اشـــــاعة حب !

اشـــــاعة حب !
محمد الوحيدي

بعد الجرعة الصباحية المعتادة للأخبــار ،مع فنجا القهوة و عبر التنقل بين محطات التلفزيون ، و مشاهدة برامجها الصباحية التي تعتمد غالباً على ما ورد من أخبار تم طباعتها قبل ساعات ، فأصبحت قديمة ، إلا على الغافلين النائمين عن المتابعة ، و الإستماع إلى بعض المحللين و المعلقين ، من خبراء و صحفيين ، إستراتيجيين و تكتيكيين و بين بين ، و كتاب و سياسيين ، و أي شئ تريده أو لا تريده ، من الفاهمين في كل شئ و أي شئ بدءاً من أسعار الذهب و اسباب النكسات الإقتصادية ، و التقلبات السياسية و الأسرار الأمنية ، وصولاً إلى الأبراج و الطالع ، حتى تتخيل أن أحدهم سيقف في الأستوديو و ينادي باعلى صوته : أبيّن زين أبيّن واضرَب الودع واشوف البخت أبين زين .. " و إللي عندها بابور كاز مكتوم ، لازماه كوشة طربوش ، جلدة، أو كباس أصلح بوابير الكاز أصلح " ... بعد هذا و ذاك ، تبدأ في قراءة المواقع .. تجد خبر سياسي و بجانبه خبر " لا أصل له " أو مصدره " موثوق أو فضل عدم ذكر إسمه ، أو مصدر خاص " يدعوك إلى فتح الرابط لتشاهد ممثلة مشهورة في وضع مخل " أغضب محبيها" .. أو تجد خبراً دينياً وربما فتوى ، و بجانبه صورة لمريام فارس أو سما المصري ، أو نانسي في قمة الغنج و الدلع ..أو تشاهد على قناةٍ ما شيخ جليل يعلو و يهبط ، و يبين و يفسر حرمة التعامل بالسحر و المندل و الشعوذة و عندما يتوقف لفاصل إعلاني لا تعرف هل تضحك أم تبكي و أنت تتابع إعلان الخبيرة العالمة فلانة التي تفتح بالمندل و تشفي المريض و تفك المربوط .. أو عندما يعلنون عن مشاريع و بيوت و مصايف و فنادق و منتجعات و سيارات ، ثم يعلنون عن أمراض و يحثونك على تقديم الحسان و التبرعات .. طبعاً بالحسابات ، هي سياسة الموقع أو الصحيفة أو القناة التلفزيونية التي تتراوح أو علها تترنح ! أو هي تحاول أن تُزاوج بين المهنية و الربح .. بين التشويق و المصداقية ، بما يشبه ( العشق الممنوع ) ، و زواج السِفَاح .. ولن يثمر في النهاية إلاّ عن بنات أفكار مُشوّهة ، و ثقافة مُهلهَلة و معلومات مُتوقفة النُمو .. ما علينا ... أو علينا .. الحقيقة أنا لا أعرف ! فكم المعلومات و الخطط و المؤامرات التي تتحدث عنها الأخبار و يؤكدها الخبراء الإستراتيجيون على قناة الجزيرة و ينفونها تماماً على قناة العربية .. تصيب الواحد منا بحالة من الشلل الرعاش و الزهايمر المبكر . فعلى سبيل المثال لا الحصر المتابع لأخبار قوات حماس ، و قدراتها الفذة ، و خططها و علاقاتها و تسليحها ، و إغتيالاتها و مؤامراتها ، يظن أنه يقرأ عن منظمة ( اللهو الخفي ) ، أو عن تنظيم مقاتليه جاءوا من كواكب أخرى ، ليسوا مثلنا ، و أنهم أرتكبوا من الفظائع ما لا يمكن أن يُنسى أو يُغفر .. ومن يقرأ عن قدرات محمد دحلان ، سوبر مان .. و كيف أنه يدِّبر الإنقلابات ، و يقيم الإذاعات و ُينشئ المحطات و القنوات ، و يتاجر بالأسلحة ، و يعقد الصفقات على مستوى الدول و الأمم و المجتمعات .. و أنه الوسيم الخطر ، و أن له في كل عُرس قُرص ، و أنه متشعب و متغلغل ، و من نوع " رُجّيه و أترُكيه يعمل في شَعرك " .. تشعر أنك تقرأ عن شخصية جيمس بوند ، أو بات مان .. ثم تجد في مواقع أخرى من يقلل من شأن هذا أو ذاك ، أشخاصاً و جهات ، و ينزع عنهم أي فضل أو قوة أو شبهة قدرة .. حتى تظن أنهم يستحقون الشفقة .. أو أنهم أثاروا حول أنفسهم تلك الضجة ، للفت الأنظار ، و قطف الثمار و إن كانت ثمار الربح القصير المدى ، و الشعبية و الجماهيرية المؤقته ، التي تخدم في فترات محددة .. ثم تنتهي و تتلاشى و تتبخر .. تماماً مثل فنانة مغمورة تتفق مع موقع معين أو صحيفة ما .. لنشر إشاعة " فضيحة " تجمعها بفنان .. سرعان ما تنفيها و تبكي بالدموع و هي تنكر هذا الظلم الواقع عليها .. و تتذكر فيلم - إشاعة حب - لعمر الشريف و العملاق يوسف بك وهبي مع الفاتنة هند رستم و سعاد حسني و عبد المنعم إبراهيم .. و الذيع أشيع أن رافت الهجان أو رفعت الجمال رجل المخابرات البطل الشهير ظهر فيه متقمصاً شخصية " لوسي" إبن خالة سعاد حسني و بالطبع ، إشاعة حب ، و إشاعة إنقلاب ، و إشاعة بطولة ، و إشاعة مؤامرة ، و إشاعة فضيحة ، و أخبار متناقضة على الموقع الواحد، ما كان لها أن تنجح ، و تؤتي ثماراً ، إلاّ في مناخ ، و تربة قابلة لإحتضانها ، و تنميتها ، و تقويتها ، وهي نحن ، نحن المجتمع ، المنفصم الشخصية أساساً ، الوطني إلى حد الخوف من اي حرب مع الأعداء ، القومي إلى حد الحقد على اشقائه الأغنياء ، المتدين إلى درجة أن رجالنا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، و نساءنا في أغلبهم يلبسون الحجاب و الجينز و أكثر الشعوب متابعة للمواقع الإباحية ..!! فى عام 1664، كتب الكاتب الفرنسى الكبير موليير مسرحية اسمها تارتوف، رسم فيها شخصية رجل دين فاسد يسمى تارتوف، يسعى إلى إشباع شهواته الإنسان الرخيصة وهو يتظاهر بالتقوى.. وقد ثارت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك بشدة ضد موليير ومنعت المسرحية من العرض خمسة أعوام كاملة.. وبرغم المنع، فقد تحولت مسرحية تارتوف إلى واحدة من كلاسيكيات المسرح، حتى صارت كلمة تارتوف فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، تستعمل للإشارة إلى رجل الدين المنافق. هذا الحال من الإنفصال و الإنفصام ، و رواج الإشاعات و النجوى الفارغة ، و الحياة المليئة بالتناقض سيستمر .. و لن يترك مجتمعاتنا إلا و قد أنهكها فعادت كالعصف المأكول ، إن لم نرتقِ بأخلاقنا ، و أساسيات ثقافتنا و صحيح ديننا الحنيف .. و إلى أن يحدث هذا ، و نستفيق من غفلتنا ، سأظل أصحو و أشرب قهوتي ، و أتابع الخبراء من مصلحي بوابير الكاز، و أقرأ اليوم عكس ما قرأته أمس .. و أصدق اليوم ما سأكذبه غداً ..