في مطار هليوبوليس في تمام الثالثة والربع من بعد ظهر يوم 26 يناير 1930م.

وما إن هبطت الطائرة على أرض المطار، حتى اندفع الجمهور وأحاطوا بها ونزل منها الطيار "محمد صدقي"، وسط احتفاء كبير يفوق الوصف، حضره حشد من الأعيان على رأسهم مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء مصر، واللواء محمد صادق يحيى، كبير ياوران الملك فؤاد الأول ملك مصر ونائب عنه، وحسن حسين باشا، وزير الحربية والبحرية، ومحمود فهمي النقراشي باشا، وزير المواصلات، ونجيب الغرابلي، وزير الحقانية، وبين تلك الأسماء كان محمد طلعت حرب باشا وكمال علوي، الصقر المصري الآخر الذي سبق "صدقي" في تعلم الطيران، وإن لم يسبقه في الطيران في سماء مصر.

أعيان مصر و"صدقي"

فرحة نجاح "صدقي" كأول طيار مصري يصل طائرًا بمفرده إلى مصر، كانت سببًا كافيا لتخليد هذا اليوم "26 يناير" في سجلات التاريخ بأنه "عيد للطيران المدني المصري"، واعتبرت فوزا قوميًا أقيمت له الاحتفالات لتكريم هذا الطيار الوطني والنسر المصري، الذي قال في تكريمه الاقتصادي الكبير طلعت حرب: "كنا قبل وصول صدقي نشعر بنقص في استكمال أدواتنا القومية لا لعجز عن استكمالها، ولكن لأسباب قهرية، كنا نشعر أن الأمم الأخرى أسبق منا في ميادين الطيران ونحن أحق بأن نجاريها في استعمال الهواء كما تستعمله هي سواء بسواء، كان يزيد ألمنا بهذا النقص أن الطيران واسطة بريئة للنقل التجاري يتقدم بسرعة هائلة ونحن مع هذا محرمون من تحضير أبنائنا في مطارات خاصة بنا، أما وقد وصل إلينا صدقي فإن وصوله يعتبرا فوزا للمصريين ودليلا ناهضا على إمكان تكوين أمثاله من الطيارين المصريين وباعثا منشطًا على تذليل الصعاب لإنشاء أسراب الطائرات المصرية لتسهيل النقل الجوي أسوة بما تقوم به الأمم الأخرى".كلمات الاقتصادي الكبير "طلعت حرب"، عن نجاح "صدقي"، ونظرته الاقتصادية للأمر كانت أعمق بكثير في تلك الفترة، فكان يرى أن هذا النجاح هو ضوء أخضر لميلاد جيل من الطيارين المصريين مستقبلا، خاصة بعد أن حطم الصد المعنوي المملوء بالتشكيك في قدرات المصريين على اقتحام مجال الطيران ومنافسة الأوروبيين في ذلك الوقت، حيث الاحتلال الإنجليزي الذي لم يكن من مصلحته أن تسير الأمة المصرية نحو هذا الاتجاه، لا سيما وأنه كانت هناك بالفعل شركة طيران بريطانية تعمل في مصر في هذا التوقيت، هي شركة المواصلات الجوية البريطانية العاملة في مجال النقل الجوي، لذا كانوا دائما يضعون العوائق والعراقيل أمام المصريين لمنعهم من اقتحام هذا المجال، ولكن "صدقي" حطم هذا الحاجز الحديدي الذي حاول الانجليز بناءه لسنوات أمام الإرادة المصرية.

تكوين مصر للطيران

هذا النجاح، أعقبه قرار حكومي شجاع في فبراير عام 1930م، حيث أصدر "النقراشى باشا" وزير المواصلات حينها، أوامره باستئناف العمل فى مطار ألماظة وتم إعداده للطيران المدني فى فبراير 1931 وافتتح رسميًا فى 2 يونيه 1932، وشجعت هذه الخطوات الطيار كمال علوى، الذى سافر إلى باريس وتعلم الطيران واشترى طائرة وعاد إلى القاهرة ليقود حملة لتكوين شركة مصر للطيران، وتجاوبت دعوته مع دعوة رائد الاقتصاد المصرى طلعت حرب بإنشاء شركة للطيران تتولى أعمال النقل الجوى فى الداخل والخارج، وبدأ العمل فى الشركة بأربعة طائرات وفى أواخر عام 1933م، توسعت الشركة فاشترت طائرات دى هافيلاند 86 الأكسبريس ذات الأربعة محركات والستة عشر مقعدا والتى يقودها طياران وموظف لاسلكى.

مدرسة لتعليم الطيران 

وفي 7 مايو 1932، خرجت مدرسة مصر للطيران للوجود بصدور المرسوم الملكى بإنشاء شركة مصر لطيران على أن تقوم المدرسة بتكوين قاعدة عريضة من الطيارين الذين سيتولون قيادة الطائرات المصرية على خطوط الشركة التى تحمل اسم مصر وعلمها على أن يكون مقرها مطار ألماظة، ونظرا للإقبال الشديد على هذه المدرسة فقد شجع مصر للطيران على فتح مدرسة جديدة فى الإسكندرية فى شهر يوليو 1933، وبذلك أصبح بمصر فى ذلك الوقت مدرستان للتدريب.

أول مطار مصري

أما إنشاء أول مطار مصري، فقد رأت الحكومة المصرية في ذاك الوقت، ضرورة إنشاء مطارات خاصة بها، خاصة أن المطارات التى كانت موجودة فى ذلك الوقت خاضعة للإشراف البريطانى، ولم يكن موجودا بالقاهرة سوى مطار هليوبوليس، الذى استخدمه سلاح الجو البريطانى أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى وكان محرما على الطائرات المصرية والأجنبية فيما عدا طائرات الخطوط الجوية الإمبراطورية (الإنجليزية)، فأنشأت أول خط جوى لها مارا بمصر ثم العراق ثم باكستان وخط آخر لها مارا بمصر والسودان، بدأ التنفيذ الفعلى فى إنشاء "مطار ألماظة" عام 1930 م، كأول مطار مصري، وتم افتتاحه فى 2 يونيو 1932 م مع وصول أول سرب من سلاح الطيران المصري الحربي من إنجلترا بطائراتهم إلى مصر.

وزارة الطيران المدني

وفي عام 1935، صدر أول مرسوم لتنظيم الملاحة الجوية، وأعقبه عام 1945 مرسوم بإنشاء مصلحة الطيران المدنى واختصت بإدارة مرفق الطيران المدنى، وظلت تتدرج القرارات بتوالي الأعوام، حتى عام 2002 صدر قرار جمهوري بتنظيم وزارة الطيران المدنى وتم فصل جهات وهيئات الطيران المدنى عن وزارة النقل وتم إنشاء وزارة للطيران.

عن "صدقي" الأب الروحي

وإذا حدثتك عن "صدقي" الشاب المصري الطموح، الذي أطلق عليه الأب الروحي للطيران المدني المصري لتأثيره الفعال في تاريخ الطيران المصري، فهو من مواليد عام 1899، بحي سراي القبة بالقاهرة، كان شديد الولع بالمغامرات والسفر ومحبًا للرياضة فتعلم قيادة السيارات والدراجات البخارية لشبع هوايته، وشهد مهرجات الطائرات الذي أقامه البارون إمبان في صحراء هليوبوليس عام 1910م، والذي دفعه لحب الطيران.

سافر "صدقي" إلى ألمانيا للسفر مرتين، كانت الأولى لتعلم الاقتصاد والعلوم التجارية، وهناك تعرف على حفيدة الموسيقار "باخ" فتزوجها عام 1922م، وعاد إلى مصر ليعمل موظفا في بنك مصر بناءً على رغبة والده الذي كان صديقًا للاقتصادي الكبير "طلعت حرب"، واستمر بالعمل في بنك مصر حتى عام 1927م، حتى سافر ألمانيا للمرة الثانية لتعلم الطيران على نفقته الخاصة واشترى الطائرة "فايزة" التي هبط بها في مطار هليوبوليس في 26 يناير 1930، ليصبح أول طيار مصري يهبط بطائرته المملوكة له قادما من خارج القطر المصري.