التطرف اللذيذ !!

التطرف اللذيذ  !!
محمد الوحيدي

ثقافة البينج بونج  ، أو كرة الطاولة ،حيث تضرب الكرة إما إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، بقوة و سرعة ، تشبه كثيراً الثقافة السائدة في مجتمعاتنا ، من حيث التطرف و مواجهته بتطرف مضاد .. إما التزمت  أو الإنحلال ، إِمّا الوطنية و الفِداء  أو الإنبطاح القابل للتعامل و الجوسسة و بيع البلاد ،إما التدين إلى درجة الإنغماس و الإعتقاد بالموروث و الخرافات و الدروشة .. أو الرفض بدءاً من التفلسف و الإجتراء و الإنكار و الفجور وصولاً إلى الكفر و الإلحاد .. إلا من رحم ربي ..

و الحقيقة أن الطرفين ، على قدر واحد ، و مستوى واحد من الغوص في وحل اللا معقولية ، و التطرف ، و الإجرام بحق الفطرة السوية . ولكي نحكم على سلوك ما بأنه متطرف يجب أن يكون لدينا نموذج مثالي نحاكم إليه هذا السلوك ، وهذا ممكن في حالة المجتمعات التي استقرت على تركيبات وديناميات راسخة في حياتها و هنا أقصد كافة المجالات ، بدءاً من الفرد و إنطلاقاً نحو المجتمع ، عدلاً سياسياً و إجتماعياً ، علمياً و ثقافياً و إقتصادياً، أما المجتمعات التي تمر بتحولات كثيرة في فترات زمنية وجيزة فإنها تعاني من غياب أو غموض النموذج المثالي للسلوك ، أو عدم قدرتها على فهم ما لديها من علوم و تبتعد عن جذورها و تراثها و معتقدها "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  (5)" الجمعة) فيقع كثير من أفرادها أثناء حركتهم في المناطق الخطرة ( جهلا أو عمدا ) ويوصمون بالتطرف ، و تجدهم ينقسمون إلى فريقين ، كل يتهم الآخر بالتطرف ، و أرى أن كلاً منهما مُحق بوصفه للآخر .. فقلة التجربة و ثقافة التواصل الإجتماعي ، و غلبة الهوى و الإستثقاف ، و الحذلقة و الإستخفاف ، و البعد عن الأصول ، و المعارف المعلبة و المضغوطة التي يتلقاها الشباب ، كفيلة بتخريج هذه الأنماط التي تتطرف في حكمها على الأشياء ، في سلوكها في ألفاظها و ملبسها و مشربها و حتى في سياستها و نظرتها للقانون و المجتمع و معاني الحرية و الكرامة والحرب و الحب و الحق ، ولكن تطرفها وبما أنه مبني على هوى و غِواية ، يصبح من نوع " التطرف اللـــذيذ !! " .. بعكس التطرف في المعتقد و الإنحياز المذهبي أو السياسي " التطرف المتزمت "..

ولا أبالغ إن قلت أن كلا النوعين من التطرف .. فيهما شُبهة إصابة بالإضطراب الذهاني  يشبه إلى حد كبير بعض المرضى العقليين المصابين بالفصام أو الهوس أو الاضطرابات الضلالية ، حيث يعتقد المريض في نفسه أنه المسيح أو المهدي المنتظر أو الإمام الأعظم الذي جاء لهداية الناس أو العارف الذي لا يُعَرَّف و العالم ببواطن الأمور ، و خفايا المؤامرات و الخطط السياسية و الدينية و غيرها .

و تحدي التطرف ، و مقاومته  بتطرف مضاد ، أو الاقتصار على الوسائل القمعية دون البحث والتعامل مع جذور المشكل  يؤدي إلى ما يسمى بالتغذية المرتجعة للتطرف وإلى نشوء ظاهرة الدوائر المغلقة .

فمثلاً ، عندما تزيد المرأه و تغالي في تغطية جسمها ، نقول أنها " مزمتة " ، أو " متطرفة"  رغم أني لا أعرف كيف نحكم عليها بالتطرف ، حيث أنها صفة دائماً ما ترتبط بالفعل و السلوك و ليس بالمظهر .. و لكننا عندما نرى إمرأة تُعري أو تُفصَّل جسمها ، نقول إنها متحررة .. و أننا يجب أن نغض النظر من باب أولى ، و نتركها و شانها و حريتها الشخصية ، أنا هنا لا أنوي أن أناقش المرأه و حقوقها و حريتها و الحجاب و العري و ما بينهما رغم إيماني الشخصي بالإحتشام و الإحترام ..ولكني هنا أريد أن أناقش كيف نحكم نحن ( المجتمع )  باسلوب ( متطرف ) على التطرف  .. فأصبحنا متطرفون دون أن نشعر .

في الأساس الاعتقاد بوجود فلسفة متطرّفة لدى البعض تجعلهم معرضين للشبهة، وعليه يتم استعمال المصطلح كثيرا لأغراض لا تمت للتطرف أصلاً بصلة . فالتطرف وهو التعبير الذي انتشر بين علماء الاجتماع في الستّينات والسبعينات من القرن العشرين لتصنيف شخص أو مجموعة أو عمل كمتطرّف في أغلب الأحيان هو تقنية لتحقيق هدف سياسي، خاصة لدى الحكومات و الأحزاب حيث يستعمل لتمرير قوانين أو مفاهيم معينة من قبل مجموعة أخرى ، هي أيضاً متطرفة في التمسك بمعتقدها و رؤيتها و أحكامها و سلوكياتها ..

ولا سبيل للخروج من هذه الأزمة ، أزمة التطرف المتزمت ، أو التطرف اللذيذ  ، سوى إيجاد لمناخ الطبيعي للعيش ، حيث يعود الإنسان تلقائياً إلى طبيعته الفطرية ، و يستقر وجدانه و قلبه على الإيمان بالمعتقدات الوسطية ، حين يتوفر الأمن و المسكن ، و العدل و المساواة ، و يشعر الإنسان أنه إنسان و آدمي ، عندها فقط ، سيتخلص من التطرف إعتقاداً و سلوكاً و حكماً .. و هذا غير موجود الآن .. ببساطة ، لأن الإنسان في في الإطلاق، ما زال كما وصفه تعالى في غير موضع :

ظلوماً جهولاً - قُتل الإنسان ما أكفره

 " وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)"- الفجر  

" إنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)- العاديات .

 ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ) - الإسراء

  ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾- هود

 ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ - هود

﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾ - فصلت ...

ولا حل  ، لا وصول إلى السوية ، نفسياً و سلوكياً و فكرياً أمام الإنسان إلا بطريقة واحدة ، حددها خالقه سبحانه :

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾- المعارج 

إلا المصلين .. بكل ما للصلاة من معانٍ .. تواصل مع كل الأشياء في الكون ، صلة و تقرب و إيمان و معرفة بالوجود و خالق كل موجود .. عندها سيعرف الإنسان مكانه ، و لا يذهب لا إلى أقصى اليمين و لا أقصى اليسار ، و إنما سيبقى في صفوف المتعقلين ، ذوي الأباب و المتفكرين ، وعل إشارة التسليم في نهاية الصلاة يمينا و يساراً ، خير شاهد و رمز ودليل على مكان الإنسان في وسط الأشياء و الموجودات  "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" سورة البقرة آية 143 و الفاهمين لمعنى الإستواء و السَّوِيَّة في أمر رسول الله عليه الصلاة و السلام قبل كل صلاة ، حين يقول  : ( إسْتَوُوا , وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ) .