الرباعي بين فكي لعبة استخباراتية ومفهوم التطبيع

الرباعي بين فكي لعبة استخباراتية ومفهوم التطبيع
رام الله - دنيا الوطن

بقلم: د. جودت مناع


الصورة التي التقطت الضابط الإسرائيلي مع الفنان التونسي صابر الرباعي واستحوذت على اهتمام الرأي العام والجدل عبر وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن محض صدفة وإنما حيلة مدبرة حاكها الضابط الإسرائيلي للإيقاع بابن تونس العظيمة.

لم التق بالفنان صابر، لكنني تابعت تعامله في بعض الحلقات الخاصة مع بعض الفنين العرب خلال برنامج مسابقات فنية من الجيل الصاعد، كما استمعت لبعض اغانيه التي أظهر فيها هذا الفنان التونسي العربي قدرته وبراعته وصوته الجميل الذي وصل إلى مسامع معجبيه في شتى دول العالم. 

الرباعي هو ابن تونس توأم فلسطين التي وصفها الشاعر الراحل الصديق محمود درويش حين قال  في قصيدة له قبل مغادرتها "تونس أنت أخت فلسطين"  مضيفا أن " لنا أعزاء تحت ترابك يا تونس" ويقصد بها شهداء فلسطينيين ومنهم الشهيد القائد أبو جهاد رحمه الله.

تونس كانت ولا زالت في طليعة الدول العربية التي تريد شعب فلسطين ونظم شعبها  مئات المسيرات التي شارك فيها ملايين التونسيين تأييدا لفلسطين أعضاء شعبها العظيم ضد الاحتلال الصهيوني. 

الصور التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت الضابط الإسرائيلي وهو يرافق الرباعي أثناء تقديمه وثيقة السفر لشرطة الحدود الإسرائيلية وهو أمر طبيعي، فكل قادم إلى فلسطين يجب أن يتمم هذه الإجراءات.

لكن صورة أخرى للضابط ومعه الرباعي هي التي باعتقادي أثارت حفيظة بعض من شاهدوا الصورة فصارت تلك المواقع أشبه بساحة جدل بين مدافع عن الرباعي ومستنكر وموقفه.

من منا يعرف الظروف التي التقطت فيها هذه الصورة سوى صابر الرباعي والفرقة الموسيقية التي رافقته في تلك الزيارة إلى فلسطين المحتلة وقد أوضح بيان أصدره مكتب الرباعي ملابسات التقاط الصورة.

كخبير في الإعلام كنت شاهدا بأم عينيةعلى ظروف شبيهة لما مر به الرباعي خلال تغطيتي للأحداث والجرائم الإسرائيلية في فلسطين المحتلة وأسوق بعض التخمينات قبل أن أتوصل النتائج.

أولا: الضابط الإسرائيلي هو الذي طلب التقاط الصورة مع الرباعي عن سوء نيه اذا لا يعقل تصديق ان الرباعي الفنان العربي الكبير المعروف بحبه الكبير لفلسطين ان يبادر بطلب التقاط صورة خاصة مع جندي احتلال.

ثانيا: الرباعي لم ينشر تلك الصورة ولكن الضابط الإسرائيلي هو من نشرها وعلق عليها في محاولة مقصودة القذف والتشهير بهذا الفنان مع إدراكه للجدل الذي يكاد لا ينقطع حول مسألة التطبيع مع الصهاينة وحب هذا الفنان لفلسطين وتضامنه المطلق مع شعبها.

ثالثا: مكان التقاط الصورة يدلل على أنها لم تكن في مناسبة خاصة او اجتماع او حفل غداء بل لفنان عابر إلى فلسطين المحتلة بدعوة من مؤسسة فلسطينية أشرفت على تنظيم هذا الحفل وتعرضت هي الأخرى لانتقادات حول توقيت هذا الحفل وهذا يخضع لأطباع السلوك الانساني ومزاج كل شخص إزاء أي مناسبة أو حادثة.

رابعا:  الضابط الذي ظهر في تلك الصورة يتحدث اللغة العربية ونحن نعرف هذا، كما عرف عن نفسه باسم " هادي" وهو اسم عربي عادة ما يتخذه الضباط الإسرائيليين سواء أولئك الذين يتعاملون مع الفلسطينيين عند المعابر أو في مكاتب المخابرات الإسرائيلية المعروفة ب "الشين بيت"  لذلك قد تكون الواقعة اختلطت ولم يدركها الرباعي في تلك الوحدة.

خامسا: لقد أصدر مكتب الرباعي توضيحا حول ظروف التقاط الصورة وان مجرد الرد على المنتقدين الذين اتسمت تعليقاتهم بالسلبية هو دحض لآرائهم.

لكن أكثر من مسؤول عربي أو فلسطيني التقى بإسرائيليين في زيارات سرية فضحت في نهاية الأمر أو زيارات علنية ولم يردوا على منتقديهم وهو ما يعني عدم اكتراثهم للانتقادات الشعبية او الرسمية إزاء تلك الزيارات ولم نرى مثل هذه الضجة التي أثيرت حول الصورة.

الفنان صابر الرباعي وقع ضحية لجهله بالتدابير الإسرائيلية عند المعابر وذلك يذكرني بالدعاية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين عند تلك المعابر البرية والجوية عندما استخدموا خبراء متخصصين للإساءة للفلسطينيين ووصمهم ب"الإرهاب" عندما كانوا يحذرون  الرسميين الأجانب او غيرهم لدى وصولهم المعابر من الالتقاء بالفلسطينيين خوفا مزعوما على حياتهم. 

أذكر خلال لقاء مع السكرتيرة الصحفية لوزير التجارة الأمريكية الأسبق الذي لقيت حتفها في حادثة سقوط طائرة بعد اقلاعها من البوسنة في زيارة رسمية لوفد رجال أعمال أمريكيين كان على رأسه الوزير ولقي كل الوفد حتفه في الحادثة. لقد أخبرتني أن موظفين إسرائيليين في المطار حذروهم من ان الفلسطينيين ارهابيين وقد يطعنونكم بالسكاكين وما إلى ذلك من الدعاية المغرضة.

لذلك فإن وزارة السياحة الفلسطينية مقصرة في تزويد الزائرين إلى فلسطين خاصة العرب منهم والشخصيات البارزة من امثال الرباعي قبل مجيئهم إلى البلاد كي لا يقعوا في فخ حيل المخابرات الإسرائيلية ثم أشعارهم في حملات مضللة.

ثمة حادثة أخرى تأتي في إطار استراتيجية الدعاية الإسرائيلية وهي ان الصحفيين في محافظة بيت لحم وانا منهم قررنا الاحتجاج على إجراءات جيش الاحتلال الاسرائيلي الذي يمنع الصحفيين من عبور الحاجز العسكري الإسرائيلي شمال بيت لحم في بداية التسعينات من القرن الماضي.

ما الذي حصل بعد المؤتمر؟ فقد قررنا التوجه جماعة الى القدس المحتلة عبر الحاجز ولدى وصولنا كانت وسائل الاعلام الفضائية تغطي الحدث فلم يعترضنا أحد وكأنه لم يكن حاجزا في تلك المنطقة وهذه لعبة يجيدها العدو ومخابراته لإظهار صورة مغايرة لما ذكرناه خلال المؤتمر الصحفي.

حوادث كثيرة وقعت شبيهة لما تعرض له الفنان صابر أذكر انها حصلت معي شخصيا عندما اخترت منسقا واختيار وفد صحفي للسفر إلى مؤتمر مدريد عام 1991.

ذهبت إلى مقر الحكم العسكري لاستصدار تصريح للسفر لفحص ما اذا كان ذلك ممكننا بعد فرض حظر السفر على طوول العمر فوجدت عشرات الفلسطينيين متجمهرين لاستصدار معاملات مختلفة فوقفت بانتظار الدور.

بعد ربع ساعة من الانتظار، قدم نائب الحاكم العسكري المدعو مفيد وهو ضابط درزي ويعرفني تماما لأنه اشرف على اعتقالي عدة مرات او اقتحام مؤسستي الصحفي في بيت لحم ابان الاحتلال الذي بنظري لا يزال موجودا. لدى مشاهدته لي نادى باسمي وسمح لي بالدخول تجاوزا لكل الموجودين في محاولة منه لإثارة الشبهات حولي أمام الناس وتشويه سمعتي ومن ذلك رفض الحاكم العسكري منحي التصريح الا ان قرارا اتخذ على الصعيد السياسي الاسرائيلي آنذاك لاحقا يرفع الحظر عن كل مشارك في الوفد الفلسطيني إلى مدريد.

الفنان الرباعي الذي عبر عن حبه لفلسطين ليس خلال حفله في الروابي فحسب وإنما في مناسبات أخرى في برنامج المسابقات الفنية الغنائية ولاحظنا مشاعره الجياشة عندما كان يذكر اسم فلسطين.

الجدل الذي أشغل مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن الصورة العنصر الوحيدة في اثارة هذه البلبلة بل هناك عناصر أخرى تتعلق بمسألة الحب والكراهية لكن العنصر الغائب هو الجدل حول مسألة التطبيع بشكل عام ومفهومه وكانت الصورة وجبة دسمة لمعارضي التطبيع حتى لكل من يزور فلسطين.

التطبيع برأيي هو كل شخصية خاصة او عامة يمكن ان ترتب لقاءات مع الاسرائيليين لإجراء محادثات سياسية أو توقيع اتفاقيات عمل او إقامة مشاريع او غير ذلك باتخاذها طابعا بروتوكولات.

باعتقادي علينا أن نفصل بين من يزور أقارب له في فلسطين او لزيارة المقدسات الإسلامية والمسيحية او حتى عقد لقاءات مع الفلسطينيين، وإن كان المرور من خلال المعابر التي تشرف عليها قوات الاحتلال الاسرائيلي وبعكس ذلك فإن كل فلسطيني يمر من هذه المنابر يعتبر مطبعا.

يكمن وراء هذه المفاهيم رؤى خلافية ألا وهي تقاطعها مع إجراءات اسرائيل التي تهدف لعزل الشعب الفلسطيني عن محيطه العربي ولذلك منعت إسرائيل ولا تزال فلسطينيين من السفر طوال حياتهم وتحاول الحد من قدوم الحجاج المسلمين والمسيحيين من القدوم لزيارة المقدسات.  
   
ويمكن قياس هذه المواقف مع من قام بزيارة إلى جنوب أفريقيا وإنا منهم للتضامن مع شعبها فلم نسمع ان تلك الزيارات تطبيعا مع نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا.

الفنان صابر الرباعي ليس سياسيا جاء لعرض تسوية سياسية او غير ذلك، ومع ان بطل الملاكمة السابق محمد علي الذي رحل قبل عدة شهور زار اسرائيل والتقى إسرائيليين لم تحدث مثل هذه الضجة التي أعقبت نشر صورة الرباعي مع ضابط إسرائيلي.

لا يمكن لنا الا الاستخفاف لكن يحاول تطبيق المثل العربي القائل " ان انجنوا ربعك عقلك ما بنفعك" بمعنى أن على كل عربي أن يصير مجموعة ويتخذ موقفا مناسبا اربعه.

الفنان صابر الرباعي كان ضحية لقصر نظر في الحوار الذي كان يجب ان يسبق هذا التشهير بفنان عربي حقق نجاحا باهرا خلال جولته الفنية الاخيرة في العالم العربي لكنها اصطدمت بحراك مناهض للتطبيع لا يعرف الا ان أن تكون أبيضا أو أسودا وهذا الموقف لا يمكن القبول به باعتباره يتقاطع مع المصالح الإسرائيلية أولا ويسيء لضيوف فلسطين ثانيا الذين جاءوا لدعم شعب فلسطين وليس التطبيع مع سلطة الاحتلال.

التعليقات