كيف تكوَّنَ ونشأ قطاع غزة؟
تاريخ النشر : 2020-01-07
كيف تكوَّنَ ونشأ قطاع غزة؟
صورة من مدينة غزة قديمًا


رام الله - دنيا الوطن
نشر الكاتب السياسي الباحث الفلسطيني، الدكتور ناصر الصوير، بحثا علميا، عبر عدة حلقات حول كيف تكوَّنَ ونشأ قطاع غزة.

وننشر لكم  البحث كما جاء:

(الحلقة الأولى)

د. ناصر الصوير

قلما حدث في التاريخ- وعلى الأقل في التاريخ الحديث- أن تقوم أقلية أجنبية غاشمة من الغرباء بطرد وتشريد الأغلبية الوطنية صاحبة الأرض من ديارها، وتزيل أثارها الطبيعية والثقافية بدعم مادي وسياسي وعسكري من الخارج ، وتدعى أن هذا نصر للحضارة وتحقيق لإرادة إلهية مثلما حدث في فلسطين؛ ولم يحدث أن أقيمت دولة على أرض لا تملك فيها الأقلية إلا 8 % منها، مثلما أقيمت دولة الكيان الصهيوني"إسرائيل" على أشلاء(531 مدينة) وقرية فلسطينية، تم تشريد سكانها الأصليين ليتحولوا بسبب هذه المؤامرة الكبرى من أصحاب حق وأرض إلي لاجئين مشردين في المنافي والشتات، فيما ينعم الغزاة المستوطنون من الصهاينة اليهود الذين قدموا من أصقاع الأرض البعيدة بأرض ليست بأرضهم، وبوطن ليس بوطنهم.

لقد كان تهجير وتشريد الفلسطينيين من أرضهم جزءاً من إستراتيجية الدول الاستعمارية والمنظمات الصهيونية، المختلفة بمسمياتها، المتفقة بأهدافها، فكل ما اتخذته هذه الدول والمنظمات من خطوات جاء نابعاً من رغبتها بالاستيلاء على فلسطين وطرد شعبها، ولقد لعبت هذه القوى معززة بدعم الهيئات الدولية "عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة" دوراً محورياً في وقوع النكبة، من خلال تشجيعها وإذكائها للمشروع الصهيوني في فلسطين، وتواطئها لارتكاب هذه الجريمة، وإضفاء الشرعية على سلب ونهب واغتصاب اليهود للأرض الفلسطينية، وتشريد أصحابها. 

والباحث هنا لن يؤرخ للنكبة ولن يسهب في تحديد كيف سلبت فلسطين من أصحابها الشرعيين، ولكنه يجد أنه من الأهمية بمكان، بل ومن الضروري وحتى يصل إلى الإجابة الواضحة على السؤال: كيف ولد قطاع غزة بصورته الحالية ؟! أن يتطرق بصورة موجزة لظروف ولادة القطاع ككيان جديد على الخارطة الفلسطينية.

انحازت بريطانيا طيلة سنوات احتلالها ثم انتدابها لفلسطين(1918-1948م)، لليهود وسعت بصورة مستميتة لتحقيق وعد بلفور على أرض الواقع(*) ،

(*) هو تصريح رسمي من الحكومة البريطانية، جاء على شكل رسالة وجهها وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور      (Arthur James Balfour)بتاريخ2/11/1917م، إلى اللورد روتشيلد بصفته رئيس الاتحاد الصهيوني العالمي، وجاءت الرسالة بالنص التالي: "عزيزي اللورد روتشيلد، إن حكومة جلالتها تنظر بعين العطف والارتياح إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تعمل كل ما في وسعها من أجل تحقيق هذا الهدف، وليكن معلوماً بوضوح أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو الحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى".

===========

الذي يعتبره اليهود أحد أهم المراحل في مسعاهم للسيطرة على فلسطين، وفي المقابل يصفه الفلسطينيون " بالوعد المشئوم" ، ويعتبرونه اللبنة الأولى التي أسست لنكبتهم، ويرونه دليلاً على تآمر بريطانيا ضدهم.

وأعلنت بريطانيا عن عزمها الانسحاب من فلسطين، بحجة أنها تريد إنهاء الانتداب وإعطاء الأمم المتحدة حرية القرار بشان مستقبل فلسطين السياسي.

ولم يكن تحديد بريطانيا لبرنامج انسحابها من فلسطين قبل إصدار الأمم المتحدة لقرار التقسيم في 29/11/1947م، قراراً اعتباطياً أو عشوائياً، لكنها قررت أن تنسحب بهذه الصورة لكي تمكن الحركة الصهيونية من تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية المتوخاة من هذا الانسحاب المبكر غير الخاضع للتنسيق الدولي.

ومن صور الانحياز البريطاني لليهود، قيام بريطانيا بسحب قواتها من الأحياء والمناطق الخاضعة لليهود بدءاً من 19/2/1947م، بينما غادرت المناطق العربية في15/5/1948م، وذلك لتمكن الحركة الصهيونية من فرض سيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين، وقامت القوات البريطانية أيضاً بالسماح للمنظمات اليهودية الصهيونية بالتسلح حتى آخر لحظة وسلمتها مئات الآليات والمدافع الثقيلة وعشرات المواقع العسكرية بكامل إمكاناتها وقدراتها القتالية بما في ذلك المطارات والمعسكرات والخطوط الدفاعية، وعلى رأسها خط الاستحكامات البريطاني على الحدود الشرقية الشمالية لفلسطين، وفي المقابل رفضت السماح للعرب بالتسلح ومنعت وصول الأسلحة للمناطق العربية ؛ بل شنت على الأحياء والمناطق العربية آلاف المداهمات والحملات التفتيشية لجمع الأسلحة من أيدي المقاتلين الفلسطينيين، وقد استمر هذا الوضع حتى آخر لحظة من عمر الانتداب البريطاني في فلسطين.

يعتقد الباحث أن السياسة البريطانية في فلسطين المنحازة بصورة صارخة لليهود تعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى وقوع النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني واكتوى بنارها ولازال حتى وقتنا الحاضر، فلو أرادت بريطانيا أن تكون طرفاً نزيهاً بين الفرقاء، وأرادت خدمة المنظمة الدولية أو تحقيق أهداف الانتداب المعلنة فعلاً لما أعلنت الانسحاب بهذا الشكل المفاجئ، ولانتظرت صدور قرار إعفائها من الانتداب من الجهة التي منحتها هذا الحق، ولشاركت في خطة دولية تقررها المنظمة الأممية لتطبيق هذا الانسحاب، ولكنها بقيت منذ احتلالها لفلسطين عام 1918م، وحتى اللحظات الأخيرة للانتداب منحازة لليهود على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. 

رفعت قضية فلسطين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للبت فيها، التي أصدرت بدورها القرار(رقم181) في 29/11/1947م، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية على ما نسبته44%، ويهودية على ما نسبته55 %، ومنطقة دولية على الواحد بالمائة المتبقية من أرض فلسطين.

ردود الأفعال حيال قرار التقسيم

جاءت ردود الأفعال حيال قرار التقسيم من الدول والجهات المعنية متباينة ومتفاوتة، فقد قوبل من الشعب الفلسطيني بالغضب الشديد والرفض القاطع، وتحول هذا الغضب والرفض إلى خطوات عملية بدأت في 29/11/1947م، لتتواصل في عام 1948م، وشملت الإضرابات والمظاهرات، والإعلان عن الجهاد طريقاً لتحرير فلسطين، 

وأسس الفلسطينيون فرق الفدائيين وفرق التدمير وجماعات الإسعاف، واللجان القومية وحاميات الأمن العام وفرق القناصة والمغاوير، ونفذوا الأعمال الفدائية والثورية وسقط منهم الشهداء والجرحى. 

أما رد الفعل العربي الرسمي ممثلاً بالدول والحكومات العربية، فقد جاء رافضاً لقرار التقسيم، ونددت جامعة الدول العربية بالقرار، وأكدت أن حكومات دول الجامعة العربية تقف صفاً واحداً لإحباط هذا المشروع الظالم، والحيلولة دون قيام دولة يهودية في فلسطين، وقررت اللجنة السياسية للجامعة في اجتماعاتها التي انعقدت في الفترة ما بين 8-17/12/1948م، تقديم الأسلحة لأهل فلسطين حالاً، لجعلهم في وضع مماثل لليهود من حيث التسليح والتدريب، حتى يتمكنوا من تحصين مدنهم وقراهم، وكذلك اعتماد الأموال اللازمة للإنفاق على حركة المتطوعين وعلى وسائل الدفاع، ومنح كافة التسهيلات لإرسال المتطوعين إلى معسكر قطناً في سوريا للتدريب والتوجه للقتال في فلسطين، كما قررت اللجنة تقسيم القوات المدافعة عن فلسطين إلى قسمين هما، جيش الإنقاذ الذي كلف بإنشائه الفريق طه الهاشمي واللواء إسماعيل صفوت والقائد فوزي القاوقجي، وتكون من الضباط والجنود المتطوعين من البلاد العربية الذين التحقوا بمعسكر قطنا في سورية تحت إشراف اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية.

وقد ضم الجيش حوالي(3830متطوع) مسجلاً في وثائق الجامعة العربية، وقد زيدت قواته فيما بعد لتصل إلى(7700متطوع) من مختلف البلدان العربية ؛ أما القسم الثاني فهو جيش المجاهدين الفلسطينيين الذي عمل داخل فلسطين بإشراف الهيئة العربية العليا وهي هيئة سياسية فلسطينية حلت محل "اللجنة العربية العليا" نشأت بقرار من جامعة الدول العربية  في27/5/1946م، حيث قررت الجامعة بوجوب تشكيل هيئة تمثِّل الفلسطينيين وتنطق باسمهم، ووكلوا تنفيذ هذا القرار إلى مجلس الجامعة الذي قام بالاتصال بممثلي الأحزاب والمنظمات الفلسطينية بهذا الشأن، واتُّفق على تكوين "الهيئة العربية العليا لفلسطين"  في11/6/1946م، برئاسة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني، الذي تولى قيادتها من مكتب رئيسي في القاهرة ؛ بسبب منعه من دخول فلسطين بقرار من الحكومة البريطانية، وأنشئ مكتب للهيئة في القدس، ومكاتب أخرى في دمشق وبيروت وبغداد ولندن وباريس ونيويورك، وحظيت باعتراف جميع الأحزاب والهيئات الفلسطينية والدول العربية برئاسة الحاج أمين الحسيني.

 ولد محمد أمين الحسيني الذي يعتبر أحد أبرز قادة الشعب الفلسطيني في القرن العشرين، عام 1895م، في القدس من أعرق العائلات الفلسطينية، التحق بالأزهر، وأثناء دراسته الأزهرية أدى فريضة الحج فأطلق عليه لقب "الحاج" وهو لا يزال شابًّا يافعاً، ولازمه اللقب حتى وفاته، التحق بالكلية العسكرية التركية وتخرج فيها برتبة ضابط صف، والتحق بالجيش العثماني الذي ما لبث أن فارقه وأخذ يخدم الثورة العربية سرًّا في لوائي القدس والخليل.

ساهمت نشأته وعلمه متنوع المصادر في إتقانه لعبة  المقاومة بوجهيها السياسي والعسكري، وبمجرد احتلال البريطانيين القدس، نادي علناً بوجوب محاربة هذا الحكم وذيوله الصهيونية فاستجاب له نفر من أصحابه وشكلوا برئاسته أول منظمة سياسية في تاريخ فلسطين وهي "النادي العربي" في القدس، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق مظاهرات القدس الكبيرة عامي 1918 و 1919 وعَقْد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول؛ اعتقل أثناء الاحتفالات في موسم النبي موسى عام 1920، واستطاع الهرب عبر البحر الميت إلى الكرك ثم دمشق وحُكم عليه غيابيًّا بالسجن لمدة 15 عاماً، ثم عفي عنه من قبل المندوب السامي عندما حلت الإدارة المدنية محل العسكرية صيف عام 1920 إثر ضغط شعبي كبير. فكانت العودة الأولى للقدس.في 1921 تُوفي المفتي كامل الحسيني، وتم انتخاب الحاج محمد أمين الحسيني لهذا المنصب ليصبح مفتي القدس، وعمل بقوة وإخلاص من خلال منصبه وأنشأ المجلس الإسلامي الأعلى ليكون الهيئة الإسلامية التي تشرف على شؤون المسلمين ومصالحهم بطريقة مستقلة، ومع مرور الأيام أصبح هذا المجلس أقوى قوة عربية وطنية في البلاد، ومن خلاله كان يدعو إلى اعتبار قضية فلسطين قضية العرب كلهم والمسلمين، وكُللت هذه الجهود في عام 1931 بالمؤتمر الإسلامي الأول الذي عُقد في المسجد الأقصى على مستوى عالمي للدفاع عن القدس.

 كما أصدر فتوى تعتبر باعة الأراضي الفلسطينية لليهود والسماسرة فيها خارجين عن الدين؛ وبالتالي لا يجوز دفنهم في مدافن المسلمين، ولم يكتفِ بذلك، بل عمد إلى شراء الأراضي المهددة بالتسرب لليهود من أموال الوقف الإسلامي وجعلها تابعة للوقف الإٍسلامي. وعلى جبهة المجتمع كان الرجل يعزز العلاقات داخله وكون "جمعيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "لإصلاح ذات البين وفض النزاعات وحض الجماهير على مقاومة بيع الأراضي لليهود، ومن ناحية أخرى كان يشعر بأن عرب فلسطين ليسوا مستعدين بعد لخوض الكفاح المسلح، فأخذ في الظاهر يؤيد الجهود السياسية لحل القضية ويعمل سرًّا مع قلة من الشباب المقربين جدًّا  لخلق منظمة سرية مدربة عسكريًّا كانت نواة جيش الجهاد المقدس الذي قاده عبد القادر الحسيني فيما بعد . بعد ثورة القسام واستشهاده عام 1935 تقرر تأسيس اللجنة العربية العليا برئاسته التي تضم الأحزاب السياسية الفلسطينية، وهكذا دخل المعترك السياسي إلى جانب المجلس الإسلامي الأعلى، ودعم من خلال المنصب ثورة 36-39م وساعد في توفير الأسلحة اللازمة، ودعم حركة التطوع العربية ؛ فدخل إلى فلسطين المجاهدون من كافة الأقطار.

وفي مطلع تموز( يوليو) عام 1937م قاوم بشدة قرار التقسيم من خلال اللجنة العليا، وعلى إثر ذلك داهمت قوات الاحتلال البريطاني حي الشيخ جراح في القدس للقبض عليه، ولكنه التجأ للأقصى المبارك الذي خاف الإنجليز من اقتحامه خوفًا من ردود الفعل العنيفة فتابع إدارة العمل من داخله، بعد اغتيال حاكم اللواء الشمالي (إندروز) حل المندوب السامي اللجنة العربية، وأقال المفتي واعتبره المسئول عن الإرهاب.

 وضيق الخناق عليه مما اضطره لمغادرة الأقصى والتسلل إلى يافا ثم لبنان في مركب شراعي فقبضت عليه القوات الفرنسية، ولم تسلمه للقوات البريطانية، وظل في منفاه يتابع عمله وشؤون فلسطين وزاد من سخط البريطانيين عليه رفضه للكتاب الأبيض وإصراره على المطالب الفلسطينية العربية.  بعد التقارب الفرنسي البريطاني هرب سرًّا للعراق، ولحق به عدد من المجاهدين والقادة حتى أصبحت بغداد مركز ثقل القيادة، ثم اضطر لمغادرة العراق إلى طهران فتركيا فبلغاريا فألمانيا بعد أن أصبح مطلوباً حيًّا أو ميتاً.

 مكث في أوروبا حوالي أربعة أعوام، وطالبت بعض الدول الغربية بمحاكمته كمجرم حرب إلى أن استطاع الهرب والعودة لمصر ليقود الهيئة العربية العليا مرة أخرى، ويعيد تنظيم جيش الجهاد المقدس بعد أن قررت الهيئة العربية وجوب العمل على إعداد الشعب لخوض غمار الكفاح المسلح، وتولى قيادة التجهيز والتنسيق والإمداد بين المجاهدين، وأنشأ منظمة الشباب الفلسطيني التي انصهرت فيها منظمات الفتوة الكشافة والنجادة والجوالة ليتم تدريبهم على السلاح. بعد وقوع كارثة 1948م ظل يعمل للدفاع عن القضية، وزادت ضغوط المؤامرات العربية عليه حتى حددت إقامته في منزله بالقاهرة وشُدّدت حوله المراقبة، ولما خفّت عنه القيود قليلاً أخذ يقاوم إسكان اللاجئين وأصر على عدم اعتراف العرب بالدولة الصهيونية، ثم تعاون مع قادة الثورة المصرية عام 1952م لنقل الأسلحة سرًّا إلى سيناء لإمداد العمل الفدائي داخل فلسطين، وفي مطلع العام 1959م انتقل إلى سوريا ثم إلى لبنان واستأنف فيها جهوده في سبيل هذه القضية وظل فيها حتى وافته المنية عام 1974م فدفن في مقبرة الشهداء بلبنان.

===========

وقد سمي فيما بعد "جيش الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني.(*)

(*) ولد الشهيد/ عبد القادر الحسيني في مدينة القدس عام 1907 ، توفيت والدته بعد عامٍ ونصف من ولادته. والده شيخ المجاهدين في فلسطين موسى باشا كاظم الحسيني، كان الأب موسى أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920م، وبسبب ذلك عزلته سلطات الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في 27/10/1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش أياماً، حتى فارق الحياة سنة 1934م. تربى الابن عبد القادر منذ نعومة أظفاره في بيت علم وجهاد، حيث كان هذا البيت بمثابة الحضن الأول له والذي كان يجتمع فيه رجالات العرب الذين يفدون إلى القدس، لأن والده موسى الحسيني كان رئيساً لبلديتها. خاض الشهيد عبد القادر مسيرة جهادية طويلة داخل فلسطين وخارجها ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين وللدول العربية كان أخرها أن تولى قيادة جيش الجهاد المقدس. قام الحسيني باقتحام قرية القسطل مع عدد من المجاهدين ما لبث أن وقع ومجاهديه في طوق الصهاينة وخاض معركة بطولية غير متكافئة في العدد والعتاد مع العصابات الصهيونية . واستشهد عبد القادر صبيحة الثامن من إبريل عام 1948 م، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد، وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج عطائه الجهادي.

===========

 وقرر المجتمعون أيضاً أن ترابط الجيوش النظامية للدول العربية على حدود فلسطين- دون دخولها- لتقوية الفلسطينيين ولمساعدتهم عند الضرورة بالعتاد والضباط وبعض الوحدات الفنية.

أما رد الفعل العربي الشعبي فقد جاء غاضباً،حيث طغت موجه من الاستنكار والسخط الشديدين على الشعوب العربية، وأخذت شكل الإضراب الشامل والمسيرات الصاخبة والمظاهرات الحاشدة في معظم العواصم العربية خصوصاً في القاهرة ودمشق وعمان وبيروت وبغداد، شاجبةً تقاعس الحكومات العربية عن تنظيم الشعب الفلسطيني وتعبئة قواه وتسليحه وإعداده للمعركة الوشيكة.

أما رد فعل اليهودي فقد جاء مغايراً وعلى النقيض، حيث عمتهم الفرحة العارمة، ليس في فلسطين فحسب، بل في جميع أمكن تواجدهم العالم، حيث اعتبر اليهود قرار التقسيم النواة التي ستبنى عليها دولتهم، مع اعتراضهم على كون الدولة اليهودية لا تشمل فلسطين كلها.

أما فيما يتعلق برد الفعل البريطاني من قرار التقسيم فقد كان ساد مركز صنع القرار البريطاني شعور كبير بالارتياح، لأن صدور قرار التقسيم أكد إيفاء بريطانيا بما قطعته لليهود على نفسها ونفذت وعد بلفور. 

مما سبق يعتقد الباحث أن قرار التقسيم يعتبر من أخطر القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة خلال تعاملها مع القضية الفلسطينية، ويعد الأساس الذي قامت عليه دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" وهو القرار الأكثر خطورة بين كافة القرارات الدولية من الناحية السياسية، لأنه فتح الباب نحو اكتساب اليهود لشكل من أشكال السيادة القانونية والحقوق التاريخية المزعومة لهم في فلسطين بما يتناقض مع كافة حقائق التاريخ من جهة، وبما يعزز السيادة السياسية للاحتلال التي حققها بوسائل القوة والإكراه بعيداً عن كل مصادر الشرعية من جهة أخرى، ويعتقد الباحث أن قرار التقسيم باطل وغير قانوني لعدة أسباب.

 أول تلك الأسباب أنه وفقاً لنصوص ميثاق الأمم المتحدة فإن مهمة أي انتداب تتمحور في تهيئة الشعب المنتدب لتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة، وإذا عجز عن ذلك، يتم تشكيل نظام وصاية دولية لحين بلوغ الشعب المنتدب القدرة على إدارة نفسه، إلا أن الأمم المتحدة لم تفعل هذا ولا ذاك مع الانتداب البريطاني؛ وثانيها أن الجمعية العامة لا تملك إجراء أي تعديل أو تغيير في صك الانتداب حتى وإن رأت أن خير حل للقضية الفلسطينية هو التقسيم، فلا يعتبر ذلك قراراً ملزماً لأحد وإنما يكون ذلك اقتراحاً منها فقط؛ وثالثها أنه ووفقاً للنصوص لا يحق للأمم المتحدة أن تنشئ دولة جديدة، أو أن تلغي دولة قائمة، لذلك فصدور قرار التقسيم  وإنشاء دولتين غير قانوني، أما السبب الرابع فيتمثل في أن الولايات المتحدة تراجعت في شهر مارس 1948م، عن فكرة التقسيم، وأعلن مندوبها سحب حكومته لتأييدها مشروع التقسيم لأنه "لا يمكن تنفيذه إلا بالقوة"، واقترح وضع فلسطين تحت الوصاية الدولية وإعادة القضية إلى الأمم المتحدة للنظر فيها.

وبناءً على ذلك تقدمت الولايات المتحدة رسمياً بهذا المشروع إلى مجلس الأمن،الذي وافق بدوره على المشروع الأمريكي بالإجماع، وأصدرت الجمعية العامة في الرابع عشر من شهر مايو1948م قرارها بإعفاء فلسطين من أية مسؤوليات نصت عليها المادة الثانية من قرار التقسيم،أي أنه حتى لو كان من حق الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تقرر تقسيم فلسطين لإنشاء دولة جديدة لشتات الصهاينة على أنقاض دولة قائمة، فقد تراجعت هي ذاتها بعد ذلك عن قرارها مما جعله لاغياً؛ وبهذا يعتبر هذا القرار الجائر غير قانوني وباطل، وذلك لعدم صلاحية الجمعية العامة للأمم المتحدة إصداره، ولتجاوزه حدود نظام الوصاية الدولية، ولعدم قانونية الإجراءات التي تم بموجبها اعتماده وتنفيذه.